• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    خطبة: فاعبد الله مخلصا له الدين (باللغة
    حسام بن عبدالعزيز الجبرين
  •  
    المحافظة على صحة السمع في السنة النبوية (PDF)
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    اختيارات ابن أبي العز الحنفي وترجيحاته الفقهية في ...
    عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد التويجري
  •  
    القيم الأخلاقية في الإسلام: أسس بناء مجتمعات ...
    محمد أبو عطية
  •  
    فوائد من حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ...
    محفوظ أحمد السلهتي
  •  
    لم تعد البلاغة زينة لفظية "التلبية وبلاغة التواصل ...
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    البشارة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    حديث: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد
  •  
    خطبة: شهر ذي القعدة من الأشهر الحرم
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    تفسير سورة الكافرون
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (4)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    من مائدة الفقه: السواك
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    أهمية عمل القلب
    إبراهيم الدميجي
  •  
    أسوة حسنة (خطبة)
    أحمد بن علوان السهيمي
  •  
    إذا استنار العقل بالعلم أنار الدنيا والآخرة
    السيد مراد سلامة
  •  
    خطبة: أم سليم صبر وإيمان يذهلان القلوب (2)
    د. محمد جمعة الحلبوسي
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / تاريخ
علامة باركود

التحقيق في ملحمة الصديق (5) دلالات وعبر

التحقيق في ملحمة الصديق (5) دلالات وعبر
محمد صادق عبدالعال

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 7/4/2025 ميلادي - 8/10/1446 هجري

الزيارات: 536

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

التحقيق في ملحمة الصِّدِّيق (5)

دلالات وعبر

 

القراءة في نصوص القرآن الكريم وقصصه بخلاف غيرها من القراءات؛ فلا تقوم أبدًا على الظن ولا على التخمين؛ لِما لها من رواسخَ نابتة ثابتة من أصل شجرة العقيدة، تضرب بجذورها في سبحات الحق، وتمتد فروعها في جو السماء، وكلما طال عليها الأمَد بالاستطالة، وتشابكت أغصانها، وتشاجرت عوارفها، وهشَّ عليها أرباب الأقلام بعصيِّ الإعراض أو الإلحاد، وجاءتها الريح العاصف من كل اتجاه؛ استطاعت أن تظل قائمة على أصولها بإذن الله؛ ذلك أن المحدِّث ليس ببشر سبحانه وتعالى حتى يخطئ أو يصيب، أو يغلو في السرد، أو يتجاوز الحد، وليس له كافة الرؤى أو كواشف الغيب، فليس بظنه ولا تخمينه يستطيع الجزم والحزم، وهذان - أعني الشك والحَدْسَ - عوارض بشرية ونوافل طارئة، يعتريها ما يعتريها من الكذب والفِرى من بعد غالب الصدق، وتخالطها أمزجة الساردين، وأنباء من لم يكونوا على أرض الحدث، وإن اليقين مع الاطلاع واستشراف الحكمة هما السبيل للنجاة بمتون الدارس من الخوض الضائع، ثم الرجوع للسلف وما نسخوه وما كتبوه من تفاسير وتقاويل، فضلًا عن إلمام غير قليل بمعايير الدراسة وتقنياتها، والترادفات ودلالاتها، مع إبراز العِبرة والحكمة؛ فقصص القرآن الكريم ليس بحديث يُفترى، لكنه العبرة والعظة والموعظة الحسنة، وخبرات من مرُّوا أمام الشمس وعاصروها على شتى الوجوه.

 

التحقيق التاسع عشر: بشارات التمكين:

﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يوسف: 54 - 57].

 

لعل القصة عند هذا الإشراق تكون قد عرجت بنبي الله يوسف من كروب طالما ألمَّت به من ذوي أواصره، أعماهم الحقد وطغت عليهم سخيمة الكراهية، حتى شرعوا في إقصائه عن وجه أبيه، وعن سيارة لم يعرفوا قدره ومنزلته من قومه، وأنه سليل بيت النبوة الكريم، ثم ما إن أوشك أن يستريح ممَّا ألمَّ به ويستشرف قوارب العوض، وسفائن الإنصاف؛ جزاء الصبر ولقاء العفو؛ حتى كانت الأيام قد خاطت له مكائد أخرى، والمدهش - بل المذهل - في القصة أن سبب نكبة يوسف في صغره هي هي في صباه؛ فإخوته لما أبغضوا محبة أبيهم له فعلوا فعلتهم، وقد ظنوا أنهم قد استراحوا لما هو آتٍ، والثانية لما أحبته امرأة العزيز وشغفت به، ولم يطاوع غرائزها لتقواه وعِفته ومنزلته التي أعده الله لها، بيَّتت النية له بالمكر والإيذاء، فزجَّت به في السجن، وما كان ليوسف الصِّدِّيق في الكَربَين من ذنب اقترفه، ولا جرم أتاه، لكنها أقدار الله التي يسوقها لعباده، فإن هم صبروا كانت عاقبة صبرهم جبرًا لخاطرهم بما لم يكن يتوقعه الظالمون، حتى يعَض الظالم على يديه لِما يرى من إنصاف الله وجبره لمن ظُلم؛ حسدًا من عند أنفسهم، والله بصير بالعباد، وفي تلك الآيات إنباء وإخبار من الحق سبحانه برسالة عامة في قوله تعالى: ﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 56]، لا يقتصر هذا العرض الرباني الكريم على نبي الله يوسف، ولا على الرسل والأنبياء الكرام وحدهم، بل للناس كافة سارٍ إلى يوم القيامة بشروطه وضوابطه، وموجبات تحققه؛ فصبر يوسف من صبر جده إبراهيم الخليل عليهما السلام، من صبر كافة الأنبياء والرسل، ختامًا بواسطة عقد النبوة صلى الله عليه وسلم، مرت عليهم البلاءات على مختلف الوجوه من الأقربين قبل الغرباء، وما زادهم الإيذاء غير اليقين بأن سحائب الرحمة قادمة قادمة، حتى وإن طال بهم مقام الانتظار، ألَا إن نصر الله قريب.

 

والإصابة بالعذاب أيضًا لا تكون إلا بمشيئة الله وأمره؛ لقوله تعالى ردًّا على نبيه موسى الكليم: ﴿ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَّاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156]، وذلك بعد قول موسى: ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ﴾ [الأعراف: 155]، ويقصد بالفتنة العذاب، والله تعالى أعلى وأعلم، ولقد كان لتلك الآيات وقعٌ على صدور اليهود، حتى ظنوا أنهم ناجون من عقاب الله وعذابه؛ لِما لها من شمول واتساع في وجوب الرحمة، غير أنهم أنكروا ما تلاها من شروطها التي أتبعها ربنا بقوله: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157]، فها هي موجبات الرحمة وأسباب النجاة، فهل من مُدَّكر؟

 

التحقيق العشرون: ﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ [يوسف: 76]:

سبق أن أشرنا لاسم الإشارة المركب "وكذلك"، وقد وردت بكثير من الآيات بعد إنفاذ حكم الله في شأن يوسف، أو مكر إخوته، أو كيد زليخا، كدلالات معبِّرات عن أن يوسف ومن سار على درب تقواه وطهارته، سيناله عاقبة التُّقى والعفة والانصراف عن مُشتهيات النفس الأمَّارة بكل سوء خيرُ الجزاء، وقد أعقب بكثير من آيات السورة إخبارًا عن نواتج الإحسان.

 

المكر والكيد متلازمتا القصة:

وفي عُرف أهل الأدب قول يقول: بأن الكلمة تعبر عن جوِّ النص، فكذلك تلك الملحمة القرآنية العالية تشتمل على مفردات المؤامرات، التي تتراوح ما بين الكيد والمكر، وحتى لا يحدث الخلط في المترادفات بين المكر والكيد، كان لازمًا أن ننظر فيما أصاب فيه العلماء وأولو التخصص بشأن التفرقة بين المفردتين، وإن كانتا متقاربتين، وذلك ديدنُ كثيرٍ من كلمات العربية التي ذهب ظنُّ أغلب الناس أنهما يذهبان لمعنى واحد بسبب اعتياد إيرادهما معًا، وقد وفقني الله سبحانه وتعالى بدراسة لي بعنوان: (القول الفصل في شاعرية القص)، لحديث عن اللغة العربية كعامل من عوامل استشراف القصة الشاعرة، وهي عن جزئية الكلمات المتلازمة المأخوذة على معنى واحد، ومن ثَم حدوث الخلط بين مترادفين متلازمين يختلفان في درجة الفعل؛ مثال: الكلمات المتلازمة المأخوذة على معنى واحد، بينما هي تختلف في درجة تأثيرها وتفسيرها؛ مثال قوله تعالى: ﴿ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112]، فالظلم هو أخذ الحق كله، وأما الهضم فهو بعض الحق أو اقتصاصه، وكذلك قول العرب: لا أصل له ولا فصل، الأصل هو الحسب، والفصل هو اللسان؛ [لسان العرب]، وكذلك البأس والبأساء، فالبأساء هي شدة الفقر، وأما البأس فهو شدة القتال؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ [البقرة: 177][1].

 

وأما عن الفرق بين المكر والكيد؛ فمن (شبكة طريق الإسلام) نجد ضالتنا: "فالفرق بين المكر والكيد: المكر مثل الكيد في أنه لا يكون إلا مع تدبر وفكر، إلا أن الكيد أقوى من المكر، الكيد يتعدى بنفسه، والمكر يتعدى بحرف، فيقال: كاده يكيده، ومكر به، ولا يُقال: مكره، والذي يتعدى بنفسه أقوى، والمكر أيضًا تقدير ضرر الغير من أن يفعل به، ألَا ترى أنه لو قال له: أقدر أن أفعل بك كذا، لم يكن ذلك مكرًا، وإنما يكون مكرًا إذا لم يُعلمه به، والكيد اسم لإيقاع المكروه بالغير قهرًا، سواء علِم أو لا؛ قال الزبيدي: قال شيخنا: وظاهر كلامهم أن الكيد والمكر مترادفان، وهو الظاهر، وقد فرق بينهما بعض فقهاء اللغة، فقال: الكيد: المضرة، والمكر: إخفاء الكيد وإيصال المضرة، وقيل: الكيد: الأخذ على خفاء، ولا يعتبر فيه إظهار خلاف ما أبطنه، ويعتبر ذلك في المكر، والله أعلم"[2].

 

وشتان بين مكر الله وكيده سبحانه، وبين مكر البشر وكيدهم، وسبحان من كل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعالِ، ومن يستكشف قصة يوسف ويقرأ فيها عن رويَّة، فسوف يجد ذلك حاضرًا، فمن مطلع السورة وسرد القصة ومناقب الحوار فيها؛ يعقوب الأب حذَّر ولده يوسف من عاقبة قص رؤياه على إخوته، معولًا على مكائد الشيطان التي تعكر صفو المياه الجارية عذبةً بين الإخوة والأحبَّة؛ وقوله بذلك الكيد والمكر تلميحًا لهم: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]، بعدما فعلوا فعلتهم الشنعاء، وقول عزيز مصر أو شاهد المراودة: ﴿ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 28]، وكذلك وقوف زليخا على ألسنة امتدت نيران مكرها إليها؛ في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ﴾ [يوسف: 31]، ودعوة نبي الله يوسف بأن يصرف الله عنه حتى استجاب له ربه: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 33، 34].

 

ورفض يوسف الخروج إلا أن يفتش الملك في سبب سجنه: ﴿ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 50]، واعتراف زليخا بذنبها والإقرار المطلق ببراءة يوسف، حتى عوَّلت على مكرها وكيدها اللذين أمسكا بمجامعها لشيطانها حينها؛ فقالت: ﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 52، 53]، ثم عودة لمفردة الكيد وقوله تعالى بشأن الانتصار لحال يوسف عليه السلام: ﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ [يوسف: 76].

 

ولست بصدد الحصر لمفردات المكر والكيد، وكفى بقصة يوسف عليه السلام دون الخروج بناتج يعبر عن جمال اللغة العربية وإبداعها، وتناسق المفردات وتتابعها مع التصاعد الدرامي في الرواية القرآنية، فحِدَّة الفعل من تصاعد الحدث ورِقَّتِهِ من اعتياده، حتى يأتي جديد صادم مغيِّر سيرَ الأحداث والوقائع، فلو سألنا أنفسنا سؤالًا عارضًا: لمَ ابتهل يوسف عليه السلام إلى ربه أن يصرف كيدهن، ولم يقل: مكرهن، في حين أن زليخا لما عقدت النية على جمعهن، وأعتدت لهن متكئًا، فضلًا عن سكين حاد وفاكهة ووسائدَ؛ قال في شأنها: ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ﴾ [يوسف: 31]؟

 

الجواب من المعنى الجذري لمفردتي المكر والكيد كما ألحقنا بعاليه، وتوظيف القرآن العظيم لحدة ودرجة كل فعل منهما؛ فـيوسف عليه السلام لما طلب من ربه أن يصرف عنه كيدهن، ذلك لأن الكيد إيقاع المكروه بالغير قهرًا، والأخذ على خفاء، وسواء علم أم لم يعلم، فيأخذ حيطته، وأما زليخا لما قالت: ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ﴾ [يوسف: 31]، فالمكر من خصائصه إخفاء الكيد وإيصال المضرة، تمامًا مثلما فعلت مع النسوة اللاتي قطعن أيديهن، وما قالت به النسوة من وراء مسامعها.

 

وقول ربنا انتصارًا ليوسف الصديق عليه السلام: ﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ [يوسف: 76]؛ أي: كدنا بفعل يتعدى بنفسه، وبأمر ربه، كيف لا وهو القائل: ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76]؟ والله تعالى أعلى وأعلم، ولما قال ربنا: ﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ [يوسف: 76]؛ أي: علمناه كيف يكيد لإخوته على ظلمهم له من قبل، والله أعلى وأعلم.

 

 

التحقيق الحادي والعشرون: بين طيبة وكنعان:

﴿ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [يوسف: 58]، وهذا أول الغيث ومداد من الماء البارد الذي سينساب على صدر وقلب أسيف، كم تقطع من ألم الفراق، ومن قسوة أولي القربى! ومن ماعون فاض بالكيد والمكر، ويا ليت المجني عليه مقترف ذنبًا أو آتٍ إثمًا، إلا أن الله ميزه عنهم بحب الوالد أكثر لكونه يتيمًا صغيرًا، وهم كبار لهم أمهاتهم تنظرهم صباح مساء، وأم يوسف وبنيامين في التراب، وهنا استنباط عجيب: أيُحسَد الناس حتى فيما لا شأن لهم في حدوثه؟ بالتأكيد، فكل ذي نعمة محسود حتى على حب الناس له، ويا ليتها كانت غبطة يفرحون بها ويرفع الله قدرهم لأجلها، لكنها الكراهية تُعمي القلوب التي في الصدور، وما كان الله ليذرَ عبده يوسف الصالح الكريم العفيف طويلًا مكلومًا، بل ستأتي اللحظة الفارقة التي تعود فيها موازين العدل لمساراتها الصحيحة، وتستقيم سبيل المقهورين على بساط من عناية الله، وعدالة الله؛ لتأتي بهيئات مختلفة قد يعجز اللسان الآدمي عن وصفها؛ لِما فيها من إتحافٍ لم يخطر ببال مظلوم، وطيبات لم تمر على خاطر مكلوم، فسبحان ربك رب العزة عما يصفون!

 

ولو نظرت في القصة كيف انطلقت أحداثها بفاجعة بإجماع عشرة من الإخوة الكنعانيين على إقصاء أخيهم الصغير الضعيف، لم يجبرهم ذو سطوة على فعل ذلك، فنقول: ربما قهرهم، وفي قلوبهم إشفاق عليه، إنما هي نفوسهم غير القويمة ونواياهم غير السليمة آنذاك وحينئذٍ، ها هم اليوم بين يديه، أرسلتهم الحاجة وزج بهم العوز، والقرآن الكريم في شأن الوصف لم يقل: "التقى يوسف إخوته"، إنما قال: ﴿ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [يوسف: 58]، فيا لجبر الله ولطفه في اثنتين لم تأتيا عبثًا؛ الأولى في: ﴿ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ ﴾ [يوسف: 58]، تعبر عن ارتفاع شأن المنشود وارتقاء مكانه المرتجى، كما اعتدنا أن نقول مثلًا: "دخل على الخليفة فلان"، أو "دخل على الأمير أو الملك"، فما دخل إلا بإذن، وحتى اللقاء لا يكون متاحًا دومًا، وله ميقات معلوم وزمن محدد لمنزلة الداخل عليه، فيا لأقدار الله!

 

والثانية: ﴿ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [يوسف: 58]، ألَا ترون أن في هذا الجبر العابر فيضًا فياضًا من كرم الله الجابر؟ فدخلوا عليه أراح صدره وطمأنه على أهله، فانسل من صدره المكتظ ألمًا بعضٌ من مواضع الهمِّ، وعلى النقيض منهم، فهم لم يعرفوه، بقوله سبحانه: ﴿ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [يوسف: 58]، إشارة أنهم ما زالوا على ظنهم وضلالهم القديم بأن قد تاه في مجاهل النسيان أو مذاهل الزمان، ولو تعرفوا إليه لاستراحت نفوسهم لما جاؤوا مشفقين من زادٍ وغيث ومِيرة، ولعلمهم أن يوسف كريم يحب العفو، هكذا علَّمه أبوه وأجداده النبيون التسامحَ، لكن الله ما زال ينزل بهم بعضًا من تأديبه لهم، لشفاء صدورهم التي امتلأت حقدًا على أن تلج نهر السماحة والاعتراف بالخطأ.

 

والعبرة من ذلك - وكل قصص القرآن الكريم عِبَرٌ - أن إخوة يوسف لما فعلوا فعلتهم تلك النكراء، وقد مرت بهم السنون مرورها، وتعاقب عليهم الحدثان، فما زادهم غير ملامة كلما التقوا وجه يعقوب الوالد الذي انفطر على فراق ولده، وما زادهم في القرب بسطًة ولا في العز نجدًة، لكن يوسف لم يمنعه الجُب أن يخرج بإذن الله للنور، ولم يصرفه السجن ظلمًا على أن يدعو لسبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فهل يستويان مثلًا؟ بالطبع لا، ولو تراهم اليوم يبسطون إليه أيديهم ليمنَّ عليهم بما أعطاه الله من الرخاء والنعيم، رجاء إطعام الأهل وفلذات الأكباد، وهم من أشاحوا بوجوههم عنه من قبل، وقبضوا أيديهم معرَّةَ أن تتعلق بكف واحد منهم، فيقول منصفًا له: "إنه أخي"، فانظر لتصريف الله في خلقه، فيا ليت الظالم في كل زمان ومكان يدرك أن صدمة صدره على إنصاف الله لمن ظلمه، تفوق لذة كيده يوم أن ظلمه، فضلًا عن جزاء المظلوم الصابر واحتسابه عند ربه.

 

والآيات من قوله تعالى: ﴿ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [يوسف: 58] حتى نهاية القصة، هي بداية السِّجال والحراك بين طيبة وكنعان، ورُسل بين الأحبَّة يوسف الصديق وحِبِّه - يعقوب وأخيه لأمه بنيامين - فمن ناحية الهيئة الهيكلية الروائية، روعة في الوصف وتواتر للأحداث بما لا يُحدث خللًا، على رغم الحذف والإضمار لبعض الأحداث، فسبحان من هذا كلامه! ومعلوم أن جمع خيوط القصة سواء طالت أو قصرت يُبشر باقتراب لحظة التنوير، فمنذ أن ذكر المولى سبحانه وتعالى قدوم إخوة يوسف، وقد جمع الله بينهم وبين يوسف بلقاء فعرفهم حتى ولو لم يعرفوه، فتلك بشارات حل العقدة وبلوغ القص منتهاه، وقد فصل بينهم قول الحق، واقتص ليوسف من إخوته بداية من صنع المؤامرة، وانتهاءً بالمثول بين يديه وهو عزيز غالب على أمره بإذن ربه، ولعل الناظر بعين متدبر في أحداث القصة من تلك النقطة النورانية، والمتابع في خشوع وخضوع وترقُّب لسمات القصة القرآنية، يجد تأديبًا ربانيًّا لإخوة يوسف عليه السلام في كل ما فعلوه بيوسف منقطع النظير، وإن حاولنا أن نصنع على شاكلة ذلك القصص مشابهًا في فكرته أو في مضمونه، فهذا محال؛ لأن الفكر البشري محدود وإن بلغ ما بلغ، والخيال الإنساني مسقوف وإن انطلق ما انطلق؛ ألَا تذكرون قول ربنا: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64]؟ وحتى لا يكون قولي هذا مجرد سرد أو قول أتوارى به خلف قدسية القصص القرآني، إذ لا مساس بثوابته وضوابطه، دون إعراب وإظهار لمناقب الإبداع فيه بما فتح الله علينا، أجد بعضًا مما استضاء لي بعون الله وفضله.

 

إن إخوة يوسف لما كانت صدورهم قد امتلأت غيظًا أودى إلى حقدٍ، أودى إلى كراهية، أرسلتهم لكيد شنيع وفعل لا ينبغي أن يصدر عن ذراري الأنبياء أولي العصمة والعزم، وما جرَّ ذلك على نبي الله وصفيِّه يعقوبَ من أحزان ولوعة، سكنت صدره حتى أظهرت ناتج قهرها في عينيه: ﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 84]، لم يكن ربك نسيًّا، أراد أن يعاقبهم على كل نافلة ونازلة ألمت بيعقوب الوالد والنبي، ومن قبله يوسف الضعيف، فها هم يشقُّون الفيافي والصحاري ذهابًا رجالًا وركبانًا ليوسف حيث مستقره، يقفون بين يدي عطاياه، ينتظرون الغوث والمدد لعيالهم وأهليهم، ثم ما يعرفهم حتى يُلهمه الله كيف يكيد بهم كيدًا ليس ككيدهم الذي أوقع به الأذى وبأبيهم من وراء ذلك، بل على سبيل التأديب والتهذيب، والاعتراف بالجرم الذي فعلوه.

 

يصور لنا كتاب قصص القرآن أن يوسف لما عرفهم وتفحص وجوههم، وبفراسة الأنبياء ميَّزهم، آواهم وأكرم وفادتهم وأحسن ضيافتهم، ثم دعاهم يومًا إلى حضرته وقال لهم: "لقد أكرمتكم، ومن حقي أن أسألكم، وأتعرف أحوالكم، فمن أنتم؟ وما شأنكم؟ إني لأنكر عددكم، وقد بدأت أشك في أمركم، وأخشى أن تكونوا عيونًا علينا من مليككم، فهل لواحد منكم أن يُفضي إليَّ بحقيقة حالكم؛ فلعله يمزق قناع الشك ويبدد سحائب الريب؟"[3].

 

وحينما يسأل المقصود كرمه والمراد جوده في مثل تلك الظروف التي عم فيها القحط، وخيمت أشباحه شرقًا وغربًا، فأصابت جُلَّ الأقطار بما فيها "مصر" التي حباها الله نهرًا يجري من الجنة، فلا بد أن يكون التلطف والرقة في الحديث سبيلًا، والتودد طريقًا، فقصوا عليه قصتهم وذكروا له عددهم وبؤس حالهم بصدق، ولكنهم كذبوا للمرة الثانية في شأن يوسف: "أما الثاني عشر فقد فقدناه، ولا ندري أختاره الله لجواره، أم يضرب في الأرض الواسعة سهلها وحزنها، وغورها ونجدها"[4]، ولا يدرون أنَّ من يفترون عليه هو نفسه من يستمع إليهم، فأي حلم وصبر هذا يا يوسف يا نبي الله؟!

 

وما قال يوسف ذلك تعاليًا عليهم ولا تكبرًا من منطلق القوة والغلبة، أو أنه العزيز، فلو ذهب ظن واحد منا للقول بأن يوسف عرفهم وخبر حالهم، وإنهم لا شأن لهم بسياسة ولا بأمور حرب ودسائس، فكيف يقول لهم ذلك؟ وما خطر بباله شكٌّ في أنهم جواسيس ورسل استطلاع لمليكٍ يريد أن يُغير عليهم؟ نقول: إنه إلهام الله لأنبيائه ورسله، وما ينبغي لنبي أو رسول أن ينطق إلا كما علمه الله، وحتى لا تجول بالخواطر والعقول أن دوافع الانتقام قد باتت تراود يوسف في معاقبة إخوته، حتى وإن كان ذلك حقه، ولن يفعل بهم معشار جرمهم الأول له، ننكر ذلك بالكلية ونقول: ودَّ نبي الله يوسف من أول إطلالة بوجوههم أن يُفصح لهم عن ذاته، ويكشف لهم عن حاله، ويُثلج قلب أبيه يعقوب المكلوم أسًى عليه، ويزجي لهم من خير مصر العميم، فتلك سمات أهل التسامح والعفو والكرم، لكن إرادة الله تمنعه وتجعله لا يتصرف إلا بوحي وإلهام، وتلك من علامات العصمة وتقدير العزيز العليم.

 

ويشترط عليهم الشرط الذي جعل الفرحة في قلوبهم تنحسر، وغيمة الأمل بصدورهم تنزوي، حتى يرضى عن ذلك يعقوب، ويأمنهم على بنيامين الذي هو سلواه في فراق يوسف، وما تبقى من "راحيل" التي رحلت: ﴿ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ﴾ [يوسف: 59، 60].

 

إنه شرط في ظاهره القهر وغلبة صاحب المعونة على من يشكو العوز، ولو علموا أن طلبه لأخ لهم من أبيهم لأجل إثلاج صدر وتبريد أجواء قلب أنهكه الشوق للأهل والعشيرة والوطن، فضلًا عن نقل خبر عن أبيه يعقوب، لفعلوا ذلك دون خوف أو قلق، لكنه كما ذكرنا بعاليه، والله تعالى أعلى وأعلم، وحيُ الله ليوسف بما يهذب من أخلاقهم التي حادت عن الصواب، وصدورهم التي فتحت أبوابها للظلم، ويرجعون لمصر يحدوهم الأمل حينًا بموافقة يعقوب النبي على إرسال بنيامين معهم رجاء الكيل مرة أخرى، بينما تعاودهم أوجاع اللوم على فعلتهم بيوسف، فهم يتوقعون قوله لهم بما يفرضه منطق العقل والخوف، فما صانوا يوسف أول مرة حتى يأمن لخروج بنيامين معهم، ويرفعهم نجدٌ ويحطهم وهدٌ بيأس من عدم قبول أبيهم خروجَ بنيامين معهم، حتى يدخلوا لديارهم، ويشتمَّ أبوهم قمح مصر وحنطتها، وفيها ريح يوسف يحس ارتياحًا حرمهم الله منه، ومتعة وزكاة نفسٍ حُجبت عنهم بما اقترفوا من الإثم.

 

ولنخلص لبيان عظيم؛ وهو أن القلوب متى صارت راقية كأفئدة الطير، رأت على البعد ما لا يراه غيرها، واستبصرت على القرب ما لا يبصره أصحاب الأبصار، وتلك هي البصائر التي تنعم بها القلوب حتى وإن عمِيت العيون، وسبحان السميع البصير! ويحضرني قول الحلاج العباسي رحمه الله:

قلوب العاشقين لها عيون
ترى ما لا يراه الناظرونا
وألسنة بأسرار تناجي
تغيب عن الكرام الكاتبينا
وأجنحة تطير بغير ريش
إلى ملكوت رب العالمينا

 

ويستمر الترحال ما بين مصر وفلسطين، وتحديدًا طيبة وكنعان، ويوافق النبي يعقوب على إيفاد بنيامين معهم، ويأخذ المواثيق والعهود مرة أخرى، ولو ترى إذ الأسباط العشرة بدؤوا يستشعرون قيمة الأخ من أي أمٍّ يكون، وربما ودوا لو لم يفعلوا ذلك بيوسف، فما زادهم مكرهم وكيدهم غير تخسير، ويكون الكيد ثانية بأمر الله ليوسف حين يدخلون عليه ويحتفي بهم، ويدعوهم لمائدة طعام فاخرة، ويُجلسهم مثنى مثنى حسب أمهاتهم اللائي ولدنهم، فهو أخوهم وإن طال بهم أمد الفراق، لكنه أخوهم ويعلم دواخلهم، وسبحان من علَّمه من تأويل الأحاديث، ومعرفة الكثير مما منَّ عليه الله به من غيوب! ونرى الأسباط الآن يجلسون متقابلين كما طُلب منهم، ويبقى بنيامين لا يجد أخًا له من أمه فبكى، وقد تذكر يوسف فضمَّه إليه لطفًا وعطفًا وعوضًا حتى يأتي أمر الله، ولسان حال يوسف يقول له: "إني أنا أخوك يا بنيامين".

 

وترتاح نفس الأسباط العشرة لهذا الكرم والجود، وقبل ذلك عودة بنيامين معهم سالمًا غانمًا مثلما وعدوا أباهم، فيكونون قد أزاحوا بهذا الوفاء بعضًا مما تراكم من كيدهم القديم، لكن مشيئة الله لم تأتِ بعد؛ فها هو المنادي يؤذن فيهم: ﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ [يوسف: 70]، وها هو تأديب جديد، والجزاء من جنس العمل؛ فيوسف الذي ظلموه قديمًا بأنه سرق وما سرق، لكنه كسر صنمًا لجده من أمه لكيلا يعبده، وأيضًا تأديب من الله لهم بإلهام يوسف أن يأمر غلمانه أن يدسُّوا صواع الملك في رحل بنيامين؛ ليُؤخذ عقابًا له ظاهرًا بما سرق كما في شرعة بني إسرائيل حينها، ولعلنا ندرك تمام الإدراك أن بنيامين لم يُؤخذ سارقًا، إنما أراد الله له أن يكون عوضًا ليوسف حتى يكون الجمع الكبير وتتحقق الرؤيا كما وعده ربه، لكنها حيلة ليظل تأديب الله لهم قائمًا، وتستقيم قلوبهم حسب مراده سبحانه.

 

ومن شبكة الألوكة الطيبة، منبع العلم ومستساغ الحكمة، مقالة بعنوان: "تجديد الإيمان وتوثيق الصلة بالله تعالى"، وجاء في الحديث عن ابن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الإيمان لَيخلُق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم))؛ [رواه الحاكم والطبراني، وصححه الألباني].

 

إن العوامل والفتن والابتلاءات التي تحيط بنا من كل مكان، لا ريب أنها تؤثر في القلب والنفس، وربما وقع صاحبها في الضيق والحرج والإثم، لضعف العامل الإيماني والوازع الشرعي في القلب، بل ربما وقع مثل هذا في الانتكاس عن طريق الاستقامة والعبادة، فيقع منه التقصير في الفرائض والواجبات؛ كالمحافظة على الصلوات الخمس والجمع والجماعات، أو بذل حقوق المسلمين عليه، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الدعوة إلى الله تعالى[5].

 

وهنا وقفة تستحق منا التمهل ردًّا على الملاحدة وأرباب التحريف؛ فيوسف عليه السلام - كما أسلفنا - لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه، إنما هو مرهون بوحي وإلهام من الله، ولم يجعل من ذلك انتقامًا وانتصارًا لحقه المسلوب من وجوده في أكناف عشيرته وأهله من بني إسرائيل، فلو كان كما يزعمون، لأمر غلمانه بأن يجعلوا الصواع في متاع واحد من العشرة الذين أجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب، ولجعل السارق يُعاقَب بدين وشرعة الملك في مصر بالتأديب والتعذيب، لكنَّ له نفسًا كريمة وخلالًا عظيمة، يا ليت الشباب والرجال يقتدون بها، وإلى هذا الحد نقف لنستكمل الجزء السادس والأخير من التحقيق في ملحمة الصديق، وآخر الدلالات والعبر بإذنه سبحانه، وهو الفتاح العليم.



[1] القول الفصل في شاعرية القص: ملامح استشراف القصة الشاعرة/ شبكة الألوكة/ حضارة الكلمة/ أدبنا/ دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية/ محمد صادق عبدالعال.

[2] طريق الإسلام/ المقالات/ مقالات متنوعة/ الفرق بين الكيد والمكر/ موقع تقني.

[3] قصص الأنبياء/ محمد جاد المولى وآخرون/ دار الجيل - بيروت/ ط13/ ص97.

[4] السابق ص97.

[5] شبكة الألوكة/ آفاق الشريعة/ مقالات شرعية/ عقيدة وتوحيد/ إليكم يا شباب الإسلام (8)/ تجديد الإيمان وتوثيق الصلة بالله تعالى (1)/ عاطف بن عبدالمعز السلمي الفيومي.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • التحقيق في ملحمة الصديق (1) دلالات وعبر
  • التحقيق في ملحمة الصديق (2) دلالات وعبر
  • التحقيق في ملحمة الصديق (3) دلالات وعبر
  • التحقيق في ملحمة الصديق (4) دلالات وعبر
  • التحقيق في ملحمة الصديق (6) دلالات وعبر
  • التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر

مختارات من الشبكة

  • التحقيق في تبرئة العلامة السيوطي من كتاب (الروض الأنيق في فضائل الصديق)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • كتاب تحفة الصديق في فضائل أبي بكر الصديق لابن بلبان(مقالة - موقع د. أنور محمود زناتي)
  • مخطوطة الوقوف بالتحقيق على موقف الصديق(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • النظرة الدونية من الصديق لصديقه(استشارة - الاستشارات)
  • حاجة كتاب (غاية النهاية) لابن الجزري للتحقيق ، وحاجة التحقيق للتنسيق(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
  • التحقيقات التي حظي بها كتاب البرهان للإمام الزركشي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الصديق الحقيقي(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إلى صديقي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الرد على من يطعن في أبي بكر الصديق(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مواقف ذات عبر من حياة الصديقة بنت الصديق في بيت النبوة(مقالة - ملفات خاصة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 19/11/1446هـ - الساعة: 13:49
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب