• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    واجب ولي المرأة
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (9)
    د. عبدالسلام حمود غالب
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / علوم قرآن
علامة باركود

تفسير سورة البقرة .. الآية (197)

تفسير سورة البقرة .. الآية (198)
الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 11/9/2013 ميلادي - 6/11/1434 هجري

الزيارات: 86041

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير سورة البقرة

الآية ( 197 )


قال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [197].


فيه بيان الوقت الذي يؤدى الحج فيه، وأنه أشهر معلومات يعلمها الناس من قديم، قد توارثوا علمها مما ترسب لديهم من ملة إبراهيم عليه السلام، وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة.


فالحج يؤدي في هذه الشهور حسب منطوق هذه الآية، ولا يصح الإحرام بالحج قبل دخولها ولو قبل دخول شهر شوال بيوم. كما أن الصلاة قبل الوقت لا تصح. فبداية التلبس بالإحرام من الحج من أول شوال، ونهايته في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة صباحاً أو مساءً حسبما يمكنه الوقوف في عرفة حسب وسائط النقل السريعة، لأن من طلع عليه الفجر قبل أن يدخل حدود عرفة ولو بلحظة واحدة فقد فاته الحج وانقلب إحرامه عمرة، على ما فصلوه في كتب الفقه.


وفي قوله تعالى: ﴿ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ إبطال لغير الشهور القمرية في الأحكام الشرعية وإبطال النسيء الذي عمله كفار الجاهلية تقليداً للشهر الرومية والفارسية، ليستحلوا بدورتها السنوية ما حرم الله كما قدمناه، وكما سيأتي له مزيد إن شاء الله. فالآية واضحة في أن الحج لا يكون إلا في هذه الأشهر القمرية المعلومة وأنه ينتهي في اليوم الرابع عشر من شهر ذي الحجة حيث يكون النزول فيه إلى مكة.


وقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ يعني: أن من أوجب الحج على نفسه خلال هذه الشهور بأن تلبس به وألزمه نفسه فليحترم ما التزمه من شعائر الله، وليصنه من الرفث الذي هو مقاربة النساء ما دام محرماً، ومن الفسوق الذي هو الخروج عن حدود الشرع بفعل أي محظور يخل بإحرامه، خصوصاً ما نص الله عليه في سورة الحج من قوله: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30].


ومن الفسوق: الخصومات والفحش واللجاجة بمفهوم النص على ترك الجدال بقوله: ﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ وتنويع هذه المنهيات في الحج من الله بترتيب عجيب، فابتدأ بالرفث المفسد للحج حسبما فصله العلماء، ثم الفسوق الذي هو الخروج عن أي شيء من حدود الله في الإحرام، ثم الجدال الذي كان جارياً بين القبائل في الجاهلية من التنازع والتفاخر والتنابز بالألقاب، فما أجمل هذه التناسب بين الكلمات في هذه الآية الكريمة!!


والحكمة في النهي عن هذه الأشياء هي تعظيم حرمات الله، فإن المتلبس بالحج يكون أولاً في إحرام، ثم تزداد عليه الحرمة بدخوله في الحرم، ثم تزداد بمزاولته لأعمال الحج فيكون محفوفاً بعظيم الحرمات، فيجب عليه أن يكون على أحسن حالة وأكملها لحضوره مع الله في تلك الحرمات.


ولهذا ورد الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الله يباهي ملائكته بالحجاج كما سنذكره كاملاً، فعلى الحاج ألا يفرط في هذا الحظ العظيم ولهذا قال تعالى: ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ فإن في هذه الجملة التفاتة إلى الخطاب مشعرة بحذف تقديره: اتركوا هذه الأمور التي حرمتها عليكم في الحج، لتصفية نفوسكم من أدران المعاصي وتحليتها بالطاعة، فإن ما تفعلوه من خير يعلمه الله، ويزكي به نفوسكم فيجعل فيها الاستعداد لتحصيل المنافع في الحج، ولا يخفى عليه سبحانه خافية، ولا يضيع من أعمالكم شيئاً، بل يزيدكم على ثوابها توفيقاً لما يريده منكم، فاستبقوا الخيرات، وتنافسوا في الأعمال الصالحات في هذا الموسم العظيم، موسم الحج الذي تجتمعون فيه من جميع الآفاق، فإنه مدرسة إسلامية كبرى، كما أنه مؤتمر عالمي عظيم.


وقوله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا ﴾ أمر منه لعباده بالتزود الحسي والمعنوي، فأمرهم بهذه الآية بأن يتزودوا من الطعام ما يكفيهم في سفرهم حتى لا يكون أحد منهم عالة على غيره، ولا يعذب نفسه وهو في سفر طاعة، فهو منهي عن تجويع نفسه وتعذيبها في جميع الأزمنة والأمكنة والأحوال، فكيف في حال سفره إلى الحج وإقباله إلى رب متكفل برزقه، ضامن له أن يخلف عليه ما أنفق؟ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6]، وقال: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39].


وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا ﴾ أن الله أنزل هذه الآية ردعاً لأهل اليمن، لأنهم يتركون التزود للسفر، زاعمين أن هذا من مقتضيات التوكل على الله، فروى البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس أنه قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن متوكلون، ثم يقدمون فيسألون الناس. فنزلت هذه الآية. وعلى هذا فيكون المراد بالتقوى هنا: اتقاء الله بترك السؤال الذي فيه إذلال للحاج ببذل ماء وجهه، ولكن ظاهر الآية لا يقتضي أن النزول كان لهذا السبب، فهناك أحاديث كثيرة في المنع من السؤال، وفيها تحذير مخيف رادع لمن يسأل دون حاجة.


وهذه الآية معناها واضح الدلالة على عموم التزود الحسي كما أسلفناه، والتزود المعنوي من الأعمال الصالحة ببذل البر والمعروف والزيادة في أعمال الطاعات والقربات، كما يستفاد ذلك من التعليل في نفس الآية بقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ وهي التوقي من جميع ما يسخط الله باجتناب المنهيات، والتزود من فعل الطاعات على اختلافها إذ لا يصح تعليل التقوى بأنها خير زاد إلا بمعنى التزود من جميع مقتضيات التقوى. ولا شك أن التقوى هي الزاد الصحيح الذي يحصل صاحبه على السعادتين في الدنيا والآخرة.


فالتقوى زاد معنوي إذا اجتهد المسلم في تحصيله فاز بتحصيل الزاد الحسي من سعة الرزق وتيسير الأمور وتفريج الكربات، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4]، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5].


وقد أكثر الله في آيات الحج على قلتها من وصيته لعباده بالتقوى، لأنه يحصل في الحج من أسباب التقوى ما لا يحصل لغيره، وذلك مع الوعي الصحيح لحقيقة الحج ومغزاه، ولهذا نجد الله يخاطب الواعين بقوله: ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ يعني: يا من له لب وعقل يفكر به فليستنر بعقله في تلك المشاعر العظيمة ليستفيد منها تقوى الله. يا من تجرد عن لبس المخيط، استعمل عقلك: هل ينفعك تجردك ما لم تتجرد عن شهواتك ومطامعك المغضبة لله؟ هل ينفعك التجرد عن المخيط وأنت لم تتجرد عن محبوباتك المخالفة لمحبوبات الله؟ هل ينفعك الطواف ببيت الله وأنت غير مطيع لله؟ هل ينفعك الطواف ببيت الله وأنت متلبس بمعصية الله غير متق لله؟ هل ينفعك الطواف وأنت مستصحب أهلك بملابسهم القصيرة وأزيائهم الفاتنة، هذا من أعظم معاصي الله؟


ماذا انتفعت بالحج وأنت على هذه الحال؟ وكيف تلتزم الملتزم لتسأل الله من فضله وأنت لم تكن تلتزم طاعته وتنفيذ شريعته؟ بل كيف يرجو قبول طوافه من يستصحب امرأة متبرجة تفتن من رآها سواء كانت زوجتك أو قريبتك؟ وماذا تنتفع برؤية مقام إبراهيم وأنت لم تقتد به في الولاء والبراء والفداء والتضحية؟ إن الذي يرى مقام إبراهيم وما دلل الله من الصخرة بسبب تحقيقه للتوحيد يجب عليه أن يتبع ملته في البراءة من الكفار وعداوتهم ولو كانوا أقرب قريب، امتثالاً لقول الله في الآية والخامسة من سورة (الممتحنة) وأن يفضل ما يحبه الله ويقدمه على محبوبات نفسه وأعز عزيز عليه كما فعل إبراهيم عليه السلام بإخراجه أحب حبيب إليه وأعز عزيز لديه من جنان الشام وجوها اللطيف ليضعهم فيما أمره الله بواد غير ذي زرع، ممحلة أرضه، حرور جوه، غير مبال بعاطفته في سبيل مراد ربه.


ينبغي للحاج أن ينطبع بالاقتداء بأبيه إبراهيم عليه السلام حينما يرى آثاره، فيحقق الملة الحنيفية التي هي الولاء في الله والبراء في الله والحب في الله والبغض في الله، والتضحية بمرادات النفس ومحبوباتها في سبيل مراد الله ومحبوبه، ليكون متبعاً لملة إبراهيم حنيفاً. وإلا فماذا استفاد من حجه؟ إنه لم يستفد ولم ينتفع لنقص تفكيره، فهذا النوع ليسوا من أولي الألباب الذين خصهم الله بالخطاب في أمره بالتقوى، وكذلك أولو الألباب إذا شربوا من زمزم، ثم سعوا بين الصفا والمروة، تذكروا ما حصل لأم إسماعيل التي هي أم لأكثر العرب والمسلمين، من عمل السبب المرضي لله بصعودها على الصفا لالتماس المسعف ونزولها، وسعيها إلى المروة لهذا الغرض، مستمطرة رحمة الله، غير متواكلة مضطجعة حول طفلها تنتظر الموت، كشأن السفهاء اليائسين القانطين، بل سعت لطلب الرزق والغوث من قوة توكلها على الله، وطلبها لمدده، ورفضها للتواكل المذموم، ثم يتذكرون مدد الله لها وإسعافه العظيم بإنباع هذا الماء الذي هو معجزة خالدة لا تزال ملايين البشر تشرب منه منذ زمن طويل، وتتوضأ وتغتسل وتتزود منه إلى بلادها، لم ينضب ولم ينقص، ثم هو ري وغذاء يكفي من اقتصر عليه عن الطعام، كما ورد في حديث أبي ذر الغفاري وكما هو مجرب، وقد أشاع الفجرة حوله إشاعات عديمة الصحة، كذبها الفحص الطبي والحمد لله.


فالحاج اللبيب إذا استعمل عقله يكتسب من هذه القصة فوائد:

أحدها: أن الله سبحانه لم يضيع ذرية إبراهيم عليه السلام الذين تركهم في هذا الموضع الموحش الخالي من أي ماء وغذاء استجابة لأمره، فهكذا لا يضيع ذرية المسلم إذا تركهم سائراً في دعوة الله أو غازياً في سبيله، بل يلطف بهم كما لطف بذرية أبيه إبراهيم، فإن لطف الله ليس موقوفاً عليهم، بل يشمل كل محسن كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56ٍ].


ثانيها: يعرف أن من سنة الله الكونية عدم الاعتماد على القدر وأن تقدير القدر الأزلي لا يقضي بترك الأسباب والعمل بل يوجهها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له))[1].


فأم إسماعيل مع قوة توكلها على الله لم تترك الأسباب، بل عملت على التماس المسعف لها، وأخذت تصوب النظر ذات اليمين والشمال تارة على الصفا وتارة على المروة، وهي القائلة لإبراهيم بعد تساؤلها المتكرر عن وضعهم في هذا المكان وعدم إجابته لها: ((آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا))[2].


فالمؤمنون بالله من قديم الزمان لم يعرفوا الجبر ولا الاتكالية من عقيدة القدر كما يزعمه الملاحدة في هذا الزمان، وإنما فهموا العمل ومعالجة القدر بالقدر الثاني كما فصلناه سابقاً.


ثالثها: يعرف أن الفرج يأتي عند الكرب وأن مع العسر يسراً وذلك من حسن تربية الله لعباده حتى لا يسيئوا فهم التوكل وفهم القدر، فينكلوا عن العمل، بل يواصلوا العمل ويجدوا في طلب الإغاثة الحسية والمعنوية حتى يأتيهم الفرج والنصر والمدد.


فليس سعي المسلمين بين الصفا والمروة مجرد ذكرى لحادثة تاريخية، وإنما هو حكم شرعي قديم من ملة أبينا إبراهيم عليه السلام تلك الملة الحنيفية التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -. فيجب على الساعي بينهما أن يقصد بسعيه عبادة الله امتثالاً لقوله: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [158] فإن الدين العام يتعلق بقصد القلب، ثم لابد من عمل بدني يتم به القصد ويكمل، ولكنه يستشعر الحكمة أو ما عرف من بعضها؛ ليحصل له التأثر في نواحي سلوكه فيكتسب من سعيه النشاط في أعماله الدينية والدنيوية بلا كلل ولا فتور، متطلعاً إلى لطف الله ورحمته، واثقاً به، معتمداً عليه، قائماً بحقيقة التوكل الذي قامت به أم إسماعيل، معالجاً أقدار الله بأقداره الأخرى كما عالجتها أم إسماعيل، مميزاً بين حقيقة التوكل الذي قامت به أمه، وبين طريقة اليأس والقنوط التي رفضتها من الأساس كما قدمنا ذلك.


وليكن الحاج في وقوفه بعرفة مستشعراً للموقف العظيم يوم القيامة الذي يجتمع فيه الناس على حالة واحدة في مستوى واحد، ومعتبراً بموقف إخوانه المسلمين الذين اجتمعوا من كل جنس ومن كل ناحية لمقصد واحد هو قصد وجه رب العالمين، يسألونه الرحمة وغفران الذنوب، وينظر فيه إلى حقيقة المساواة في هذا الدين الإسلامي الذي لا يتميز في إقامة شعائره أحد على أحد مهما اختلفت شخصياتهم، فإن في هذا رمزاً عظيماً للوحدة وللمساواة العامة في كل شيء، تلك المساواة التي لم تحظ بها البشرية، ولن تحظى بها أبداً في غير الإسلام من مذاهب الدجاجلة والمغرضين.


وأما طواف الحجاج حول الكعبة البيت الحرام فهو تشبه بالملائكة الحافين بعرش الله، الطائفين به، المسبحين حوله، لا يفترون، وفي هذا من سمو الروح ما لا يصفه الواصفون، ومن مراقبة الله وسد الجوعة الروحية في المسلم إلى ربه المنعم ما لا يقدر أحد قدره، فكل من يعترف بعرش الرحمن في السماء وما يحصل حوله من عبادة الملائكة لا يستنكر وجود بيت لله في الأرض، تهفو إليه أفئدة المؤمنين، وتنتعش أرواحهم بالطواف حوله، وألسنتهم تلهج بضراعة الدعاء على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم، وكل من لم يعترف بقرارة نفسه بالعرش الإلهي السماوي فإنه لا يعترف ببيت الله في الأرض، ولا يهضم ما يفعله المسلمون حوله مما شرعه الله.


فالقضية قضية إيمان وإلحاد، قضية أغراض في النفوس ضد الإسلام فقط، وقضية تشكيك وتبشير باللادينية، وما يزعمه المستشرقون والمبشرون من أن الحج وتقديس الحجر الأسود أعمال الجاهلية إفك صراح يكذبه الواقع الجاهلي، لأن الجاهلية تقدس الأصنام المجلوبة إليها من الشام بمكر يهودي دقيق على يد (عمرو بن لحي الخزاعي). ولم تحظ الكعبة ولا بواحد من المائة مما يحظى به أصنامهم، ولم يكونوا يعبدون الحجر الأسود ولا يقدسونه، وإنما عندهم احترام للبيت وللأشهر الحرم التي جعلها الله في ملة إبراهيم عليه السلام شهور أمن لذهاب الحجاج وإيابهم، وتقديساً للحرم الذي جعل الله من دخله كان آمناً فكان احترامهم للأمن في الحرم والأشهر الحرم مما ترسب عندهم من ملة إبراهيم عليه السلام التي كانوا عليها كما قدمناه في كونهم مسلمين قبل أن يكونوا عرباً.


وقد انصبغ بعض المحسوبين على الإسلام بدعاية المستشرقين والمبشرين الماكرين الذين يلبسون للناس مختلف الأثواب، فزعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لما كسر الأصنام اضطر إلى قبول كثير من طقوسهم التي لا تختلف في الحقيقة كثيراً عن عبادة الأصنام مثل التمسح بالحجر الأسود ورجم الشيطان، وأنه لم يشأ أن يصدمهم دفعة واحدة، وهم الذين اعتادوا تقديس الحجارة، فحطم الأصنام في الكعبة وأبقى على الحجر الأسود الذي ظل الناس بعده يقبلونه.


وهذا الكلام لا ينطق به إلا من انحدروا في هاوية التقليد القردي، ولم يحترموا أنفسهم ولم يقدروا عقولهم، بل رضوا بمصادرتها من أعداء الإسلام، وإلا فلو رجعوا إلى عقولهم أدنى رجوع لعرفوا الفرق العظيم بين الأصنام والحجر الأسود من عدة وجوه:

أحدها: أن العرب الجاهليين لم يعبدوا الحجر الأسود وليس عندهم له قداسة.


ثانيها: أن عبادتهم للأصنام ليس لذاتها، وإنما هي تماثيل لرجال صالحين زين لهم الشيطان تصوير تماثيلهم ليقتدوا بهم بادئ الأمر، فلما هلك الجيل الأول نقل الشيطان الجيل الثاني إلى عبادتهم، زاعماً أنهم يتقربون إلى الله زلفى، وأن آبائهم صوروهم لهذا الغرض، هكذا أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح عن سبب عبادة الأصنام، فعبادتهم للأصنام تعطي معنى لا يوجد في الحجر الأسود.


ثالثها: أن الحجر الأسود ليس منفصلاً عن الكعبة وإنما هو جزء منها كحجر زاوية وكعلم لمبتدأ الطواف ومنتهاه، فمن قاس تقبيله على تقديس الأصنام فليقس تقديس الكعبة والطواف بها على الأصنام، وقد قال بعض المستشرقين وأفراخهم بذلك حتى زعم بعضهم أنه أول صنم عبد في الأرض، ولكن بعض أفراخهم من المحسوبين على الإسلام لا يجرؤ على تناول الكعبة بشيء من ذلك، بل يقتصر على الحجر الأسود غشاً ومكراً، لأنه يعلم أن الذي ينصاع إلى قوله في ذلك سيئول أمره إلى الكلام في الكعبة، فالمسألة أمرها عميق وغشها فظيع دقيق.


رابعها: أن المسلمين لم يعتقدوا في الحجر الأسود ما يعتقده المشركون في الأصنام، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شأنه: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، فتقبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة وعموم المسلمين للحجر الأسود ليس فيه مشابهة لعبادة الأصنام، بل ولا التقاء معهم، لأن هؤلاء يبتغون منهم الشفاعة والزلفى، ويرجونهم ويخافونهم جداً، بخلاف المسلمين فإن تقبيلهم للحجر خالٍ من اعتقاد التأثير ومن جميع ذلك.


خامسها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من سيرته وطريقته التدرج في العقيدة، بل عكس ذلك طريقته الصرامة التامة فيها، وحادثة صنم أهل الطائف (اللات) مشهورة، حيث طلبوا منه إمهالهم شهراً، فلم يمهلهم ولا ساعة، وكان قد ربى أمته على ذلك بحيث كان الرجل إذا أسلم خلع على عتبة إسلامه جميع أحوال الجاهلية، وصرامة النبي - صلى الله عليه وسلم - معروفة، وقد هدم مسجد ضرار وأحرقه بكل سرعة وبدون مبالاة بملابسات القضية، لأن رسالته العظمى توجب عليه أن يكون مسيراً لا مسايراً وصريحاً لا مداهناً، وقوياً صارماً، لا خائناً محابياً، ولكن المنهزمين هزيمة عقلية بتقبلهم كلام أولئك قد طعنوا في شخصية الرسول - صلى الله عليه سلم - حيث وصموه بالمداهنة والمجاراة، كأنه سياسي مخادع مراوغ، بينما أصحاب العقيدة لا يقبلون الحلول ولا أنصاف الحلول حتى من ذوي السياسة العصرية، فكيف بحامل الدين والرسالة السماوية خاتم النبيين يوصم بما لا يجوز أن يوصم به أهل المذاهب المادية الأرضية؟ فلهذا تطرقت لرد إفك هؤلاء باختصار في هذه المناسبة، ومن ذاق طعم الإيمان بصدق محبته لله وتفضيلها على كل شيء لم يسترب في أمر الطواف واستلام الحجر قطعاً.


والحج من أعظم المشاهد والمؤتمرات العالمية التي يزدوج فيه الدنيا والدين كما قدمنا ذلك، ولهذا فإن خصوم الإسلام يحسدون المسلمين عليه، فيصمونه بالوصمات الفاجرة؛ تنقيصاً لشأنه وللإسلام الذي شرعه، ويجدون من المتفرجين الذين كسبتهم الماسونية كسباً رخيصاً من يتقبل تلك الوصمات البعيدة عن الحقيقة. وقد ذكرت في غير موضع أن الحج ليس من أعمال الجاهلية، بمعنى أنه ليس منبثقاً منها، وإنما هو من ملة إبراهيم عليه السلام إمام المسلمين وأبي الأنبياء باني البيت الذي قال الله تعالى فيه: ﴿ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا ﴾ [آل عمران: 96، 97].


وإن العرب لما كانوا في الأصل القديم مسلمين ثم كانوا على ملة إبراهيم، صاروا يحجون البيت وينسكون النسائك ويقتبسون الأخلاق المنقطعة النظير من ملة إبراهيم عليه السلام، فقيامهم بأعمال الحج ناشئ من ملة إبراهيم عليه السلام، وليس فيه شيء من وثنيتهم سوى ما أحدث لهم الشيطان من التغييرات فيه التي أزالها الإسلام وأعادها إلى ملتها الأولى، كطوافهم بالبيت عراة من الثياب التي تلبسوا فيها بمعصية الله.


وقد أنصف المسلمين في الحج (فيليب حتى) حيث قال في تاريخه المشهور: "ولا يزال الحج على مر العصور نظاماً لا يبارى في تشديد عرى التفاهم الإسلامي والتأليف بين مختلف طبقات المسلمين، وبفضله يتسنى لكل مسلم أن يكون رحالة مرة في حياته على الأقل، وأن يجتمع مع غيره من المؤمنين اجتماعاً أخوياً ويوحد شعوره مع شعور سواه من القادمين من أطراف الأرض، وبفضل هذا النظام يتيسر للزنوج والبربر والصينيين والفرس والترك والعرب وغيرهم، أغنياء كانوا أم فقراء، عظماء أم صعاليك، أن يتآلفوا لغة وإيماناً وعقيدة، وقد أدرك الإسلام نجاحاً لم يتفق لدين آخر من أديان العالم في القضاء على فوارق الجنس واللون والقومية خاصة بين أبنائه، فهو لا يعترف بتفاضل بين أفراد البشر إلا الذي يقوم بين المؤمنين وبين غير المؤمنين، يعني: من تقوى الله، ولا شك أن الاجتماع في مواسم الحج أدى خدمة كبرى في هذا السبيل". انتهى كلامه الموفق في الحج للصواب، مع أنه له زلقات فظيعة في تاريخه، جره الحقد إليها أو التقليد لغيره، خصوصاً في تعليله للغزوات والأحكام وغيرها مما هو خطير توجب على أنفسنا تحذير القارئ منه بمناسبة ما نقلناه عنه هنا حتى لا يحصل الاغترار.


وأقول: إن ما قاله عما أداه الحج من خدمات للمسلمين سيتضاعف إن شاء الله مع حصول الوعي وارتفاع الكوابيس الحسية والمعنوية عن المسلمين، وتخلصهم من مخلفات الاستعمار من الغزو الفكري والمنتفعين من تركته وتوزيعه وتنفيذه.


وأعود الآن إلى أولي الألباب الذي خصهم الله بالنداء لتقواه في الحج، فأقول: على ذوي الألباب أن يأخذوا عبرة عظيمة للتزود من التقوى في حكمة الذبح ورمي الجمرات في (منى)، وذلك بالنظر إلى أصل التشريع الإلهي ومنشأه العظيم ومكانته المهمة في الدين، إذ لا بد من معرفة سببه، وهو أنه لما كان لباب الدين صدق محبة الله الذي لا يحصل إلا بتقديم مراد الله ومحبوباته على مرادات النفس الإنسانية ومحبوباتها، ابتلى الله أبانا إبراهيم عليه السلام بالامتحان الثالث، فأمره بذبح ولده، وهذا بلاء مبين، لأن أحب محبوب وأعز مطلوب وأغلى مرغوب عند الإنسان هو ابنه الوحيد الذي ليس له سواه، والذي رزقه الله إياه عند الشيخوخة، فهنا تظهر حقيقة الامتحان والنجاح فيه أو السقوط، فإبراهيم عليه السلام علم المسلمين تعليماً علمياً رائعاً للصدق الحقيقي مع الله بأن يفضلوا مراد الله ومحبوباته على مرادات أنفسهم ومحبوباته الغالية، فإنه عليه السلام بادر إلى التنفيذ دون مبالاة بالعواطف النفسية، ونجح في هذا الامتحان، فرحمه الله وشل حركة السكين عن حلق ابنه، وفداه بذبح عظيم، وجعلها سنة مؤكدة باقية في المسلمين إلى يوم القيامة، ليعاملوا الله معاملة المحب لحبيبه، فيضحوا بمرادات أنفسهم ومحبوباته في سبيل مراد الله ومحبوبه، فإذا عرف الحجاج هذا المقصود الإلهي، والحكمة العظيمة من تشريع الهدي والأضاحي، وأدركوا هذا السر العظيم، عادوا يحملون لباب الدين الصحيح الذي يجعلهم لا يتوانون في تنفيذ شيء من أمر الله، لا تمنعهم لذة النوم وشهوة الفراش عن المبادرة إلى صلاة الفجر تفضيلاً لمحبوب الله على محبوب أنفسهم، ولا يمنعهم الطمع في المادة والجشع في الربح عن ترك الغش والغبن والتطفيف وأخذ الربا وإنفاق السلع بالأيمان الكاذبة، بل يتركون جميع هذا تفضيلاً لما يحبه الله من الصدق على ما تحبه نفوسهم من الطمع، ولا يمنعهم حب الشهوة والطمع في اللذة عن غض البصر والتزام العفة بحفظ فروجهم، تفضيلاً وتقديماً لما يحبه الله من ذلك على ما تحبه نفوسهم وتشتهيه، ولا يمنعهم الشح وحب الحياة عن الإنفاق في سبيل الله، والجهاد بأنفسهم وأموالهم، تقديماً لما يريد الله منهم على ما تريده أنفسهم الأمارة بالسوء، وهكذا يستفيد أولو الألباب من شعائر حجهم ما يتزودون به على التقوى.


وأما في رميهم الجمار فينظرون ويعرفون أنهم لا يرمون الشيطان، وليس الشيطان بواقف لهم يرجمونه، وإنما يرجمون المواقف التي وقف بها الشيطان لأبيهم إبراهيم عليه السلام، فرجمه فيها، فهم يرجمونها لا لمجرد التكرار، ولكن للاعتبار والانتفاع، إذ يجب عليهم أن يتأملوا كيف عرف أبوهم إبراهيم عليه السلام أن الذي وقف له شيطان، والشيطان لا يرى بصورته، وإنما وقف له بصورة رجل وقور يتساءل معه عما في يده من الحبل والسكين الذي سيذبح بها الولد ويناشده الرحمة والحنان، فلما سمع منه تلك الفتنة التي يريد صده عن تنفيذ أمر الله، عرف أنه شيطان قد تصور بهذه الصورة لغرض الإغواء، فرجمه بسبع حصيات تخسئة له، ولكن الخبيث لم ييأس، فوقف له موقفاً آخر بشكل آخر وزي آخر وخاطبه بفتنة أخرى، فعرف أنه شيطان متمثل لفتنته، فرجمه حتى ولى، ولكنه لم ييأس من محاولة فتنته، فوقف له وقفة ثالثة بشكل آخر وزي آخر محاولاً فتنته بأسلوب آخر، ولكن إبراهيم عليه السلام لم يتأثر إلا بزيادة معرفته وزيادة صلابته معه، قائلاً له ما معناه: يا هذا، مهما تشكلت أو اختلف منطقك فأنت (أزب العقبة) - أي: شيطان العقبة - الذي وقفت لي أول مرة في العقبة، وليس عندي لك إلا الرجم، فرجمه الثالثة حتى خسأه ويأسه وخيب ظنه.


فأولو الألباب من الحجاج يعتبرون بهذا الرجم لمواقف الشيطان، ويأخذون من ذلك دروساً وعبراً؛ ليعاملوا كل شيطان من شياطين الجن والإنس بالرجم المعنوي الذي هو لعنه وبغضه وعصيانه والابتعاد عنه، فيعرفون كما عرف أبوهم إبراهيم عليه السلام أن كل من يحاول صدهم عن أمر الله أو فتنتهم عن دين الله أو إشغالهم عن ذكر الله بأي أسلوب من أساليب الدعاية والنشر فهو شيطان، سواء كان صحفياً أو مذيعاً أو قصصياً أو كاتباً أو شاعراً أو غير ذلك، فيرجموه ببغضه ورفض ما يبثه أو ينشره عليهم، وهذا من بعض فوائد الحج.


ثم إن في الحج كمال الخضوع والانقياد لله، بل فيه تجديد للعهد من الحاج لربه أن يلتزم أمره وأن يتلبب بحكمه (شعاره منذ إحرامه إلى تحلله الأول برمي جمرة العقبة والحلق: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك") يعني أنا منقاد لأمرك، متوجه حيث وجهتني، ومتلبب بحكمك لبباً معنوياً لا حسياً، لأنه مأخوذ من لبب الدابة الذي يخضعها لتحمل الركوب والحمولة، فالحاج يكرر التلبية من صميم القلب، كتكرير عهود لله أنه خاضع لتحمل ما حمله الله به من أمانات التكاليف الإسلامية جميعها وأمانة حمل الرسالة، والزحف المقدس بالدعوة عن طاعة واستسلام دون إكراه أو تطويق، كالدابة الملببة بغير طوعها ورغبتها، بل هو متلبب من تلقاء نفسه عن حب وتعظيم.


فهذا الشعار الديني الجليل أعظم من الشعارات الجندية المهيجة، لأن به إلقاء من المسلم الحاج بقيادته إلى الله، وتحطيماً لجميع ما تحمل نفسه من الأنانية، وإفناء لشخصيته السابقة، وتجديداً لشخصية منخلعة عن جميع ماضيها المشوب بشتى الملابسات باستئناف حياة نظيفة شريفة مقاطعة لجميع نزغات الشياطين، حياة جديدة في تفكيرها وجميع مقاصدها وأفعالها.


فمشروعية التلبية طيلة أعمال الحج لترهف شعور الحاج بأنه منذ فارق أهله وبلده إلى الحج فهو مقبل على الله سبحانه، قاصد له، فيتجرد عن عاداته ونعيمه وينسلخ من مفاخره ومميزاته، بحيث يساوي الغني الفقير، ويماثل الصعلوك الأمير والوزير، ويكون جميع الحجاج من جميع الطبقات في زيّ كزيّ الأموات، فإن في ذلك من تصفية النفس وتهذيبها ما هو إشعار كامل بحقيقة العبودية لله وحده والأخوة لجميع المسلمين بشكل لا يقدر قدره.


ولهذا جاء في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه))[3]. وهذا لأن الإقبال على الله تعالى بتلك الهيئة والانكسار والتقلب في تلك المناسبات وفق الأمر المشروع، يمحو من النفوس ظلمة الذنوب وآثارها السيئة، ويدخلها في حياة جديدة بشخصية جديدة، فإذا أولو الألباب واصلوا صدقهم مع الله بعد الحج بتلبيتهم لجميع أوامره، وانطبعوا بذكره وتكبيره، ولم يدنسوا صحائفهم الجديدة بطاعة الشيطان والهوى، وسيطرت عليهم عبودية الله في جميع نواحي سلوكهم وحياتهم يصنعون حضارة إنسانية كاملة على ضوء الإسلام، وينيرون الطريق لتحرر الإنسانية تحرراً صحيحاً من الإرهابات والضغوط، لأن الناس لا يتقبلون الدعوة إلى عقيدة خصوصاً في هذا الزمان حتى يروا مصداقها الواقعي متمثلاً في حياة أهلها بالمشاهدة.


ولهذا أجرى الله حكمته في تنوع العبادات ليربى المسلمين تربية مثالية تجعل من أهلها قدوة صالحة تنجذب إليهم بسببها أغلبية البشرية المتطلعة إلى التحرر الصحيح والحضارة الحقيقة. وهذان لا يحصلان أبداً في مجتمع يخضع بعضه أو أغلبيته لضغوط أفراد ومطالبهم وتشريعاتهم النابعة من أهوائهم والخادمة لأغراضهم والمقدسة الحامية لأشخاصهم فقط، فإن هذا مجتمع متخلف مستعبد، لأن بعضه أرباب وغالبيته عبيد، فهم مهما حاولوا قلب الحقيقة بدعوى التقدمية والتحرر فإنها تقدمية إلى العذاب العاجل في الدنيا من البؤس والشقاء والتنكيل وفساد الأعراض وإهدار الكرامة، إنها تقدمية نحو البهيمية بل البهيمية أفضل، وإنه تحرير من الإنسانية وانسلاخ عنها، وإنما يحصل التحرر الصحيح والتطور النافع والتقدمية الحضارية الصحيحة باطراح هذه الجاهليات الجديدة التي هي أفظع وأشنع وأسفل من الجاهلية الأولى التي حاربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وواصل أصحابه من بعده محاربتها وأقاموا الحضارة الإسلامية المعروفة التي لا ترى في الدنيا كلها من خير إلى وهو من بقاياها وآثارها، وحرروا أكثر العالم من رق الطواغيت السياسيين والروحانيين، فإن الجاهلية مهما تنوعت أسماؤها وزخرفت ألقابها وطبل لها المطبلون وزمروا، فكلها ترجع إلى معنى واحد وقاعدة خبيثة لئيمة هي إقامة الفكر البشري إلهاً على الناس من دون الله، يبرز باسمه من لا يرجع إلى الله في أي شأن من شئون الحياة، بل قد يبرز الفكر أقزاماً يستهترون بمقدرات الناس.


فمشروعية الله للحج وغيره من عبادات الإسلام المتنوعة هي تحرير لعقل الإنسان من الأوهام والأضاليل التي علقت به من مكر الدجاجلة والطواغيت، وتطهير لقلب الإنسان وتصفية له من محبة غير الله والتعلق بغير الله، وتخليص له من وشائج الأرض والطين، وعصبية الجنس المفرقة بين البشرية.


ولهذا تجد جميع آيات الأحكام مختومة بالوصية بتقوى الله أو بما يقتضي التخويف من الله ومهماتها يوجه الله بها نداءه إلى ذوي العقول والألباب، كهذه الآية التي أطلت الكلام عليها ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾.


وفي تخصيص الله نداءه بالتقوى لأولي الألباب تعريض بأن من لم يتق الله فليس له لب ولا عقل فطري استقلالي وإنما عقله مؤتشب أو مصادر بدعايات الأباطيل المتنوعة. وقد سبق الكلام على قوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [171] فهم فقدوا العقل الروحي الذي يتحقق لهم بوجوده حسن المصير في الدنيا والآخرة، ويكتسبون به الحياة الطيبة، وتتوفر به طاقاتهم ويحصلون به على الأمن والطمأنينة، وإن كان لهم أذهان يستطيعون بها الإبداع في الصناعات والمخترعات، ويستطيعون بها على المكر والعهر السياسي المتقلب الذي لا يحصدون منه سوى الشرور، لأنه عقل مادي يشبه ما تحمله بعض الحيوانات من العمل لصالح حياتها المادية.



[1] أخرجه البخاري، كتاب: التفسير، باب: ﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ [4949]، ومسلم [2647ٍ].

[2] أخرجه البخاري، كتاب: الأنبياء، باب: يزفون النسلان في المشي، [3364].

[3]أخرجه البخاري، كتاب: الحج، باب: فضل الحج المبرور، [1521]، ومسلم: [1335].





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير سورة البقرة .. الآية (193)
  • تفسير سورة البقرة .. الآية (194)
  • تفسير سورة البقرة .. الآية (195)
  • تفسير سورة البقرة .. الآية (196)
  • تفسير سورة البقرة .. الآية (198)
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 199: 202 )
  • تفسير سورة البقرة .. الآية (203)

مختارات من الشبكة

  • الفتوحات الربانية في تفسير الآيات القرآنية: تفسير الآيتين (6-7) من سورة البقرة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (135 - 152) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (102 - 134) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (65 - 101) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (1 - 40) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (40 - 64) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الفتوحات الربانية في تفسير الآيات القرآنية: سورة البقرة الآيات (1-5)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مخطوطة تفسير بعض من سورة البقرة ثم تفسير سورة يس(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مقدمة بين يدي تفسير سورة البقرة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تيسير الوصول في تفسير آمن الرسول: الآية (285 - 286) من سورة البقرة (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب