من سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم

من سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم

هناك دعاوى وآراء تقول: إن الإسلام دين الرحمة والعفو والتسامح، فلماذا القتال؟

وأقول: نعم، إن الإسلام دين الرحمة والعفو والتسامح، وهذا ثابت في تاريخ الإسلام من أوله إلى آخره، وتتجلى دلائل الرحمة والعفو والتسامح في سِلْمه وحربه، والقتال في الإسلام ليس بدعة، أَوْ قَدْ جاء به الإسلام وحده، فكما سبق أن ذكرتُ؛ فقد فُرِضَ القتال على أمم قبلنا وهم اليهود والنصارى، وقبل الإسلام كان القتال دائرًا بين الفُرس والرومان، كما كان دائرًا بين قبائل العرب، ثم ماذا كان يفعل أبرهة؟ ألم يُجَهِّز جيشًا لدخول مكة وهدم الكعبة؟ ألم يقتل ذو نواس اليهودي وتتبَّع بجيشه أتباعَ عيسى عليه السلام وأحرقهم في الأخدود؟

لقد بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب ليدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل، وإلى مكارم الأخلاق بعد أن طغت عبادة الأوثان وعمَّت الرذائل بين الناس، لكن قومه دافعوا عن أصنامهم ومألوفاتهم دفاعًا مستميتًا؛ قال تعالى: ﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ [ص: 6]، ولم يتركوه يُبَلِّغُ رسالة ربه فعادَوْه وعذبوا أصحابه، وضَيَّقُوا عليهم حتى أخرجوهم من بلدهم.

هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى يثرب بعد أن دخل نفر من أهلها في الإسلام عن حُبٍّ وطواعية، وعن رغبة في الدفاع عن الإسلام ونبيه وأتباعه، وكان طبيعيًّا - كأي دولة ناشئة - أن تؤمِّن حدودها وطرقها، وترسل سراياها لتراقب المداخل والمخارج تحسُّبًا لأي اعتداء، وكان طبيعيًّا - أيضًا - أن تَحْدُث بعض المناوشات بين هذه السرايا وبين عِيرِ قريش الآتية من الشام، والمسلمون - المهاجرون - قد خرجوا من مكة بغير ذنب اقترفوه أو جريمة ارتكبوها، كما أنهم تركوا دُورَهم وأموالهم، واستولى عليها المشركون.

وقصة صهيب الرُّومي حين هاجر وتبعه أهل مكة ليقتلوه أو يمنعوه، فوقف لهم قائلاً: "يا معشر قريش، لقد علمتم أني مِنْ أَرْمَاكم رجلاً، وَايْمُ الله، لا تُقْبِلُون إليَّ حتى أرمي بما كان في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، قالوا: دُلَّنَا على بيتك، وما لك بمكة ونُخَلِّي عنك، وعاهدوه إن دلهم أن يَدَعُوه، ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((رَبِحَ البيع صهيبٌ))، وأنزل الله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 207][1]، ومما يدل على أن قريشًا أقامت حصارًا اقتصاديًّا على من أسلم في مكة (قبل الهجرة) وتجويعهم وإهلاك أموالهم وتجارتهم ما ذكَره ابن إسحاق: "وكان أبو جهل إذا سمع بالرجل قد أسلم، إن كان تاجرًا قال: والله لَنُكْسِدَنَّ تجارتك، ولَنُهْلِكَنَّ مالَكَ)[2]، ولقد كان المسلمون إذا أراد أحدهم أن يهاجر خرج سِرًّا متخفِّيًا تاركًا متاعه وممتلكاته لا يحمل منها شيئًا، حتى إذا هاجر المسلمون، آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وبدأت هذه السرايا بعد سبعة أشهر من الهجرة (هجرة النبي صلى الله عليه وسلم)، وقد ذكرها ابن القيم في زاد المعاد كما يلي:

1- السرية الأولى: وكان أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عبدالمطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مُهاجَرِه في ثلاثين رجلاً من المهاجرين خاصة، يعترض عِيرًا لقريش جاءت من الشام، وفيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل، فالتقوا واصطفوا للقتال فمشى مجدي بن عمرو الجهني، وكان حليفًا للفريقين حتى حجز بينهما فلم يقتتلوا.

2- السرية الثانية: ثم بعث عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب في سرية إلى بطن راغب في شوال على رأس ثمانية أشهر في ستين من المهاجرين، ليس فيهم أنصاري، فلقي أبا سفيان بن حرب في مائتين، وكانت مجرد مناوشة، وانصرف الفريقان ولم يحدُث قتال.

3- السرية الثالثة: ثم بعث سعد بن أبي وقاص في ذي القَعْدة على رأس تسعة أشهر، وكانوا عشرين راكبًا يعترضون عيرًا لقريش غير أنها أفلتت.

4- ثم غزا بنفسه غزوة الأبواء، ويقال لها: ودان، وهي أول غزوة غزاها بنفسه، وكانت في صفر على رأس اثني عشر شهرًا، وخرج في المهاجرين خاصة يعترِضُ عيرًا لقريش، فلم يلقَ كيدًا.

5- ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بواط في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرًا من مهاجَرِه، يعترض عيرًا لقريش فيها أُمَيَّة بن خلف، ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، فلم يلقَ كيدًا فرجع.

6- ثم خرج في نفس الشهر وعاد إلى المدينة.

7- ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهرًا في مائتين من المهاجرين، ولم يُكْرِهْ أحدًا على الخروج، يعترضون عيرًا لقريش، فوجد العير قد فاتته بأيام.

8- ثم بعث سرية عبدالله بن جحش في رجب، على رأس سبعة عشر شهرًا من الهجرة، في اثني عشر رجلاً من المهاجرين، فمرت بهم عِيرٌ لقريش تحمل زَبِيبًا وأدمًا وتجارة، وفيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان ونوفل ابنا عبدالله بن المغيرة، والحكم بن كيسان، فتشاور المسلمون، وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحَرَم، ثم اجتمعوا على ملاقاتهم، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأَسَرُوا عثمان والحَكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين، فأنكر الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ما فعلوه، واشتد تَعْنِيت قريش وإنكارهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالاً، فقالوا: قد أحل محمد الشهر الحرام، واشتد ذلك على المسلمين حتى أنزل الله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217]، يقول سبحانه: "هذا الذي أنكرتموه عليهم - وإن كان كبيرًا - فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله، والصد عن سبيله وعن بيته، وإخراج المسلمين الذين هم أهله منه، والشرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت منكم به، أكبرُ عند الله من قتالهم في الشهر الحرام"[3].