تكوين شركة مهنية للمحاماة

تكوين شركة مهنية للمحاماة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبِه.

أما بعد:

فهذا شرح للمادة العاشرة من نظام المحاماة، ونصها:

"يجوز تكوينُ شركةٍ مهنيَّة للمحاماة، بين اثنين أو أكثر من المقيَّدين في الجدول، وَفْقًا لِما يقضي به نظامُ الشركات المهنيَّة".

الشرح:

تعريف الشركة:

الشركة في اللغة: هي أن يكون الشيءُ بين اثنين لا ينفردُ به أحدُهما، وشارَكه واشتركا في كذا وتشاركا فيه، وشاركت فلانًا: إذا صرت شريكَه، وأشركت فلانًا: إذا جعلته شريكًا لك[1].

والشركة بمعناها العامِّ في الاصطلاح الشرعي: هي الاجتماعُ في استحقاق "مِلك" أو تصرُّف[2].

وعلى هذا؛ فإن الشركاتِ قسمان:

أحدهما: شركة المِلك.

والاجتماع في المِلك يشمَلُ جميعَ أنواع شركة المِلك، سواءٌ أكان ذلك بالإرثِ، أم بالوصية، أم بالشراء، ونحوها.

وثانيهما: شركة التصرُّف.

والاجتماع في التصرُّف يشمَلُ جميع أنواع شركة العقد، سواء أكانت مالية، أم بدنية، أم فيما يعمل فيه الشركاءُ بجاههم[3].

وعلى هذا؛ فإن شركة الأبدان - وتسمَّى شركة الأعمال، وشركة الصنائع[4] - هي أحدُ أنواع شركة التصرُّف.

والوكالة على الخصومة مهنةٌ من المِهَن، وعمَل بدني، وهي من الأعمال التي تقبَل الاشتراك، والاشتراك فيها هو من قَبيل شركة الأبدان المقرَّرةِ أحكامُها عند فقهاء الإسلام.

ونبيِّن تعريف شركة الأبدان في العنوان التالي:

تعريف شركة الأبدان في الاصطلاح:

عرَّفها ابن قدامة (ت: 620هـ): "أن يشترك اثنانِ أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم؛ كالصنَّاع يشتركونَ على أن يعمَلوا في صناعتهم، فما رزَق اللهُ -تعالى- فهو بينهم"[5].

وذلك مثل الخياطة، والاحتشاش، والصيد، والنقل، والوكالة على الخصومة، والطب، ونحو ذلك من المِهَن.

وسمِّيت شركة الأبدان؛ لأنهم بذَلوا أبدانهم في الأعمال لتحصيل المكاسبِ[6].

وعلى هذا؛ فإن الوكالةَ على الخصومة عملٌ بدني، وهو محلٌّ لتحصيلِ المكاسب، والشركة فيه من قَبيل شركة الأبدان.

شرعية الاشتراك في الوكالة على الخصومة:

الاشتراكُ في الوكالة على الخصومة هو من قَبيلِ شركة الأبدان، وقد اختلف الفقهاءُ في مشروعيةِ شركة الأبدان على قولين:

القول الأول: أن شركةَ الأبدان مشروعةٌ، ويجوزُ العمل بها، وبذلك قال الحنفية[7]، والمالكية[8] والحنابلة[9].

لكن الحنفية أجازوها في تقبُّل الأعمال بالأبدان - كالخياطة - دون ما يكتسبانِه بأبدانهما من مباح - كالاحتطاب[10].

كما اشترط المالكية فيما يتقبل من الأعمال بالأبدان: اتحاد الصَّنعة والمكان[11].

وكذا اشترط أبو الخطاب (ت: 510هـ) من الحنابلة فيما يتقبل من الأعمال: اتحاد الصَّنعة فقط[12].

القول الثاني: أن شركةَ الأبدان غيرُ مشروعة ولا جائزة، فإذا وقَعت فهي باطلة.

وبذلك يقول الشافعية[13]، وابن حزم (ت: 456)[14].

يظهَر لي رجحانُ القول الأول، وهو شرعية شركة الأبدان على الأعمال والصنائع، سواء على تقبل الأعمال بالأبدان - كالخياطة - أم في اكتساب المباح بأبدانهما - كالصيد - وسواء اتحدت الصَّنعة أم اختلفت.

ووجه هذا الترجيحِ ما يلي:

1- ما استدل به أصحابُ هذا القول من أدلة، وهي:

أ- ما رواه أبو عُبيدة عن عبدالله قال: "اشتركت أنا وعمَّار وسعد فيما نُصيبُ يوم بدر، قال: فجاء سعدٌ بأسيرينِ، ولم أجِئْ أنا وعمَّار بشيء"[15].

قال ابن قدامة (ت: 620هـ): "ومثل هذا لا يخفى على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أقرَّهم عليه، قال أحمد: أشرك بينهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم"[16].

وقال العظيم آبادي (ت: 1329هـ): "استُدل بهذا الحديث على جوازِ شركة الأبدان، وهي أن يشتركَ العاملان فيما يعملانه، فيوكل كلُّ واحد منهما صاحبَه أن يتقبل ويعمَلَ عنه في قدر معلومٍ مما استؤجر عليه، ويعينان الصَّنعة"[17].

ب- أن العمل في شركة الأبدان إحدى جهتي المضاربة، فصحَّت الشركةُ عليه، كما تصح شركة المضاربة[18].

جـ- أن شركة الأبدان تتضمنُ الوكالة، وتوكيلَ كلٍّ من الشريكين للآخر في تقبُّل العمل، وتحصيل المباحات - صحيح وجائز، وصحة ذلك وجوازه دليلٌ على صحة شركة الأبدان؛ لأن المشتمل على الجائز جائز[19].

2- أن الأصل في العقودِ والشروط الصحةُ.

الشركة المهنية في النظام السعودي:

لقد تضمنت المادةُ العاشرة من نظام المحاماة السعودي (وهي هذه المادة محل الشرح): أنه يجوز تكوينُ شركة مهنية للمحاماة، من اثنين أو أكثر من المقيَّدين في الجدول، وَفْقًا لما يقضي به نظام الشركات المهنية.

وكان قد صدر نظام الشركات المهنية في خمس وعشرين مادة من مجلس الوزراء بموجب قرارِه ذي الرقم 16 في 16/2/1412هـ، ووافق عليه المرسوم الملكي ذو الرقم م/4 في 18/2/1412هـ.

وفي المادة الأولى من هذا النظام أن:

"للأشخاص المرخص لهم بمزاولة مهنة حرة أن يكوِّنوا فيما بينهم شركاتٍ مدنية تتمتَّعُ بالشخصية المعنوية وَفْقًا لأحكام هذا النظام".

وفي المادة الثانية من هذا النظام أنه:

"تهدف الشركة المهنية إلى المزاولة المشتركة لمهنة حرة واحدة".

وفي المادة الثالثة من هذا النظام أنه:

"لا يجوزُ للشخص الواحد أن يشتركَ في أكثرَ من شركة تمارسُ ذات المهنة، كما لا يجوز له أن يزاول المهنةَ عن طريق الشركة إلا بموافقة جميع الشركاء، وإذا أخلَّ أحدُ الشركاء بهذا الالتزام كانت الأتعابُ التي حصَل عليها من حقِّ الشركة".

وفي المادة الرابعة من هذا النظام أنه:

"يحظر على الشركة المهنية القيام بأعمال المهنة إلا من خلال الشُّركاء، ومع ذلك يمكِنُ للشركاء الاستعانةُ بمعاونين من المرخَّص لهم بمزاولة المهنة يعملون تحت إشراف الشركة ومسؤوليتها".

وفي المادة الخامسة من هذا النظام أنه:

"يبين عقدُ الشركة حدودَ اختصاصات وسلطات الشركاء والشركة فيما يتعلَّقُ بمزاولة المهنة".

وفي المادة السادسة من هذا النظام أنه:

"لا يجوز أن تتحولَ الشركة المهنية إلى نوع آخر من أنواع الشركات".

وفي المادة السابعة من هذا النظام أنه:

"تختص وزارة التجارة بالترخيص بتأسيس الشركات المهنية، وتقدم طلبات الترخيص بالتأسيس وَفْقًا للائحة تنظِّم ذلك، يُصدرها وزيرُ التجارة".

وفي أصل النظام تفصيلٌ لهذه الشركة، فيرجع إليه مَن شاء ذلك، وعلى هذا؛ فالشركاتُ المِهْنية في المحاماة هي من الشركاتِ المِهْنية بالأبدان، وشركة الأبدان مقرَّرة مشروعيتُها في الفقه الإسلامي، وقد سبق بيانُ ذلك.

وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.