• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    خطبة: أهمية اللعب والترفيه للشباب
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    عيد الأضحى: فرحة الطاعة وبهجة القربى
    محمد أبو عطية
  •  
    كيف يعلمنا القرآن الكريم التعامل مع الضغط النفسي ...
    معز محمد حماد عيسى
  •  
    أحكام الأضحية (عشر مسائل في الأضاحي)
    د. شريف فوزي سلطان
  •  
    زيف الانشغال
    أ. د. عبدالله بن ضيف الله الرحيلي
  •  
    خطبة الجمعة في يوم الأضحى
    د. صغير بن محمد الصغير
  •  
    الأخذ بالأسباب المشروعة
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    يوم العيد وأيام التشريق (خطبة)
    الشيخ عبدالله بن محمد البصري
  •  
    المقصد الحقيقي من الأضحية
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    خطبة الأضحى 1446 هـ (إن الله جميل يحب الجمال)
    الشيخ عبدالله محمد الطوالة
  •  
    خطبة عيد الأضحى 1446هـ
    عبدالوهاب محمد المعبأ
  •  
    لبس البشت فقها ونظاما
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    خطبة: مضت أيام العشر المباركة
    محمد أحمد الذماري
  •  
    خطبة عيد الأضحى المبارك لعام 1446هـ
    د. عبدالرزاق السيد
  •  
    خطبة عيد الأضحى لعام 1446 هــ
    أ. شائع محمد الغبيشي
  •  
    خطبة عيد الأضحى المبارك: تضحية وفداء، صبر وإخاء
    الشيخ الحسين أشقرا
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / عقيدة وتوحيد
علامة باركود

البدور السافرة في نفي انتساب ابن حجر إلى الأشاعرة (4 / 6)

أبي أسامة الأثري جمال بن نصر عبدالسلام

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 6/11/2010 ميلادي - 30/11/1431 هجري

الزيارات: 10781

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

البدور السافرة في نفي انتساب ابن حجر إلى الأشاعرة

(4 / 6)


الفصل الثاني

المسائل التي خالف فيها الحافظ ابن حجر أهل السنة

خالف الحافظُ أهلَ السُّنَّة في بعض مسائل الاعتقاد، كما خالف الأشاعرة في كثيرٍ منها، وهأنذا أسرد إليك أغلبَها بحسب الاستطاعة، من باب التبيين لا التنقيص، فقدْرُ الحافظ معلومٌ، ومكانته في القلوب والألباب لا تفتقر إلى بيان، وأخطاؤه تزول بجانب صوابه، فالناس عيالٌ على كتب الحافظ، ولا يناطح في مثله عالم متفقه في دين رب العالمين، فضلاً عن طويلب علم مثلي.

 

مسائل الإيمان

المسألة الأولى:

قال الحافظ في "فتح الباري" 8 / 336، ح4670: (كتاب التفسير / سورة براءة / باب: 12)، لما تكلَّم على قوله - تعالى -: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 80]، نقل كلامًا لابن بطال، ثم قال: "وتعقبه ابن المنير بأن الإيمان لا يتبعَّض" اهـ.

قال الحافظ بعده: "وهو كما قال".

وهذا الكلام متعقَّب، وعلى خلاف منهج السلف، بل هو الأصل الذي تشعَّبتْ منه أقوالُ أهل البِدَع في مبحث الإيمان.

 

قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" 7 / 223:

"وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضُه ذهب كلُّه، فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرَّعتْ عنه البدع في الإيمان؛ فإنهم ظنُّوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله لم يبق منه شيء، ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق كما قاله أهل الحديث، قالوا: فإذا ذهب شيء منه، لم يَبقَ مع صاحبه من الإيمان شيء، فيخلد في النار، وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تُذهِب الكبائرُ وترْك الواجبات الظاهرة شيئًا من الإيمان؛ إذ لو ذهب منه لم يبقَ منه شيء، فيكون شيئًا واحدًا يستوي فيه البَرُّ والفاجر، ونصوص الرسول وأصحابه تدلُّ على ذهاب بعضه وبقاء بعضه؛ كقوله: ((يَخرُج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)).

 

ولهذا؛ كان "أهل السُّنَّة والحديث" على أنه يتفاضل، وجمهورهم يقولون: يزيد وينقص، ومنهم من يقول: يزيد ولا ينقص، كما روي عن مالك في إحدى الروايتين، ومنهم من يقول: يتفاضل، كعبدالله بن المبارك، وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان منه عن الصحابة، ولم يعرف فيه مخالف من الصحابة" اهـ.

 

المسألة الثانية:

قال الحافظ - رحمه الله - ("فتح الباري" 1  / 61):

"فأما القول، فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل، فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح؛ ليدخل الاعتقاد والعبادات، ومرادُ من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه، إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرطٌ في كماله، ومن هنا نشأ ثم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي، والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط، والكرامية قالوا: هو نطق فقط، والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته، والسلف جعلوها شرطًا في كماله، وهذا كله - كما قلنا - بالنظر إلى ما عند الله تعالى، إما بالنظر إلى ما عندنا، فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقرَّ أُجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر، إلا إنِ اقترن به فعلٌ يدل على كفره؛ كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق، فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فَعَلَ فِعْلَ الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته، وأثبتت المعتزلة الواسطة فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر" اهـ.

 

قال د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي في "ظاهرة الإرجاء" 1 / 229:

"فقارئ كلامه يفهم منه التناقُض بين تعريفَي السلف في موضوع العمل؛ فإنه في التعريف الأول: "قول وعمل" يعتبر ركنًا، في حين أنه حسب التعريف الأخير: "اعتقاد وقول وعمل" ليس إلا شرطَ كمال فقط.

ويفهم منه - كذلك - أن الفرق بين المرجئة والسلف: أن السلف زادوا على تعريف المرجئة "العمل"، وجعلوه شرط كمال، وعليه فمن ترك العملَ بالكلية، فهو عند المرجئة مؤمن كاملُ الإيمان، وعند السلف مؤمن تاركٌ لشرط الكمال فحسبُ.

ويمكن أن نفهم منه أيضًا أن تعريف المرجئة والمعتزلة أوْجَه من تعريف السلف؛ لأن المرجئة عرَّفوه بركنين، والمعتزلة بثلاثة، والسلف عرَّفوه - حسب فهمه - بركنين وشرط كمال، والتعريفات إنما تذكر الأركان لا الشروط، فضلاً عن شروط الكمال.

والأهم من هذا، ما سبقت الإشارة إليه من توهم انفصال هذه الأجزاء الثلاثة؛ بحيث يتحقق الركنان - القول والاعتقاد - مع انتفاء العمل بالكلية، ولا يزيد صاحبه عن كونه ناقصَ الإيمان، مع أن السلف نصُّوا على أن تارك العمل بالكلية تاركٌ لركن الإيمان؛ لأن انتفاء عمل الجوارح بالكلية لا يكون إلا مع انتفاء عمل القلب أيضًا، فلا يصح أن نقول: إنه حقَّق اعتقاد القلب، وترَك عمل الجوارح" اهـ.

 

المسألة الثالثة:

قال الحافظ في "الفتح" 1 / 164:

"وأما الإيمان بمعنى التصديق، فلا يحتاج إلى نيةٍ كسائر أعمال القلوب - من خشية الله، وعظمته، ومحبَّته، والتقرُّب إليه - لأنها متميزة لله - تعالى - فلا تحتاج لنية تُميِّزها..." اهـ.

 

هذا القول متعقَّب؛ إذ هو قول الأشاعرة؛ لأن الإيمان في اللغة ليس مجرد التصديق؛ بل هو التصديق وزيادة الإقرار، فهو لغةً مشتقٌّ من الأمن، وقد نبَّه على هذا أبو العباس ابن تيمية في كتابه "الإيمان الكبير" 7 / 289 - 293، ضمن "مجموع الفتاوى"، أما في الشرع، فالإيمان: الاعتقاد بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح والأركان.

 

مسائل القرآن

قال الحافظ في "فتح الباري" 8 / 383: (كتاب تفسير القرآن / سورة الحجر)، لما ذكر الكلام على ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [القيامة: 1]، فقيل: إنها زائدة: "وتُعُقِّب بأنها لا تزاد في أثناء الكلام، وأجيب بأن القرآن كله كالكلام الواحد" اهـ.

 

قال العلامة عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - في فتوى صادرة عن "رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، مكتب الرئيس"، بتاريخ 27 / 6 / 1410، برقم: 952 / خ، تعليقًا على هذا:

"لا أعلم بأسًا في مثل هذا الكلام من جهة أن القرآن كله كلامُ الله، وكله محترمٌ ومعظَّم، وكله يفسر بعضه بعضًا، ويدلُّ بعضُه على بعض، ولكن ليس هذا الجواب بسديد، والصواب أنها تزيد المعنى، ولو كان ذلك في أول الكلام، كما في قوله في آخر سورة الحديد: ﴿ لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ﴾ الآية [الحديد: 29]، وقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ تَعَالَوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [الأنعام: 151]، وهكذا قوله: ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [القيامة: 1]، و: ﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ [البلد: 1]، المراد بذلك في هاتين الآيتين وأمثالهما، نفي ما يقوله المشركون من التعلُّق على غير الله، والتقرب إلى آلهتهم بأنواع العبادة؛ ليشفعوا لهم عند الله، وإنكارهم المعاد، ثم أثبت بعد ذلك إقسامه - سبحانه - بما أقسم به؛ من يوم القيامة، والنفس اللوامة، في السورة الأولى، وبالبلد الأمين وما بعده، في السورة الثانية، على ما ذكره - سبحانه - بعد ذلك في السورتين، ويجوز أن يقال: إن هذا الحرف جيء به للافتتاح - لا لنفي شيء - كما في الحروف المقطعة في أول السور، نحو: الم، و: الر، و: حم، وأشباه ذلك، وهذا هو معنى ما ذكره الإمام ابن جرير الطبري والحافظ ابن كثير" اهـ.

 

مسائل التوحيد: مسائل توحيد الألوهية

1- التبرُّك:

يرى الحافظ - رحمه الله - جواز التبرُّك بآثار الصالحين:

قال في "فتح الباري" 1 / 522 (كتاب الصلاة / باب 46 / ح425):

"ويستفاد منه أن من دُعي من الصالحين ليُتبرك به، أنه يجيب... وفيه اجتماع أهل المحلة على الإمام أو العالم إذا ورد منزل بعضهم؛ ليستفيدوا منه، ويتبرَّكوا به" اهـ.

 

قال العلامة عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - في تعليقه على هذا الموضع من "فتح الباري":

"هذا فيه نظر، والصواب أن مثل هذا خاصٌّ بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِمَا جَعَل الله فيه من البركة، وغيرُه لا يقاس عليه؛ لما بينهما من الفرق العظيم، ولأن فتح هذا الباب قد يفضي إلى الغلوِّ والشرك، كما قد وقع من بعض الناس، نسأل الله العافية" اهـ.

 

وقال في "فتح الباري" 3 / 115 (كتاب الجنائز / الباب الثالث):

"وفي هذه الأحاديث جواز تقبيل الميت تعظيمًا وتبركًا" اهـ.

 

وقال في "فتح الباري" 3 / 129 - 130 (كتاب الجنائز / باب: 8 / ح 1235):

"وهو أصل في التبرك بآثار الصالحين" اهـ.

 

وقال في "فتح الباري" 3 / 139 (كتاب الجنائز- باب 22)، وقال أيضًا في 3 / 144 (كتاب الجنائز- باب: 21 / ح 1277):

"وفيه التبرك بآثار الصالحين" اهـ.

 

وقال في "فتح الباري" 6 / 600 (كتاب المناقب / باب: 25 علامات النبوة / ح 3005):

"وفيه التبرُّك بطعام الأولياء والصلحاء، وفيه عرض الطعام الذي تظهر فيه البركة على الكبار وقَبولهم ذلك" اهـ.

 

فوائد حول مبحث التبرك:

معنى التبرك: تبرّك تفعّل من البركة، والبركة الزيادة والنماء، وفي حديث أم سليم: فحنَّكه وبرَّك عليه.

وقال ابن عباس: معنى البركة الكثرة في كل خير.

• طلب البركة لا يخلو من أمرين:

أ- أن يكون التبرُّك بشيء شرعيٍّ معلوم:

مثل: القرآن، قال - تعالى -: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ﴾ [ص: 29].

فمِن بركته: أن من أخذ به حصل له الفتح، فأنقذ الله بذلك أممًا كثيرة من الشِّرك.

ومن بركته: أن الحرف الواحد بعشر حسنات، وهذا يوفر للإنسان الوقت والجهد.

ومن بركته: أنه شفاء للناس، وهدًى ورحمةٌ، ويكون شفيعًا للناس يوم القيامة.

 

ب- أن يكون بأمرٍ حسي:

مثل: التعلُّم، والدعاء، وصلاة الجماعة، والصدقة، والصوم، والحج، ونحو ذلك.

قال الله - تعالى -: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].

وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صلاة الرجل في الجماعة تَضعُف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسَن الوضوء، ثم خرَج إلى المسجد لا يُخرِجه إلا الصلاةُ، لم يَخطُ خطوة إلا رُفعتْ له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلِّي عليه ما دام في مصلاَّه: اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة))؛ متفق عليه[1].

وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من تصدَّق بعَدْلِ تمرة من كسْبٍ طيب، ولا يَقبَل الله إلا الطيِّب، وإن الله يتقبَّلها بيمينه، ثم يربِّيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل))؛ متفق عليه[2].

 

• وقد تكون الهيئات سبب البركة:

قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اجتمعوا على طعامكم، واذْكروا اسم الله عليه، يُبارَكْ لكم فيه))؛ أخرجه أبو داود وأحمد[3].

• وقد تكون بعض الأمكنة أبركَ من بعض:

قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام))؛ متفق عليه.[4].

• وقد تكون بعض الأزمنة أبرك من بعض:

عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من أيامٍ العمل الصالح فيهنَّ أحب إلى الله من هذه الأيام العشر))، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))؛ أخرجه البخاري[5].

• وقد يكون بعض الأشخاص أبْركَ من بعض:

قال أُسيد بن حضير - رضي الله عنه -: ما هذه بأولِ بركتكم يا آل أبي بكر.

 

وهذا الباب من أعظم الأبواب التي وقع فيها التبرك الممنوع، فإن الله قد يُجرِي على أيدي بعض الناس من أمور الخير ما لا يجريه على يد الآخرين، إلا أن هناك بركاتٍ موهومةً باطلة، مثل ما يزعمه الدجالون: أن فلانًا الميت - الذي يزعمون أنه ولي - أنزل عليكم من بركاته، وما أشبه ذلك، فهذه البركات باطلة، لا أثر لها، وقد يكون للشيطان أثر في هذا الأمر؛ بحيث يخدم الشيطان هذا الشيخَ، فيكون في ذلك فتنة.

أما كيفية معرفة هل هذه البركات مشروعة أو ممنوعة، فيعرف بحال الشخص صاحبِ الكرامة؛ فإن كان من أولياء الله المتقين، المتَّبعين للكتاب والسنة، المبتعدين عن أمور الشعوذة والبدع، فإن الله قد يجعل على يديه من الخير والبركة ما لا يحصل لغيره.

وأما إن كان هديه وسمته مخالفًا للكتاب والسنة، أو كان داعية ضلال، فإن بركته قد تضعها الشياطين؛ مساعدةً له على باطله، وفتنةً لضعاف الإيمان.

 

• وقد تكون بعض الأطعمة أبرك من بعض:

عن عمر بن الخطاب، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كُلُوا الزيت، وادَّهنوا به؛ فإنه من شجرة مباركة))؛ أخرجه الترمذي[6] - يعني: زيت الزيتون.

 

وخلاصة ما فات أنه يجوز أن يتبرك بشيء نصَّ الشارع على جواز التبرُّك به؛ بشرط أن يكون حسيًّا، وعلى الوصف الذي نص الشارع عليه، فإذا خالف الشيء المتبرك به شيئًا من ذلك، عُدَّ من باب التبرك البدعي.

ومن صور التبرك البدعي تخصيصُ غار حراء بالصلاة، وكذلك الذهاب إلى طور سيناء حيث كلم موسى ربَّه للصلاة أو الدعاء.

فهذه الأماكنُ على الرغم من تشريفها بنزول الوحي فيها، إلا أنها لم ينص على أن العبادة فيها تفُوق غيرها؛ بل هي كغيرها من الأماكن.

ومن التبرك البدعي تخصيصُ أيام بالتعظيم؛ كالاحتفال بالمولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج، وهي كغيرها من الأيام لم ينص على كونها أعظمَ من غيرها، ولم ينص على أن العبادة فيها تفوق غيرها من الأيام.

ومن التبرك البدعي: التبرك بذوات الصالحين وآثارهم، فلم يؤثَر عن أحد من الصحابة أنه تبرَّك بعد عصر النبي بأبي بكر، ولا بعمر، ولا بعثمان، ولا بعلي، ولا بأحد من العشرة المبشَّرين بالجنة؛ وإنما كانوا يتبرَّكون بوضوء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبنخامته، وعرقه، وشعره، وريقه، وملابسه، وهذا خاص بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لورود النص بذلك.

 

ولا يجوز أن يقاس غيرُ النبي عليه في هذا الباب، ولو كان من الخلفاء الراشدين، أو من العشرة المبشرين بالجنة، فضلاً عن غيرهم من الصالحين؛ وإنما التبرك الشرعي في هذه الجزئية، ألا وهي المتعلقة بالأشخاص، يشترط فيها شرطان:

أ- أن يكون بدعاء الصالح، لا بذاته ولا بمتعلقاته.

ب- أن يكون بحيٍّ، ولا يصلح أن يكون بميت أبدًا.

 

قال العلامة عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - في "تحفة الإخوان" ص 34 س 5:

"لا يجوز التبرُّك بأحد غير النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا بوضوئه، ولا بشعره، ولا بعرقه، ولا بشيء من جسده؛ بل هذا كلُّه خاص بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِمَا جعل الله في جسده وما مسه من الخير والبركة.

ولهذا لم يتبرَّك الصحابة - رضي الله عنهم - بأحد منهم، لا في حياته ولا بعد وفاته - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا مع الخلفاء الراشدين ولامع غيرهم، فدلَّ ذلك على أنهم قد عرَفوا أن ذلك خاصٌّ بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - دون غيره؛ ولأن ذلك وسيلة إلى الشرك وعبادة غير الله سبحانه" اهـ.

 

2- التوسل:

وقال في "فتح الباري" 2 / 495 (الاستسقاء / باب 3):

"... وجاء رجل أعرابي إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، أتيناك وما لنا بعير ينط، ولا صبي يغط، ثم أنشده شعرًا يقول فيه:

وَلَيْسَ لَنَا إِلاَّ إِلَيْكَ فِرَارُنَا ♦♦♦ وَأَيْنَ فِرَارُ النَّاسِ إِلاَّ إِلَى الرُّسْلِ

 

وذكر بعد ذلك بأسطر:

"... أصاب الناسَ قحطٌ في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، استسقِ لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا..." اهـ.

 

قال العلامة عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - في التعليق على هذا الموضع من "فتح الباري":

"هذا الأثر - على فرض صحته كما قال الشارح - ليس بحجةٍ على جواز الاستسقاء بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد وفاته؛ لأن السائل مجهول؛ ولأن عمل الصحابة - رضي الله عنهم - على خلافه، وهم أعلمُ الناس بالشرع، ولم يأتِ أحد منهم إلى قبره يسأله السُّقيا، ولا غيرها! بل عدَلَ عمرُ عنه لمَّا وقَعَ الجدب إلى الاستسقاء بالعباس، ولم ينكر ذلك عليه أحدٌ من الصحابة، فعلم أن ذلك هو الحق، وأن ما فعله هذا الرجلُ منكرٌ ووسيلة إلى الشرك، بل قد جعله بعض أهل العلم من أنواع الشرك، وأما تسمية السائل في رواية سيف المذكورة: "بلال بن الحارث"، ففي صحة ذلك نظر، ولم يذكر الشارح سند سيف في ذلك، وعلى صحته عنه لا حجة فيه؛ لأن عمل كبار الصحابة يخالفه، وهم أعلم بالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشريعته من غيرهم، والله أعلم" اهـ.

 

قلت: وقد حرَّر العلامة الألباني - رحمه الله - بما لا يدع مجالاً للشك ضعْفَ هذا الأثر سندًا ومتنًا؛ حيث قال في "التوسل" ص 130:

"وبعد أن فرغنا من إيراد الأحاديث الضعيفة في التوسل وتحقيق القول فيها، يحسن بنا أن نورد أثرًا كثيرًا ما يورده المجيزون لهذا التوسل المبتدع؛ لنبيِّن حاله من صحة أو ضعف، وهل له علاقة بما نحن فيه أم لا؟ فأقول: قال الحافظ في "الفتح" 2 / 397 ما نصه: "وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان، عن مالك الدار - وكان خازن عمر - قال: أصاب الناس قحطٌ في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر... الحديث، وقد روى سيف في "الفتوح" أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة".

 

قلت: والجواب من وجوه:

الأول: عدم التسليم بصحة هذه القصة؛ لأن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط، وهذان شرطان أساسيان في كل سندٍ صحيح كما تقرر في علم المصطلح، وقد أورده ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 4 / 1-213 ولم يذكر راويًا عنه غير أبي صالح هذا، ففيه إشعار بأنه مجهول، ويؤيِّده أن ابن أبي حاتم نفسه - مع سَعة حفظه واطلاعه - لم يحكِ فيه توثيقًا، فبقي على الجهالة[7].

 

ولا ينافي هذا قول الحافظ: "بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان"؛ لأننا نقول: إنه ليس نصًّا في تصحيح جميع السند؛ بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسناد من عند أبي صالح، ولقال رأسًا: "عن مالك الدار... وإسناده صحيح"؛ ولكنه تعمد ذلك؛ ليلفت النظر إلى أن هاهنا شيئًا ينبغي النظر فيه، والعلماء إنما يفعلون ذلك لأسباب؛ منها: أنهم قد لا يحضرهم ترجمة بعض الرواة، فلا يستجيزون لأنفسهم حذف السند كله؛ لما فيه من إيهام صحته، لا سيما عند الاستدلال به؛ بل يوردون منه ما فيه موضع للنظر فيه، وهذا هو الذي صنعه الحافظ - رحمه الله - هنا، وكأنه يشير إلى تفرُّد أبي صالح السمان عن مالك الدار، كما سبق نقله عن ابن أبي حاتم، وهو يحيل بذلك إلى وجوب التثبُّت من حال مالك هذا، أو يشير إلى جهالته. والله أعلم.

 

وهذا علم دقيق لا يعرفه إلا من مارس هذه الصناعةَ، ويؤيِّد ما ذهبتُ إليه أن الحافظ المنذري أورد في "الترغيب" 3 / 41-42 قصة أخرى، من رواية مالك الدار عن عمر، ثم قال: "رواه الطبراني في الكبير، ورواته إلى مالك الدار ثقات مشهورون، ومالك الدار لا أعرفه"، وكذا قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3 / 125.

 

وقد غفل عن هذا التحقيق صاحبُ كتاب "التوصل" ص 241، فاغترَّ بظاهر كلام الحافظ، وصرح بأن الحديث صحيح، وتخلص منه بقوله: "فليس فيه سوى: جاء رجل.."، واعتمد على أن الرواية التي فيها تسمية الرجل ببلال بن الحارث، فيها سيف، وقد عرفت حاله.

وهذا لا فائدة كبرى فيه؛ بل الأثر ضعيف من أصله؛ لجهالة مالك الدار - كما بيناه.

 

الثاني: أنها مخالفة لما ثبَتَ في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء؛ لاستنزال الغيث من السماء، كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة، وأخذ به جماهير الأئمة؛ بل هي مخالفة لما أفادتْه الآية من الدعاء والاستغفار، وهي قوله - تعالى - في سورة نوح: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾ [نوح: 10-11]، وهذا ما فعله عمر بن الخطاب حين استسقى وتوسَّل بدعاء العباس كما سبق بيانه، وهكذا كانتْ عادة السلف الصالح كلما أصابهم القحط؛ أن يصلُّوا ويدْعوا، ولم ينقل عن أحد منهم مطلقًا أنه الْتجأ إلى قبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وطلب منه الدعاء للسقيا، ولو كان ذلك مشروعًا لفعلوه ولو مرة واحدة، فإذا لم يفعلوه دلَّ ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة.

 

الثالث: هبْ أن القصة صحيحة، فلا حجة فيها؛ لأن مدارها على رجل لم يُسمَّ، فهو مجهول أيضًا، وتسميته بلالاً في رواية سيف لا يساوي شيئًا؛ لأن سيفًا هذا - وهو ابن عمر التميمي - متفقٌ على ضعفه عند المحدثين؛ بل قال ابن حبان فيه: "يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث"[8]، فمن كان هذا شأنه لا تُقبَل روايته ولا كرامة، لا سيما عند المخالفة.

 

الفرق بين التوسل بذات النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبين طلب الدعاء منه:

الوجه الرابع: أن هذا الأثرَ ليس فيه التوسل بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل فيه طلب الدعاء منه بأن يَسقي الله - تعالى - أمَّتَه، وهذه مسألة أخرى، لا تشملها الأحاديث المتقدمة، ولم يقل بجوازها أحدٌ من علماء السلف الصالح - رضي الله عنهم - أعني الطلب منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد وفاته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "القاعدة الجليلة":

"لم يكن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدْعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ويستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد: يا ملائكة الله، اشفعوا لي عند الله، سَلُوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا، وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله، يا ولي الله (الأصل: رسول الله) ادعُ الله لي، سل الله أن يغفر لي... ولا يقول: أشكو إليك ذنوبي، أو نقص رزقي، أو تسلُّط العدو عليَّ، أو أشكو إليك فلانًا الذي ظلمني، ولا يقول: أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجيرك، ولا يكتب أحد ورقة ويعلِّقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضرًا أنه استجار بفلان، ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك، ونحو ذلك مما يفعله أهل البِدَع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين، أو في مغيبهم، فهذا مما عُلم بالاضطرار من دين الإسلام، وبالنقل المتواتر، وبإجماع المسلمين أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يَشرَع هذا لأمَّته، وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئًا من ذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبَّ ذلك أحدٌ من أئمة المسلمين؛ لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها أنه يُستحب لأحد أن يسأل النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند قبره أن يشفع له، أو يدعو لأمَّته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدِّين، وكان أصحابه يُبتلَون بأنواع البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول، ولا قبر الخليل، ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكو إليك جدب الزمان، أو قوة العدو، أو كثرة الذنوب، ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم، أو ينصرهم، أو يغفر لهم؛ بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبَّها أحد من أئمة المسلمين، فليستْ واجبةً ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين، وكل بدعةٍ ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة وضلالة باتفاق المسلمين.

 

ومن قال في بعض البدع: إنها بدعة حسنة، فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب، فلا يقول أحد من المسلمين: إنها من الحسنات التي يتقرَّب بها إلى الله، ومن تقرَّب بما ليس من الحسنات المأمور بها أمرَ إيجاب ولا استحباب، فهو ضال متَّبع للشيطان، وسبيله من سبيل الشيطان، كما قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: خَطَّ لنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطًّا، وخطَّ خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: ((هذا سبيل الله، وهذه سُبُل، على كل سبيل منها شيطان يدْعو إليه))، ثم قرأ: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153]"؛ اهـ.

 

"قلت - الألباني -: وإنما وقع بعض المتأخرين في هذا الخطأ المبين؛ بسبب قياسهم حياة الأنبياء والأولياء في البرزخ على حياتهم في الدنيا، وهذا قياسٌ باطل مخالف للكتاب والسنة والواقع، وحسبُنا الآن مثالاً على ذلك أن أحدًا من المسلمين لا يجيز الصلاة وراء قبورهم، ولا يستطيع أحد مكالمتهم ولا التحدث إليهم، وغير ذلك من الفوارق التي لا تخفى على عاقل.

 

الاستغاثة بغير الله - تعالى -:

ونتج من هذا القياس الفاسد، والرأيِ الكاسد تلك الضلالةُ الكبرى، والمصيبة العظمى التي وقع فيها كثير من عامة المسلمين وبعض خاصتهم، ألا وهي الاستغاثة بالأنبياء والصالحين من دون الله - تعالى - في الشدائد والمصائب، حتى إنك لتسمعُ جماعاتٍ متعددةً عند بعض القبور يستغيثون بأصحابها في أمور مختلفة؛ كأنَّ هؤلاء الأموات يسمعون ما يقال لهم، ويُطلَب منهم من الحاجات المختلفة، بلُغات متباينة، فهم عند المستغيثين بهم يعلمون مختلف لغات الدنيا، ويميزون كل لغة عن الأخرى، ولو كان الكلام بها في آن واحد، وهذا هو الشِّرك في صفات الله - تعالى - الذي جهله كثيرٌ من الناس؛ فوقعوا بسببه في هذه الضلالة الكبرى.

 

ويبطل هذا ويرد عليه آيات كثيرة: منها قوله - تعالى -: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً ﴾ [الإسراء: 56]، والآيات في هذا الصدد كثيرة؛ بل قد ألِّف في بيان ذلك كتب ورسائل عديدة، فمن كان في شك من ذلك فليرجع إليها يظهر له الحق - إن شاء الله" اهـ.

 

وكذا لا يجوز التوسل إلى الله - سبحانه - بجاه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو ذاته، أو صفته، أو بركته؛ لعدم الدليل على ذلك، ولأن ذلك من وسائل الشرك به والغلو فيه - عليه الصلاة والسلام - ولأن ذلك أيضًا لم يفعلْه أصحابُه - رضي الله عنهم - ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، ولأن ذلك خلاف الأدلة الشرعية، فقد قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180]، ولم يأمر بدعائه - سبحانه - بجاه أحد، أو حق أحد، أو بَرَكة أحد.

 

فوائد حول التوسل:

معنى التوسل:

مصدر توسل يتوسل؛ أي: اتَّخذ وسيلة توصِّله إلى مقصوده، فأصله طلب الوصول إلى الغاية.

والتوسل ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: توسل مشروع.

القسم الثاني: توسل ممنوع.

 

أما النوع الأول، فهو الذي يتوصل به إلى طلب الوسيلة بشكل صحيح مشروع، وينقسم إلى أنواع، منها:

1- التوسل بأسماء الله - تعالى -:

قال - تعالى -: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180].

عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أصاب أحدًا قطُّ همٌّ ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدُك، وابن عبدك، وابن أَمَتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذَهاب همي، إلا أذهَبَ الله همَّه وحزنه، وأبدله مكانه فرجًا))، قال: فقيل: يا رسول الله، ألاَ نتعلَّمها؟ فقال: ((بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلَّمها))[9].

 

2- التوسل بالأعمال الصالحة:

قال - تعالى -: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193].

وقال - تعالى -: ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 53].

 

3- التوسل بذكر حال الداعي وافتقاره:

قال تعالى - حكاية عن موسى عليه السلام -: ﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24].

قال تعالى - حكاية عن زكريا عليه السلام -: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾ [مريم: 4].

 

4- أن يتوسل إلى الله بدعاء من تُرجى إجابته:

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلاً دخل يوم الجمعة من باب كان وِجاه المنبر، ورسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قائمٌ يخطب، فاستقبل رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قائمًا فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي، وانقطعت السُّبُل، فادعُ الله يغيثُنا، قال: فرفع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يديه، فقال: ((اللهم اسقِنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا))، قال أنس: ولا واللهِ ما نرى في السماء من سحاب، ولا قَزَعة، ولا شيئًا، وما بيننا وبين سَلْعٍ من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل التُّرْس، فلما توسَّطت السماء انتشرتْ، ثم أمطرت، قال: واللهِ ما رأينا الشمس ستًّا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قائم يخطب، فاستقبله قائمًا، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعُ الله يمسكها، قال: فرفع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يديه، ثم قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال والآجام والظِّراب والأودية ومنابت الشجر))، قال: فانقطعتْ، وخرجنا نمشي في الشمس))[10].

 

عن ابن عباس قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عُرضت عليَّ الأمم، فجعل النبي والنبيَّان يمرُّون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد، حتى رُفع لي سواد عظيم، قلت: ما هذا؟ أمَّتي هذه؟ قيل: بل هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق، فإذا سوادٌ يملأ الأفق، ثم قيل لي: انظر ها هنا وها هنا في آفاق السماء، فإذا سواد قد ملأ الأفق، قيل: هذه أمتك، ويدخل الجنةَ من هؤلاء سبعون ألفًا بغير حساب))، ثم دخل ولم يبين لهم، فأفاض القوم وقالوا: نحن الذين آمنَّا بالله واتبعْنا رسوله، فنحن هم أو أولادنا الذين وُلدوا في الإسلام، فإنَّا وُلدنا في الجاهلية، فبلغ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فخرج، فقال: ((هم الذين لا يَستَرْقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوُون، وعلى ربِّهم يتوكلون))، فقال عُكَّاشَةُ بن محصن: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: ((نعم))، فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ قال: ((سبقك بها عُكَّاشة))[11].

 

أما القسم الثاني من التوسل: وهو التوسل الممنوع، فهو الذي يتوصل به إلى طلب الوسيلة بشكل غير صحيح وغير مشروع، وهو على قسمين:

1- أن يكون بوسيلةٍ نصَّ الشارع على بطلانها، كتوسل المشركين بآلهتهم.

2- أن يكون بوسيلة لم ينصَّ الشرع على جوازها - سكت عنها.

وهذا الأخير هو الذي وقع فيه المبتدعة المنسوبون للإسلام، ومثاله: التوسل بجاه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو بالموتى ونحو ذلك.

 

3- شد الرحال:

قال الحافظ في "فتح الباري" 3 / 66 ح 1189، عند شرح حديث: ((لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومسجد الأقصى))[12]:

"وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها؛ لكونها مساجدَ الأنبياء، ولأن الأول: قبلة الناس وإليه حجهم، والثاني: كان قبلة الأمم السالفة، والثالث: أسِّس على التقوى، واختُلف في شدِّ الرحال إلى غيرها؛ كالذَّهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتًا، وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها، والصلاة فيها، فقال الشيخ أبو محمد الجويني: يَحرُم شد الرحال إلى غيرها؛ عملاً بظاهر هذا الحديث، وأشار القاضي حسين إلى اختياره، وبه قال عياض وطائفة، ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور، وقال له: "لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت"، واستدل بهذا الحديث، فدلَّ على أنه يرى حمْل الحديث على عمومه، ووافقه أبو هريرة، والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يَحرُم، وأجابوا عن الحديث بأجوبة، منها: أن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شدِّ الرحال إلى هذه المساجد، بخلاف غيرها، فإنه جائز، وقد وقع في رواية لأحمد - سيأتي ذكرها - بلفظ: ((لا ينبغي للمطي أن تعمل)) [13]، وهو لفظ ظاهر في غير التحريم[14].

 

ومنها: أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة؛ فإنه لا يجب الوفاء به، قاله ابن بطال، وقال الخطابي: اللفظ لفظ الخبر ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرَّك بها؛ أي: لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد الثلاثة[15].

 

ومنها: أن المراد حُكم المساجد فقط، وأنه لا تُشدُّ الرِّحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثة؛ وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو صاحب، أو طلب علم، أو تجارة، أو نزهة، فلا يدخل في النهي، ويؤيِّده ما روى أحمد من طريق شهر بن حوشب، قال: سمعت أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة في الطور، فقال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي))، وشهر حَسَنُ الحديث وإن كان فيه بعض الضعف[16].

 

ومنها: أن المراد: قصدها بالاعتكاف، فيما حكاه الخطابي عن بعض السلف أنه قال: لا يعتكف في غيرها، وهو أخص من الذي قبله، ولم أرَ عليه دليلاً[17]...".

 

إلى أن قال:

"قال الكرماني: وقع في هذه المسألة في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة، وصنف فيها رسائل من الطرفين.

قلت: يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وما انتصر به الحافظ شمس الدين بن عبدالهادي وغيره لابن تيمية، وهي مشهورة في بلادنا، والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحل إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنكرنا صورة ذلك، وفي شرح ذلك من الطرفين طول، وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية، ومن جملة ما استدل به على دفْع ما ادَّعاه غيره من الإجماع على مشروعية زيارة قبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما نقل عن مالك أنه كره أن يقول: زرت قبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ أدبًا، لا أصل الزيارة؛ فإنها من أفضل الأعمال، وأجل القُرُبات الموصلة إلى ذي الجلال، وأن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع، والله الهادي إلى الصواب[18].

 

قال بعض المحققين: قوله: ((إلا إلى ثلاثة مساجد)): المستثنى منه محذوف، فإما أن يقدَّر عامًّا فيصير: لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة، أو أخص من ذلك، لا سبيل إلى الأول؛ لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة، وصلة الرحم، وطلب العلم وغيرها؛ فتعيَّن الثاني، والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة، وهو: لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة، فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين والله أعلم.

 

وقال السبكي الكبير: ليس في الأرض بقعة لها فضلٌ لذاتها حتى تشد الرحال إليها، غير البلاد الثلاثة، ومرادي بالفضل ما شهد الشرع باعتباره ورتب عليه حكمًا شرعيًّا، وأما غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها؛ بل لزيارة، أو جهاد، أو علم، أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات، قال: وقد الْتبس ذلك على بعضهم، فزعم أن شدَّ الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخلٌ في المنع، وهو خطأ؛ لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه، فمعنى الحديث: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد، أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان، إلا إلى الثلاثة المذكورة، وشد الرحال إلى زيارة أو طلب علم، ليس إلى المكان؛ بل إلى من في ذلك المكان، والله أعلم" اهـ.

 

قال الحافظ في "فتح الباري" 3 / 69 - 70 (ح 1190):

"وفيه أن النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة، ليس على التحريم؛ لكون النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يأتي مسجد قباء" اهـ.

 

قال العلامة عبدالعزيز بن باز تعليقًا على هذا الموضع:

"هذا فيه نظر، والصواب أنه للتحريم كما هو الأصل في نهيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - والجواب عن حديث قباء: أن المراد بشدِّ الرحل في أحاديث النهي الكنايةُ عن السفر، لا مجرد شد الرحل، وعليه فلا إشكال في ركوب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى مسجد قباء، وقد سبق للشارح ما يرشد إلى هذا في كلامه على أحاديث النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، فتنبه! والله الموفق" اهـ.

 

* وقال الحافظ في "فتح الباري" 4 / 93 (كتاب فضائل المدينة / ب 6):

"وكل مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة؛ لمحبَّته في النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيشمل ذلك جميعَ الأزمنة؛ لأنه في زمن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للتعلم منه..." إلى أن قال: "ومن بعد ذلك لزيارة قبره - صلَّى الله عليه وسلَّم - والصلاة في مسجده" اهـ.

 

قلت: وقد أتى الدليل على جواز شد الرحل إلى مسجد النبي، فأين الدليل على جوازه للقبر؟

راجع ما فات، تَعلَم الحق في هذه المسألة.

 

بناء المساجد على القبور:

قال الحافظ في "فتح الباري" 5 / 351 (كتاب الشروط / باب 15):

"وفي رواية موسى بن عقبة: فكتب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى أبي بصير، فقدم كتابه وأبو بصير يموت، وكتاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدًا" اهـ.

 

قال العلامة الألباني - رحمه الله - في "تحذير الساجد" ص 78:

"أما بناء أبي جندل - رضي الله عنه - مسجدًا على قبر أبي بصير - رضي الله عنه - في عهد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فشبهةٌ لا تساوي حكايتها، ولولا أن بعض ذوي الأهواء من المعاصرين اتَّكأ عليها في ردِّ تلك الأحاديث المحْكمة، لما سمحتُ لنفسي أن أُسوِّد الصفحات في سبيل الجواب عنها، وبينَّا بطلانها والكلام عليها من وجهين:

الأول: ردُّ ثبوت البناء المزعوم من أصله؛ لأنه ليس له إسناد تَقوم الحُجة به، ولم يروه أصحاب "الصحاح"، و"السنن"، و"المسانيد" وغيرهم؛ وإنما أورده ابن عبدالبر في ترجمة أبي بصير من "الاستيعاب" (4 / 2123) مرسلاً، فقال: وله قصة في المغازي عجيبة، ذكَرها ابن إسحاق وغيره، وقد رواها معمر عن ابن شهاب، ذكر عبدالرزاق عن معمر عن ابن شهاب في قصة عام الحديبية، قال: ثم رجع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فجاءه أبو بصير - رجل من قريش - وهو مسلم، فأرسلتْ قريشٌ في طلبه رجلينِ، فقالا لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: العهد الذي جعلتَ لنا أن تردَّ إلينا كلَّ من جاءك مسلمًا، فدفعه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الرجلين، فخرجا حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيد يا فلان، فاستلَّه الآخر وقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت، فقال له أبو بصير: أرني انظر إليه، فأمْكَنه منه، فضربه حتى بَرَد، وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين رآه: ((لقد رأى هذا ذعرًا))، فلما انتهى إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: يا رسول الله، قد واللهِ وفى اللهُ ذمتك، قد رددتني إليهم، فأنجاني الله منهم، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ويلُ أمِّه، مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان معه أحد))، فلما سمع ذلك علِم أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فلحق بأبي بصير... وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتم ألفاظًا وأكمل سياقًا، قال:... وكتب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين، فقدم كتاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أبي جندل وأبو بصير يموت، فمات وكتابُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بيده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وصلى عليه، وبنى على قبره مسجدًا".

 

قلت: فأنت ترى أن هذه القصة مدارُها على الزهري؛ فهي مرسلة، على اعتبار أنه تابعي صغير، سمع من أنس بن مالك - رضي الله عنه - وإلا فهي معضلة، وكيف ما كان الأمر فلا تقوم بها حجة، على أن موضع الشاهد منها - وهو قوله: "وبنى على قبره مسجدًا" - لا يظهر من سياق ابن عبدالبر للقصة أنه من مرسل الزهري، ولا من رواية عبدالرزاق عن معمر عنه؛ بل هو من رواية موسى بن عقبة، كما صرح به ابن عبدالبر لم يجاوزه، وابن عقبة لم يسمع أحدًا من الصحابة، فهذه الزيادة - أعني قوله: "وبنى على قبره مسجدًا" - معضلة؛ بل هي عندي منكرة؛ لأن القصة رواها البخاري في "صحيحه" (5 / 351 - 371)، وأحمد في "مسنده" (4 / 328 - 331) موصولة من طريق عبدالرزاق عن معمر، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان، بها دون هذه الزيادة، وكذلك أوردها ابن إسحاق في "السيرة" عن الزهري مرسلاً، كما في "مختصر السيرة" لابن هشام (3 / 331 - 339)، ووصله أحمد (4 / 323 - 326) من طريق ابن إسحاق عن الزهري، عن عروة به، مثل رواية معمر وأتم، وليس فيها هذه الزيادة، وكذلك رواه ابن جرير في "تاريخه" (3 / 271 - 285) من طريق معمر وابن إسحاق وغيرهما، عن الزهري به دون هذه الزيادة، فدلَّ ذلك كله على أنها زيادة منكرة؛ لإعضالها، وعدم رواية الثقات لها، والله الموفق.

 

الوجه الثاني: أن ذلك لو صح لم يَجُزْ أن تُرَدَّ به الأحاديث الصريحة في تحريم بناء المساجد على القبور؛ لأمرين:

أولاً: أنه ليس في القصة أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - اطَّلع على ذلك وأقرَّه.

ثانيًا: أنه لو فرضنا أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - علِم بذلك وأقرَّه، فيجب أن يحمل ذلك على أنه قبل التحريم؛ لأن الأحاديث صريحة في أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حرَّم ذلك في آخر حياته كما سبق، فلا يجوز أن يُترَك النص المتأخِّر من أجل النص المتقدم على فرض صحته عند التعارض، وهذا بيِّن لا يخفى - نسأل الله تعالى أن يحمينا من اتِّباع الهوى" ا هـ.



[1] أخرجه البخاري في صحيحه: (كتاب الصلاة / باب: الصلاة في مسجد السوق / ح477).

وفي: (كتاب الأذان / باب: فضل صلاة الجماعة / ح 674).

ومسلم في صحيحه: (كتاب المساجد ومواضع الصلاة / باب: فضل صلاة الجماعة، وبيان التشديد في التخلف عنها / 245، 246، 247، 248، 249).

[2] من حديث أبي هريرة.

أخرجه البخاري في صحيحه: (كتاب الزكاة / باب: الصدقة من كسب اليد؛ لقوله: ﴿ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة 276 – 277] / ح 1410).

وفي: (كتاب التوحيد / باب: قول الله - تعالى -:﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ﴾ [المعارج: 4]، وقوله - جل ذكره -: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ [فاطر: 10] / ح 7430).

ومسلم في صحيحه: (كتاب الزكاة / باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها / ح63، 64).

[3] حسن، من حديث وحشي بن حرب.

أخرجه أبو داود في سننه: (كتاب الأطعمة / باب: في الاجتماع على الطعام / ح3765). وأحمد في المسند: (3 / 501)، وحسنه الألباني - رحمه الله - في "صحيح الجامع" برقم 142.

[4] من حديث أبي هريرة.

أخرجه البخاري في صحيحه: (كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة / ح 1190).

ومسلم في صحيحه: (كتاب الحج / باب: فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة / ح 505، 506، 507، 508).

[5] في صحيحه: (كتاب العيدين / باب: فضل العمل في أيام التشريق / ح969).

[6] صحيح.

أخرجه الترمذي في سننه: (كتاب الأطعمة / باب: ما جاء في أكل الزيت / ح 1851).

وصححه العلامة الألباني - رحمه الله - في صحيح الجامع" برقم: 4498.

[7] قال أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل في "إتحاف النبيل" ص 155 س 136:

"فإذا ذكر - يعني: ابن أبي حاتم - الرجل، وذكر تلامذته وشيوخه، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، فهو قد بيض له؛ عسى أن يقف على كلامٍ فيه، فيلحقه به، كما نص على ذلك في المقدمة، وقد فهم بعض المشايخ المعاصرين أن سكوت ابن أبي حاتم عليه يكون توثيقًا له؛ ولكن رد عليه عداب محمود حمش في رسالته: "الرواة المسكوت عنهم"، وبيَّن أن المسكوت عليه عند ابن أبي حاتم أو في كتاب "الجرح والتعديل"، ليس معناه أنه ثقة عنده.

فالصواب أن تقول: أورده ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، ثم ننظر إلى عدد الرواة عنه؛ فإن كانوا عددًا ترتفع بهم الجهالة، رفعْنا جهالة العين إلى جهالة الحال، وإلا بقي على جهالة العين، وإن ارتفع عن جهالة العين، فلا يلزم منه توثيق، ويبقى على جهالة الحال حتى يذكر فيه توثيق أو تصريح من أهل العلم بحاله توثيقًا أو تجريحًا" اهـ.

[8] راجع: "المجروحين" لابن حبان، 1 / 341.

[9] صحيح:

أخرجه أحمد في "المسند": (1 / 394، 452).

صححه العلامة الألباني - رحمه الله - في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" برقم: 199.

وذكر تصحيحه عن: شيخي الإسلام ابن تيمية، وابن قيم الجوزية، وكذا عن العلامة أحمد شاكر - رحمه الله - كما في تعليقه على المسند.

[10] متفق عليه:

أخرجه البخاري في غير موضع من صحيحه، منها: (كتاب الاستسقاء / باب: الاستسقاء في الجامع / ح 1013).

ومسلم في صحيحه: (كتاب صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء في الاستسقاء / ح 8، 9، 10، 11، 12، 13).

[11] متفق عليه:

أخرجه البخاري في غير موضع من صحيحه، منها: (كتاب الطب / باب: من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتوِ / ح 5705).

وأخرجه مسلم في غير موضع من صحيحه، منها: (كتاب الإيمان / باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب / ح 374).

[12] ورد هذا الحديث من عدة طرق عن عدد من الصحابة، منها:

الأول: عن أبي هريرة بلفظ: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومسجد الأقصى)).

وفي رواية عنه بلفظ: ((إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء)).

أخرجه البخاري في صحيحه: (كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة / باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة / ح 1189)، ومسلم في صحيحه: (كتاب الحج / باب: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد / ح 511) باللفظ الأول، وأخرجه مسلم في صحيحه: (كتاب الحج / باب: لا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة / ح 513) باللفظ الآخر من طريق ثانٍ عنه.

الثاني: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تشد - وفي لفظ: لا تشدوا - الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)).

أخرجه الشيخان؛ أخرجه البخاري في غير موضع من صحيحه، منها: (كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة / باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة / ح 1197)، وأخرجه مسلم في صحيحه: (كتاب /  الحج باب: سفر المرأة مع المحرم إلى الحج وغيره / ح415)، واللفظ الأخير لمسلم.

[13] أخرجه أحمد في المسند 3 / 64، 93، من حديث أبي سعيد الخدري.

قال العلامة الألباني  - رحمه الله - في "أحكام الجنائز" ص 229:

"هذا الجواب ساقط من وجهين:

الأول: أن اللفظ الذي احتجوا به ((لا ينبغي)) غير ثابت في الحديث؛ لأنه تفرد به شهر، وهو ضعيف كما سبق بيانه.

الثاني: هبْ أنه لفظ ثابت، فلا نسلم أنه ظاهر في غير التحريم، بل العكس هو الصواب، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة، اجتزئ ببعضها:

أ- قوله - تعالى -: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ﴾ [ سورة الفرقان:18 ].

ب- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينبغي أن يعذِّب بالنار إلا ربُّ النار))؛ رواه أبو داود (2675) من حديث ابن مسعود، والدارمي (2 / 222) من حديث أبي هريرة.

جـ-  ((لا ينبغي لصديق أن يكون لعانًا))؛ رواه مسلم.

د-  ((إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد))؛ رواه مسلم.

هـ-   ((لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى))؛ رواه البخاري.

الثالث: هبْ أنه ظاهر في غير التحريم، فهو يدل على الكراهة، وهم لا يقولون بها، ففي "شرح مسلم" للنووي: "الصحيح عند أصحابنا أنه لا يحرم ولا يكره".

فالحديث حجة عليهم على كل حال"؛ اهـ.

[14] قال العلامة عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -: "هذا فيه نظر، والصواب أنه للتحريم كما هو الأصل في نهيه - صلى الله عليه وسلم" اهـ.

وأجيب عن هذا بأن لفظ الحديث إنما يفيد النفي لا النهي.

قال العلامة الألباني: "وهي وإن كانت بلفظ النفي: ((لا تشد))، فالمراد النهي كما قال الحافظ، على وزن قوله - تعالى -: ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197]، وهو كما قال الطيبي: "هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع؛ لاختصاصها بما اختصت به" اهـ.

وتعقبه العلامة الألباني - رحمه الله - في "أحكام  الجنائز" ص 226، فقال:

"ومما يشهد لكون النفي هنا بمعنى النهي: رواية لمسلم في الحديث الثاني: ((لا تشدوا))" اهـ.

[15] قال العلامة الألباني - رحمه الله - في "أحكام الجنائز" ص 230:

"إن هذا الجواب كالذي قبله ساقط الاعتبار؛ لأنه لا دليل على التخصيص، فالواجب البقاء على العموم، لا سيما وقد تأيَّد بفهم الصحابة الذين روَوا حديث أبي بصرة، وأبي هريرة، وابن عمر، وأبي سعيد إن صح عنه - فقد استدلوا جميعًا به على المنع من السفر إلى الطور، وهم أدرى بالمُراد منه من غيرهم؛ لذلك قال الصنعاني في "سبل السلام" 2 / 251:

"وذهب الجمهور إلى أن ذلك غير محرم، واستدلوا بما لا ينهض، وتأولوا أحاديث الباب بتآويل بعيدة، ولا ينبغي التأويل إلا بعد أن ينهض على خلاف ما أولوه الدليلُ" اهـ.

[16] قال العلامة الألباني - رحمه الله - في "أحكام الجنائز" ص 228:

"قلت: لقد تساهل الحافظ - رحمه الله - في قوله في شهر: إنه حسن الحديث، مع أنه قال فيه في "التقريب": "كثير الأوهام" كما سبق، ومن المعلوم أن من كان كذلك فحديثُه ضعيف لا يُحتج به، كما قرره الحافظ نفسه في "شرح النخبة"، ثم هبْ أنه حسن الحديث، فإنما يكون كذلك عند عدم المخالفة، أما وهو قد خالف جميع الرواة الذين روَوُا الحديث عن أبي سعيد، والآخرين الذين رووه عن غيره من الصحابة كما تقدم بيانه، فكيف يكون حسن الحديث مع هذه المخالفة؟! بل هو منكر الحديث في مثل هذه الحالة، دون أي شك أو ريب.

أضفْ إلى ذلك أن قوله في الحديث ((إلى مسجد)) مما لم يثبت عن شهر نفسِه؛ فقد ذكرها عنه عبدالحميد، ولم يذكرها عنه ليث بن أبي سليم، وهذه الرواية عنه أرجح؛ لموافقتها لروايات الثقات كما عرَفت.

وأيضًا فإن المتأمل في حديثه يجد فيه دليلاً آخر على بطلان ذِكر هذه الزيادة فيه، وهو قوله: إن أبا سعيد الخدري احتج بالحديث على شهر لذَهابه إلى الطور، فلو كان فيه هذه الزيادة التي تخص حكمه بالمساجد دون سائر المواضع الفاضلة، لما جاز لأبي سعيد - رضي الله عنه - أن يحتج به عليه؛ لأن الطور ليس مسجدًا، وإنما هو الجبل المقدس الذي كلَّم الله - تعالى - موسى عليه، فلا يشمله الحديث لو كانت الزيادة ثابتة فيه، ولكان استدلال أبي سعيد به والحالةُ هذه وهمًا، لا يعقل أن يسكت عنه شهر ومن كان معه، فكلُّ هذا يؤكِّد بطلان هذه الزيادة، وأنها لا أصل لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

فثبت مما تقدَّم أنه لا دليل يخصص الحديث بالمساجد، فالواجب البقاء على عمومه الذي ذهب إليه أبو محمد الجويني ومن ذكر معه، وهو الحق" اهـ.

[17] وقد رد الحافظ نفسه هذا الوجه؛ فلا حاجة للتعرض له.

[18] قال العلامة عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - في التعليق على هذا الموضع من "فتح الباري": "هذا اللازم لا بأس به، وقد التزمه الشيخ، وليس في ذلك بشاعة - بحمد الله - عند من عرف السنة ومواردها ومصادرها، والأحاديث المروية في فضل زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها ضعيفة؛ بل موضوعة! كما حقَّق ذلك أبو العباس في منسكه وغيره، ولو صحت لم يكن فيها حجة على جواز شد الرحال إلى زيارة قبره - عليه الصلاة والسلام - من دون قصد المسجد؛ بل تكون عامة مطلقة، وأحاديث النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة تخصها وتقيدها، والشيخ لم ينكر زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من دون شد الرحال؛ وإنما أنكر شد الرحل من أجلها مجردًا عن قصد المسجد، فتنبَّه وافهم! والله أعلم" اهـ.

وقال العلامة الألباني - رحمه الله - في "أحكام الجنائز" ص 230:

"قال في "فتح العلام" 1 / 310: "والأحاديث الواردة في الحث على الزيارة النبوية وفضيلتها، ليس فيها الأمر بشد الرحل إليها، مع أنها كلها ضعافٌ أو موضوعات، لا يصلح شيء منها للاستدلال، ولم يتفطن أكثر الناس للفرق بين مسألة الزيارة وبين مسألة السفر إليها، فصرفوا حديث الباب عن منطوقه الواضح بلا دليل يدْعو إليه" اهـ.

قلت: وللغفلة المشار إليها اتَّهم الشيخ السبكي - عفا الله عنا وعنه - شيخَ الإسلام ابن تيمية بأنه ينكر زيارة القبر النبوي ولو بدون شد رحل، مع أنه كان من القائلين بها، والذاكرين لفضلها وآدابها، وقد أورد ذلك في غير ما كتاب من كتبه الطيبة، وقد تولى بيانَ هذه الحقيقة، ورد تهمة السبكيِّ العلامةُ الحافظ محمد بن عبدالهادي في مؤلف كبير أسماه: "الصارم المنكي في الرد على السبكي"، نقل فيه عن ابن تيمية النصوص الكثيرة في جواز الزيارة بدون السفر إليها.

وأورد فيه الأحاديث الواردة في فضلها، وتكلم عليها مفصلاً، وبيَّن ما فيها من ضعف ووضع، وفيه فوائد أخرى كثيرة، فقهية وحديثية وتاريخية، حريٌّ بكل طالب علم أن يسعى إلى الاطلاع عليها.

ثم إن النظر السليم يحكم بصحة قول من ذهب إلى أن الحديث على عمومه؛ لأنه إذا كان بمنطوقه يمنع من السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة، مع العلم بأن العبادة في أي مسجد أفضل منها في غير المسجد، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أحب البقاع إلى الله المساجد))، حتى ولو كان ذلك المسجد هو المسجد الذي أسِّس على التقوى، ألا وهو مسجد قباء، الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة في مسجد قباء كعمرة))، إذا كان الأمر كذلك فلأن يمنع الحديث من السفر إلى غيرها من المواطن أولى وأحرى، لا سيما إذا كان المقصود إنما هو مسجد بُني على قبر نبيٍّ أو صالح، من أجل الصلاة فيه، والتعبُّد عنده.

وقد علمت لعن من فعل ذلك، فهل يعقل أن يسمح الشارع الحكيم بالسفر إلى مثل ذلك، ويمنع من السفر إلى مسجد قباء؟!

والخلاصة: أن ما ذهب إليه أبو محمد الجويني الشافعي وغيره من تحريم السفر إلى غير المساجد الثلاثة من المواضع الفاضلة، هو الذي يجب المصير إليه، فلا جرم اختاره كبار العلماء المحققين المعروفين باستقلالهم في الفهم، وتعمقهم في الفقه عن الله ورسوله؛ أمثال شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم - رحمهم الله تعالى - فإن لهم البحوث الكثيرة النافعة في هذه المسألة الهامة، ومن هؤلاء الأفاضل الشيخ ولي الله الدهلوي، ومن كلامه في ذلك ما قال في "الحجة البالغة"1 / 192: "كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظَّمة بزعمهم يزورونها ويتبرَّكون بها، وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى، فسدَّ - صلى الله عليه وسلم - الفساد؛ لئلا يلحق غير الشعائر بالشعائر، ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله، والحق عندي أن القبر، ومحل عبادة ولي من الأولياء، والطور، كلُّ ذلك سواء في النهي".

ومما يحسن التنبيه عليه في خاتمة هذا البحث أنه لا يدخل في النهي السفرُ للتجارة وطلب العلم؛ فإن السفر إنما هو لطلب تلك الحاجة حيث كانت، لا لخصوص المكان، وكذلك السفر لزيارة الأخ في الله، فإنه هو المقصود كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في : (الفتاوى) 2 / 186" اهـ.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • البدور السافرة في نفي انتساب ابن حجر إلى الأشاعرة (1 / 6)
  • البدور السافرة في نفي انتساب ابن حجر إلى الأشاعرة (2 / 6)
  • البدور السافرة في نفي انتساب ابن حجر إلى الأشاعرة (3 / 6)
  • كتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ / 1361م)
  • الرد على الذين يكفرون الأشاعرة
  • نشأة الأشاعرة وتأثرها بالفرق الأخرى: معلومات ووقفات

مختارات من الشبكة

  • البدور السافرة في نفي انتساب ابن حجر إلى الأشاعرة (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة البدور السافرة في أحوال الآخرة(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة البدور السافرة في علوم الآخرة (النسخة 3)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة البدور السافرة في أمور الآخرة (نسخة ثانية)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة البدور السافرة في أمور الآخرة(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • ترجمة البدر السابع من البدور السبعة ( علي الكسائي ) وراوييه(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • وصف البدر وأحواله في قصائد ديوان (مراكب ذكرياتي) للدكتور عبدالرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • البدور المنيرة في ثلاثيات مسند أبي هريرة (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • أرجوزة ضوء البدر في نظم أسماء الصحابة من أهل بدر رضي الله عنهم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الأربعون النورانية (تلألؤ البدور بجمع أربعين حديثا عن النور)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • بعد عامين من البناء افتتاح مسجد جديد في قرية سوكوري
  • بعد 3 عقود من العطاء.. مركز ماديسون الإسلامي يفتتح مبناه الجديد
  • المرأة في المجتمع... نقاش مفتوح حول المسؤوليات والفرص بمدينة سراييفو
  • الذكاء الاصطناعي تحت مجهر الدين والأخلاق في كلية العلوم الإسلامية بالبوسنة
  • مسابقة للأذان في منطقة أوليانوفسك بمشاركة شباب المسلمين
  • مركز إسلامي شامل على مشارف التنفيذ في بيتسفيلد بعد سنوات من التخطيط
  • مئات الزوار يشاركون في يوم المسجد المفتوح في نابرفيل
  • مشروع إسلامي ضخم بمقاطعة دوفين يقترب من الموافقة الرسمية

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/12/1446هـ - الساعة: 17:59
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب