يحيى بن سعيد القطان وعبدالرحمن بن مهدي والرواية عن المحدثين الضعفاء (10/12)

يحيى بن سعيد القطان وعبدالرحمن بن مهدي والرواية عن المحدثين الضعفاء (10/12)

3- منهج الإمام عبدالرحمن بن مهدي:

كان الإمام عبدالرحمن بن مهدي ممن تلقَّى الحديث النَّبوي الشريف عَبْرَ قناتين:

القناة الأولى: كإمام من أئمَّة الحديث وجهابذة نُقَّاده.

والقناة الثانية: بصفته أحدَ رُوَّاد فُقَهاء الحديث، الذين لم تقتصرْ لديهم صَنعةُ الحديث على التَّحري عن أحوال نقلته؛ بل امتدَّت اهتماماتُهم، فشَمِلَت سبر ما يَحويه المتن من دلالات ومعانٍ؛ لذا فليس بمستغرب أنْ يصحب ابن مهدي إمام الفقهاء أبا عبدالله محمد بن إدريس الشافعي، ويتوج صحبتهما بتصنيف الإمام الشافعي كتاب "الرسالة"؛ إجابةً لمسألته بوضع كتاب له في معاني القرآن، ويجمع قبولَ الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة[1].

وعليه؛ سنكون الآن أمام منهج جديد، اشتبكت من خلاله الخيوطُ النَّقدية لدراية الحديث وروايته، وفقهه في إرهاصاتها الأولى، فابن مهدي قد امتدت خبرته إلى صيرفة الحديث ورجاله، وبات الحديثُ لا يقتصر لديه على نَقد طريق نقلته؛ بل أصبح مَتْن الحديث يَحمل دلالةً موضوعيَّة يُستفادُ منها في إثباته، أو اللُّجوء إلى المعارضة والترجيح بالقرائن.

قال عليُّ بن المديني: أعلم النَّاس بالحديث عبدالرحمن بن مهدي[2]، وقال نعيم بن حماد: قلت لابن مهدي: كيف تعرف الكذَّاب؟ فقال: كما يعرف الطبيب المجنون[3].

وقال ابن حبان في ثِقَاته - كما نقل عنه ابن حجر -: كان ممن حفظ، وجمع، وتفقَّه، وصنَّف، وحدَّث[4].

بعد كلِّ هذا، لن تصبح المقارنةُ عسيرةً بين عبدالرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان؛ فكلاهما من أئمة هذا الفن، إلاَّ أنَّ الأوَّل رائدٌ في علل الحديث ودرايته، والثاني ناقد بصير بالرجال، يعتمد منهجًا دقيقًا في صيرفتهم.

قال أحمد بن حنبل[5]: ما رأيت بالبصرة مثلَ يحيى بن سعيد، وبعده عبدالرحمن، وعبدالرحمن أفقه الرَّجُلين، وقال في رواية أخرى[6]: كان يتوسَّع في الفقه، وكان أوسعَ فيه من يحيى، وقال عليُّ بن المديني: لو حلفت بين الرُّكن والمقام، لحلفت بالله أني لم أرَ قطُّ أعلم بالحديث من عبدالرحمن بن مهدي، وكان يحيى بن سعيد أعلم بالرِّجال، وكان عبدالرحمن أعلم بالحديث[7].

لذا؛ فإنَّنا لن نستغرب إرسالَ يحيى بن سعيد لصدقة بن الفضل إلى عبدالرحمن بن مهدي، عندما سأله عن حديث أَشكَل عليه؛ لأنَّ السُّؤال كان يَقَعُ في دائرة علم ابن مهدي، أمَّا هو فإمام في نقد الرجال[8].

وعلى ضَوْء ما توفرت لدينا من أدلَّة، سنحاول أنْ نُلقي الضوء على أهم مفردات المنهج النقدي، الذي اعتمده عبدالرحمن بن مهدي في نقد الرِّجال:

1 - الرِّجالُ بمعيار ميزانه في علم الحديث ثلاثةٌ:

♦ حافظ مُتقن، لا يختلف في الرِّواية عنه.

♦ ورجل يَهِمُ في بعض المواضع، بَيْدَ أنَّ الغالب على حديثه الصِّحَّة، وهذا لا يُترك حديثه، ويُجتنب ما وَهَمَ فيه من الرِّوايات.

♦ والثالثُ غلب عليه الوَهْم والغلط الفاحش والكذب، وهذا لا مجالَ للاجتهاد في ترك حديثه والإعراض عنه.

قال أحمد بن سنان[9]: كان ابن مهدي لا يترك حديثَ رجل؛ إلاَّ رجلاً متهمًا بالكذب، أو رجلاً الغالب عليه الغلط، وهو بهذا المعيار أقلُّ تشدُّدًا من يحيى بن القطان، الذي يروي عن الطَّبقة الأولى، دون الثانية التي يروي عنها ابن مهدي.

2 - كان متشدِّدًا بالرِّواية عن أهل البدع والأهواء، فيُعرِض بالكلية عمَّن يدعو إلى بدعته، سواء عُرف بالكذب أم لم يعرف عنه، عن عليِّ بن المديني قال: قلتُ ليحيى بن سعيد: إنَّ عبدالرحمن بن مهدي يقول: أترك مَن كان رأسًا في البدعة يدعو إليها[10]، وقال أبو بكر بن خلاد[11]: سمعت ابن مهدي يقول: ثلاثة لا يؤخذ عنهم ، فذكر: وصاحب بدعة يدعو إلى بدعته.

ويبدو أنَّه كان يتأرجح بين قَبُول ورَدِّ رواية بقيَّة المبتدعة؛ استنادًا إلى منهجٍ خاصٍّ اعتمده، لم تسعفنا مواردُ الأدلَّة التي بين أيدينا في الوقوف عليه، ففي بعض الرِّوايات المنقولة عنه، نجد لديه نزعةً مُتشدِّدة ترفض التعامُلَ مع أيِّ مُبتدع؛ بلْ يذهب في بعضها إلى عدم مُخالطتهم، أو الصَّلاة معهم، أو حتَّى في بعض الأحيان تنشأ لديه رغبةٌ قويَّة في ضرب أعناقهم.

قال أبو بكر بن الأسود[12]: سمعت ابن مهدي يقول بحضرة يحيى بن القطان، وذكر الجهميَّة، فقال: ما كنت لأُناكحهم، ولا أُصلي خَلْفهم، وقال إبراهيم بن زياد سبلان[13]: قلت لعبدالرحمن بن مهدي: ما تقول فيمن يقول: القرآن مَخلوق؟ فقال: لو كان لي سُلطان، لقُمت على الجسر، فلا يَمُرُّ بي أحدٌ إلاَّ سألته، فإذا قال: مخلوق، ضربت عُنُقَه، وألقيته في الماء.

بالمقابل نجده يروي عن بعضِ المبتدعة، ويُشدِّد النَّكير على مَن أعرض بالرِّواية عنهم لبدعتهم، دون غيرها من علل الرِّجال؛ فعن سُليمان بن أحمد قال: قلت لعبدالرحمن بن مهدي: أسمعكَ تحدِّث عن رجل من أصحابنا هم يكرهون الحديث عنه، قال: من هو؟ قلت: محمد بن راشد الدمشقي؟ قال: ولِمَ؟ قلت: كان قدريًّا، فغضب وقال: فما يضرُّه أن يكون قدريًّا[14]؟ وقال محمد بن أبان البلخي[15]: سمعت عبدالرحمن بن مهدي يقول: من رأى رأيًا ولم يدعُ إليه، احتمل، ومن رأى رأيًا ودعا إليه، فقد استحقَّ الترك.

3- كان لا يتساهل في الرِّواية بالمعنى، قال أحمد بن حنبل[16]: ما كان أشدَّ تتبعَه للألفاظ، وأشد توقيه.

4- بدأ متساهلاً في الرواية عن بعض المحدثين، ثم تشدَّد فأعرض بالرِّواية عنهم، وعمَّن غلب الوهم على مرويَّاتهم، قال ابن حنبل[17]: كان عبدالرحمن بن مهدي أولاً يتساهل في الرِّواية عن غير واحد، ثُمَّ تشدد بعد، كان يروي عن جابر الجعفي ثم تركه.

ولعل في رواية أبي عامر العقدي ما يلقي الضَّوء على بدايات هذا التحوُّل، قال[18]: أنا كنت سبب عبدالرحمن بن مهدي، كان يتبع القصاص، فقلت له: لا يحصل في يدك من هؤلاء شيء، فكان في إعراضه عن القصاص ورواياتهم، وولوجه برفق في رياض الحديث الشَّريف، قد اجتاز عقبةً أثْمر عنها نضوج أدواته النقديَّة، وصقل موهبته في دائرة علوم الحديث، حتَّى أمسى يرى في كتابة حديث الضُّعفاء إضاعةً لحجم مماثل من أحاديث الثِّقات؛ قال ابن مهدي[19]: لا ينبغي للرجل أن يشغل نفسه بكتابة أحاديث الضِّعاف، فإنَّ أقلَّ ما فيه أن يفوته بقدر ما يكتب من حديث أهل الضَّعف يفوته من حديث الثِّقات.

5- كان منصفًا في إعراضه عن رواية المحدِّث الضَّعيف، فلا يعرض بالكلية عن جميع مرويَّاته؛ بل يروي ما شهدت القرائن له بالصِّحَّة وانتفاء الوهم؛ قال عمرو بن علي الفلاس - كما نقل الذهبي في ترجمة عبدالله بن عثمان بن خيثم المكي -[20]: كان عبدالرحمن يحدثنا عن الرجل بالحديث، ولا يحدِّث بحديثه كلِّه[21].