• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / علوم قرآن
علامة باركود

تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 101 : 103 )

تفسير سورة البقرة (30)
الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 24/5/2012 ميلادي - 3/7/1433 هجري

الزيارات: 81447

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير سورة البقرة

الآيات ( 101 : 103 )

 

وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [101].

 

في هذه الآية الكريمة بيان لحال جديدة من أحوال اليهود - عليهم لعائن الله – وهي أنهم لما جاءهم رسول من عند الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم ﴿مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ﴾ حيث كان معترفاً بنبوة موسى, وبالتوراة التي تلقاها من الله، هذا من جهة, ومن جهة أخرى، فإن التوراة بشرت بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم, فكان هذا تصديقاً للتوراة. لكنهم مع هذا كله وقفوا منه أبشع موقف وأقبحه, حيث نبذ فريق منهم كتاب الله الذي يفاخرون به, ويزعمون أنهم مكتفون بالهداية به, نبذوه وأعرضوا عنه بمثل ما يرمى به من وراء الظهر زهداً به, وعدم التفات إليه أو مبالاة.

 

وقد اعتبرهم الله نابذين لكل الكتاب، وخارجين عنه في الجملة, وهم لم ينبذوا إلا بضعه, وذلك لأن الكفر ببعضه, أو الجناية على بعضه بالتحريف, أو العمل ببعضه دون البعض الآخر, يعتبر في حكم الله نبذاً للجميع, وكفراً بالجميع, وطرحاً للجميع.

 

وقوله سبحانه: ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ تشبيه منه سبحانه لتركهم إياه بمن يلقي الشيء وراء ظهره, حتى لا يراه ولا يتذكره, وأما كون ترك الجزء منه كتركه بالكلية؛ فلأن ترك بعضه يذهب بحرمه الوحي من النفوس, ثم يجرئها على ترك الباقي, ولهذا كان قتل النفس الواحدة كقتل الناس جميعاً, فيما كتبه الله على بني إسرائيل, كما نصت عليه الآية (32) من سورة المائدة وقوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يعنى: أنهم بالغوا في ترك الكتاب وإهماله حتى صاروا كأنهم لا يعلمون.

 

وقوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [102].

 

يخبر الله سبحانه عن بني إسرائيل أنهم لما نبذوا كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لم يلتزموا الكتاب المنزل على موسى قبله, كما يتبجحون إفكاً وزوراً, بل نبذوا الجميع ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ يعنى: ما كانت تتلوه ﴿عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ أي في ملك سليمان, ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ عليه السلام, وحاشاه من الكفر ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ﴾ هم الذين ﴿كَفَرُوا﴾ وهم الذين يعلمون الناس السحر وينسبونه إلى سليمان زاعمين أنه لم يتسلط على الجن والطير والوحوش إلا بما يعلمه من السحر, منكرين ما وهبه الله من الكرامة والملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده. وهاهنا مسائل عظيمة:

أحدها: ما قاله السدي وغيره من أن الشياطين تصعد إلى السماء فيستمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره, فيبثونه على الكهنة ويخبرون به, فلما رأوا صدقه أخذوا يزيدون على الكلمة الواحدة سبعين كذبة, ليروجوا على الناس الأباطيل, فيلبسوا عليهم أمورهم, فحصل من ذلك خبط كثير وشعوذة, وأن نبي الله سليمان أخذ ما كتبوه من ذلك كله ودفنه مع ما كتبوه من أنواع السحر الأخرى تحت كرسيه, فلما مات عليه السلام دلهم عليه بعض الشياطين, وقال لهم: هذا الي كان سليمان يسيطر بواسطته على الناس, وقد أخبر الله سبحانه عن صعود الشياطين إلى السماء لاستراقهم السمع, وأنهم كانوا على هذه الطريقة حتى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فسلط الله عليهم الرجم بالشهب, وأما اليهود فإنهم مولعون بكل رذيلة, ولهذا كان السحر من طبيعتهم.

ثانيها: السحر معناه في عرف الشرع مختص بكل أمر يخفى سببه, ويتخيل على غير حقيقته, وعند العرب: كل ما لطف مأخذه, ودق وخفي, ويقولون: سَحره, وسحَّره, بمعنى: خدعه, وعلله, ويقولون: عين ساحرة, وعيون سواحر, وفي الحديث: ((إن من البيان لسحراً))[1]، فكل ما لطف مأخذه, ودق صنعه بحيث لا يعرفه غير أهله فهو سحر؛ لكونه خفي باطني, ولهذا يقال للخداع: ساحر؛ لخفاء الخداع ودقته, ومتى أطلق ولم يقيد فهو مذموم، وفاعله مذموم.

ثالثها: جزم كثير من الناس بأن السحر لا حقيقة له, وأنه مجرد تخييل وتمويه, وقد دللوا على رأيهم هذا بآيات قرآنية, كقوله تعالى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ [الأعراف: 116]، وكقوله: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ [طه: 66], ولكن الحق الذي لا مرية فيه هو أن السحر له حقيقة صحيحة ثابتة, وليس تأثيره في صحة الإنسان, بل في حياته, وكثيراً ما سقموا سقماً شديداً من المسحر, وتأثيره على القلب والبدن, وأحياناً على الأحاسيس, وأحياناً على بعض القوى, وأحياناً يصل تأثيره إلى الموت والهلاك المحتم, وكم شاهدنا وشاهد غيرنا من مات بسب السحر, حتى إن العلماء قالوا بوجوب القصاص على الساحر إذا بلغ سحره بالمسحور إلى الموت.

 

والسبب في إنكارهم لحقيقة السحر بالكلية هو كثرة الكذابين ممن يزاولون السحر وهم لا يحسنونه, بل يدعونه دعوى, وليس عندهم منه شيء سوى الشعوذة والأكاذيب, التي يلبسون بها على الناس, وهم عن السحر الحقيقي بمكان بعيد, ونحن نذكر الأقسام المشهورة من السحر الرائج على اختلافه, مما هو حقيقي وغير حقيقي , وهي ثمانية:

أحدها: سحر الكلدانيين, والكسدانيين, وهم الصابئة القدامى, عباد الكواكب, والذين يعتقدون تأثيرها في الكائنات, ويربطون سحرهم بها, وهم الذين أرسل الله إليهم خليله إبراهيم عليه السلام, وسحر هؤلاء من أنواع الشرك, لاعتقادهم التأثير فيما سوى الله.

ثانيها: سحر أصحاب الأوهام والقوى النفسية, ولا شك أن للنفوس والهمم أثاراً غير مختصة بمسألة معينة, وأن للتصورات مبادئ قريبة لحدوث الكيفيات في الأبدان, على ما جبلها الله سبحانه وتعالى, وقد قالوا إن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماء, كانت كأنها روح من الأرواح السماوية, فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم بإذن الله، أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بالملذات البدنية, فإنها لا تنصرف بغير بدنها أبداً.

ثالثها: سحر المستعينين بالجن, ولهم ضروب في تحضيرهم وتسخيرهم, قد يفسق صاحبها أو يكفر على حسب الوسيلة التي يستعملها لتحصيل ذلك.

رابعها: التخييلات والأخذ بالعيون, وذلك بجعل القوة الساحرة قد تبصر الشيء على خلاف ما هو عليه لوسائل يعملونها.

خامسها: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات على خطط هندسية مناسبة لها, ومنها الحركات العجيبة السريعة التي يعملها أهل الروم والهند, مما لا نطيل بذكره.

سادسها: الاستعانة بخواص الأدوية المبلدة كدماغ الحمار، أو المفترة والمسكرة المزيلة للعقل, وكالتفنن في استعمال الزئبق والمغناطيس, مما يحدث بهما من العجائب.

سابعها: سحر ينفث في العقد ويجعل في أمشاط وقحف وشعر ونحوه, ويوضع في مكان يحصل به مرض قلبي وبدني, حتى يكشف وينقض أو يموت صاحبه, فهذه سحر حقيقي, وفي مقابلته سحر وهمي ينشأ من الخوف وضعف القلب.

ثامنها: السعي بالتميمة والتضرب من وجوه خفيفة لطيفة, وذلك شائع في الناس.

 

وللسحرة طرق وضروب كثيرة, منها ما هو صحيح, ومنها ما هو تخييل وتزييف, ولهذا التبس على كثير من الناس حقيقة السحر حتى أنكروه, ولو لم يكن له حقيقة ولا تأثير لما كان بعض تناوله كفراً, ولما تعبدنا الله في كتابه الكريم بالاستعاذة من النفاثات في العقد، وذلك في سورة الفلق, لأن الاستعاذة من روح التوحيد, ولا يستعاذ بالله مما ليس له حقيقة, وكذلك الذي ليس له حقيقة لا يكون صاحبه كافراً يجب قتله، ولا يكون تعلمه كفراً، لكن لما كان للسحر حقيقة أخرى غير الشعوذة والتخيل, كان صاحبه كافراً واجب القتل, وكان المتعلم له كافراً كما سيأتي توضيحه, والله المستعان.

وهاهنا مسائل:

أحدها: أن الساحر يستطيع أن يطير في الهواء, على جريد أو غيره, كما هو معروف مشهور في كل زمان, يعرف فيه أناس من هذا النوع, وهذا بقدرة الله وتدبيره, فهو الذي أقدرهم ومكنهم, وكذلك يستطيع الساحر أن يقلب الحيوان إنساناً, وبالعكس, ولكن هذا أيضاً بقضاء الله وقدره, فهو الذي أقدرهم وسلطهم, وهذا معروف في بعض البلدان التي يحصل بها السحر الحقيقي, وأعاجيب السحر كثيرة مشهورة, وإن حصل من ينكرها من المكابرين, ولكن الله سبحانه في هذه الآية الكريمة ركز دعائم التوحيد بقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فهم لا يقدرون أبداً على ما لم يقدرهم الله عليه, ويسلطهم عليه لحكمة, ولهذا تجد الذي يبتلى بإضرار السحرة في الغالب هم الفاسقون, ذوو الأغراض الشهوانية الدنيئة.

ثانيها: هل يكفر الساحر على الإطلاق, أو لا يكفر إلا بانضمام اعتقاد آخر؟ ظاهر الآية تدل على كفره مطلقاً, لقوله سبحانه: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾, ولكن بما أن السحر أنواع كثيرة, وفيه من الشعوذة والتخييل، وفيه ما هو حقيقي, فينبغي التفريق بين الساحر الحقيقي فيكفر, وغيره لا يكفر, بل هو فاسق, وكذلك الساحر الذي يدعي لنفسه التأثير في الكائنات, فإنه يكفر بلا نزاع ولا خلاف.

ثالثها: هل يقتل الساحر أم لا؟ الصحيح أن الساحر الحقيقي إذا حصل منه الإضرار بأحد فإنه يقتل, سواء كان القتل حدّاً أو ردة, ولإمام المسلمين أو نائبه أن يقتل من حصل الافتتان به, ولو لم ينزل ضرراً يستحق القتل, إذا رأى أنه من المفسدين في الأرض, وكذلك يقتل الساحر وجوباً محتماً إذا ادعى لنفسه التأثير في الكائنات, ونحو ذلك من الدعاوى الباطلة, التي يحصل بها زعزعة عقائد العامة.

 

رابعها: أنكر بعض العلماء المتأخرين أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد سحره يهودي أو يهودية, وهذا الإنكار لا ينبغي صدوره؛ لاقتضائه إنكار واقعة محسوسة لا يجوز إنكارها, وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة بها, وأن جبريل عليه السلام نزل إليه فرقاه بالمعوذتين, وشبهة أولئك المنكرين لسحره أمران:

أحدهما: أن الله قد عصمه من الناس, فكيف يتسلط عليه ساحر!

ثانيهما: أن المعوذتين من السور المكية.

 

والجواب عن الأول: أن عصمة الله له من الناس لا تنفي حصول السحر، بل تنفي قوة تأثيره، وقد عصمه الله من تأثير السحر على جسمه أو عقله, لكن هؤلاء لم يتفطنوا لمعنى قوله: ((يخيل إلي أني قد فعلت الشيء ولم أفعله))[2] ، وهذا واضح في عدم نفوذ السحر إلى أحاسيسه, فأصبح تفكيره صحيحاً سليماً يعلم به فساد التخييل، وأنه لم يفعل شيئاً، فأصبح معصوماً من نفاذ السحر إلى عقله, وأما المعوذتين فلا ينافي رقية جبريل كونهما من السور المكية , والله أعلم.

 

خامسها: قوله سبحانه: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾, فيه رد على اليهود الخبثاء الذين نبذوا وحي الله وراء ظهورهم واتبعوا الشياطين في مسالك السحر وأنواعه التي ينسبونها إلى نبي الله سليمان, زاعمين أن ما حصل عليه من الملك والتسلط على الجن والطير والريح التي تطير به في الفضاء غدوها شهر ورواحها شهر, وإسالة الحديد له, كله من السحر الذي تفوق به واحتكره عن غيره, ففي هذه الجملة من الآية فائدتان:

أحدهما: تبرئة ساحة سليمان من السحر الذي نسبه اليهود إليه زوراً, وبيان أنه نبي معصوم من الكفر؛ لأن السحر الذي يصل إلى هذا الحد لا شك في كفر صاحبه, ولكن الله وهب لسليمان هذه المواهب كمعجزات باهرات قاهرات.

 

ثانيهما: أن ظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لأنهم كانوا يعلمون الناس السحر؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلة, وتعليم ما لا يكون كفراً لا يوجب الكفر, فصارت الآية دالة على أن تعليم السحر كفر, وعلى أن السحر الحقيقي أيضاً كفر, أما أنواعه الأخرى فليست كفراً، بل فسقاً حتى ينضم إليها دعاوى تُخِل بالعقيدة كما أسلفنا بيانه.

 

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ فيه وجهان:

أحدهما: أن (ما) بمعنى الذي, وللمفسرين فيها ثلاثة أقوال, أصحها: أنه عطف على السحر, أي يعلمون الناس السحر ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أيضاً, وإنما كان هذا أصح الأقوال؛ لأن عطف قوله ﴿وَمَا أُنْزِلَ﴾ على ما يليه أولى من عطفه على ما بعُد عنه, إلا لدليل خارجي, وقوله سبحانه وتعالى: ﴿هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ عطف بيان للملكين, وعلمان لهما: وهما اسمان أعجميان ممنوعان من الصرف, ولو كانا على ما زعمه بعضهم من الهرت والمرت الذي هو الكسر, لانصرفا. وقرأ الزهري بالرفع ولكن المتواتر قراءة النصب, وقرأ الحسن (ملكين) بكسر اللام, وروي عن ابن عباس والضحاك مثل هذه القراءة وبها يزول عن بعض الناس إشكال, ولكن القراءة المشهورة بفتح اللام, وهما ملكان نزلا من السماء بصورة رجلين, وقد ورد في سبب نزولهما أثر تناقله أكثر المفسرين, والظاهر أنه من الموقوف على كعب الأحبار[3], فلهذا أعرضتُ عن ذكره, لأني ملتزم بعدم رواية الضعيف, فكيف بالموقوف على أمثال هذا, خصوصاً وفي متنه - فضلاً عن سنده - ما يخالف المعقول والمنقول, وأما قوله سبحانه عنهما: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ فذلك إيضاح من الله لحالهما أنهما لا يعلمان السحر إلا بعد التحذير الشديد من العمل به المقتضي للكفر, وهو قولهما: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾, والمراد بالفتنة هنا المحنة التي يتميز بها المطيع من العاصي, والمؤمن من الكافر أو الفاسق, كقول القائل: فتنت الذهب بالنار إذا عرضه على النار ليتميز خالصه من مغشوشه, فهما لا يعلِّمان أحداً السحر, ولا يصفانه لأحد, ولا يكشفان له من أسراره, حتى يبذلا له النصيحة, فيقولان له: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ﴾ أي: هذا الذي نعلمك إياه يمكنك أن تتوصل به إلى المعاصي والمفاسد التي توقعك في الكفر, فحاذر منه واترك تعلمه.

 

والحكمة من إنزال الملكين عدة أمور:

أحدها: أن السحرة كثرت في ذلك الزمان, واستنبطت أموراً غريبة في السحر, فتجرأ السحرة بواسطتها إلى ادعاء النبوة, وتحدي الناس بها, فأنزل الله هذين الملكين ليعلما الناس السحر وأبوابه؛ حتى يتمكنوا من معارضة الفجرة الذين يدعون النبوة, وهذا من أحسن المقاصد؛ لصيانة مقام النبوة عن الشعوذة.

 

ثانيها: أن العلم بمخالفة المعجزة للسحر متوقف على العلم بماهية المعجزة, وبماهية السحر, وقد كان الناس يجهلون ماهية السحر فتعذر عليهم معرفة حقيقة المعجزة, فبعث الله هذين الملكين لتعريف الناس بماهية السحر، ليميزوا بينه وبين المعجزة.

 

ثالثها: أن الجن كان عندهم أنواع من السحر لا يعرفها البشر, فبعث الله هذين الملكين ليعلما الناس هذه الأنواع التي يعارضان بها الجن.

 

رابعها: أن السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله، والألفة بين أوليائه, هو مستحب أو مندوب, ولهذا الغرض بعث الله الملكين, ولكن الناس استعملوا ذلك في الشر.

 

خامسها: أنه يجوز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف حيث تعلم الناس السحر من الملكين, وبه يمكنهم الحصول على لذاتهم, لكن الله منعهم من استعماله فكان في ذلك مشقة كبيرة تستوجب الثواب المضاعف.

 

وهذا كله على قراءة (الملَكين) بفتح اللام, وهي المتواترة المشهورة.

 

وأما على قراءة (الملِكين) بكسر اللام, فقد قال من جنح إليها: أنهما رجلان متظاهران بالتقوى والصلاح في (بابل) مدينة بالعراق على نهر الفرات, وكانا يعلمان الناس السحر, وبلغ حسن اعتقاد الناس بهم إلى أن ما يعلمونه هو وحي من الله, وبلغ من مكرهما ومحافظتها على سمعتهما أن يقولا للمتعلم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ يقولان هذا بصيغة النصح, ليوهما الناس أن علومهما إلهية, وأنهما لا يقصدان إلا الخير, كما يفعل هذا كل دجاجلة كل زمان ومكان, إيهاماً للناس وتضليلاً لهم.

 

وهناك رواية أعرضت عن ذكرها لمخالفتها العقل والنقل.

 

ومنهم من فسر (الملكين) بكسر اللام بأنهما ملكان كافران ببابل, ولكن سياق الآية الكريمة يأبى ذلك, لأن الله أخبرنا فيها أنهما ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ والكافر لا ينصح غيره بترك الكفر, وزعم بعضهم أن قوله سبحانه: ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ﴾ أن حرف (ما) نافية, والصحيح أنها موصولة ومعطوفة على ما قبلها, وأنها على القراءة المتواترة المشهورة بفتح اللام (الملَكين), من الملائكة الذين أنزلهم الله صيانة لمقام النبوة من إفتراءات المفترين, وفتنة يمتحن الله بها عباده ولله أن يمتحن عباده بما شاء, كما يشاء, وأما على القراءة المرجوحة بكسر اللام, كما جنح إليها بعض المفسرين فقد قدمنا إيضاحه.

 

وفي قوله سبحانه وتعالى حكاية عن الملكين: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾ نكته حلوة أشار إليها الرسول صلى الله عليه سلم بقوله: ((اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت))[4], وذلك أن هاروت وماروت قد صرحا بفتنتهما, ولكن الدنيا كتمت فكانت أسحر منهما, فهي تسحر الناس بخداعها, وتكتمهم فتنتها, فتدعوهم إلى التكالب عليها, والتنافس فيها, والجمع لها والمنع حتى تفرق بينهم وبين طاعة الله, وتفرق بينهم معرفة الحق ورعايته، وتطمس بصائرهم بشواتها, وتشرد بقلوبهم عن الله, وعن القيام بحقوقه, وتجسم فيها عدم المبالاة بوعده ووعيده, وتمنيهم الأماني الكاذبة, وتعمي قلوبهم وتصمها بمحبة الشهوات العاجلة. حقاً إنها أسحر من هاروت وماروت؛ لأن سحر أولئك يجري منه التفريق بين المرء وزوجه, وسحر الدنيا يجري منه التفريق بين الإنسان وخالقه العظيم.

 

قال القرطبي: قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر, من مرض, وتفريق, وزوال عقل, وتعويج عضو, إلى غير ذلك, مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد, قالوا: ولا يعبد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات والانتصاب على رأس قصبة, والجري على خيط مستدق, والطيران في الهواء, والمشي على الماء, وركوب كلب, وغير ذلك, ومع ذلك فلا يكون السحر موجباً لذلك, ولا علة لوقوعه, ولا سبباً مولداً, ولا يكون الساحر مستقلاً به, وإنما يخلف الله هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل, والري عند شرب الماء, روى سفيان عن عمار الدهني: أن ساحراً كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل, ويدخل في است الحمار ويخرج من فيه, فاشتمل له جندب على السيف فقتله, وهذا هو جندب بن كعب الأزدي[5], ويقال البجلي, وهو الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم: ((يكون في أمتي رجل يقال له جندب, يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحق والبطل)), فكانوا يرونه جندباً هذا قاتل الساحر[6]. انتهى

 

ولهذا ينبغي الحذر واليقظة عند صدور خوارق العادات حتى لا يلتبس على المسلم معرفة أولياء الشياطين من أولياء الرحمن, وذلك بالنظر في أحوال من صدرت على يديه خارقة أو خوارق, فيسبر المسلم أحواله, فإن رآه عامراً مساجد الله, قائماً بطاعة الله, ملتزماً شريعته, مراعياً لأمانات الله حق رعايتها, محباً للطيب والنظافة, فإنه يكون من أولياء الله, ويكون ما صدر على يديه من الخوارق كرامة من الله, أما إن وجده على العكس, يهرب من المساجد, ويألف المغارات والمزابل, ويقصر في طاعة الله, أو يترك عبادته بأي دعوى من دعاوى المبطلين, فإنه شيطان من شياطين الإنس, وما صدر عنه من الخوارق فهو ضرب من السحر والشعوذة, فالسحر من استخراج الشياطين, للطاقة جوهرهم, ودقة أفهامهم، ويوحون به إلى أوليائهم من شياطين الإنس, ويفضلون به النساء خصوصاً وقت الطمث, وقد خرج في زمن الضحاك دجال من شياطين الإنس, يجعل الحصى يسبح بيده, تغريراً للناس, أما هو عدو الله فلا يسبح الله, وحصلت منه أعاجيب, عبث فيها بعقول الطغام في وقت تلك الفتنه, فلما صار الأمر إلى عبد الملك بن مروان أمر بقتله, فعجز السياف عن نسف رقبته, وراجع فيه الأمير عبد الملك, فضحك منه وقال: إنك لم تعتد التسمية عند قتل الرجال, فارجع إليه واذكر اسم الله عند ضربتك إياه, فإنك ستقتله بإذن الله, فلما رجع إليه وذكر اسم الله عند هزه للسيف, صرخ الدجال, فما كانت إلا ضربة واحدة نسفت رأسه, وفي كتاب «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشياطين » فوائد فرائد, لا يستغني المسلم عن مراجعتها.

 

وقد أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يشبه معجزات الأنبياء, كإنزال الطوفان, أو الجراد, أو القمل والضفادع, وفلق البحر, وقلب العصا حية, وإحياء الموتى, وإنطاق العجماء, وأمثال ذلك من معجزات المرسلين, فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون , ولا يفعله الله عند إرادة الساحر, فالفرق بين السحر والمعجزة هو أن السحر يوجد من الساحر وغيره من كل مشعوذ. وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد, وأما المعجزة لا يمكن الله أحداً أن يأتي بمثلها أو بمعارضتها, ثم إن الساحر لم يدع النبوة, فالذي يصدر منه متميز عن المعجزة, ذلك ان من شرط المعجزات اقترانها بدعوى النبوة, والتحدي بها, كما تقدم الكلام على طرف من ذلك, هذا وأن الساحر إذا اعتقد لفعله تأثيراً في روح الإنسان أو قوته أو غير ذلك مما هو من خصائص الربوبية, فانه يكفر, ويجب قتله بدون استتابة, وروي عن مالك وأبي حنيفة أنه لا تقبل توبته, وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: يقتل الساحر إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله: إني أترك السحر وأتوب منه, فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه، وإن شهد شاهدان على أنه ساحر, أو وصفوه بصفة يعلم بها أنه ساحر, قتل بدون استتابة, وإن أقر بأنه سحر مرة واحدة, وترك السحر منذ زمان, قبل قوله ولم يقتل.

 

والمنصوص عن الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق: أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفراً يقتل ولا يستتاب, ولا تقبل توبته, لأنه أمر يستسر به كالزنديق, وروي قتل الساحر عن عمر, وعثمان, وابن عمر, وحفصة, وأبي موسى, وقيس بن سعد, وعن سبعة من مجتهدي التابعين[7], وإنما أوجبوا قتله ورفضوا منه دعوى التوبة, لجنايته على العقول والأجسام, فإن الجاني على الجسم يقتص منه بلا نزاع, فكيف إذا اجتمعت جنايته على العقل والجسم.

 

وقد جاءت الشريعة المطهرة بصيانة العقول, وحرمت الجناية عليها بأي مسكر أو مخدر أو مفتر وأوجبت الحد في ذلك, فكيف بجناية السحر, والعياذ بالله؟

وروي عن الشافعي: أن الساحر لا يقتل إلا إذا قتل بسحره, فإن لم يقتل سحره يعزر بمقدار الضرر، وقد أبطله ابن العربي من وجهين قويين:

أحدهما: أن حقيقة السحر كلام مؤلف يعظم به غير الله, وتنسب إليه المقادير والكائنات, وهذا كفر بعينه.

ثانيهما: أن الله قد صرح في كتابه العزيز بأنه كفر, فقال: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ حتى قال عن هاروت وماروت: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾.

 

وهذا تأكيد للبيان ولا شك أن السحر لا يتم إلا مع الكفر والاستكبار, أو تعظيم الشيطان والاستخفاف بجناب الله, واختلفوا: هل يسأل الساحر حل السحر من المسحور؟ فروى البخاري جوازه عن سعيد بن المسيب, وإليه مال المزني والشعبي[8]. وقواعد الشرع تؤيد ذلك لرفع الضرر ودفع الأذى عن النفس.

 

وقوله سبحانه: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾. هذا نص من الله على حقيقة السحر وسوء تأثيره, وليس مقصوراً على هذه التفرقة, وإنما ذكرها الله في معرض الذم للسحر, تخريجاً على الأغلب, لا تنصيصاً على الغاية, كما زعمة بعضهم مما هو مخالف للمحسوس.

 

ولا ينكر أن للسحر تأثيراً في القلوب بالحب والبغض والألفة والنفرة وبإلقاء الشرور, حتى يحول بين المرء وقلبه بإدخال الآلام, وعظيم الأسقام, وقد قال صلى الله عليه وسلم لما حل سحره: ((إن الله شفاني)), والشفاء لا يكون إلا برفع العلة وزوال المرض, فدل على أن له حقَّا وحقيقة, فأضرار الحسية مقطوع بها بإخبار الله ورسوله على وجوده ووقوعه, وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع, ولا عبرة مع اتفاقهم بخلاف حثالة المعتزلة المخالفين للحق.

 

قال القرطبي: وقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه, ولم يظهر من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله.

 

وروي سفيان عن أبي الأعور, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: عُلِّم السحر في قرية من قرى مصر يقال لها (الفرما) فمن كذب به فهو كافر, مكذب لله ورسوله, منكر لما علم مشاهدة عياناً[9], حتى قال القرطبي: وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة, وبالله التوفيق.

 

فعلم مما تقدم أن تنصيص الله على تفريق السحرة بين المرء وزوجه, ليس للحصر ولا للقصر, وإنما ذكر الله هذه الصورة تنبيهاً على سائر الصور, لأن استكانة كل من الزوجين إلى صاحبه, وركونه إليه, ومودته الآخذة بشغاف قلبه, أمر معروف لا جدال فيه, فإذا كان الساحر يبلغ به سحره إلى التفريق بينهما على شدة المودة, وعظيم الاستكانة, فإن شره يتفاقم في غير ذلك أضعافاً مضاعفة, ولكن الله سبحانه وتعالى حمى جانب التوحيد وصان حوزة العقيدة من الريب والارتباك, موضحاً أن السحرة وغيرهم من كل دجال, ليس لهم تأثير في الكائنات دون إرادته وقضائه, فقال سبحانه: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾. أي أنهم مهما برعوا في السحر, فإنه ليس لهم قوة غيبية وراء الأسباب التي يتعاطونها, وإنما هم يفعلون بها ما يوهمون الناس أنهم فوق استعداد البشر, وفوق ما منحوا من القوى والقدر, فالله ينفي هذا الإيهام الذي يضللون به, ويثبت أن ما يجري على أيديهم من أضرار, فإنما هو بإذن الله الذي ربط الأسباب بالمسببات, وجعل لكل شيء سبباً, وأن الله إن شاء عصمة المسحور من الساحر نجاه من ضرره, ووقاه منه بعنايته سبحانه وتعالى, وإن شاء إنزال الضرر به عقوبة, أو حكمة, خلى بين المسحور والساحر, وجعل السبب يؤثر في المسبب بخلقه سبحانه وإيجاده, لا بقوة الساحر ولا بفعله ولا بتأثيره, ففي هذه الجملة من الآية فائدتان:

إحداهما: إطلاق الضرر دون قصره على التفريق بين المرء وزوجه لأن مضار السحر كثيرة.

 

ثانيها: الحكم التوحيدي الذي هو المقصد الأول من مقاصد الدين, فإن القرآن لا يترك بيانه عند أدنى حاجة, بل يعيده ويكرره لتركيز التعلق بالله في كل شيء, وأنه هو المؤثر وحده في الكائنات دقيقها وجليلها, فليعتمدوا عليه, ويستعينوا به, ويستعيذوا به دون ما سواه, ولا يخافوا من غيره أبداً، ويستيقنوا أن سحر الساحر مهما عظم, وصنعة الصانع مهما تضخمت وصارت خطيرة, فإنهما لا يضران أحداً بذاتهما, أو بإرادة فاعلهما قطعاً, حتى يشاء الله إنزال الضرر به, وحصول البلاء عليه, فصانعو القنابل الذرية والهيدروجينية, والصواريخ ومالكوهما, لا يقدرون على أكثر من استعمالهما, والقذف بهما, أو الحذق في الإصابة فقط, أما سريان مفعولهما من الفتك والإهلاك فهذا مقيد بمشيئة الله, الذي ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها, فهو الذي يهب المخلوق القدرة, ويزوده بالفكر على الإبداع والاختراع, ويسخر له الماديات, ويعمق تفكيره في صنعتها وتكييفها, ويخلق فيه الإرادة على استعمالها, ثم إنه يقضي بفشلها وفساد مفعولها أو بنجاحها وإضرار قوم آخرين, فهو سبحانه وتعالى واهب القدرة والإرادة للمخلوقين, وهو الذي يسلط بعضهم على بعض حسبما تقتضيه حكمته الكونية, ثم هو الذي يشاء ثانياً أن يعز الظالم المعتدي على المظلوم المعتدى عليه, أو يقمع المعتدي الباغي وينصر المظلوم المعتدى عليه، حسب مشيئته سبحانه, لا حسب مشيئة هذا أو ذاك, فمن أكبر دعائم العقيدة الإسلامية صحة الإيمان بالقضاء والقدر, وقوته في القلوب، وبسبب قوة إيمان المسلمين بذلك هانت أمامهم عظائم الأمور ولم يبالوا بأي قوة, ولم يرهبهم أي طاغوت، ولم يخفهم أي ساحر، لقوة اعتمادهم على الله، الذي بيده مقاليد كل شيء، وأما من ضعف إيمانه بالله، وبقضائه وقدره، فإنه يكون ألعوبة للدجاجلة والسحرة وكل مشعوذ, وذلك لضعف جنانه بسبب ضعف إيمانه, أو عدم إيقانه.

 

فالمسلم المؤمن يجب عليه أن يكون قوي الإيمان بالله, جازماً حقاً أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وما أخطأه لم يكن ليصيبه, ويعالج أقدار الله بضدها، من أقداره الأخرى التي أوجب الله مقاومتها به دون استسلام.

 

وقوله سبحانه: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ﴾, أما كونه يضرهم, فلأنه سبب في الإضرار بالناس, وهو محرم يعاقب الله عليه في الآخرة, وقد يعجل العقوبة في الدنيا, أو يجمع للمضر بالناس بين عقوبات الدنيا والآخرة, زد على هذا أن من عرفه الناس بالإيذاء يمقتونه, ويكونون عليه أعداء. فقد أثبت الله الضرر في تعلم السحر وتعاطيه, ونفى منه المنفعة بقوله سبحانه: ﴿وَلا يَنْفَعُهُمْ﴾ وذلك أن بعض المضار - وإن كانت ضارة من جهة - يكون فيها نفع من جهة أخرى, بخلاف السحر على اختلاف ضروبه, فإنه ضرر بلا نفع, فمضرته ثابت, ونفعه منتفٍ, فما أروع البلاغة في كلام الله بهذه الجملة القصيرة التي احتوت على نفي واجب في قانون البلاغة لا بد منه, وصدق الله, ومن أصدق من الله قليلاً.

 

فإننا نرى المتعاطين للسحر بجميع صنوفه من أفقر الناس وأحقر الناس, ولو أن المغفلين الذين يراجعونهم لالتماس المنافع لأنفسهم, أو إيقاع الضرر بأعدائهم, أقول: لو أنهم نظروا في حالهم نظرة عقلية صحيحة لعرفوا أن فاقد الشيء لا يعطيه, وأن الشقي في نفسه لا يهب السعادة لغيره، وأنه لو كان يقدر على إنزال ضرر بأحد، لنفع ليسعد بشقاء من يضره, أو ينعم ببؤس من يضره, ولكنها الجهالة العمياء التي حلت بالدهماء لحرمان قلوبهم من نور وحي الله, فكانت مظلمة بأنواع الخرافات, ويسيرها الطمع الأعمى بدون بصيرة ولا جدوى.

 

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ يعني: وقد علم اليهود الذين فضلوا السحر - سحر الشياطين - على وحي رب العالمين، واشتروه بضياع أنفسهم, حيث أضاعوا بسببه وحي الله, إن خطتهم في هذا الاختيار الخسيس هي خطة المفلس من الله, خطة المفلس الذي ليس له في الآخرة من نصيب, فالخلاق هو النصيب من الخير, فالله أخبرنا عن اليهود أنهم أضاعوا نصيبهم في الآخرة, وارتضوا بالإفلاس فيها، لما اختاروا سحر الشياطين, طعماً في حطام الدنيا, ونبذوا وحي الله على علم منهم, ليس عن جهل ولا تفضيل, وإنما هو اختيار للضلالة, ليفسدوا على الناس دنياهم بأنواع السحر، ويلعبوا عليهم ويبتزوا أموالهم، وهم يعلمون أن التوراة حرمت عليهم السحر علماً وعملاً وتعليماً, وجعلته كعبادة الأوثان, وشددت العقوبة على فاعله, وعلى متبعي الجن والشياطين, ولكنهم كفروا على علم منهم.

 

وقوله سبحانه: ﴿وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾

 

بئس من حروف المبالغة في الذم لسوء حاهم ومآلهم, لأنهم باعوا أنفسهم بالعذاب المتنوع في الدنيا, وبنيران الجحيم في الدار الآخرة, إنهم والعياذ بالله باعوا الذين والرسالة التي أورثهم الله من أنبيائهم, والتي بها مناط عزهم, وتحقيق شخصيتهم في الحياة بين الأمم, إذ لا قيمة لهم بتاتاً إذا تجردوا من رسالة الله, وشردوا عن صراطه, ونبذوا وحيه, واطرحوا دينه, فقد تفتخر عليهم أصغر أمة أو أحقر أمة متفوقة بقوتها, أو بحضارتها وتستعلي عليهم, بخلاف ما لو كانوا للرسالة حاملين, وبدين الله زاحفين؛ فبئس لهذه البيعة التي باعوا بها رسالة الله ودينه القويم, بسحر الشياطين, لقد هبطوا بأنفسهم من أعلى طود شامخ, إلى أسفل سافلين, وقد عملوا هذا وارتضوا عن علم, ولكن الله نفى عنهم العلم أخيراً, مع إثباته لهم أولاً, وذلك أن العلم علمان:

أما العلم الأول: علم تفصيلي روحي متمكن من النفس, له سلطان على توجيه إرادتها وتحريكها إلى الأعمال الطيبة, وتهذيب فطرتها, وكبح جماحها, وتسييرها إلى الله وفق شرعه, فهذا هو العلم الذي فقده بنو إسرائيل, ونعى الله عليهم في ختام هذه الآية الكريمة.

 

وأما العلم الثاني: فهو علم إجمالي خيالي مادي, لا روحانية فيه, يلوح في ذهن صاحبه عندما يعرض عليه شيء أو سؤال, فهو علم يدرك به حقائق الأشياء عند الحاجة, لكنه ليس روحياً متشبعاً بتقوى الله وخشيته, ليعمر الضمير, بل هو على العكس, علم يعرف صاحبه به الخير والشر, لكن عندما يصطدم مع أغراض نفسه وشهواتها يكون وبالاً عليها, لأنه يعين على التأويل والتحريف حسب مطامع النفوس.

 

فهذا هو العلم الذي أثبته الله لبني إسرائيل بقوله: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾.

 

والعلم الأول الروحي النافع, هو الذي نفاه عنهم في آخر الآية بقوله ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ و(لو) حرف امتناع لامتناع، فالعلم المنفي عنهم هو العلم الذي ليس له سلطان على النفوس, ولا منفذ إلى الإرادة, ولذا كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه, ونسوا حظاً مما ذكروا به, وكانوا يسارعون في الإثم والعدوان, وأكلهم السحت بالتأويلات الفاسدة والتخصيصات التي ما أنزل الله بها من سلطان, وهذا العلم العديم النفع, والذي فيه مجلبة للضرر كثيراً ما يحمله كثير من أدعياء العلم عندنا, بحيث تميعوا فكانوا عن صلاتهم ساهين, ولحرمات الله غير معظمين, وكانت فتاويهم مضطربة حسب ما يسنح لهم وقت كتابتها, من خيالات أو منافع.

 

وقد ذكر الإمام محمد عبده أمثلة من هؤلاء العلماء, لهم أقبح التأثير في إفساد العامة, باستباحة المحظور والإقدام على شهادة الزور بمجرد تظلم الخصم وصيحاته, وهو لو يسمع تظلم الطرف الآخر لعض على يديه بما جنى, حتى ذكر رجالاً صالحين يفترون بما يسمعون من أهازيج الخصم ولا يذكرون أن إخوة يوسف رموه في البئر على أبشع وحشية, ثم جاءوا أباهم عشاء يبكون.

 

إن الذي يراقب الله لا يجرؤ على مخالفة شيء من أمره أو ارتكاب أدنى شيء من نواهيه, استعظاماً لجنابه, ووقوفاً عند حدوده, واستشعاراً لمحاسبته وعقابه في يوم لا ريب فيه, بل خوفاً من عقوباته العاجلة, وبطشه الشديد, وحياء من اطلاعه سبحانه على مخالفته بالغيب, وأن ما وقع فيه بعض العلماء أو أكثرهم في أمصار المسلمين هو ناشئ من عدم تصور ذلك, فعدم تصور عظمة جناب الله وهيمنته على الخلق واطلاعه على خفايا النفوس ووساوسها, وعدم استشعار مشاهد يوم القيامة وأهوالها هو السبب في غفلة القلوب, ونقص الإيمان, وكون العلم لا ينفع صاحبه, والعياذ بالله, بل يحصل بسبب ذلك قسوة القلوب, ولهذا يحصل التشابه بين أعمال أكثر علماء أمصار المسلمين, وبين علماء بني إسرائيل, فلينتبه المسلم المؤمن لتحصيل أي نصيب من العلم الروحي الذي يكسبه خشية الله ويوقفه عند حدوده, ويجعل شخصيته شخصية مسلمة متميزة عما سواها, من الذين بدلوا قولاً غير الذي قيل لهم, وإلا فما قيمته إذا لم يحصل إلا على مجرد الاسم؟

 

وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (103).

 

يعني لو أنهم آمنوا بكتابهم الذي يهديهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ﴿وَاتَّقَوْا﴾ ربهم حق تقاته في أخذ التوراة بقوة, وعدم الجناية عليها بالتأويلات, لتركوا السحر الخادع الذي هو من نزغات الشياطين, والتزموا الوحي المنزل عليهم من ربهم, والذي يصدق الوحي الأخير المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لكانت (مثوبة من عند الله) أي ثوابه العظيم لهم على الإيمان الصحيح, والعمل الصالح, خير لهم مما أختاروه من شرور السحر وكفره, وافترائهم على الله بنسبتهم السحر إلى سليمان عليه السلام, فإن جريمتهم عظيم وزرها, متراكم شرها, لجمعها بين الكفر والافتراء على الله, مما لا يصدر من أي عالم فاهم للعلم الصحيح كما قدمنا, فلقد باعوا أنفسهم بأخس بيعة, صفقتها من أخسر الصفقات, ولو انهم عكسوا الأمر لنالوا المثوبة من الله التي هي خير مما يحصلون عليه من حطام الدنيا, الذي يكون سبباً لتسعير نار جهنم عليهم بما عملوا ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ فإنهم في جميع ما هم عليه من أنواع السحر والأباطيل وزعمهم أنها ترجع إلى الكتاب بضروب من التأويلات الفاسدة, واتباع الظنون والتقليد الأعمى ليسوا على شيء من العلم الصحيح, فالله يكرر نفي العلم الصحيح عنهم, مع أنهم عندهم علم لا ينتفعون به, جعله الله كالعدم, لأن العلم الذي لا يعظم صاحبه حرمات الله, ولا يوقفه عند حدوده, ولا يجعله ملتزماً لخشيته ومراقبته, بحيث يكون له سلطان على القلب والجوارح يوجهها به إلى الله, قولاً وقصداً وعملاً, فالعلم الذي لا يسلك بهم هذا السبيل يكون وجوده كالعدم, ويحل محله علم مادي لا روح فيه, ويزين لهم استباحة المحرمات, والافتراء على الله, وأكل أموال الناس بالباطل من الربا والرشوة وبيع الضمير بالفتيا التي تناسب حال المستفي, وترضي أنانيته, وتشبع شهوته, ويوهمهم أن السحر الذي يتعاطون نافع غير ضار, أو أن ضرره يكون موجهاً إلى غير اليهود, ونحو ذلك مما تجره التصورات الفاسدة الناشئة من العلم المادي البعيد عن الله وعن وحيه.

 

قال الإمام محمد عبده رحمه الله: "وإننا نرى كثيراً من الحرمات قد انتهكت في المسلمين بمثل تلك التأويلات حتى جوز بعض المشتغلين بالفقه هدم ركن من أعظم أركان الإسلام بالحيلة، وهو ركن الزكاة الذي يحارب تاركوه شرعاً, وترى هذه الحيل قد أثرت في الأمة أسوأ التأثير, فقلما يوجد فينا غني يؤدي الزكاة ولا يعتقد المتمسك بالدين من هؤلاء الأغنياء أنه متعرض لمقت الله وعقوبته, وأنه قد فسق عن أمر ربه, لأنه يمنع الزكاة بحيلة يسميها شرعية, وقد أخذها عمن يسمون فقهاء ويفتخرون أنهم ورثة الأنبياء, ثم إن الحيل على التزوير وأكل أموال الناس بالباطل لها في بعض الكتب وأدمغة أهل العمائم مجال".

 

وما ذكره الإمام محمد عبده وعلق عليه تلميذه الطيب صاحب المنار شيء معروف لا يزيد إلا أقل اليسير منه, كتحذير لأصحابنا من مشابهة أهل الكتاب, خصوصاً في السحر والشعوذة وتأويل النصوص حسب الأهواء أو حسب مرضاة الأغنياء والحكام.

 

وقد تجلت لنا في الآية (102) حقيقة السحر التي لا يجوز إنكارها, ولو لم يكشف العلم الحديث عن كنهها فإنه قد شاع في هذا الزمان ما يسمى (التنويم المغناطيسي) ولم يكشف العلم حقيقته وما فيه من عجائب, إذ كيف يتصل فكر بفكر, وكيف يتلقى عن الآخر كأنه ينقل من صحيفة؟ وكيف تسيطر إرادة على إرادة؟! وكذلك علم (تحضير الأرواح) بتسمية الغربيين, ومع هذا لم ينكر لأنه غربي وينكر السحر المنصوص في القرآن, مع أن ما يسميه الغربيون (تحضير الأرواح) يسمى عندنا علم التعزيم , وهو تحضير الجن, لكن لما كان الغربيون لا يؤمنون بالجن, سموا هذه القوة وهذا العلم بهذا الاسم الذي اختاروه وروجوه, ولا يبعد أن يكون التنويم المغناطيسي فيه تخاطب للشياطين من قرناء بني آدم, وأن قرين كل شخص يعبر عنه ويخبر عنه, ولكن ما دام الغربيون لا يؤمنون بالجن ولا بالشياطين, فلن يغيروا هذه الأسماء أو يعترفوا بما عداها.

 

وكذلك أفراخهم ممن تتلمذ على أيديهم أو تقبل ما يصدر عنهم كقضية مسلَّمة, فإنهم لا يؤمنون بالملائكة ولا بالجن ولا بالشياطين, ولا يمكن إقناعهم أبداً حتى يقتنع أساتذتهم أو أسيادهم من ملاحدة الغرب والشرق.

 

ولا شك أن من لم يؤمن بالملائكة إجمالاً وتفصيلاً, أنه كافر مهما ادعى الإيمان بالله, لأن المؤمن بالله يجب عليه أن يؤمن بملائكته, دون البحث عن كنههم, وكذلك من لم يؤمن بالجن والشياطين فإنه كافر مهما ادعى الإيمان بالله, لأن المؤمن بالله يجب عليه أن يؤمن بجميع ما ورد من الله في وحيه المبارك, من الجن والشياطين, أما الذي لا يؤمن بهم حتى يؤمن بهم أسياده من الغرب, فهذا لا شك في كفره, مهما قال أو عمل لأن المكذب بحرف واحد من القرآن كافر, فكيف بالتكذيب بالجن وأبيهم إبليس وبالشياطين إجمالاً؟

 

والحاصل أن ما ورد في هذه الآية من ذكر السحر والشياطين وهاروت وماروت, يجب الإيمان به دون البحث في كنهه, وأن من لم يؤمن به, لأن العلم لم يسلم به, فهذا كافر ويرد عليه إيرادات من كون أشياء مسلم بها في الغرب دون أن يكتشفها العلم ويعطي كلمته كالتنويم المغناطيسي وما يسمونه تحضير الأرواح, مما هو تحضير للجن والقرناء من الشياطين بلا جدال, وستضطركم الحقيقة إلى الاعتراف بذلك.

 

هذا شطر من مهمات الآية (102) والشطر الثاني: يخبر عن خسة اليهود وخبث نفوسهم وسوء طباعهم, أنهم لما كفروا بالقرآن ونبذوه وراء ظهورهم، لم يؤمنوا بالتوراة, بل نبذوها كما نبذوا القرآن, واتبعوا ما تتلوه شياطين الجن والإنس من السحر الذي نسبوه إلى سليمان إفكاً وزوراً, وأن الله برأ نبيه سليمان من السحر لأنه كفر, ومن أوضاع الشياطين إخوان اليهود, فهم الذين تقبلوا عنهم السحر ونبذوا كتاب الله متبعين السحر الذي هو كفر وضرر لا نفع فيه, كما قرر الله سبحانه وتعالى.

 

وعلى المهزومين هزيمة عقلية ألا يتمادوا في مكابرتهم, فينكروا السحر ونحوه من القوى الخفية, لمجرد أن العلم لم يكتشفها أو أن أسيادهم من ملاحدة الغرب والشرق لم يعترفوا بها, وأن يعلموا أن إنكار ما جاء به القرآن كفر, ولا ينتفع صاحبه بدعوى الإيمان بالله, وهو مكذب بما جاء عن الله.



[1] أخرجه البخاري (5146) والترمذي (2028) ومالك في الموطأ (610) وأحمد (2/16, 59) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

[2] أخرجه البخاري (3268) ومسلم (2189) وابن ماجه (3545) وأحمد (6/57) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[3] الطبري (1/457).

[4] أخرجه البيهقي في الشعب (7/339) وفي الزهد الكبير (2/202) من حديث أبي الدرداء الرهاوي.

وذكره الذهبي في المغني في الضعفاء (2/783) وقال: لا يعرف.

[5] أخرجه ابن أبي شيبة (5/561) والدارقطني في السنن (3/144).

([6]) أورده ابن حجر في الإصابة (1/512), وابن عبد البر في الاستيعاب (1/259).

[7] أورد هذه الآثار ابن أبي شيبة (5/561) والبيهقي في السنن الكبرى (8/136).

[8] انظر: فتح الباري (10/ 233).

[9] ذكره القرطبي في التفسير (2/46).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير سورة البقرة.. الآية (87)
  • تفسير سورة البقرة.. الآيات (88: 90)
  • تفسير سورة البقرة.. الآية (91)
  • تفسير سورة البقرة.. الآيات (92: 98)
  • تفسير سورة البقرة.. الآيات (99 : 100)
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 104 : 110 )
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 114 : 115 )
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 116: 117 )
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 120: 121 )
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 122: 124 )
  • تفسير سورة البقرة .. الآية ( 127 )

مختارات من الشبكة

  • تفسير سور المفصل 212 - سورة الأعلى ج 1 - مقدمة لتفسير السورة(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (135 - 152) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (102 - 134) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (65 - 101) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (1 - 40) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (40 - 64) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة تفسير بعض من سورة البقرة ثم تفسير سورة يس(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين تفسير سورة يونس (الحلقة السادسة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سور المفصل (34) تفسير سورة قريش (لإيلاف قريش)(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سورة المفصل ( 33 ) تفسير سورة الماعون(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب