• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أحكام شهر ذي القعدة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    من صيام التطوع: صوم يوم العيدين
    د. عبدالرحمن أبو موسى
  •  
    حقوق الوالدين
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة الكوثر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    من مائدة العقيدة: شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    الليلة الثلاثون: النعيم الدائم (3)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / سيرة نبوية
علامة باركود

إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (30)

إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (30)
الشيخ محمد طه شعبان

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 16/1/2016 ميلادي - 5/4/1437 هجري

الزيارات: 9515

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز

في السيرة (30)


قوله:

ثُمَّ تَبُوكَ قَدْ غَزَا فِي التَّاسِعَهْ ♦♦♦ ......................................

 

وفي السنة التاسعة كانت غزوة تبوك.

 

"وتقع تبوك شمال الحجاز، وتبعد عن المدينة المنورة 778 كم حسب الطرق المعبدة في الوقت الحاضر، وكانت من ديار قضاعة الخاضعة لسلطان الروم آنذاك"[1].

 

وقد عزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزو الروم؛ لنشر دين الإسلام في هذه البلاد، التي هي من أقرب البلاد إلى أرض الحجاز، والتي تقع تحت السيطرة الرومية، ولتكون تلك هي المواجهة الثانية مع الروم بعد مؤتة التي لم تحقق جميع أهدافها المرجوة، فبرغم أنها أظهرت للعالم قدرة المسلمين الفائقة، حتى في مواجهة أعظم إمبراطوريةٍ في العالم حينها، وهي إمبراطورية الروم، فإنها لم تحقق الهدف الأسمى الذي ينشده المسلمون، ألا وهو إخضاع هذه الإمبراطورية وتلك الدول للإسلام والمسلمين، وبالتالي توسيع المجال أمام الدعوة الإسلامية؛ أن تنشر بين ساكني تلك الدول التي يمنع حكامها المسلمين من نشر الدين الحق فيها.

 

والذي حمل النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج في هذا التوقيت بالذات، رغم ما كان بالمسلمين من شدةٍ وعسرةٍ: وصول خبرٍ إلى المدينة أن أحد ملوك غسان تجهز لغزو المسلمين، مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يسارع في الخروج لملاقاتهم في بلادهم، قبل مباغتتهم المسلمين في بلادهم[2].

 

فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحابة بالجهاد لغزو الروم، ولم تكن تلك عادة النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن يعلم الصحابة بوجهته الحقيقية، إنما كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوةً يغزوها، ورَّى بغيرها[3].

 

عن كعب بن مالكٍ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوةً يغزوها إلا ورى بغيرها، حتى كانت غزوة تبوك، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديدٍ، واستقبل سفرًا بعيدًا، ومفازًا[4]، واستقبل غزو عدو كثيرٍ، فجلى[5] للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريد[6].

 

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالإنفاق لتجهيز جيش العسرة[7]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من جهز جيش العسرة، فله الجنة))، فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه[8].

 

وقد تبرع عثمان رضي الله عنه من المال فقط بألف دينارٍ، فجاء بها فنثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره، ويقول: ((ما ضر عثمانَ ما عمل بعد اليوم، ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم))[9].

 

وأخذ المنافقون يثبطون المؤمنين عن الخروج والجهاد في سبيل الله، وقالوا لهم: لا تنفروا في هذا الحر الشديد.

 

وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 81].

 

يبلغهم الله تعالى أن نار جهنم التي سيصيرون إليها بسبب مخالفتهم أمرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أشد حرًّا مما فروا منه.

 

وجاء المعذرون من الأعراب الذين يسكنون حول المدينة يشكون للنبي صلى الله عليه وسلم ضعفهم وفقرهم، وعدم استطاعتهم الخروج معه صلى الله عليه وسلم، كما جاء المنافقون مبدين الأعذار الكاذبة والحجج الواهية، مستأذنين النبي صلى الله عليه وسلم في عدم الخروج.

 

وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 90].

 

ثم بين الله تعالى حال أصحاب الأعذار الحقيقية، وأنه لا سبيل عليهم، فقال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 91].

 

كما بين الله تعالى تقبُّله عذر الفقراء الذين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحملهم معه في تلك الغزوة، فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، فتولوا وهم يبكون من شدة حزنهم؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 92].

 

ثم قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 93].

 

وكان أكثر المنافقين الذين تخلَّفوا من الأعراب أهل البادية؛ ولذلك يقول الله تعالى: ﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 97، 98].

 

ثم بين الله تعالى أنه ليس كل الأعراب كذلك، بل منهم مَن هو مؤمنٌ، فقال تعالى: ﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 99].

 

ثم أوضح الله تعالى أن بالمدينة منافقين أيضًا، فقال تعالى: ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ [التوبة: 101].

 

وعمومًا فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لكل من جاءه معتذرًا، فهو صلى الله عليه وسلم لم يشق عن قلوبهم.

 

فعاتَبه الله تعالى وأنزل عليه: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [التوبة: 43].

 

يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: هلا تركتهم لما استأذنوك، فلم تأذن لأحدٍ منهم في القعود؛ لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب؛ فإنهم إن كانوا مؤمنين حقًّا ثم وجدوك لم تأذن لهم في القعود، لخرجوا معك، ولو كان بهم شدة.

 

وعلى أية حالٍ، فقد كان عدم خروجهم في مصلحة المؤمنين؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 46، 47].

 

ويحكي أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قصة الأشعريين الذين أرسلوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه الحملان لهم، فيقول رضي الله عنه: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك، فقلت: يا نبي الله، إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: ((والله لا أحملكم على شيءٍ)) - يقول أبو موسى -: ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، ورجعت حزينًا من منع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه عليَّ، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث إلا سويعةً إذ سمعت بلالًا ينادي: أي عبدالله بن قيسٍ، فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيته، قال: ((خذ هذين القرينين، وهذين القرينين[10] - لستة أبعرةٍ ابتاعهن حينئذٍ من سعدٍ - فانطلق بهن إلى أصحابك، فقل: إن الله - أو قال: إن رسول الله - يحملكم على هؤلاء، فاركبوهن))، فانطلقت إليهم بهن، فقلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء، ولكني والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تظنوا أني حدثتكم شيئًا لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدقٌ، ولنفعلن ما أحببت، فانطلق أبو موسى بنفرٍ منهم حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه إياهم، ثم إعطاءهم بعدُ، فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى[11].

 

وخرج النبي صلى الله عليه وسلم متوجهًا إلى تبوك بجيشٍ يقرب من الثلاثين ألف مقاتلٍ[12]، معهم حوالي عشرة آلاف فرسٍ، وخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه[13]، فقال عليٌّ للنبي صلى الله عليه وسلم: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: ((ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه ليس نبي بعدي))[14].

 

وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة يوم الخميس، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يخرج يوم الخميس في جميع أسفاره[15].

 

وفي الطريق أصاب المسلمين مجاعةٌ شديدةٌ وعطشٌ.

 

فعن أبي هريرة أو أبي سعيدٍ (شك الأعمش) قال: لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعةٌ، قالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا، فأكلنا وادَّهَنَّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((افعلوا))، قال: فجاء عمر، فقال: يا رسول الله، إن فعلت قل الظَّهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادعُ الله لهم عليها بالبركة؛ لعل الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)، فدعا بنطعٍ فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرةٍ، ويجيء الآخر بكف تمرٍ، ويجيء الآخر بكسرةٍ، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيءٌ يسيرٌ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بالبركة، ثم قال: ((خذوا في أوعيتكم))، قال: فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملؤوه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك فيحجب عن الجنة))[16].

 

فأكل الصحابة الكرام وشربوا، بعد الذي أصابهم من الجوع والعطش.

 

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: خرجنا إلى تبوك في قيظٍ شديدٍ، فنزلنا منزلًا أصابنا فيه عطشٌ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الرجل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن كان الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، إن الله عز وجل قد عودك في الدعاء خيرًا، فادعُ الله لنا، قال: ((أتحب ذلك؟))، قال: نعم، فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأظلت ثم سكبت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر[17].

 

فقال الصحابة لأحد المنافقين ممن كان معهم: ويحك! هل بعد هذا شيءٌ؟! قال: سحابةٌ مارةٌ[18].

 

وفي الطريق فقدت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحد المنافقين - واسمه زيد بن اللصيت - وكان في رحل صحابي اسمه عمارة بن حزمٍ: أليس محمدٌ يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمارة عنده: "إن رجلًا قال: هذا محمدٌ يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي، في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرةٌ بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها))، فذهبوا، فجاؤوا بها، فرجع عمارة بن حزمٍ إلى رحله، فقال: والله لعجبٌ من شيءٍ حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفًا، عن مقالة قائلٍ أخبره الله عنه بكذا وكذا، للذي قال زيد بن لصيتٍ، فقال رجلٌ ممن كان في رحل عمارة ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيدٌ والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي، فأقبل عمارة على زيدٍ يجأ في عنقه ويقول: إليَّ عباد الله؛ إن في رحلي لداهيةً وما أشعر، اخرج أي عدو الله من رحلي، فلا تصحبني[19].

 

وفي الطريق مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم ببئر ثمود، فنهاهم أن يشربوا أو يتوضؤوا من مائها.

 

فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك، أمرهم ألا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا؟ فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء[20].

 

وفي روايةٍ عن ابن عمر - أيضًا -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة[21].

 

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه: فجعل لا يزال يتخلف الرجل، فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلانٌ، فيقول: ((دعوه، إن يك فيه خيرٌ، فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك، فقد أراحكم الله منه))، حتى قيل: يا رسول الله، تخلَّف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوه؛ إن يك فيه خيرٌ، فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك، فقد أراحكم الله منه))، فتلوم أبو ذر على بعيره، فأبطأ عليه، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فجعله على ظهره، فخرج يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيًا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله، ونظر ناظرٌ من المسلمين، فقال: يا رسول الله، هذا رجلٌ يمشي على الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كن أبا ذر))، فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده))[22].

 

وكان أبو خيثمة رضي الله عنه رجع - بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامًا - إلى أهله في يومٍ حار، فوجد امرأتين له في عريشين[23] لهما في حائطه، قد رشت كل واحدةٍ منهما عريشها، وبردت له فيه ماءً، وهيأت له فيه طعامًا، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضِّحِّ[24] والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل باردٍ، وطعامٍ مهيأٍ، وامرأةٍ حسناء، في ماله مقيمٌ، ما هذا بالنصف، ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدةٍ منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيِّئَا لي زادًا، ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهبٍ الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك، قال أبو خيثمة لعمير بن وهبٍ: إن لي ذنبًا؛ فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل، حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازلٌ بتبوك، قال الناس: هذا راكبٌ على الطريق مقبلٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كن أبا خيثمة))، فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولى لك[25] يا أبا خيثمة))، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له بخير[26].

 

ولما وصلوا إلى تبوك حدث ما يرويه معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع الصلاة، فصلى الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، حتى إذا كان يومًا أخر الصلاة، ثم خرج، فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج بعد ذلك، فصلى المغرب والعشاء جميعًا، ثم قال: ((إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها منكم، فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي))، فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيءٍ من ماءٍ، قال: فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل مسستما من مائها شيئًا؟))، قالا: نعم، فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلًا قليلًا حتى اجتمع في شيءٍ، وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماءٍ منهمرٍ - أو قال: غزيرٍ - حتى استقى الناس، ثم قال: ((يوشك يا معاذ إن طالت بك حياةٌ أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانًا))[27].

 

وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يومًا[28]، فلم يلقَ كيدًا؛ حيث خافه ملك بني الأصفر والقبائل العربية المتنصرة، فلم يحضروا.

 

فقفل النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه راجعًا إلى المدينة بعدما عرف الجميع قوة الجيش الإسلامي، التي ظنوا أنها ستضعف بعد مؤتة، فوجدوها قد ازدادت قوةً وصلابةً، حتى إنهم قد خافوا الخروج لملاقاتهم.

 

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قد قام يصلي من الليل - وهو في تبوك - فاجتمع وراءه رجالٌ من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى وانصرف إليهم، فقال لهم: ((لقد أعطيت الليلة خمسًا، ما أعطيهن أحدٌ قبلي: أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامةً، وكان مَن قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونُصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهرٍ لملئ منه رعبًا، وأحلت لي الغنائم آكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطَهورًا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم، والخامسة هي ما هي، قيل لي: سل، فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله))[29].

المنافقون يريدون قتل النبي صلى الله عليه وسلم:

عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، أمر مناديًا فنادى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة، فلا يأخذها أحدٌ، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة، ويسوق به عمارٌ إذ أقبل رهطٌ متلثمون على الرواحل، غشوا عمارًا وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عمارٌ يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: ((قُدْ قُدْ))، حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل، ورجع عمارٌ، فقال: ((يا عمار، هل عرفت القوم؟))، فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون، قال: ((هل تدري ما أرادوا؟))، قال: الله ورسوله أعلم، قال: ((أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه))[30].

 

• ومما حدث أيضًا في هذه الغزوة: ما يرويه أبو حميدٍ الساعدي رضي الله عنه، حيث قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني مسرعٌ، فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث))، فخرجنا، حتى أشرفنا على المدينة، فقال: ((هذه طابة، وهذا أحدٌ، وهو جبلٌ يحبنا ونحبه))[31].

 

وفي مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، وحين دنا من المدينة، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم))، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟! قال: ((وهم بالمدينة، حبسهم العذر))[32].

 

قصة كعب بن مالك والذين خُلِّفُوا معه:

عن كعب بن مالكٍ رضي الله عنه قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها، إلا في غزوة تبوك؛ غير أني كنت تخلفت في غزوة بدرٍ، ولم يعاتب أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريشٍ حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعادٍ، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدرٍ، وإن كانت بدرٌ أذكر في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوةً إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديدٍ، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا وعدوًّا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يجمعهم كتابٌ حافظٌ - يريد الديوان - قال كعبٌ: فما رجلٌ يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له، ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقضِ شيئًا، فأقول في نفسي: أنا قادرٌ عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقضِ من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعده بيومٍ أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقضِ شيئًا، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقضِ شيئًا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم - وليتني فعلت - فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم، أحزنني أني لا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليه النفاق، أو رجلًا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوك: ((ما فعل كعبٌ؟))، فقال رجلٌ من بني سلِمة: يا رسول الله، حبسه بُرداه ونظره في عطفه، فقال معاذ بن جبلٍ: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

قال كعب بن مالكٍ: فلما بلغني أنه توجه قافلًا، حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأيٍ من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادمًا، زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدًا بشيءٍ فيه كذبٌ، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد، فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلًا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال: ((تعال))، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ((ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟))، فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذرٍ، ولقد أعطيت جدلًا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عني، ليوشكن الله أن يُسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدقٍ تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله؛ لا والله ما كان لي من عذرٍ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما هذا فقد صدق، فقُمْ حتى يقضي الله فيك))، فقمت، وثار رجالٌ من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيَك ذنبك استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحدٌ؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، فيهما أسوةٌ، فمضيت حين ذكروهما لي.

 

ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبَنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحدٌ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالكٍ؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابًا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعةٍ؛ فالحَقْ بنا نواسِك، فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلةً من الخمسين، إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال كعبٌ: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخٌ ضائعٌ، ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: ((لا، ولكن لا يقربك))، قالت: إنه والله ما به حركةٌ إلى شيءٍ، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.

 

فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجلٌ شاب، فلبثت بعد ذلك عشر ليالٍ، حتى كملت لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلةً وأنا على ظهر بيتٍ من بيوتنا، فبينا أنا جالسٌ على الحال التي ذكر الله؛ قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخٍ أوفى على جبل سلعٍ بأعلى صوته: يا كعب بن مالكٍ، أبشر، قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرجٌ، وآذَن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَل صاحبيَّ مبشرون، وركض إلي رجلٌ فرسًا، وسعى ساعٍ من أسلم، فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنُّوني بالتوبة، يقولون: لِتَهْنِكَ توبة الله عليك، قال كعبٌ: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيدالله يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام إلي رجلٌ من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، قال كعبٌ: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: ((أبشر بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك))، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: ((لا، بل من عند الله))، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمرٍ، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خيرٌ لك))، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 117]، إلى قوله: ﴿ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، فوالله ما أنعم الله علي من نعمةٍ قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا؛ فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحدٍ؛ فقال تبارك وتعالى: ﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ ﴾ [التوبة: 95]، إلى قوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 96].

 

قال كعبٌ: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه؛ فبذلك قال الله: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ﴾ [التوبة: 118]؛ وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو؛ إنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه[33].

 


[1] "السيرة النبوية الصحيحة" (2/ 524).

[2] انظر: الدليل على انتشار هذا الخبر في المدينة حديث عمر رضي الله عنه في شرح الفقرة (47) من هذه السنة، وهو حديث متفق عليه.

[3] ورَّى بغيرها: أي: أوهم بغيرها؛ وذلك حتى لا تتسرب الأخبار للعدو الذي يريد النبي صلى الله عليه وسلم ملاقاته.

[4] المفاز: الفلاة التي لا ماء فيها.

[5] جلَّى؛ أي: أوضح وبين.

[6] متفق عليه: انظر تخريجه في شرح الفقرة (20) من هذه السنة.

[7] سمي جيش العسرة؛ للعسر والشدة التي كان عليها المسلمون حينها.

[8] أخرجه البخاري (2778).

[9] أخرجه الترمذي (3071)، وحسنه الألباني في "المشكاة" (6064).

[10] القرينين: أي: البعيرين المتماثلين في الحجم والسن.

[11] متفق عليه: أخرجه البخاري (4415)، ومسلم (1649).

[12] انظر: "السيرة النبوية الصحيحة" (2/ 531)، حيث قال: ويبدو أن أغلب المؤرخين يميلون إلى القول: إنهم كانوا ثلاثين ألفًا؛ اهـ.

[13] ذكر بعض أهل السير - ومنهم ابن هشام -: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، أو سباع بن عرفطة، واستخلف عليًّا على أهل بيته فقط، قلت: وهذا التفصيل لم يأتِ في رواية صحيحة، إنما الذي جاء في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عليًّا، وقول علي للنبي صلى الله عليه وسلم: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ يوضح أنه رضي الله عنه كان على المدينة كلها، وليس على أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقط، والله أعلم.

[14] متفق عليه: أخرجه البخاري (4416)، ومسلم (2404).

[15] أخرجه البخاري (2950).

[16] أخرجه مسلم (27).

[17] أخرجه البيهقي في "الدلائل" (5/ 231)، قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (5/ 74): إسناده جيد.

[18] "سيرة ابن هشام" (4/ 92، 93)، من رواية ابن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، وعاصم ثقة، وثقة ابن حجر، كما في "التقريب" (295)، قال: ثقة عالم بالمغازي عن محمود بن لبيد، عن رجال من بني عبدالأشهل، به، ومحمود بن لبيد صحابي صغير، قال ابن حجر في "التقريب" (582): صحابي صغير، وجلُّ روايته عن الصحابة؛ اهـ.

فإن كان من روى عنهم هذه الرواية من الصحابة، فلا يضر إبهامهم، ويكون الحديث صحيحًا.

[19] "سيرة ابن هشام" (4/ 93)، من رواية ابن إسحاق بالإسناد السابق.

[20] أخرجه البخاري (3387).

[21] أخرجه البخاري (3379).

[22] أخرجه الحاكم (3/ 50، 51)، وصححه ووافقه الذهبي، ولكنه قال: فيه إرسال، وابن كثير في "البداية والنهاية" (5/ 73)، وقال: إسناده حسن.

[23] العريش: شبيه الخيمة.

[24] الضِّح: الشمس.

[25] أولى لك: كلمة فيها معنى التهديد، معناها: دنوت من الهلكة.

[26] "سيرة ابن هشام" من رواية ابن إسحاق بلا سند، وله شاهد من حديث كعب بن مالك الطويل في "الصحيحين".

[27] أخرجه مسلم (706).

[28] أخرجه أحمد (14702)، بإسناد رجاله ثقات.

[29] أخرجه أحمد (7068)، بسند رجاله ثقات.

[30] أخرجه أحمد (23682)، بإسناد صحيح.

[31] متفق عليه: أخرجه البخاري (1481)، ومسلم (1392).

[32] متفق عليه: أخرجه البخاري (4423)، ومسلم (1911).

[33] متفق عليه: أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (27)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (28)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (29)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (31)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (32)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (32)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (33)

مختارات من الشبكة

  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (WORD)(كتاب - ملفات خاصة)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (36)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (35)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (34)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (26)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (25)(مقالة - ملفات خاصة)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (24)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (23)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (22)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (21)(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب