• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / علوم قرآن
علامة باركود

من موجبات الولاء لله تعالى في سورة الأنعام

الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 30/3/2015 ميلادي - 9/6/1436 هجري

الزيارات: 10985

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

من موجبات الولاء لله تعالى في سورة الأنعام


بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين.

قال الله تعالى: ﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 13 - 18].

 

كان هدف النبوة الخاتمة والوحي المنزل منذ البدء أن يؤمن الناس بالله تعالى، فتُبْنَى على هذا الإيمان مقتضياته في الحياة العملية؛ اعتقادًا وأحكامًا ونظام حياة؛ لأن الإيمان هو القاعدة الصُّلبة المتينة في الأمر كله، وما كان كذلك وجب تلقينه بأدق طرق التبليغ، وأنجع وسائل التعليم والتربية، وليس من الحكمة أن تدعو إلى الإيمان بالله مِن غير أن تُعَرِّفه؛ لأن معرفته مقدمة للتمييز والفرز، وإقامة الحجة، وممارسة حرية الاختيار، وما دام محورُ سورة الأنعام يتناول رأس الأمر كله في قضية الإيمان، فقد تولَّت تعريف مخاطَبيها بالله عز وجل أولاً، ثم بَنَتْ على ذلك واجب الإيمان به ثانيًا، والولاء له ثالثًا، إلا أنها اتخذت لذلك أسلوبًا حواريًّا واستقرائيًّا يأخذ بمجامع العقول والبصائر، منهجًا يلِين حتى يلامس شغافَ القلب حينًا، ويشتدُّ حتى ترتعش له الفرائص حينًا آخر، كل ذلك بمنهج تعليمي متكامل، وعلمٍ بالنفس البشرية محيطٍ شامل، تُقدَّم بهما اليقينيةُ العقدية الكلية الواحدة بمختلف جزئياتها ومكوناتها، وأبعادها وإشعاعاتها وإيحاءاتها في صور شتى، ومن زوايا متقابلة، تميزها العقول، وتخشع لها الأفئدة، ويُستفز بها الوجدان والخيال، فتغُوص في أعماق النفس تزلزلُ ما ران عليها مِن ضلالات وأوهام وفاسدِ تصورات.

 

على هذا النهج سارت سورة الأنعام في تعريف المخاطَبين بربهم عز وجل، تتدرج بهم من المحسوس إلى المعقول، ومن المادي المحضِ إلى الغَيبي المقدور، ومن المكاني المرئيِّ إلى الزماني النسبي، ومن الظرف إلى المظروف، كخطوة أُولى لتعريفهم بقدرة ربهم وعِلمه، وجميل إبداعه وحكمة تدبيره، ومطلقية ألوهيته وربوبيته، تتلوها خطوات أخرى لتعبيدهم لله، وأطرهم على مقتضيات هذه العبودية؛ تصوراتٍ وأحكامًا، وممارسات ومعاملات؛ لأن معرفة الله تعالى هي قاعدة البناء وأركانه؛ قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [محمد: 19].

 

وإذ أثبت الحقُّ سبحانه لنفسه خلق السموات والأرض والظلمات والنور في الآية الأولى من السورة لينكر على المشركين فسادَ معتقدهم بقوله عز وجل: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1]، ثم أثبت له خَلْق الإنسان والآجال في الآية الثانية بقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ﴾ [الأنعام: 2]، وأثبَت له في الآية الثالثة خالص الألوهية وشامل العلم بقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 3] - أكَّد في الآية الثانية عشرة ملكيَّتَه لِما في السموات والأرض ملكية كاملة، بمقتضياتها التامة؛ تدبيرًا وتصرفًا، وأمرًا ونهيًا، وإحياءً وإماتة، وما يجبُ له فيها من السمع والطاعة، والخضوع والخشوع والعبادة؛ ليبيِّن رحمته التي كتبها على نفسه، فلا تنخلع قلوب السالكين، ولا تيئَس أفئدة المذنبين، بقوله سبحانه: ﴿ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 12].

 

وسيرًا على منهج الوحي في تأليف القلوب وتقريبها من معرفة ربها والتدرج بها مِن ملاحظة الكون المادي المنظور إلى استيعاب الغَيبي المقدور قال عز وجل:

﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ [الأنعام: 13]، وجمع بهذه الآية الكريمة الكونَ المادي كله في وعاءٍ واحد، هو وعاء الزمان المقدر بالليل والنهار، وكان الليل والنهار باختلاف مددهما وتعاقبهما واستيعابهما لِما سكَن فيهما أو تحرك - آيةً على وجود الله تعالى، وعلى قدرته وعلمه وإحصائه لِما يقع فيهما من أعمال مهما دقَّت، وأصوات مهما خفتَتْ، ونيَّات مهما أُضمِرت أو أعلنت، ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 13]، سمعُه تعالى وعلمه محيطٌ بكل شيء في الليل والنهار، وبما استقر فيهما سكونًا وحركة.

 

وكان الليل والنهار بذلك رحمةً منه سبحانه بعباده في أمرِ معاشهم ودأبهم؛ قال عز وجل: ﴿ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص: 73]، وقال: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾ [الإسراء: 12]، وقال: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ [النبأ: 10، 11].

 

وكانَا للعباد مجالاً لرحمته تعالى في أمر دينهم بتوبته عليهم؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يبسُطُ يده بالليل ليتُوبَ مُسيءُ النهار، ويبسُطُ يدهُ بالنهار ليتُوب مُسيءُ الليل، حتى تطلُعَ الشمسُ من مغربها)).

وكانَا للسالكين ظرفينِ للقُربى والزلفى ومناجاة رب العالمين بقوله عز وجل: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ [المزمل: 20]، وقوله: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79].

 

وكانَا للكائنات - بما ينعكس عليها من ظلال مبسوطة ومقبوضة بانعكاس نور الشمس والقمر عليها - بوصلةً تهدي إلى معرفة الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ومشيئته المطلقة، وقضائه الناجز في ملكه؛ سمواتٍ وأرضًا، وجنًّا وإنسًا، وملائكة وخَلقًا مما لايعلمون؛ كما قال عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ﴾ [الفرقان: 45 - 47]، فتبارَك الله أحسنُ الخالقين، وتبارك مَن جمع الظرف والمظروف، وأحاطهما بعِلمه وحُسن تدبيره ورحمته، وجعلهما دليلاً إليه في آية واحدة فقال: ﴿ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 6].

 

إلا أن تعريف الوحيِ للناس بوجود ربهم لم يكن لمجرد المعرفة العقلية المجردة؛ لأن المشركين في كل عصر يُقرُّون بوجود الله، ويزعمون أنهم يعرفونه، كل على ما يتخيله ويتصوره، لكن هذه المعرفة منهم سلبية عقيمٌ؛ لا أثر لها في حياتهم أو مجتمعهم، غائمة مشوشة ومضطربة؛ لا يميزون بها صفات الله تعالى، ولا يرتِّبون عليها ما تقتضيه من واجب توحيده وعبادته، والاستسلام لحاكميته، وإخلاص التوجه إليه، ولا خيرَ في معرفة لا تذكِّر بالله، ولا تحضُّ على تقواه، ولا يحتمي صاحبها بحماه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 84 - 89].

 

لذلك بعد أن أثبت الوحيُ وجوب معرفة الله تعالى وتوحيده في الآيات السابقة، انتقل إلى ما يترتب على ذلك مِن واجب الولاء له عز وجل؛ محبة واعتصامًا، واستعانة وتوكلاً واستجارة، فقال عز وجل:

﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ﴾ [الأنعام: 14]، وهو سؤال إنكارٍ لاتخاذ غيرِ الله وليًّا، وتقرير ضمنيٌّ لتوحيد الولاء لله تعالى، أمر الحقُّ سبحانه النبيَّ صلى الله عليه وسلم بإلقائه على منكري الولاء لله والمشركين معه غيرَه، حينما أصرُّوا على ما هم عليه، وجادلوه فيه؛ تعليمًا لهم، وضربًا للمثَل لهم بنفسه في ولائه لربه عز وجل؛ كي يقتدوا به، ويتخذوه أسوةً حية منظورة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾ [الزمر: 64]، وقوله عز وجل: ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ﴾ [الأنعام: 114]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 164].

 

والولي - لغة - من لفظ: "وَلِيَ" الشيءَ إذا انحاز له ولزِمه، ومن الباب: يقال المولى للناصر، والحليف، وابن العم، ولكلِّ مَن انضم إليك فعزَّ بعزك، وامتنع بمنَعتك، ومنه عقيدة الولاء لله، ومعناها: محبة الله تعالى، ولزوم طاعته، والانحياز لدِينه، ومحبة ما يحب ومَن يحب، وبُغض ما يُبغض ومَن يُبغض، ونُصرة أوليائه من غير تمييزٍ في الجنس أو اللون، أو النسب أو القوم، ومن غير عدوان أو هضم حقوق، وهي أوثقُ عُرَى الإيمان، لا يتم إيمانُ العبد إلا بها، ولا تقوم للحق دولة إلا بتحققها؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحب لله وأبغَض لله، وأعطى لله ومنع لله - فقد استكمَل الإيمانَ))، وسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه فقال له: ((أتدري أيُّ عُرى الإيمان أوثقُ؟))، قال أبو ذر: "الله ورسولُه أعلم"، قال: ((الموالاةُ في الله، والمعاداةُ في الله، والحبُّ في الله، والبُغضُ في الله عز وجل)).

 

ثم زاد إنكارَ الولاء لغير الله توضيحًا فقال تعالى: ﴿ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ﴾ [الأنعام: 14]؛ أي: قل لهم يا محمد: أيجوز عقلاً ومنطقًا سليمًا أن أتخذ غيرَ الله وليًّا وربًّا ومعبودًا وناصرًا ومعينًا، واللهُ هو الذي فطَر السمواتِ والأرض ابتداءً على غيرِ مثال، وقدَّر فيهن أقواتَ الخلق أجمعين، على غيرِ حاجة منه تعالى للخلائق وأقواتها ﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ﴾ [الأنعام: 14] يرزقهم جميعًا، ويُطعِمهم جميعًا، وهو الغنيُّ عن ذلك كله، وهو القائل - جلَّ ثناؤه وتبارك اسمه -: ﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 57، 58]؟!.

 

وحثًّا للمشركين على المبادرة بالإسلام والمسارعة إليه والتمسك به، قال تعالى لرسولِه الكريم صلى الله عليه وسلم عقب ذلك:

﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 14]؛ أي: قل لهم يا محمد: إني أمرتُ أن أسارِعَ إلى الإسلام، وأسابِقَ إلى الإيمان، وأن أتمسَّك بالتوحيد، وألزَم صف المؤمنين، وأُبارِئَ المشركين، فلا أكون معهم، أو أكثِّر سوادهم، أو أَدِين بمعتقداتهم، فسمعت أمر ربي وأطعتُه، وكنت أولَ مَن أسلم في هذه الأمة، فسارِعوا أنتم كذلك إلى الإسلام، ولا تكونن من المشركين، وقد رُوِي عن أبي ميسرة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان أول عهد له ببشارة النبوة والوحي كلما برز سمع مناديًا يناديه: يا محمد، فإذا سمع الصوت انطلق هاربًا، فقال له ورقةُ بن نوفل: إذا سمعتَ النداء فاثبُتْ حتى تسمع ما يقول لك، فلما برز سمع النداء: يا محمد، قال: لبيك، قال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 2 - 4] حتى فرغ من فاتحة القرآن.

 

ولئن كان الإيمان بالله ولاءً له تعالى ومحبةً، وسمعًا وطاعة، وكانت هذه الآية الكريمة قد أوجزت بدقة متناهية أصلَ الدِّين وأساس الدعوة بجمعها بين الإسلام والبراءة من الشرك - فإن ذلك لا يكتمِل إلا بخَصلة أخرى، هي: الخوف منه عز وجل، من غضبه وعقوبته؛ كما في قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [الإسراء: 57]، وقوله عز وجل: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]؛ لذلك تدرج الوحي الكريم بالمخاطَبين إلى مرتبةٍ إيمانية أعلى، تجمَعُ إلى الولاء والإسلام والبراءة من الشِّرك ركنًا آخرَ من أركان التوحيد، هو: الخوف مِن الله تعالى وحده، مِن غضبه وعقوبته، والطمع في عفوِه ومغفرته وحده، فأمر الرسولَ صلى الله عليه وسلم أن يبلِّغَهم ما أمَر به جميع عباده من واجب اتقاء المعصية والخوف من عقوبتها يوم الدين بقوله تعالى:

﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأنعام: 15]، والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الآية يرادُ به أمَّتُه في كل زمان ومكان، تكرَّر ذلك في القرآن الكريم ثلاث مرات يكمِل بعضها بعضًا، كلها حول عقيدة التوحيد، هذه التي في سورة الأنعام، وسياقها: التحذير من الشرك، وتغليظ القول في عقوبته، وثانيتها في سورة الزمر، وسياقها: الحضُّ على الإخلاص ومفاصلة الكافرين بقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ﴾ [الزمر: 13 - 15]، وثالثتها في سورة يونس، وسياقها: تغليظ عقوبة الكذب على الله تعالى وتغيير الوحي بقوله عز وجل: ﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [يونس: 15].

 

لقد أُمر صلى الله عليه وسلم - على علوِّ منزلته في النبوة والعصمة والقُرب - أن يبين للمشركين خوفه من الله إن عصاه، وما يترتب على المعصية من عذاب يوم الدين بهولِه وشدته، اليوم الذي قال عنه تعالى: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 6]، وقال: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ﴾ [النبأ: 38]، وقال: ﴿ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً ﴾ [الكهف: 48، 49].

 

إن الخوفَ من الله تعالى مطلقًا هو استشعارُ عظمته وقوته، وخطورة الشرك به أو مخالفة أمره ونهيه، واستحضارُ واسع علمِه بالنفس وما أضمَرت، والجوارح وما عمِلت، والصدور وما أسَرَّت، واليوم الآخِر بهوله وحسابه وجزائه، وأنْ لا مهرَبَ من سلطان الله، ولا منجاة من عذابه إلا بطاعته، والانقياد لدِينه، والإقبال على عبادته، واهتبال ما بقِيَ مِن العمر لمواصلة السعي إلى الآخرة، والعبور إليها بقلب سليم، ويقين راسخ، وعمل صالح، لا يستكثر أعمال البِرِّ، ولا يستهين بمحقَّرات الذنوب.

 

أما المعصية فهي ارتكاب أيٍّ مما نهى اللهُ عنه، ولكنها في سياق هذه الآية تعني الشرك، ولا مغفرة له، ولا شفاعة فيه، ولا مخلِّصَ مِن عقابه إلا بالتوبة النصوح، القائمة على التوحيد الخالص؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 116]، ويبقى أصحاب المعاصي مما دون الشرك في مشيئته عز وجل، إن شاء غفَر رحمةً، وإن شاء عذَّب عدلاً؛ لذلك عقب تعالى بقوله:

﴿ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴾ [الأنعام: 16]؛ أي: مَن يدفَعِ الله تعالى عنه العذاب يوم القيامة فقد أنجاه برحمته، وفاز بالجنة فوزًا مبينًا، واضحًا ظاهرًا، وبيان ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (((سَدِّدوا، وقارِبوا، وأبشِروا؛ فإنه لن يُدخِل أحدًا الجنةَ عملُه))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمَّدَني اللهُ برحمته)).

 

ثم زاد الحق سبحانه توضيح حقيقة مشيئته المطلقة وقدرته الغالبة؛ تعليمًا لعباده المؤمنين، وبيانًا لِمَن ألقى السمع من المشركين، وإقامة للحجة على المعاندين الجاحدين، وتأكيدًا لواجب الولاء لله، الذي بيده كشفُ الأضرار، وجلب الخيرات، في إشارة إلى اسمينِ مِن أسمائه الحسنى، هما: الضار النافع، لا تستقيم حياة المؤمن ولا يتم إسلامه إلا بالإيمان بهما، والتسليم لهما، والعمل بمقتضاهما، فقال عز وجل:

﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17].

 

ولفظ "الضر" ضد النفع، إذا أفردته ضممت الضاد؛ كما في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل: 53]، وقوله: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]، أما إذا جمعتَه مع لفظ النفع فقلت: "النَّفع والضَّر"، فينبغي فتحُ الضاد على سنن العرب في ذلك، ومعناه: كل ما يحزُنُ المرءَ في الدنيا، أو يؤلِمه، أو يؤذيه ماديًّا أو معنويًّا، مرضًا كان أو فقرًا، أو فِراقًا لأهل أو عشيرة أو وطن، أو فقدان مكاسب أموالٍ وتجارةٍ، أو غير ذلك من بلايا الحياة الدنيا المطردة بين البشر، أما معناه الشرعيُّ والعقديُّ فهو كلُّ ما يُغضب الله تعالى من نيات وأعمالٍ وأقوال تضُرُّ بالمرء في الآخرة، ولا منجى مِن عقوبتها إلا بالتوبة.

 

ولفظ الخير - مطلَقًا - هو ما فيه نفع وصلاح وسرورٌ وسعادة للمرءِ، في الدنيا أو في الآخرة، إلا أنه إيمانيًّا كلُّ ما يرضاه الله لعباده من عقيدة وعبادة وعمل صالح؛ لأنه يَؤُول عليهم بخير الدنيا والآخرة، فإن أردت التفضيل لشيء على شيء كان لفظ "خير" اسم تفضيل من فعل "خار" على غير قياس؛ لأن الأصل فيه "أخير"؛ أي: أحسن، حذفت منه الهمزة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32].

 

والمس في قوله تعالى: ﴿ يَمْسَسْكَ ﴾ [الأنعام: 17] يعني اللمس، من مس الشيء يمَسُّه بالفتح، من باب فهِم، إذا لمسه أو جسه بيده، ومن المجاز يقال: مسَّه الكِبَر والمرض، ومسه العذاب، ومسه الفقر، ومسه الخير أو الشر؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 20، 21]، وقد عبَّر الوحيُ الكريم عن إصابة الضر وإصابة الخير بلفظ المس الذي يفيد القليل من الضر، والقليل من الخير؛ لأن ما في الدنيا منهما قليلٌ - مهما كثُر - إذا قِيسَ بما في الآخرة من ضرِّ العذاب المطلق الدائم في النار، وخير النعيم المطلق المخلد في الجنة، وهو عز وجل في ابتلائه عبادَه بالشر حكيمٌ، ينزله بقدر معلوم وأجل محتوم، ويرفعه برحمة ربانية، أو دعاء مستجاب، وفي ابتلائه بالخير قادرٌ على مضاعفته لعبده، أو إدامته له، أو سلبِه منه؛ ولذلك عقب بقوله عز وجل: ﴿ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17]، كما قال في الآية 107 من سورة يونس: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ [يونس: 107]، ومفتاح ذلك كله: صدقُ النية في التوجه إلى الله، وحسن الثقة به، وصواب العمل له عز وجل؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنتُ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: ((يا غلام، إني أعلمك كلماتٍ، احفظِ الله يحفَظْك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتَبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء لم يضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام، وجفَّتِ الصُّحف)).

 

إن جميع أضرار الدنيا ومصائبها قابلة للكشف بعفو الله ورحمته، ولكنها إن كانت في الدِّين - كفرًا أو شركًا، أو ولاءً لغير الله، ومات عليها صاحبها - فقد حبِط عمله، وكان من الخاسرين؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في دعائه: ((ولا تجعَلْ مصيبتَنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مبلَغَ علمنا))، وقال عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]، وكذلك خير الدنيا قابل للزيادة والنقص، والبسط والقبض، أما في الآخرة فعطاء دائم غير مقطوع؛ قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [هود: 108]، والحق - سبحانه - قادر على كل شيء، غني لا ينقصه بسط العطاء مهما أعطى، ولا يغنيه قبضه مهما قبض؛ ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [الرعد: 8].

 

ولئن كانت الحياةُ الدنيا دارَ بلاء والآخرةُ دارَ جزاء - فإن بلاء الدنيا واختباراتها يتلوَّن لكل امرئ بألوان من الخير ينبغي أن يشكرَه ولا يُفتَن به، وألوان من الضر ينبغي الصبر معه، والحمد والاحتساب له، ودعاء الله وحده بكشفه؛ قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، وفي حديث خبَّاب رضي الله عنه قال: أتينا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بُردةً في ظل الكعبة، فشكَوْنا إليه فقلنا: ألا تستنصرُ لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟! فجلس محمَّرًا وجهُه فقال: ((قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفَر له في الأرض، ثم يؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه، فيجعل فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمِه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله تعالى، والذِّئبَ على غنمه، ولكنكم تعجَلون)).

 

وهذه الآية الكريمة بجمعها بين بلاء الضر وبلاء الخير شرحٌ واضح لاسمين من أسماء الله الحسنى، وتنزيل لمعناهما بأوضح بيان، وهما اسم الله تعالى: النافع، واسمه عز وجل: الضار، في علاقتهما بالإنسان وتفاعلِه مع القضاء والقدر، والغيب والشهود، رضاءً وتسليمًا وخضوعًا، أو إنكارًا وجحودًا وتمرُّدًا، والمرءُ في كل الأحوال تحت سلطانِ الله تعالى وقاهريَّتِه وحاكميته، لا يَزيدُه اليقينُ والطاعة إلا خيرًا، ولا يَزيده التمرُّد إلا خَسارًا؛ ولذلك عقَّب الحق سبحانه بقوله:

﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ [الأنعام: 18] وحروف القاف والهاء والراء في فعل "قهر" تدل على غلبةٍ وعلوٍّ، يقال: أخذهم قهرًا؛ أي: مِن غير رضاهم، والقهر - لغة -: هو الغلبة والأخذ من فوق، وكل من قهر عدوًّا فقد علاه واعتلاه واستعلى عليه، ومثل هذه الآية في نفس سورة الأنعام ورد في سياق ذكر الموت والحياة وتقدير الآجال بقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61].

 

والقاهر: اسمٌ مِن أسماء الله الحسنى، معناه: الغالب، الممسِك بنواصي الخلائق كلها، المتمكن من حركتهم وسكونهم، وبقائهم وفنائهم في عالَمَيِ الغيب والشهود، في الدنيا والآخرة، ومنه للمبالغة في القهر والغلبة: "القهَّار"، وهو كذلك من أسماء الله الحسنى في قوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الرعد: 16]، وقوله عز وجل: ﴿ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 16].

 

أما وصفُه تعالى بالقاهر الذي لا يعجزه شيء وبعدها قوله تعالى: ﴿ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ [الأنعام: 18] فهو إشارةٌ إلى كمال قدرته، واستعلائه على جميع الخلائق، كلهم تحت قدرتِه وسطوتِه وسلطانه، يُعِزُّ مَن يشاء، ويُذِلُّ مَن يشاء، يحيي ويميت، يُسعِد ويُشقي، ويبتلي ويعفو، لا رادَّ لإرادته، ولا معقِّبَ لحكمه، تفرَّد بالسلطان والهيمنة وحسن التدبير، ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ ﴾ [الأنعام: 18] في خَلقِه وما يقدره ويختاره، ﴿ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18] بعباده؛ سمواتٍ وأرضًا، وجِنًّا وإنسًا، وملائكة وخَلقًا مما لا يعلمون، كمال قدرته وحكمته وعلمه خاص به تعالى، لا يَشرَكُه فيه أحد، لا كاملَ إلا هو، كل ما سواه ناقص عاجزٌ عابدٌ وعبدٌ: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93].

 

بهذه الآيات الكريمة قدمت سورة الأنعام - بصفتها مرجعًا وجِذعًا مشتركًا للعقيدة - للباحثين عن الحق ما يُعِينهم على تلمُّس طريق الإيمان والتوحيد، وللمعاندين والمصرين على الشرك ما يقمع حُجَجَهم، ويكبِتُ أحقادهم وضغائنهم؛ فالله تعالى هو الملِك المالك، خالق السموات والأرض وعُمَّارهما، ومقدر الليل والنهار، ما حلَّ فيهما ويحل، وما سكن بهما وتحرك، فاطر الكون وما حوى على غيرِ مثال سابق، ومدبره بدون شريك، والمحيط به سمعًا وبصرًا، وعلمًا وقدرة، وتدبيرًا وحكمة، يُخاف عذابُه، وتُرجى رحمتُه، يرزُقُ مَن يشاء وهو الغني الحميد، بيده الضرُّ ابتلاءً وكشفًا، والخير بسطًا وقبضًا، القاهر في حُكمه، الحكيم في صُنعه، الخبير بعباده، ومَن له هذه الصفات العالية الرفيعة والأسماء الحسنى هو المستحقُّ وحده إخلاصَ العبادة له دون شريكٍ، وصدق الولاء له دون منازعٍ.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • من أسباب محبة الله تعالى عبدا ( التوبة )
  • من أسباب محبة الله تعالى عبدا ( الصبر )
  • من أسباب محبة الله تعالى عبدا ( التوكل )
  • من سورة الأنعام: منهج القرآن في إحياء الأمة وتنشئة أجيال الرواد
  • تأملات في سورة الأنعام (خطبة)
  • الوصايا العشر في سورة الأنعام

مختارات من الشبكة

  • موجبات الجنة وموجبات النار (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • موجبات الحمد وشواهد التوحيد في أول سورة الأنعام(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الدرس الثامن العشرون: تابع موجبات النجاة العشرة من أهوال يوم القيامة(مقالة - ملفات خاصة)
  • الدرس السابع والعشرون: موجبات النجاة العشرة من أهوال يوم القيامة(مقالة - ملفات خاصة)
  • حسن الكلام من موجبات المغفرة (بطاقة دعوية)(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • إدخال السرور على المسلم من موجبات المغفرة (بطاقة دعوية)(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • موجبات الغسل (mp3)(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • موجبات الغسل وصفته(مقالة - آفاق الشريعة)
  • موجبات الجنة في صحيح السنة (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • موجبات الغسل على الرجال والنساء(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب