عشرة النساء (4)

برنامج فقه الأسرة

الحلقة الثامنة والعشرون

(عشرة النساء 4)

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعدُ:

فمستمعيَّ الكرام، السَّلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته، ومرحبًا بكم في حلقةٍ جديدة من حلقات برنامجكم "فقه الأسرة"، وفيها وفي حلقاتٍ تَلِيها نُواصل الحديث - بإذن الله تعالى - عن أحكام العشرة بين الزوجين، وسبَق ذِكر ستِّ مسائل، وقد كان الحديث في المسألة السادسة عن إباحة الاستِمتاع بين الزوجين، وأنَّه من أعظم مقاصد الشريعة الإسلاميَّة في النكاح، وأنَّ الشرع المطهَّر يسمو بهذه العلاقة الجسديَّة بين الزوجين ويرفعها من كَوْنِها عادةً مُباحة إلى عِبادة يُثاب عليها المسلم؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وفي بُضْعِ أحدكم صدقةٌ))، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوته ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: ((أرأيتُم لو وضَعَها في حَرامٍ أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضَعَها في الحلال كان له أجرٌ))؛ رواه مسلم.

وقد وردت النُّصوص الشرعيَّة مُوجِبةً لحقِّ الزوجين في الاستِمتاع، وسبق في المسألة السابقة بيانُ حقِّ الزوج في الاستمتاع، وأنَّه يجبُ على الزوجة تلبيةُ طلب زوجها في هذا الشأن، ما لم يكن لها عُذْرٌ من تضرُّر في بدنها أو مالها.

وفي حلقتنا هذه أعرضُ لكم مستمعيَّ الكرام حقَّ الزوجة في الاستمتاع، وهي المسألة السابعة، سائلين الله تعالى الفقهَ في الدِّين والسداد في القول والعمل.

مستمعيَّ الكرام:

الناظر في الأدلَّة الشرعيَّة يتبيَّن له بجلاءٍ أنَّ للزوجة حقًّا في إعفافها؛ إذ إنَّ الاستِمتاع ليس حقًّا خاصًّا بالزوج، له طلبه أو الامتناع عنه متى شاء، فكما أنَّ لدى الزوج من الشَّهوة ما يدعوه إلى طلب المعاشرة، فكذلك الزوجة لها حاجةٌ في الاستمتاع؛ كي تُحصِّن نفسها وتغضَّ بصرها؛ ولذا يجبُ على الزوج أنْ يعفَّ زوجته بِمُعاشرتها بما يطيبُ نفسها ويعفُّها، ما لم يلحقه في ذلك ضررٌ أو تعطُّل عن مَعِيشة.

وقد ورَد في القُرآن الكريم حُكم مَن حلَف على ترْك وطء زوجته، وهو ما يُسمِّيه العلماء بالإيلاء، فإنه يُمهل أربعة أشهر، فإذا مضت الأشهُر الأربعة أُلزم بأنْ يطأ زوجتها أو يُطلِّقها منعًا للإضرار بها، وهو الإيلاء؛ قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 226، 227].

ومتى امتَنَعَ عن مُعاشَرة زوجته وتضرَّرت بذلك فإنَّ لها المطالبة بفسْخ نكاحها؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "وحُصول الضرر للزوجة بترْك الوطء مقتضٍ للفسخ بكلِّ حال، سواء كان بقَصْدٍ من الزوج أو بغير قصدٍ، ولو مع قُدرته أو عَجزه؛ كالنفقة وأولى"؛ أي: كما أنَّ للزوجة طلبَ الفسخ في حال امتِناع زوجها عن الإنْفاق عليها فإنَّ لها طلب الفسخ عند امتناعه عن معاشرتها؛ لما في ذلك من الضَّرر في حقِّها.

عن أبي جُحَيْفَةَ - رضِي الله عنه - قال: "آخَى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين سَلْمان وأبي الدَّرداء، فزار سلمان أبا الدَّرداء، فرأى أمَّ الدَّرداء متبذلة - أي: لابسة ثياب البذلة، وهي المهنة، والمراد: أنها تاركةٌ للبس ثياب الزينة - فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدَّرداء ليس له حاجةٌ في الدنيا، فجاء أبو الدَّرداء فصنع له طعامًا، فقال: كُلْ، قال: فإنِّي صائمٌ، قال: ما أنا بآكلٍ حتى تأكُل، قال: فأكل، فلمَّا كان الليل ذهَب أبو الدرداء يقومُ، قال: نَمْ، فنام، ثم ذهَب يقوم، فقال: نَمْ، فلمَّا كان من آخِر الليل قال سلمان: قُم الآن، فصلَّيا، فقال له سلمان: إنَّ لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حَقٍّ حقَّه، فأتى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فذكر ذلك له فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صَدَقَ سَلمان))؛ أخرَجَه البُخاري وغيره، وزاد الدارقطني: "فصُمْ وأفطِرْ، وصَلِّ ونَمْ، وائتِ أهلَك".

قال الإمام ابن حجر - رحمه الله تعالى - في شرح الحديث:

"وقد يُؤخَذ منه ثُبوت حقِّها في الوطء؛ لقوله: "ولأهلك عليك حقًّا" ثم قال: "وائت أهلك"، وقرَّرَه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ذلك.

إذا تقرَّر هذا مستمعيَّ الكرام، وأنَّ للزوجة حقًّا في إعفافها، فما مِقدار الواجب على الزوج في ذلك؟

والجواب عن ذلك أنَّ فيه رأيين للعلماء، فقد قِيل: يلزَمُه الوطء إنْ قدر عليه مرَّة كل أربعة أشهر إذا طلبت هي ذلك؛ لأنَّ الله تعالى قدَّر ذلك في أربعة أَشهر في حقِّ المولى، فكذلك في حق غيره، وقيل: إنَّه يجبُ عليه بقدر كفايتها، ما لم ينهكْ بدنه، أو يشغلْه عن مَعِيشة من غير تقدير مدَّة، وهو اختيارُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى - والله تعالى أعلم.

المسألة الثامنة: للمُعاشَرة الزوجيَّة أحكامٌ وآدابٌ منها:

1) أنَّه يحرُم وطءُ الزوجة حالَ الحيض والنِّفاس؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ [البقرة: 222]؛ أي: يطهُرنَ من الحيض ﴿ فإذا تطهرن ﴾؛ أي: اغتسلنَ ﴿ فأتوهن من حيث أمركم الله ﴾، ويُباح للزوج أنْ يستمتع بالحائض بما عدا الوطء في الفرج؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اصنَعُوا كلَّ شيءٍ إلا النِّكاح))؛ أي: الوطء في الفرج.

2) أنَّه يحرُم الوطء في الدبر، لقوله تعالى: ﴿ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ [البقرة: 223]، والدُّبر ليس محلاًّ للحرث.

ولأحاديث متعدِّدة وردَتْ في التحذير من ذلك، منها: أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله لا يستَحِي من الحق، لا تأتوا النساءَ في أعجازهنَّ))؛ [أخرجه الإمام أحمد والترمذي وحسَّنَه].

ولقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أتى حائضًا أو امرأةً في دُبرها أو كاهنًا فصدَّقَه بما يقول فقد كَفَرَ بما أُنزِلَ على محمد))؛ [أخرَجَه النسائي والترمذي وغيرهما، وحسَّنَه الترمذي وصحَّحه ابن راهويه].

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَلعونٌ مَن أتى امرأتَه في دُبرِها))؛ أخرجه أبو داود وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود".

يستحبُّ أنْ يسبق المعاشرة شيءٌ من المداعبة والملاعبة وألا يعجل حتى تُدرِك كفايتها من المعاشرة.

3) إذا أراد أنْ يُجامِع الرجل امرأتَه فإنَّ التسمية سُنَّةٌ مؤكدة عند الجِماع؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو أنَّ أحدكم إذا أراد أنْ يأتي أهلَه قال: بسم الله، اللهمَّ جنِّبنا الشيطان، وجنِّب الشيطان ما رزقتنا، فإنَّه إنْ قدر بينهما ولدٌ لم يضرَّه الشيطان أبدًا))؛ أخرجه البخاري ومسلم.

4) أنَّه يحرم أنْ يتحدَّث الزوجان أو أحدهما عمَّا يحصل بينهما من الاستِمتاع؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ من شَرِّ الناس منزلةً الرجل يُفضي إلى المرأة وتُفضي إليه، ثم يُصبِحُ يتحدَّث بما جرى بينهما))؛ رواه مسلمٌ عن أبي سعيدٍ الخدري - رضِي الله عنه.

نسأل الله تعالى بمنِّه وكرَمِه أنْ يرزُقنا السَّعادة في الدُّنيا والآخِرة، ونسأله - جلَّ جلالُه - أنْ يَهَبَ لنا من أزواجنا وذريَّاتنا قرَّة أعيُن، إنَّه سميع مجيب، وإلى لقاءٍ قادم - بإذْن الله تعالى - نكمل فيه ما يتعلَّق بالمعاشرة بين الزوجين وأهم أحكامها.

والحمدُ لله ربِّ العالمين