دخول مشاهد الأفلام الإباحية في إثم الزنا (PDF)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد فهذا بحث عن:

«دخول مشاهد الأفلام الإباحية في إثم الزنا»

وهو المطلب الأول للمبحث الثاني لباب الأفلام الإباحية والمشتمل على عدة مباحث:

المبحث الأول: رسالة إلى مدمن المواقع الإباحية.

المبحث الثاني: المباحث التأصيلية:

♦ المطلب الأول: دخول مشاهد الأفلام الإباحية في إثم الزنا.

♦ المطلب الثاني: حكم الاستمناء (العادة السرية).

المبحث الثالث: مسائل نوازل الأفلام الإباحية:

♦ المطلب الأول: حكم اختراق وتدمير المواقع الإباحية.

♦ المطلب الثاني: هل تدخل مشاهدة المقاطع الإباحية في المعاصي الجارية.

♦ المطلب الثالث: حكم مشاهدة الرسوم المتحركة الجنسية.

♦ المطلب الرابع: حكم قراءة القصص الإباحية.

♦ المطلب الخامس: حكم من نذر ألا يفعل معصية ثم لم يوف بنذره.

♦ المطلب السادس: حكم الاستمناء خوفًا من الزنا.

♦ المطلب السابع: حكم الخواطر والتخيلات الجنسية.

♦ المطلب الثامن: حكم وضع مقطع دعوي بعنوان إباحي لدعوة الشباب.

♦ المطلب التاسع: حكم وضع آيات ومواعظ في الوسوم الإباحية (الهاشتاقات).

نسأل الله التوفيق والقبول السداد..

إنه ليصعب على الباحث الغوص في مثل هذه المواضيع المستهجنة والتي لولا كثرة الساقطين فيها من شباب الأمة لما تطرقت إليها، ولعل مما يسلي النفس أن فقهاء السلف رحمهم الله كتبوا في أحكام عدد من الأمور المستنكرة والمستهجنة شرعًا وعرفًا، كحكم من أتى البهيمة والميت، وما ظننا ببحثهم إلا بيانًا للحق ونصحًا للأمة، فعلك تعذرني أيها الموفق عند الغوص في مثل هذه المستنقعات والله أسأل الله أن يجعل ما نكتبه خالصًا متقبلًا نافعًا إنه جواد كريم.

مع التطور التقني في وسائل التواصل استجدت عدد من المجالس الافتراضية التي سهلت تواصل الناس ومعاملاتهم، وكان لها أثر في المعاملات والأحكام الشرعية، فظهرت المحاكم الافتراضية التي يحضرها المحامين والشهود، وظهرت مجالس تبرم فيها عقود النكاح عن بعد يحضر فيها الولي والزوج والشهود، وسبق أن بحثنا حكم خيار المجلس في البيوع الالكترونية وذكرنا أن الراجح ثبوتها عبر الهاتف وبرامج المحادثات وأن العبرة في الهاتف بإغلاق الخط وفي برامج المحادثات بالانقطاع عن التواصل عرفًا[1].

والبث المباشرة نوع متقدم من المجالس الافتراضية ففيها تواصل مرئي وصوتي ومكتوب مع مقدمي المحتوى والتفاعل مباشر مع الجمهور، وترتفع منزلة هذا البث بكثرة المشاهدين والمتفاعلين فيه، فلإن تحقق حكم المجلس في المجالس الافتراضية فتحققه في البث المباشرة من باب أولى.

وإنه مما لا شك فيه حرمة مشاهدة الأفلام الإباحية التي يفعل فيها الزنا الصراح أمام الناس والعياذ بالله قال تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ ]النور:30[، ومع تقرر هذا الحكم يبقى النظر في حكم من دخل هذه المواقع الإباحية وشاهد هذا الفعل المشين هل يدخل في إثم الزنا أو لا؟.

وللإجابة عن هذا السؤال يجدر بنا التفريق بين حالين متباينين، وهما مشاهدة هذا الفعل المشين مباشرة ومشاهدته مسجلًا.

الفرع الأول: حكم دخول البث المباشر للمواقع الإباحية

وصورة ذلك أن يقوم إنسان بدخول المواقع الإباحية ويشاهد البث المباشر لمن يعمل هذا الفعل المشين على الهواء مباشرة والعياذ بالله.

والبث المباشر يكون فيه ما يكون في غيره من البث عبر مواقع التواصل الاجتماعي من إمكانية كتابة تعليقات مباشرة من المشاهدين ورد هؤلاء الفجار عليهم.

فنقول إن الشريعة حرمت الإعانة على الإثم والعدوان في كل معصية من المعاصي وسدت أبواب الوصول إليها قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ]النور:30[.

ومن يشاهد هذا البث مشارك ومعين لهم على هذه المعصية؛ فبكثرة المشاهدات تزيد رتبة البث داخل المنصة ويكون من الخيارات الأولى في محرك البحث، وهؤلاء المجاهرين بالفجور ما فعلوا ما فعلوا أمام الناس إلا لجمع المشاهدات، فمن رأى هذا الزنا الصراح مباشرة وبقي يشاهده ولم يخرج ولم ينكر فهو شريك معهم في الإثم ويخشى أن يبوء بإثم الزنا والعياذ بالله، ولا يعني ذلك إقامة الحد على من شاهد فإقامة الحد مختص بمن فعل الزنا.

قال تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء:140].

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: " ولَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَحْضُرَ مَجَالِسَ الْمُنْكَرِ بِاخْتِيَارِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ) وَرُفِعَ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا. فَقَالَ: ابْدَءُوا بِهِ، أَمَا سَمِعْتُمْ اللَّهَ يَقُولُ: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ).

بَيَّنَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ حَاضِرَ الْمُنْكَرِ كَفَاعِلِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ فِيهَا مُنْكَرٌ كَالْخَمْرِ وَالزَّمْرِ لَمْ يَجُزْ حُضُورُهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَمَنْ حَضَرَ بِاخْتِيَارِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِتَرْكِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ إنْكَارِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي يَحْضُرُ مَجَالِسَ الْخَمْرِ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا يُنْكِرُ الْمُنْكَرَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ هُوَ شَرِيكُ الْفُسَّاقِ فِي فِسْقِهِمْ فَيَلْحَقُ بِهِمْ "[2].

وأثر عمر ابن عبد العزيز صحيح الإسناد جاء من طريقين عند ابن أبي شيبة وعبد الرزاق[3].

قال ابن كثير رحمه الله: " أي: إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك، فقد ساويتموهم في الذي هم فيه"[4].

وقال القرطبي رحمه الله: " فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُنْكَرٌ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُمْ فَقَدْ رَضِيَ فِعْلَهُمْ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ). فَكُلُّ مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسِمَعْصِيَةٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ يَكُونُ مَعَهُمْ فِي الْوِزْرِ سَوَاءً "[5].

وقال الشيخ السعدي رحمه الله: " أي: إن قعدتم معهم في الحال المذكورة فأنتم مثلهم؛ لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها، والحاصل أن من حضر مجلسا يعصى الله به، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها "[6].

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " قال بعض الناس: إنه يجلس معهم وهو كاره بقلبه. نقول: سبحان الله العظيم! هذا تناقض، لو كنت كارهًا بقلبك فمن الذي أجبرك؟ لا يوجد إجبار، فكل إنسان ينكر الشيء بقلبه فلا بد أن يفارق مكانه، وإن ادعى أنه منكر بقلبه وهو باق في مكانه فهو كاذب "[7].

والبث المباشر ليس كحكم من نظر لأناس من بعيد من فوق جبل، ففي البث المباشر تفاعل وتعليقات وإعجابات وزيادة في رتبة البحث المبني على هذه المشاهدات والتفاعل، وما فُعِل هذا البث إلا للحصول على ذلك وهذا فارق رئيس بينه وبين من شاهد من بعيد.

والخلاصة:

أن من شاهد هذا البث المباشر للزنا ورضي به فلا شك في دخوله في إثم فاعل الزنا، وأما إذا كره ذلك بقلبه ولكنه استمر في المشاهدة فهو على خطر عظيم، ويخشى عليه أن يقع في ذات الحكم، فالأمر خطير والمصاب جلل وكثرة الساقطين في هذا الوحل محزنة نسأل الله السلامة والعافية.

الفرع الثاني: حكم دخول المقاطع المسجلة للأفلام الإباحية:

وصورة ذلك أن يقوم إنسان بالدخول إلى أحد المواقع الإباحية ومشاهدة هذا الفعل المشين من خلال مقطع مرئي مسجل غير مباشر.

فهذا قد وقع إثم عظيم وهو معين لهم في الإثم العدوان كما ذكرنا لأنه بكثرة المشاهدات تزداد رتبة هذا المقطع في الموقع الإباحي ومحركات البحث وتكون نتائجه في البحث مقدمة على غيره.

قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ ]النور:30[.

وإثم مشاهدة هذه الأفلام عظيم وهي نكتة سوداء في قلب هذا العاصي، ويخشى أن تصبح أخاديد سوداء من ظلمات المعاصي تقسي القلب وتزهده في الحلال.

ولكن هذا الفعل لا يصل إلى حد إثم الزنا؛ وذلك أن التسجيل حكاية عن فعل وليس حضور فعل مباشر، وكما يقال مع فارق التشبيه الشاسع أن من شغل تسجيلًا لأذان فإنه لا يترتب عليه أحكام الأذان المباشر الذي يسقط به الواجب الكفائي ويشرع بعده سؤال الوسيلة وإنما هو حكاية عن فعل وليس فعل حقيقي فهذا كذلك.

ونذكّر كل من وقع في هذه الأفعال بالمبادرة بالتوبة النصوح والإقبال على الطاعات، وذنوب العبد مهما بلغت شيء ورحمة الله وسعت كل شيء، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ ]الزمر: 53[.

وليراجع ما ذكرته في رسالتي إلى مدمن الأفلام الإباحية نسأل الله أن يحفظنا وإياكم بحفظه.