• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    فضل عشر ذي الحجة (خطبة)
    أ. د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله
  •  
    فصلٌ: فيما إذا جُهل حاله هل ذُكر عليه اسم الله أم ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    خطبة (المروءة والخلق والحياء)
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    تساؤلات وإجابات حول السنة
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    الأيام المعلومات وذكر الله (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    من تجاوز عن المعسر تجاوز الله عنه
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الدرس التاسع عشر: الشرك (2)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    الحذر من استبدال الأدنى بالذي هو خير
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    خطبة: اغتنام عشر ذي الحجة خير الأيام
    عبدالعزيز أبو يوسف
  •  
    إعلام النبلاء بفضل العلم والعلماء (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    تفسير: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    التحذير من الإسراف والتبذير
    الشيخ صلاح نجيب الدق
  •  
    استحباب أخذ يد الصاحب عند التعليم والكلام والمشي
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    مفهوم الخصائص لغة واصطلاحا وبيان أقسامها
    د. أحمد خضر حسنين الحسن
  •  
    خطبة: عشر ذي الحجة فضائل وأعمال
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    علام يقتل أحدكم أخاه؟! خطورة العين وسبل الوقاية ...
    رمضان صالح العجرمي
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / روافد / موضوعات تاريخية
علامة باركود

بيزنطة وفارس (1/4)

د. عمر يحيى محمد

المصدر: مجلة الدرعية: السنة الثامنة، العدد الثاني والثلاثون، ذو الحجة 1426هـ - يناير 2006م
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 5/1/2010 ميلادي - 19/1/1431 هجري

الزيارات: 62817

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

بيزنطة وفارس
قراءة جديدة لآخر جولات الصراع بين القوتين العظميين في العصور الوسطى


التمهيد:
مثَّلثِ الإمبراطوريةُ الرُّومانية القديمة ووريثتُها الدولة البيزنطية، ودولةُ الفرس - القوتين العظميين في أواخر العصور القديمة، وشطرًا كبيرًا من العصور الوسطى، وعلى مدى حقبٍ طويلة كان الصراع مُحتدمًا، والحدودُ مشتعلةً، والجنود مستنفرين، والعداء مستحكمًا بين الدولتين.

وقد شهد هذا الصراع جولات عديدة، تبادَلَ فيها الطرفانِ الهزائمَ والانتصاراتِ، وتغيَّرتِ الحدودُ فيها أكثرَ من مرة ولم تكن مستقرَّة، وكان يُحدِّدُها ميزانُ القوة والاستقرار في كلتا الدولتَيْن، وكثيرًا ما كانت تتعرَّض للمدِّ والجزر، فبالقوة والاستقرار السياسي في أحدهما، وحدوث التراجع والهزَّات السياسية في الأخرى، يتغيَّر خطُّ الحدود، ويتغيَّر شكلُ العلاقة، ويتجدَّد التنافُس والصراع بين الدولتَيْن العظميين.

وهذا البحث يتناول جانبًا من الصراع البيزنطي/ الفارسي، ويركِّز في قراءةٍ فاحصةٍ على الفصل الأخير منه، والذي بدأ باجتياح الفرس للأراضي البيزنطية، واحتلالهم لأجزاءٍ كبيرةٍ منها، ووصولهم إلى تخوم العاصمة البيزنطية القسطنطينية في عهد إمبراطورها الشهير هرقل، وجهود هذا الإمبراطور في تَجاوُزِ الهزائم المتتالية إلى انتصارٍ حاسمٍ، تمثَّل في استعادة الأراضي البيزنطية، وإنهاءِ التفوُّق والسيطرة الفارسية؛ تمهيدًا لإخراجها من ساحة الصراع الدولي لتلك الحقبة نهائيًّا.

كما يبحث في الأسباب التاريخية التي أدَّتْ إلى نُشوبِ هذا الصراعِ واحتدامه بين الدولتَيْن، وهي أسبابٌ تعدَّدَتْ بين تلك التي تعود إلى منطقِ القوة والقوةِ المضادة، وأخرى تعود إلى النُّزوع للنفوذ والسيطرة الحدوديَّة، ناهيك عن تلك الأسبابِ الاقتصادية التي تركَّزَتْ حول طُرق التِّجارة الدولية، أو تلك التي تعود إلى الاختلاف الدِّيني والثقافي بين الدولتين والقوتَيْن.

 

الأوضاع السياسية والعسكرية للإمبراطورية البيزنطية
والدولة الفارسية في أواخر القرن السادس الميلادي


أولاً: الإمبراطورية البيزنطيَّة:
مرَّتِ الإمبراطورية البيزنطية في الربع الأخير من القرن السادس الميلادي بأوضاعٍ سياسية وعسكرية حَرِجة، سبقتِ المرحلةَ التي وصل فيها الإمبراطور البيزنطي هرقل (Heraclius)، ومهَّدت لها، وألقَتْ بظلالها وتأثيراتها مدةً طويلةً على حُكم هذا الإمبراطور، الذي نحن بصَدَد دراسة الصراع الذي ساد مع الفرس خلال مدة حُكمه أو الجزء الأكبر منها.

فمن الناحية السياسية، سادتْ أجزاءً مختلفة من الإمبراطورية عدةُ حركاتِ تمرُّدٍ وعصيان عسكري ضد الإمبراطور موريس (582 - 602م)، أدَّت في النهاية إلى خلْعه عن العرش، وتعقُّبه بعد فراره من العاصمة، وقتْله هو وخمسة من أبنائه[1].

وكان سبب هذا التمرُّدِ المعاملةَ السيئة التي كان موريس يعامِل بها رجالَ جيشه، وتأخيرَ رواتبهم، وعجْزَه عن إيقاف المد السلافي الذي تعرَّضَتْ له الإمبراطورية في هذه الحقبة[2]، ورفْضَه افتداءَ الأَسْرى البيزنطيين لدى ملك الآفار؛ مما أدَّى إلى قتلهم.

وقد اختار قادةُ التمرُّد قائدًا مِن بينهم يُدعى فوكاس (Phocas)، وأعلنوه إمبراطورًا، وتجاوَزَ فوكاس الحد في أعمال الانتقام والقتْل والإبادة والتعقُّب لرجال وأسْرة الإمبراطور السابق، ولكل الفعاليات السياسية والدينية في العاصمة؛ مما جعل القسطنطينيةَ تشهد أزمةً سياسية طاحنة من جرَّاء هذه السلسلة من أعمال القتل والتعذيب، وجعل كسرى ملك الفرس يجد في ذلك مُبرِّرًا لإنهاء حقبة السلام مع الإمبراطورية البيزنطية، واستئناف القتال معها؛ بحُجَّة أخْذ الثأر لصديقه الإمبراطور موريس[3].

إضافةً إلى هذه الأخطار الخارجية، التي تمثَّلَت في الفرس شرقًا، والآفار والسلاف شمالاً، فإن الأوضاع الداخلية لم تكن بأحسنَ حالاً؛ إذ شهدتْ مدةُ حكم الإمبراطور فوكاس موجةً من المؤامرات المتتالية التي قادها بقايا أسرة موريس، وكبارُ موظَّفي الإدارة، وقيادات بعض الأُسَر الأرستقراطية، والقادة العسكريين[4].

كما عامَلَ الإمبراطور فوكاس الأحزابَ السياسية[5] معاملةً سيئة، جعلَتْه يفقد شيئًا فشيئًا التأييدَ الشعبي له، فتارةً كان يُحابي الخُضْر، ثم يُعاملهم معاملةً سيئة، وتارةً يُحابي الزرق، وتارةً ينقلب على الحزبَيْن معًا، وقد بلغ الصدامُ بين الزرق والخضر الذروةَ خلال حكم فوكاس، وعمَّتِ المعارك والمنازَعات بينهما كلَّ مكان، وامتدَّتْ من القسطنطينية إلى مدن الإمبراطورية الأخرى.

وفضلاً عن ذلك؛ فإن الأحوال الاقتصادية شهدت تدهورًا أيضًا؛ ذلك أن التقدُّم الفارسي في آسيا الصغرى، والاستيلاء على أجزاء من سوريا وما بين النهرَيْن، حَرَمَ الإمبراطوريةَ من أموال الضرائب، كما أن هجمات السلاف وما ألحقوه بأراضي الإمبراطورية من تخريبٍ وتدميرٍ، أدَّى إلى هجرة السكان؛ مما كان له أثرُه السيئ على الاقتصاد، أدَّى في النهاية إلى انتشار الجوع، والنقص في إمدادات الطعام وانتشار الأمراض[6].

ورافق هذه الأزمةَ الاقتصادية سوءُ الأحوال المناخية؛ مما أدَّى إلى تلف المحصول الزراعي بسبب شدة البرد، وانقطاع إمدادات القمح من إفريقيا ومصر، وعانَتِ الطبقات الفقيرة في المدينة بصفةٍ خاصةٍ - تلك التي كانت تتمتَّع بالحصول على الخبز المجاني - من الحرمان والجوع[7]، وأدَّى كلُّ ذلك إلى مُضاعفةِ الاستياء العام في العاصمة والمدن الأخرى.

أما على الجانب العسكري، فإنَّ الأزمة كانت أكثر فداحةً؛ إذ إنَّ هذا الجيش القوي المُدرَّب الذي تمتَّعَت الإمبراطورية بحمايته، قد أخذ شأنُه يتناقَص بسبب الهزائم المتتالية التي مُنِيَ بها، وفي أيام فوكاس لم تعُدْ له الكفاءة القتاليَّة المطلوبة لِمُواجَهة الأزمات الخارجية والداخلية.

هذا فضلاً عن أن نظام الجيش كان يقوم أساسًا على تجنيد المرْتَزقة، وقد أصبح هذا النظام مستحيلاً عندما أفلستْ خزينةُ الدولة، واضطربتْ أمورُها، كما لم يعُدْ في استطاعة الإمبراطورية الحصولُ على الجنود من آسيا الصُّغْرى، التي كانت تُمَثِّل مستَوْدعًا دائمًا للرجال[8]؛ إذ أصبحتْ أجزاءٌ كثيرة من آسيا الصغرى تحت سيطرة الفرس، وبالتالي تناقَصَ عدد الرجال اللائقين للخدمة العسكرية، فضلاً عن انتشار شعور الكراهية بين الناس للجندية، فترك الجنود صفوفَهم ومواقعهم ورتبهم، ولَجَؤُوا إلى الأديرة؛ ليُصبحوا رهبانًا؛ على أمل أن يجدوا الأمن والسلام[9].

هكذا أصبحت الإمبراطورية في هذه الفترة الحرِجة أسيرةً لهذه الأوضاع المتردِّية،
التي شمِلتْ مختلف جوانب الحياة فيها، فمِن أزماتٍ في الحكم، إلى صراعٍ دمويٍّ عنيفٍ بين مختلف الطبقات، إلى أعداء خارجيين يُحيطون بالإمبراطورية ويُناوِشُونها، إلى انحدارٍ عسكريٍّ واقتصاديٍّ، وتردٍّ لمستوى الحياة وأنماطها داخل العاصمة وفي كلِّ أنحاء الإمبراطورية[10].

لقد اعتُبرتْ مدة حكم الإمبراطور فوكاس - بما شهدتْه من دموية وصراع داخلي، وتراجعٍ خارجي - مِن أسوأ الحقب في حياة الدولة البيزنطية؛ إذ فَقَدَ الحكمُ هيبته في الداخل والخارج، وتكالَبَت عليه الظروفُ السيئة التي أضعَفَت من مقاومته، وجعلت استمراره مستحيلاً، وكان الأعداء يُطبِقون عليه من الداخل والخارج.

في ظلِّ هذه الأوضاع، جاء الإمبراطور هرقل سنة (610 م)، مُخلِّصًا الإمبراطوريةَ من حكمها الذي انهارتِ الأوضاع في مدَّته، ومحاولاً إنقاذَها من أعدائها الخارجيين، الذين وجدوا في هذه الأوضاع وذلك الانحدار فرصتَهم الذهبية، ومن الفوضى الداخلية التي كانت ضاربةً أطنابها[11].

وصلت استغاثة الفعاليات السياسية والدِّينية والمواطنين في القسطنطينية، إلى هرقل[12] أرخون إفريقيا تستنجد به، وكان لبُعد ولاية شمال إفريقيا، وعدم تأثُّرها بالأحداث التي جَرَتْ في القسطنطينية - الأثرُ الحاسم في سرعة الاستجابة؛ حيث أبحر هرقل الابن يقود جيشَ الإنقاذ، والذي سرعان ما حقَّق الانتصار على فوكاس، الذي لم يبقَ له في العاصمة كثيرٌ من الأنصار[13].

وتَذكُر المصادر أن فوكاس عندما لاحتْ هزيمتُه، جَمَعَ كل ثروات وأموال الدولة وأبحر بها في سفينة، إلا أنها سرعان ما غرقت[14]، ثم تكاثف حوله الثائرون الذين ألقَوا عليه القبض وسلَّموه إلى هرقل، الذي أمر بقتله وأفراد أسرته وأعوانه[15].

وتسلم هرقل في الخامس من أكتوبر سنة (610 م) إمبراطوريةً متهاوية؛ أراضيها مسلوبةٌ، وخزائنُها خاوية، والاضطراباتُ تلفُّها من كل جانب، ولم يكن أمامه سوى العملِ بدأب على رأب هذا الصدع الذي أحاط بالإمبراطورية، وإعادة بناء الاقتصاد المنهار، وإيجاد جيشٍ قادر على الدِّفاع عنها، وإعادة الهَيْبة إلى سلطة الإمبراطور.

وقد تصدَّى الإمبراطور لأهم القضايا الملحَّة التي أصابت الإمبراطوريةَ، وهي الحالة الاقتصادية، وحالة الإفلاس العامة التي عانتْ منها الخزينة، واتَّخذ لذلك عدة إجراءات؛ منها: تحديد عدد موظفي الكنيسة والإدارة الإمبراطورية، وفرض ضرائب جديدة، وإلغاء الخبز المجاني الذي كانت تلتزم به الحكومة[16].

ثانيًا: دولة الفرس:
كانت الأوضاع في فارس مختلفة بعضَ الشيء، فبعد مدة وجيزة من الاضطرابات التي كان سببُها ذلك الانقلابَ العسكري الذي تعرَّض له الملك كسرى أبرويز (المظفر) ملك فارس عام (590م)، وتمرد أحد قادته عليه، ويدعى بهرام شوبين أو (جوبين) Bahram Chubin، والذي يعرف بالرجل الخشبي[17]، فبعد نجاح حركته الانقلابية، أعلن بهرام جوبين نفسه ملكًا على فارس، ولكنه لقي معارضةً شديدة من النبلاء الذين كانوا يدينون بالولاء لأسرة كسرى[18].
 

وقد سادتِ الفوضى أجزاءَ فارس المختلفة، وفشل بهرام جوبين في إلقاء القبض على كسرى أبرويز، الذي لم يجد بُدًّا من الفرار إلى بيزنطة، والالتجاء إلى إمبراطورها، رغم العداء الكبير والحروب التي كانت محتدمة بينهما، ومِن هيروبوليس Hieropolis  (منبج) كَتَبَ كسرى خطابًا إلى الإمبراطور البيزنطي موريس، طالبًا مساعدتَه وعونَه في استرداد عرشه وعرش آبائه وأسلافه الذي اغتصبه بهرام[19].


ووجدها الإمبراطور موريس فرصةً لمسالَمة الفرس، خاصة وأن مفاوَضات السلام كانت تدور وقتها بين بيزنطة وفارس، وقد عمل الملك الجديد على إخفاقها، ووجد موريس أن في مساعدة كسرى قطعًا لطريق دُعاة استمرار الحرب مع بيزنطة في فارس، وتقديم معروف يُمكن أن يكون له أثرُه في المستقبل، خاصة وأن أوضاع فارس في ظلِّ قيادة بهرام لم تكن مستقرَّة؛ بل اكتنفتها سلسلة من الاضطرابات والمعارك، مما يعني أنه لن يستطيع الاستمرار في الحكم، لا سيَّما وأنَّ عددًا كبيرًا من رجال الدين والنبلاء رفضوا مبايعته[20].

وقد تمثَّلت مساندة موريس إلى كسرى بذلك الجيش الإمبراطوري، الذي رأسه القائد نارسيس Narses ، والبطريق يوحنا Jean، لمساعدته في استرداد مُلكه، بالرغم من معارضة السناتو (مجلس الشيوخ) الذي كان يرتاب في أمر الفرس، ولا يطمئن إليهم[21].

وفي عام (591م) عَبَرَ كسرى أبرويز نهرَ دجلة، وهزم بهرام جوبين واسترد عرشه، وأرسل إليه موريس الهدايا، وتزوج كسرى أبرويز ابنةَ الإمبراطور موريس، وكانت تسمَّى ماري أو ماريا Marie  ، التي بعث معها موريس من الجهاز والأمتعة ما يندُّ عن الحصر[22].

وباسترداد كسرى لعرْشِه، عاد الاستقرار إلى دولة فارس، واستمرَّ السلام بين الدولتَيْن؛ نتيجةً لذلك العون الفعَّال الذي قدَّمه الإمبراطور موريس لكسرى؛ بل وحصلتْ بعض الانفراجات في العلاقات، كان من أهمها: تحسُّن معاملة دولة الفرس للنصارى الموجودين على أراضيها، أو أولئك الذين كانوا على الحدود بين الدولتَيْن، وكانوا محل اضطهادٍ دائمٍ من قِبَل الفرس[23].

وإذا ألقينا نظرة سريعة على الأوضاع الاقتصادية والعسكرية لدولة فارس في تلك الحقبة، نجد أنها تمتَّعت بنهضةٍ اقتصادية وعسكرية منذ ارتقاء كسرى الأول (أنوشروان) العرشَ سنة (531م)؛ بل إن هذا الارتقاء يُعدُّ بدايةً لأزهى عصور الدولة الساسانية؛ فقد تعدَّدتْ جوانب الإصلاح التي رافقتْ هذا الجهد، وكان منها ما يتعلَّق بنظام الحكم، والحد من سيطرة النبلاء، وكذلك بعض الإصلاحات الاجتماعية التي تناولتْ حياةَ الأسرة والمجتمع[24].

وقد اتَّجه كسرى إلى إصلاح نظام الضرائب؛ لأنَّ الطريقة التي كانت تُجبَى بها الضرائب - عقارية وشخصية - لم تكن فحسب قليلةَ الفائدة للملك فقط؛ بل سبَّبَت كثيرًا من المصاعب للممولين أيضًا، فمُسحت الأراضي المزروعة بدقَّة، وحدد ما يدفع عنه المال منها، واتخذ هذا النظام وسيلة لتنظيم الضريبة العقارية، واختار الملكُ بنفسه أولئك الذين عهد إليهم بجمع الضرائب ممن عُرف عنهم النزاهة والاستقامة[25].

وكان هدفُ كسرى من هذه التعديلات الضرائبية هو القضاءَ على الظلْم الذي كان يقع على الناس عادةً من تعسُّف الجُباة، كما كان يهدف إلى توفير الأموال اللازمة التي تُعِين الدولةَ على الدِّفاع عن أراضيها، سواء من الأعداء الخارجيين أو الداخليين، وتكون على أهبة الاستعداد، بدلاً من أن تضطر إلى ذلك عند حدوث الأزمات[26].

كما تبع إصلاحَ الوضع المالي للدولة إصلاحٌ حربي جديد؛ فقد كانت أُسَرُ النبلاء حتى ذلك الوقت هي التي تتكوَّن منها نواة الجيش، وكانوا مُجبَرين على القيام بوظيفة الجُندية بلا أجر؛ بل كان عليهم أن ينفقوا على أسلحتهم، ولكن كسرى تفقَّد الأساورة (الفرسان)، فمن لم يكن له منهم يسار، قوَّاه بالدواب والعدة، وأجرى لهم ما يُقوِّيهم[27].

وكانت نخبة الجيش الفارسي تتكوَّن من الفرسان الدارعين (الفرسان النبلاء)، والذين كان لهم المقام الأول في المعارك، وكان النصر يتوقَّف على قوَّتهم وشجاعتهم قبل كل شيء، وامتازتِ الفروسية بنظامها الحربي وضبطها، وكذلك بالتمرين المتواصِل وعددها[28].

وكان الفرسُ يلقون الرومان بأفواجٍ منظَّمة من الفرسان الدارعين في صفوف كثيفة كل الكثافة، وكان بريق الدروع التي كانت تتبع اتجاه الجيش يعكس هيبةً تبهر الأبصار[29].

وقد وَصَفَ أحد كُتَّاب الرومان المعاصرين فِرَقَ الفرسان بقوله: "كانت فرقُ الفرسان كأنها صيغتْ من حديد، وقد غُطِّيَ جسدُ كلٍّ منهم بألواح ملتصقة به إلى درجة تجعل مفاصل الدرع الحديدية الصلبة تَتَحَرَّك في يُسر، وفقًا لحركة أعضاء الجسد، وكان للوجه قناعٌ يحميه، وهكذا كان من المتعذِّر تصويب سهم إلى الفارس ما لم يُسدد نحو الفتحات الصغيرة قبالة العينين، أو الثقبين الدقيقين أمام الأنف اللذين كان يتنفس الفارس منهما، وكان بعض الفرسان المسلحين بالحراب، يقفون بلا حراك؛ حتى ليظن أنهم شدوا إلى سلاسل من حديد، وبجانبهم يقف الرماة وقد مدُّوا أذرعهم؛ ليشدوا الأقواس المرنة، بحيث يلمس الوتر الجزءَ الأيمن من صدورهم، بينما السهم معلَّق في أيديهم اليُسرى، وكان السهمُ ينطلق بضغط محكم بالإصبع، فيُدوِّي في الفضاء ويُصيبُ من يُصيبه"[30].

وكان لدى الفرس فرقةٌ من الفرسان المختارين تُسمَّى "فرقة الخالدين"، وهي تتكون من عشرة آلاف رجل، كما كانت هناك فرقٌ أخرى تميَّزت بالجُرْأَة وتحدِّي الموت، هي "فرقة الفدائيين"[31].

وكانت الفِيَلة تتَّخذ مكانها خلفَ الفرسان، وكانت أصواتها ورائحتها ومناظرها المُخيفة تُلقي الذُّعْر في خيل العدو، وكان الفيالة يركبون وفي أيديهم اليُمنى سكاكين طويلة المقابض، فإذا ما انزعج الفيل - وكان هذا يحدث أحيانًا - فينقلب يتخبَّط في صفوف الفرس ويدوسهم، فإن الفيال يُبادِر إلى قتله بأن يُغمِد السكين في عِظام رقبته[32].

أما مؤخرة الجيش فكانت مؤلَّفة من المُشاة، وكانوا من أهل القرى، وكانوا يتخذون جندًا لحفظ النظام، وكانوا جنودًا غير مَهَرة، وفي المعارك الكبيرة التي كان يقودها الملك بنفسه كان يُحمل له عرشٌ كبيرٌ يُوضَع وسط الجند، ويلتفُّ حوله خَدَمُه وحاشيته، وفرق من الجند كان عليها أن تُدافع عنه حتى الموت[33].

وفي زمن السِّلْم كانت الأسلحة ومُعدَّات الحرب تحفظ في المخازن والمخابئ، وكانت الخيول موضع عناية خاصة، وكان الطبيب البيطري الخاص بها موضع عناية خاصة، وكانوا يجمعون له الأعشاب ليستخدمها في علاجها، وأما عن تموين الجيش من اللحم واللبن والخبز، فإنها كانت تُوزَّع يوميًّا على المُحاربين بالتَّسَاوِي[34].

وعلى طريق الإصْلاح العسكري، قام كسرى بالعناية بكل هذه الأمور، وتطوير ما يحتاج إلى تطوير، وكان همُّه إحداثَ تغييرات في القيادة العليا؛ حتى لا يتعرَّض لخيانات أو انقلابات من رجال الجيش[35].

وبُمقارنة وضع الدولتَيْن نجِدُ أن دولة فارس كانت تتمتَّع بالاستقرار، وقوة النظام الحاكم، وقوة الاقتصاد والجيش، وهي أمورٌ كانت تفتقدُها بيزنطة في هذه الحقبة. 
 

ــــــــــــــــــــــــ
[1] CAMB, MED, HIST. Vol.II. P.245. 
[2] تعرَّضت الإمبراطورية طوال حقَبٍ متتالية منذ القرن الثالث الميلادي، إلى موجات مُتكرِّرة من الغزوات الجرمانية، أو ما درج على تسميتهم بالبرابرة، وكان من هؤلاء القوط بقسميهم الشرقي والغربي، والهون، والوندال، والفرنجة، واللمبارد، وغيرهم، وفي هذه الحقبة تعرَّضَت لموجة الآفار والسلاف، الذين درَجَت المصادر على تسميتهم بالصقالبة، وكانوا خلال هذه الحقبة دائمي التهديد لعاصمة الإمبراطورية.
انظر: HALDON,J.F, Byzantium in the Seventh Century, Cambridge, 1997. P.31.
[3] الواقع أن الأوضاع التي سادتْ في بيزنطة هي التي دفعتْ كسرى ملك الفرس لمهاجمتها واستئناف القتال معها، وسنتحدَّث في الصفحات التالية - عند الحديث عن أوضاع مملكة الفُرس - عن طبيعة العلاقة التي سادتْ بين الإمبراطور البيزنطي موريس وكسرى، والمصاهرة والصداقة التي ربطت بينهما، وعن حقبة السلام التي سادتْ بين الطرفَيْن في عهدهما، وهي الحُجَّة التي اتَّخذها كسرى سببًا لاستئناف القتال مع بيزنطة واجتياح أراضيها.
انظر: Ostrogorsky, G. History of the Byzantine stat, Trans from German by Joan Hassey, Second edition, T.J press, London, 1968.P.67.
[4] ليلى عبدالجواد: "الدولة البيزنطية في عهد الإمبراطور هرقل"، القاهرة، دار النهضة العربية، 1985م، ص 49 - 52.
[5] تعود بداية هذه الأحزاب إلى الألعاب الرياضية، فقد كان يقع بقلب القسطنطينية ميدانٌ لسباق الخيل Hippdrome ، يهرع إليه المواطنون لمشاهَدة سباق الخيل والعربات، وكانت هناك أربع فرقٍ اندمجت في فريقين هما: الزرق والخضر، وسرعان ما تحوَّلَت أحزاب الملعب هذه، إلى أحزاب سياسية نصبتْ نفسها للدفاع عن الشعب، واشتهرت بنزاعاتها المختلفة السياسية والدينية، وقد ارتبطتْ هذه الأحزاب بمصالح الطبقات المختلفة، وصار لها أهمية خاصة في توجيه السياسة البيزنطية، عن هذه الأحزاب وتطورها.
انظر: السيد الباز العريني: "الدولة البيزنطية"، ص 79، رانسيمان: "الحضارة البيزنطية"، ص 75، أسد رستم: "الروم"، ج1، ص 171.
[6] موس: "ميلاد العصور الوسطى"، ترجمة عبدالعزيز توفيق جاويد، سلسلة الألف كتاب رقم 623، القاهرة، عالم الكتب، 1967م، ص 230.
[7] د. سعيد عبدالفتاح عاشور: "أوربا العصور الوسطى"، ط 5، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1983م، ج1، ص 124.
[8] فيشر: "تاريخ أوربا العصور الوسطى"، ترجمة محمد مصطفى زيادة والباز العريني، القاهرة، دار المعارف، 1969م، ج1، ص1.
[9] Ostrogorsky, OP. Cit.P.83.
[10] Theophanes: The Chronicle of Theophanes Canfessor, Near Eastern History (AD 248-913), Edited by: C.Mango and R.Scott, Oxford, 1997, P.427.
[11] Haldon, op.cit. P.43.H. 
[12] ولد هرقل أرخون إفريقيا - أي: الحاكم العسكري العام، والذي سيكون والد إمبراطور المستقبل، والذي يحمل نفس الاسم - عام (450م) لأسرة أرستقراطية من أصل أرمني، وظهر كواحدٍ من خِيرة ضباط الإمبراطورية في عهد الإمبراطور موريس، واشترك في الحروب ضد الفرس، ومكافأةً له على بلائه؛ عيَّنه موريس حاكمًا عسكريًّا لإفريقيا عام (599م)، وكان محبوبًا في مقاطعته، لدرجة أن فوكاس لم يجرُؤ على عزله كما فعل مع أرخون إيطاليا، وبدأت خطته لمحاربة فوكاس بأنِ امتنع عن إرسال الضرائب والقمح إلى القسطنطينية، وأرسل من هناك ابنه هرقل وابن أخيه نيكتاس إلى القسطنطينية.
لمزيد من التفاصيل عن هرقل أرخون إفريقيا، وأصل الأسرة، وهل هو قبادوقي أو أرمني؟ انظر: Vasiliev, History of the Byzantine, Empire Wisconsin: The University of Wisconsin Press, 1970. Vol. 1, P.235.
[13] Thepohaneso, p.cit. P.426.
[14] بتلر، الفريد: "فتح العرب لمصر"، ترجمة محمد فريد أبو حديد، المركز العربي للنشر والتوزيع، 1989م، ص31.
[15] Ostrogrosky, op. cit. P.95.
[16] نورمان بينز: "الإمبراطورية البيزنطية"، ترجمة حسين مؤنس ومحمود يوسف زايد، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1957م، ص157.
[17] آرثر كريستنس: "إيران في عهد الساسانيين"، ترجمة يحيى الخشاب، بيروت، دار النهضة العربية، د. ت، ص426.
[18] طه باقر وآخرون: "تاريخ إيران القديم"، مطبعة جامعة بغداد، 1972م، ص154.
[19] ابن العبري: "تاريخ مختصر الدول"، بيروت، 1958م، ص91.
[20] آرثر كريستنس، مرجع سابق، ص428.
[21] ليلى عبدالجواد، مرجع سابق، ص43.
[22] الطبري: "الرسل والملوك"، تحقيق أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، 1968م، ج2، ص176.
[23] Thepohanes, op.cit. P.396.
[24] آرثر كريستنس، مرجع سابق، ص350.
[25] طه باقر، "تاريخ إيران القديم"، ص107.
[26] الطبري، مصدر سابق، ج2، ص147.
[27] آرثر كريستنس، مرجع سابق، ص190.
[28] نفس المرجع السابق، ص197.
[29] HALDON. Op.cit. P.210.
[30] آمين مارسلين Ammien Marcellin ، وهو أحد المصادر الحربية المهمة للحروب بين الرومان والفرس؛ حيث يصف بعض الحروب التي شهدها بنفسه في بعض الجولات.
انظر روايته في كتاب "إيران في عهد الساسانيين"، لآرثر كريستنس، عدة صفحات.
[31] آرثر كريستنس، مرجع سابق، ص198.
[32] نفس المرجع ونفس الصفحة نقلاً عن آمين مارسلين.
[33] ابن خلدون، كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر"، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1977م، ج2، ص339.
[34] طه باقر، مرجع سابق، ص117.
[35] آرثر كريستنس، مرجع سابق، ص203.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • بيزنطة وفارس (2/4)
  • بيزنطة وفارس (3/4)
  • بيزنطة وفارس (4/4)

مختارات من الشبكة

  • الرأي العام(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الحديث: قد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس(مقالة - موقع الشيخ عبد القادر شيبة الحمد)
  • أبو الدرداء رضي الله عنه: حكيم الأمة وسيد القراء وجامع القرآن وفارس من طراز خاص(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • رحل فارس الدعوة.. الشيخ أحمد الفارس(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • محمود محمد شاكر .. شيخ العربية وفارس الفصحى(مقالة - موقع د. حيدر الغدير)
  • الحروب الصليبية من فرسان الإسبتارية إلى دولة فرسان مالطا وبلاك ووتر(مقالة - ملفات خاصة)
  • تفسير: (الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • وفاة الشيخ الداعية أحمد بن عبدالله الفارس -رحمه الله-(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • پندار درست در فهم توحید و یکتاپرستی نسخه فارسی (فارسي - PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • السير الحثيث في جمع علم فرسان الحديث (PDF)(كتاب - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
2- شكر
iklas - الجزائر 10-10-2015 08:22 PM

شكرا جزيلا لكم

1- mari ma
maria - algérie 11-10-2014 10:29 PM

mrc pour le sujet

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 24/11/1446هـ - الساعة: 12:14
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب