• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أحكام شهر ذي القعدة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    من صيام التطوع: صوم يوم العيدين
    د. عبدالرحمن أبو موسى
  •  
    حقوق الوالدين
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة الكوثر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    من مائدة العقيدة: شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    الليلة الثلاثون: النعيم الدائم (3)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / علوم قرآن
علامة باركود

موجبات الحمد وشواهد التوحيد في أول سورة الأنعام

موجبات الحمد وشواهد التوحيد في أول سورة الأنعام
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 23/10/2014 ميلادي - 28/12/1435 هجري

الزيارات: 14660

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

موجبات الحمد وشواهد التوحيد
في أول سورة الأنعام

 

بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 1 - 3].

 

الناس ما بين شقي وسعيد، شقي جهِل ربه وتاه في براري الغفلة ومسالك الضلال، فخرج من الدنيا ولم يذُقْ أطيب ما فيها؛ معرفة ربه يقينًا، وتلمُّس نعمائه وفضله في النفس والأهل والولد والآفاق، وسعيد عرف ربه معرفة تؤدي إلى تعظيمه سبحانه، ومحبته عز وعلا، وتصديق ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فأثمرت المعرفةُ في قلبه تقديرًا للنعم، ما ظهر منها وما استتر، وانكشف له تقصيره وقصوره، فكان منه الاستغفار للتقصير، وبذل الجهد للسعي والتدبير؛ لذلك قال تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]، وقال: ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ ﴾ [الأنفال: 40]، وقال: ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [هود: 14]، وعندما مر الحارثُ بن مالك رضي الله عنه برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: ((كيف أصبحت يا حارثة؟))، فقال: أصبحت مؤمنًا حقًّا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((انظر ما تقول؛ إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟))، قال: عزفَت نفسي عن الدنيا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون[1]، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يا حارثة، عرَفتَ فالزَمْ))، قالها ثلاثًا؛ ولذلك قال الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه: "من لم يعرف نعمة الله سبحانه وتعالى إلا في مطعمه ومشربه، فقد قل عمله، وحضر عذابه".

 

إن معرفة الله تعالى ثمرة طبيعية لمن أخلص له النية والقصد، وإخلاص النية والقصد مقدمة ممهِّدة للتقوى، والتقوى اجتباء واختيار لمن سبقت لهم من الله الحسنى؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، ورب العرش العظيم لا يدني إلا من شاء، وكيفما شاء، ومتى شاء: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [القصص: 68]، وفي الحديث الصحيح: ((إن الله عز وجل قبض قبضة فقال: في الجنة برحمتي، وقبض قبضة فقال: في النار ولا أبالي))، فإن اختار عز وجل لولايته عبدًا من عبيده علَّمه، وأخذ بيده، ورفق به، وأنار بصيرته، فعرَف ربه في بديع خلقه، وجميل صنعه، وجليل قدره، وفيض نعمائه، فإن استشعر العبد حلاوة الاطلاع، ولذة المعرفة، ولذاذة الاستمتاع، وأرتج عليه أمره فعجز عن أن يقدُرَ ربه حقَّ قدره، أو يشكره حق شكره - أتم الله عليه نعمته، فلقنه كلمة الحمد، وجعل لقائلها من الأجر ما تعجِز الملائكة عن كتابته؛ كما ورد في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم: ((أن عبدًا من عباد الله قال: يا رب، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك، فعضَّلت[2] بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعِدا إلى السماء، وقالا: يا ربنا، إن عبدك قد قال مقالةً لا ندري كيف نكتبها، قال الله عز وجل: وهو أعلم بما قال عبده: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب، إنه قال: يا رب، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله عز وجل لهما: اكتباها كما قال عبدي، حتى يلقاني فأجزيَه بها))[3].

 

إن العبد مهما بلغت به المعرفة لا يستطيع أن يقدُرَ فضل الله عليه حق قدره؛ فهو عاجز عن إحصاء النِّعم؛ لقصوره عن الإحاطة بقوة الله وواسع مُلكه وجليل قدرته، وعاجز عن أداء واجب الحمد والشكر؛ لعجزه عن معرفة ما يرضيه تعالى من القول والعمل؛ لذلك تولى الحق سبحانه استنقاذ طالبي مرضاته من العارفين السالكين، فأرشدهم إلى التعبير السليم، وهو: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2] في أول سورة الفاتحة مستهل البعثة الشريفة، وهي ناصية الربع الأول من القرآن الكريم، قبل أن ينزل عليهم ما يقتضيه الحمد من العبادات والقربات، ثم ذكَّرهم بضرورة المداومة على حمده تعالى، والأحكام تنزل تصورًا إيمانيًّا للقلب والعقل، وتشريعًا للعبادة والسلوك، إحدى وعشرين مرة مبثوثة في ثنايا الذكر الحكيم، آخرها في سورة غافر بقوله عز وجل: ﴿ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 65]، وجعله على رأس كل ربع من القرآن؛ فابتدأ الربع الثاني بقوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1]، والربع الثالث بقوله - عز وجل -: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]، والربع الرابع بقوله سبحانه: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [سبأ: 1]، وقوله: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فاطر: 1].

 

بذلك كان الحمد من الخلائق - إنسًا وجنًّا وملائكة، وسموات وأرضًا وأفلاكًا، وما علمنا وما لم نعلم - عبادةً لا تنقطع، يحمد المكلفون ربهم في الدنيا وجوبًا، كما يحمدونه في الجنة وقد ارتفعت التكاليف: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43]، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [يونس: 9، 10]، ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [الزمر: 74]، كما يحمد الملائكة ربهم وهم يحفُّون بعرشه، معتزِّين بطاعته، مقدسين مسبحين: ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 75].

 

ولئن تميزت سورة الفاتحة بكونها أول سورة نزلت في مكة مفتتحة بالحمد، ومشتملة على محكَم العقيدة مجملةً، فإن أول سورة بعدها نزلت في مكة شارحة لمجمَل ما ورد فيها من أركان الإيمان والإحسان، ومفتتحة بحمد الله أيضًا: هي سورة الأنعام، غير أن الحمد في الفاتحة كان مطلقًا وجامعًا لمعاني الألوهية والربوبية، رحمة منه تعالى، ورحمانية وملكية شاملة للدنيا ويوم الدين، أما الحمد في سورة الأنعام فكان في أول آية منها؛ لبيانِ فضل الله وقدرته وحكمته في خلق السموات والأرض والظلمات والنور بقوله تعالى:

 

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1]، ولفظ "الحمد" لغةً: مشتق من فعل "حمِد" بكسر الميم في الماضي وفتحها في المضارع، والحاء والميم والدال: أصل واحد يدل على نقيض الذم، كما قال أبو فارس، والحمد: الرضا بالشيء، تقول: حمدت الشيء إذا رضيته، و"حمدت الرجل حمدًا" إذا رأيت منه ما يرضيك، أو اصطنع إليك ما تحمده؛ كما تقول: بلوتُه فأحمدته، بمعنى وجدته حميدًا؛ أي: محمود الفعال، ومنه اشتقاق اسم محمد وأحمد صلى الله عليه وسلم، والحمد: الرضا بقضاء الله وقدره، ومنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما يسره قال: ((الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات))، وإذا رأى ما يسوءه قال: ((الحمد لله على كل حال))، وإنما اختص الله تعالى بالحمد المطلق الجامع في كل الأحوال، والمتضمن لجميع معاني المدح والثناء والوصف الجميل الذي ليس لسواه؛ استحقاقًا ثابتًا دائمًا قبل إيجاد الخلق وبعد إيجاده، سواء شكَره العباد أو كفَروه؛ لِما له - عز وجل - من صفات الجلال والكمال، وفضل الألوهية والربوبية والنعم التي لا تحصى، لا يشترك معه فيها غيره، ولما يتضمنه الحمد من معاني الرضا بقضائه وأفعاله، وبما يكتبه ويقدره؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الحمد رأس الشكر، ما شكَر اللهَ عبدٌ لا يحمَدُه))[4]؛ لأن الحمد لله على ما هو أهله أعمُّ من الشكر الذي لا يكون إلا مقابلَ نعمة أسديت، يثني بها المرء على المنعم بلسانه وقلبه وعمله، ويعتقد أنه ولي نعمته؛ كما قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، وقال: ﴿ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ﴾ [الأحقاف: 15]، وقال: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14].

 

وفي الحديث الصحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عجبٌ للمؤمن: إن أصابه خير حمد الله وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر))، وقال: ((من قال إذا أوى إلى فراشه: الحمد لله الذي كفاني وآواني، الحمد لله الذي أطعمني وسقاني، الحمد لله الذي منَّ عليَّ وأفضل، اللهم إني أسألك بعزتك أن تنجيني من النار - فقد حمِد الله بجميع محامد الخلق كلهم)).

 

بذلك كان حمد الله تعالى نفسَه في أول هذه السورة بهذه الصيغة؛ للتذكير ببديع خلقه، وجميل صنعه، وشامل فضله، وكان وروده محلًّى بالألف واللام المستغرقينِ لجنس الحمد، يفيد أن ماهيته وجميع أصنافه تعظيمًا وثناءً لا يشترك معه فيها غيره، كما كان وروده آخر دعاء لأولياء الله في الجنة بقوله تعالى في سورة يونس: ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [يونس: 10]، دليلًا على أن الحمد لله تعالى ثابت ثبوتًا مطلقًا مستمرًّا لا ينقطع في الدنيا والآخرة.

 

ولأن السالكين إلى مرضاة الله تعالى - مهما بلغت معرفتهم - لا يستطيعون تقدير عظمة الله تعالى في السموات والأرض، أو سَعة فضله عليهم بخلقهما وتسخيرهما، أو تمييز ما يجب عليهم من ذلك، فقد تولى سبحانه تعليمهم وإرشادهم بقوله: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ [الأنعام: 1]؛ أي: قولوا: الحمد لله، أمرًا به واجبًا وحثًّا عليه لازمًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]؛ لِما فيه من معانٍ تتجاوز الشكر والتمجيد والمدح والثناء الحسن على شمول إحاطته تعالى ورعايته، ودوام آلائه، وسابغ إحسانه، وتواتر عطائه وفضله، وجزيل ما أعطى، وجميل ما أولى، ووافر ما أقنى، والعبد عندما يتلوها قرآنًا يكون حامدًا لربه، له أجر التلاوة والذكر، وعندما يردد الحمد في غير القرآن يكون متذكرًا مأجورًا، وفي كلا الحالين يدخل فيما قاله حمدُه وحمدُ غيره من الخلائق ممن نعلم وممن لا نعلم إلى يوم الدين.

 

أما قوله تعالى عقب أمره بالحمد: ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ [الأنعام: 1] فتذكيرٌ بصفة من صفاته تعالى، هي "الخالق"، بمعنى: الفاطر المبدع المنشئِ لجميع السموات والأرض، وما فيهن من كائنات، وما يلفُّهن ويغشاهن من الظلمات والنور، فكانت بذلك صفة الخلق متضمنة صفة الربوبية؛ إيجادًا وإعدادًا وإمدادًا؛ لأنهما متلازمتان؛ إذ لا خلق بغير ربوبية، ولا ربوبية إلا لمربوبين تحفظهم وترعاهم، وتقوم بأمرهم، وتكون دليلهم إلى التوحيد، ومرشدَهم إلى العبادة؛ لذلك كان أول ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ [العلق: 1، 2]؛ إذ عامة المشركين يعرفون بداهةً أن الله هو الخالق؛ كما ذكر تعالى ذلك بقوله: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [العنكبوت: 61]، ولكنهم لا يعُونَ ما تقتضيه هذه المعرفة من واجب توحيد الخالق وعبادته؛ لأن عقولهم مغيَّبة، وتدبرهم حسير؛ فهم كما قال تعالى: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].

 

أما التعبير القرآني عن خلق الظلمات والنور عقب التذكير بخلق السموات والأرض، فقد كان بلفظ آخرَ مشترك، يفيد الخلق والبث والنشر، وهو الجَعْل، من فعل "جعَل" مفتوح عين الماضي والمضارع؛ كما في قوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ﴾ [الفرقان: 61]، وقوله عز وجل: ﴿ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ﴾ [البقرة: 164]، وقوله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [النساء: 1]، وقوله تعالى: ﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ﴾ [لقمان: 10]؛ وذلك لأن الله تعالى إذ خلق الظلمات والنور بثَّهما ونشرهما في الكون؛ سماواتٍ وأرضًا، وأفلاكًا ونجومًا، وكواكبَ ومجراتٍ، فكانت بذلك ظلمة الليل ونور النهار، وظلمة الجهل ونور العلم، وظلمة الكفر ونور الإيمان، وظلمة الباطل ونور الحق، وظلمة الاستبداد ونور العدل، وظلمة العبودية ونور الحرية.

 

ولئن خص الحق - سبحانه - بالذكر السموات والأرض خلقًا، والظلمات والنور جَعْلًا، فلمِا في ذلك من العِبر والآيات الكونية والمنافع التي لا تحصى، ولما يرى المخاطبون في السماء والأرض من نور الشمس والقمر والنجوم بالليل والنهار، ولكون ذلك أعظم ما يرى المكلفون من الكون؛ قال تعالى: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [غافر: 57]، ولئن كانت جميع العبادات الشِّركية التي عرفها البشر متعلقةً بما بهروا برؤيته فيما خلقه الله تعالى من الكون المنظور، سماءً وأرضًا، وكواكب ونجومًا، وأحجارًا وأشجارًا، وظواهر طبيعية عبدوها وألَّهوها ونسبوا لها الخلق والتدبير والعون والنصرة - فقد كان للجزيرة العربية أيضًا في الجاهلية نصيبٌ من هذه الشركيات؛ إذ عبد أهلها الأوثان والطواطم[5]، كما كان لدى مشركي قريش، وعبدوا النور والظلمة من الديانة المزدكية، كما كان في كِندة وممتلكاتها بالبحرين والخليج، وعبدوا أشد النجوم سطوعًا في السماء ليلًا، وهو الشعرى المذكورة في قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ﴾ [النجم: 49]، وعبدوا الثالوث الكوكبي، وهو الشمس والقمر والزهرة، الذي يعُدونه رمز العائلة المقدسة المؤلفة من الأب وهو القمر، والأم وهي الشمس، والابن وهو الزهرة، كل ذلك بجانب اليهودية والتثليث المسيحي، وقد كانت هذه الآية الكريمة في أول سورة الأنعام ردًّا لطيفًا حكيمًا منه تعالى على كل هذه المعبودات؛ إذ بين أنها مجرد مخلوقات له تعالى، والأَولى للعاقل أن يعبد خالقها سبحانه؛ قال عز وجل: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37]؛ لذلك عقب الحق سبحانه على حالهم هذا بقوله عز وجل: ﴿ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1] يعدِلون به غيره من مخلوقاته؛ أوثانًا وأحجارًا وأشجارا، ونورًا وظلمة، وكواكبَ ونجومًا، يسوُّونها به، ثم يعبدونها معه أو من دونه؛ كما تقول: عدلت فلانًا بفلان: جعلته نظيره؛ أي: ومع ما يعرفون من قدرة الله تعالى، وعجزِ مخلوقاته، فإنهم يسوونها به، ويجعلون له منها العديل والشريك والصاحبة والولد، وليس من عاقلٍ يفعل ذلك مع وضوح آيات الله وآلائه وقدراته، تعالى الله عما يشركون علوًّا كبيرًا.

 

ولما استدل الحق - سبحانه - على وجوده وقدرته واستحقاقه الحمدَ بما خلق من السموات والأرض والظلمات والنور، مستبعدًا أن يسقُط العقلاء في الشرك مع وضوح الآيات البينات، عقب استدلالًا على ذلك أيضًا بذِكر أصل خَلقه للإنسان، وما قدره له ولغيره من الآجال، فقال عز وجل:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأنعام: 2] ولئن كان المعروف علميًّا أن خلق الإنسان يكون من نطفة الذَّكر وبويضة الأنثى، فإن مبدأ خلقه الأول كان من مادته الأولى، وهي التراب، بقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ﴾ [الروم: 20]، ثم صار التراب طينًا؛ إذ خلط بالماء؛ كما في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ﴾ [الأنعام: 2]، ثم لما صار صلصالًا يابسًا في قوله عز وجل: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾[6] [الرحمن: 14]، نفَخ فيه من الروح، فصار بشرًا سويًّا، تتناسل ذريته من ماء مهين ضعيف، هو نطفته؛ كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ [السجدة: 8]؛ لذلك عبر الحق - سبحانه وتعالى - في هذه الآية الكريمة أول سورة الأنعام عن مبدأ خَلق الإنسان بالطين، وهو التراب المخلوط بالماء، في إشارة إلى قوله عز وجل: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ﴾ [النور: 45].

 

والحديث في هذه الآية عن أصل خَلْق الإنسان من الطين إشارةٌ واضحة إلى قدرة الله تعالى وبديع صنعه؛ إذ جعل من الطين بشرًا يختار الخير ويسير في طريقه، ويختار الشر فيجني ثماره؛ ﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 37 - 41]، وتذكير للإنسان بمهانة مبدأ خَلقه؛ كيلا يستكبر ويعتز بنفسه، ويستعلي بما وهبه الله من خصائص وقدرات، فيكفر ربه ويجحد فضله؛ قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 77].

 

ثم بيَّن - عز وجل - عقب ذلك مآل هذا المخلوق الجديد في الدنيا والآخرة، وما قدر له من آجال فقال:

﴿ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ﴾ [الأنعام: 2] ولفظ "الأجل" من فعل: أجل الشيء يأجِل مكسور عين المضارع، فهو آجل، نقيض: عجل يعجل، والأجيل والمؤجل هو ما حدد له وقت غير عاجل، والأجل بذلك هو الوقت المحدد لعمل ما، أو مدة بقاء الشيء، أو وقت إنجازه، أو وفاته أو انقضاء صلاحيته.

 

وقد ورد لفظ الأجل في هذه الآية مطلقًا يفهم من سياقها، بمعنى ما قدره تعالى للإنسان من مراحلَ زمنية لوجوده، حياة وموتًا، ومبدأ ومآلًا، بعثًا ونشورًا، وحسابًا وجزاءً، وخلودًا في الجنة أو في النار؛ قال تعالى: ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ [الرعد: 38].

 

كل هذه الآجال التي قدرها تعالى وكتبها بحكمته وعلمه، ما قضى منها وأنجز، فصار معلومًا؛ كموت حالٍّ، أو ولادة حديثة، أو شفاء مريض، وما هو مسمى في علم الغيب عنده - عز وجل - لم يعلم به الناس، من خلق جديد، أو مدد أعمار، أو قيامة، أو بعث ونشور، أو قضاء وقدر في الدنيا والآخرة، دليلٌ على أن الأمر بيده تعالى، يصرفه كيف شاء، ولما شاء، ومتى شاء، ولأي أجل يشاء؛ ﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 83].

 

ثم بالتفات تعجيبي إلى المخاطبين من الكفار يعقِّب الوحي الكريم بقوله تعالى متهمًا عقولهم بالغباء والغفلة وقصور الإدراك:

﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 2]، ولفظ "تمترون" من فعل: "امترى يمتري امتراءً، فهو ممترٍ"؛ أي: شك في الحق، وجادل عن الباطل، من المراء والمِرية والمماراة، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا ﴾ [الكهف: 22]، وقوله: ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [البقرة: 147]، والمعنى أنه تعالى يَعيب عليهم قصور عقولهم، وضحالة أفهامهم؛ إذ يرون الآيات الشاهدة على وحدانيته تعالى وألوهيته وربوبيته وقدرته، واستحقاقه الحمد المطلق، في خلق أنفسهم، وتقدير آجالهم، ما علموه منها وما غيِّب عنهم، ثم يستمرون في الشك والمراء، والمجادلة بالباطل، والإعراض عن الحق.

 

وبعد أن دلت هذه الآية والتي قبلها على كمال قدرته تعالى وتمام ألوهيته وربوبيته واستحقاقه الحمد، عقَّب عز وجل بما يفيد كمال علمه الموجب للحمد أيضًا فقال:

﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 3]؛ أي: فربكم المستحق عليكم الحمد - شعورًا قلبيًّا، وذكرًا لسانيًّا، وعبادة عملية - هو الله المعبود المقصود في السموات والأرض، والمدبر لهما، الموجود قبل كل سماء وأرض، وشمس وقمر، وظلمة ونور، ﴿ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ﴾ [الأنعام: 3]: يعلم ما تسرون وما تعلنون من نوايا، وأقوال وأفعال، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 3]: يعلم ما تكسبون من خيرات الدنيا؛ أموالًا وأزواجًا وبنين، ونوايا صادقة، وأعمالًا صالحة، وما تكتسبون من محرمات في النفس والمال والأهل والولد، فيحصي عليكم ذلك؛ ليجازيكم به يوم الدين.

 

إن صفات الخالقية والقدرة المطلقة والقوامة على تدبير الكون - سمواتٍ وأرضًا - وتقدير آجال المخلوقات، ما علم منها وما هو مسمى عنده وحده، وعلمه بما في السموات والأرض، وبما يُسرُّه ساكنوهما وما يعلنونه، وما يكسبونه ويكتسبونه، كل ذلك مما تبيِّنُ به هذه الآياتُ الكريمة في أول سورة الأنعام موجباتِ توحيده تعالى وإخلاص العبودية له، وشواهد قوامته في الكون والنفس والمبدأ والمعاد، واستحقاقه - عز وجل - الألوهية والربوبية والحمد المطلق مهما عبده العابدون أو قصروا، أو حمِده الحامدون أو جحدوا، وقد كان هذا هو الأسلوب القرآني المختار في مخاطبة المشركين والملحدين في الجزيرة العربية في الفترة المكية، وفي كل زمان مهما تطاول، ومكانٍ مهما تباعد، يستفز به عقولهم، ويستنهض به هممهم، ويحثُّهم به على الإيمان، ويحرضهم به على اتباع الحق ونبذِ الباطل؛ كما في قوله تعالى في السور المكية التالية: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 70]، وقوله: ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 84 - 89]، وقوله: ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الرعد: 16].

 

إن المؤمن مهما أدى من العبادات - فرائض وسننًا ونُسكًا - لا يغنيه ذلك عن حمد الله؛ تاجًا للأعمال، ومثراة للنوايا والأقوال والأفعال، ونورًا من الإيمان والإحسان، يحمده تعالى لأنه أهلٌ لذلك في كل حال وحين، يحمده في الرخاء على ما أنعم، وفي المحنة على ما ابتلى، وفي الحياة وعند البِلى، نحمده تعالى بجميع محامده، حمدَ الواثق بربه، المؤمِّل جميل صنعه، المستزيد من فضله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، يوافي نعمه ويكافئ مزيده، حمدًا ينير دروب الحياة بالمنن، ويكشف الغم والهم والحزن، ويبشر بالنجاة عند الممات، حمدًا يضيء ظلمة القبر، ويؤنِس وحشة انتظار البعث والنشر، ويبيض الوجه عند العرض، ويثقل الكفة في الميزان، ويُحِلُّنا دارَ المُقامة من فضله، ويكون برحمة الله وفضله آخر دعوانا في الجنة، جعلنا الله تعالى من أهلها وقاطنيها: ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [يونس: 10].

 

وصلِّ اللهم على حامل لواء الحمد يوم القيامة، أول شافع وأول مشفع، وعلى آله، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.



[1] يتضاغون: يتصايحون من الألم.

[2] عضَّلت به وعليه تعضيلاً، إذا ضيَّقت عليه في أمره، وحالت بينه وبين ما يريد.

[3] تعليق محمد فؤاد عبدالباقي: في الزوائد: في إسناده قدامة بن إبراهيم، ذكره ابن حبان في الثقات، وصدقة بن بشير لم أرَ من جرحه ولا من وثقه، وباقي رجال الإسناد ثقاتٌ.

[4] رواه السيوطي في الجامع الصغير وحسنه.

[5] الطوطم للقبيلة: صنم خاص بها، هو رمزها على صورة حيوان أو جزء من الإنسان.

[6] الصلصال: هو الطين اليابس الذي لم تُصِبْه نار، فإذا نقرته صلَّ، فسمعت له صلصلة، فإذا طبخ بالنار كان فخارًا.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير سورة الأنعام للحافظ ابن حجر من فتح الباري
  • نفحات قرآنية .. في سورة الأنعام
  • الأوامر العملية في سورة الأنعام
  • تفسير آية الآداب العشرة في سورة الأنعام
  • من سورة الأنعام: منهج القرآن في إحياء الأمة وتنشئة أجيال الرواد

مختارات من الشبكة

  • موجبات الجنة وموجبات النار (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • من موجبات الولاء لله تعالى في سورة الأنعام(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الدرس الثامن العشرون: تابع موجبات النجاة العشرة من أهوال يوم القيامة(مقالة - ملفات خاصة)
  • الدرس السابع والعشرون: موجبات النجاة العشرة من أهوال يوم القيامة(مقالة - ملفات خاصة)
  • حسن الكلام من موجبات المغفرة (بطاقة دعوية)(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • إدخال السرور على المسلم من موجبات المغفرة (بطاقة دعوية)(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • موجبات الغسل (mp3)(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • موجبات الغسل وصفته(مقالة - آفاق الشريعة)
  • موجبات الجنة في صحيح السنة (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • موجبات الغسل على الرجال والنساء(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب