• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / سيرة نبوية
علامة باركود

رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة

محمد علي الخطيب

المصدر: البحث الفائز بالجائزة الرابعة بمسابقة موقعنا: (انصر نبيَّك وكن داعياً)، فرع البحث العلمي.
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 28/11/2006 ميلادي - 7/11/1427 هجري

الزيارات: 662527

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة


الحمد لله الرحمن الرحيم العفو الكريم، نحمده سبحانه أن أرسل إلينا رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين،﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ [آل عمران: 164]،﴿ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [آل عمران: 164]، و﴿ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف157]؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها. صلى الله عليه وعلى إخوانه إبراهيم وموسى وعيسى وزكريا ويحيى وسائر النبيين، وبعد:

فقد دفعني إلى المشاركة في حملة موقع الألوكة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يخالط مشاشة قلبي، ويجري في عروقي، وواجب النصرة له، والذب عن حياضه، وطمعي بالفوز الكبير بأجر الدفاع عن الحبيب المصطفى، وأن أكون لسان حسان، فأقوم مقامه بأن أدفع عن نبي الرحمة المطاعن، وأجلي الشبهات التي يثيرها حوله خصومه عن جهلٍ بسيرته وهديه ودينه ودعوته، وتعصبٍ ذميمٍ يحجب القلب عن رؤية الحق، والإذعان له. والله أسأل أن يتقبل مني هذا العمل، وأن يفتح به قلوباً غلفاً وأعيناً عمياً وآذاناً صمَّاً.

 

1- أهمية الموضوع:

تنبع أهمية البحث من المرحلة التي تمرُّ فيها الأمة، حيث أغرى ضعفها عدوها بالجرأة عليها حتى اقتحم حماها، وانتهك محارمها، وشنَّ الغارة على رسولها، فصورَّه بأقبح صورة، وطعنه بأقبح النعوت، وألصق به النقائص، ورماه بالرذائل، وهو منها براء، بل هو الكامل المبرء من كل عيب والمثل الأعلى والأسوة الحسنة للبشرية. وقد كتبت هذا البحث في الرد على تلك الأباطيل، وبخاصة الشبهة التي تطعن في رحمته صلى الله عليه وسلم، وتصمه بالعنف والإرهاب والغلظة. وكتبته بلسان القوم، وإن كنت لا أتقن لسانهم، ولكني حاولت أن يكون قريباً إلى طريقتهم في التفكير، ومنهجهم في البحث، وتقديسهم للعقل، فكتبت بحثي على طريقتهم، وحصرت استدلالي في الأدلة والحجج العقلية والتاريخية والمادية المحسوسة مع إثارة الوجدان ومناشدة الفطرة؛ ليكون ذلك أدعى إلى قبول الحق والإذعان له.

 

2- هدف البحث:

الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذب عن حياضه، وتفنيد شبهات خصومه، وخاصة الشبهة التي روج لها الإعلام الغربي في الآونة الأخيرة، والصورة التي أبرزته للناس على أنه فظٌّ غليظٌ جافٍٍ بل مجرم حرب! وفي الوقت نفسه التعريف به، وتقديمه لأهل الغرب الذين لا يعرفون عنه إلا الشبهات والافتراءات والمطاعن. وهو الغرض الذي ترمي إليه مسابقة (انصر نبيك وكن داعياً) الني دعت إليها، واحتضنتها) حملة موقع الألوكة لمناصرة النبي صلى الله عليه وسلم.

 

3- منهج البحث:

ركز البحث على تفنيد الشبهة السالفة الذكر، وتعرض لشمائله الشريفة وخص منها بالبيان والتفصيل رحمته وما يتصل بها، ولكني قدَّمت له بتصوير رسول الله خلْقاً وخُلُقاً، وكتبت نبذةً يسيرة عن سيرته توطئة للموضوع، ومدخلاً ضرورياً له. وقد كتبته بلغة سهلة، غير إنها تخاطب العقل، وتحرك الوجدان، واعتمدت على كتب السيرة والشمائل والحديث النبوي إضافة إلى بعض المصادر الأخرى المتعلقة بالموضوع. وقد قمت بتخريج الأحاديث والأخبار الواردة في البحث، ولكن لم استقصها جميعها، وخاصة ما يتعلق بشمائله ونعته؛ لكثرتها؛ ولأنها لو خرَّجتها جميعها لاحتلت مساحة لا تسمح بها حدود البحث غير إني أحلت إلى مراجعها من كتب السيرة والشمائل.

 

4- صعوبات البحث:

لم أجد صعوبة تذكر بيد إن الوقت المتاح للبحث قصيرٌ رغم التمديد له، ولم يسعفني بالفرصة الكافية لرصد صورة محمد رسول الله في أعين المستشرقين من مصادرها ومظانها الأصلية. ومن الصعوبات الجديرة بالذكر حمل القلم على الكتابة بلغة القوم كما أسلفت، فقد درجنا على خطاب بني جلدتنا، وهم يعرفون رسول الله كما يعرفون أبناءهم، ويؤمنون به، وإن هجروا كثيراً من أخلاقه وآدابه، أما الغربيون فيجهلون سيرته وشمائله وشخصيته ماعدا الشبهات والظنون إلا من رحم ربي!

 

5- الدراسات السابقة:

كتب السيرة والشمائل كثيرة جداً لا حصر لها، وقد استفدت منها في جمع مادة البحث، وعلى رأسها كتب المتون كالبخاري ومسلم وكتب السنن وسواها ثم كتب السيرة والتاريخ، وفي أولها السيرة النبوية لابن هشام وسيرة ابن كثير ومصادر حديثة في السيرة من مثل: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية لمهدي رزق الله أحمد، والرحيق المختوم للمباركفوري، وفقه السيرة للغزالي. أما في الرحمة خاصة، وهو موضوع بحثي فقد وقعت على بعض بحوث مختصرة جداً لا تفي بالغرض، ليس غير.

 

ولم أعثر فيما اطلعت عليه على كتاب أو حتى بحث يتناول رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشمول والعلمية والاستقلال الذي سار عليه البحث الذي بين يدي، وهذه النتيجة أقولها في حدود علمي القليل وبحسب اطلاعي والله أعلم.

 

وفي ختام هذه التوطئة أتوجه بخالص الشكر والامتنان إلى القائمين على موقع الألوكة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم والعاملين فيه، والباذلين في محبة المصطفى أموالهم وأنفسهم، راجياً من المولى سبحانه أن ينالوا شفاعته وأن يشربوا من يده الشريفة شربةً لا يظمأون بعدها أبداً لا أريد الإطالة، فهذا جهد الغرّ المقل في هذا الميدان، فإذا كنت قد أصبت فمن الله، و إن كنت قد قصرَّت فهذه صفة الإنسان، و الله ولي التوفيق.


تمهيد:

أبدأ بحثي بكلمة المستشرق الإسباني "جان ليك" في كتابه (العرب) قال: "لا يمكن أن توصف حياة محمد صلى الله عليه وسلم بأحسن مما وصفها الله بقوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [1]. كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق ". واستوقفتني عبارته " كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة حقيقية "، وكأنه يغمز فيها من أبطال الرحمة الزائفة الذين يلبسون للناس مسوك الضأن من اللين، وقلوبهم قلوب الذئاب.

 

إذا قرأت القرآن الكريم فستصادفك آية كريمة تصف الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [2]! قد تهزُّ رأسك، وتمطُّ شفتيك متعجباً ومنكراً، فالصورة التي ترسمها في مخيلتك عن محمدٍ صورة مرعبة منفرة، وربما تقفز إلى ذاكرتك صورة نيرون أو جنكيز خان أو هولاكو أو ستالين مثلاً، وأنا لا ألومك، ولا أحملك المسؤولية، فالمكتبة الغربية ووسائل الإعلام المتنوعة تضخ سيلاً من الأكاذيب والاتهامات والشبهات عبر الكتاب والمقالة والرواية والفيلم والرسم والكاريكاتير وغيره من قنوات الإعلام والبث المباشر وغير المباشر ووسائل التعبير والتأثير الكثيرة الشديدة الخطر؛ لتشويه الصورة الوضيئة لرسول الله أخي عيسى بن مريم عليهما أفضل الصلاة والتسليم، وهي الشبهات نفسها التي كان المستشرقون- وبخاصة المتقدمون منهم- يلقونها إلى الناس من قبل، مثل: جب، وأرنست رينان الذي ينكر أيَّ أثرٍ للعرب في الفلسفة والعلوم[3]، و مونتغمري وات، ودانتي الذي وضع النبي عليه الصلاة والسلام في طبقة سفلى من طبقات الجحيم.

 

وربما يرسِّخ في ذهنك هذه الصورة ما تراه أحياناً من سلوك بعض الأفراد المسلمين أو الجماعات المتطرفة، المجافي للتحضر والتأنق، المنافي للقيم الإنسانية والمثل العليا، ولكن ألا ترى معي أنه من الظلم البين أن تحمِّل رسول الرحمة تبعة أخطائهم، لأنه لا يرضى عنها، ولأنها تنافي قيم الإسلام وتعاليمه.

 

قد لا تقتنع بهذا الكلام المباشر؛ لأن صورة الإسلام ورسوله- في أذهان كثير من الغربيين- ما تزال يكتنفها شيءٌ من الغموض والغبش وسوء الظن، غرستها في النفوس والعقول شبهات ألقاها أساطين الاستشراق ورواسب أخرى تاريخية وثقافية وعقدٌ نفسية موروثة.

 

وقد رأيت من واجبي كإنسان أولاً ثم مسلم محبٍّ لمحمد صلى الله عليه وسلم ثانياً أن أقدِّم للقارئ الغربي تعريفاً سهلاً بسيطاً بمحمد، وأن أحاول تصحيح الصورة المغلوطة في الذهنية الغربية عنه، وأنا لن أحاول تجميل صورته؛ لأنها جميلة لا تحتاج إلى إضافة ولا إلى " ماكياج "!. وقد ترددت في البداية، ورن في أذني هاتفٌ يهزأ بجهدي، ويقول لي: أنت كمن يضيء شمعة في مهب ريح عاتية عصفت في ظلمة ليلٍ بهيم، فهل تراها تصمد أو تبدد تلك العتمة! وماذا عساها أن تجدي هذه الوريقات؟ وهل تملك مواجهة هذا التيار الجارف من تشويه التاريخ وطمس الحقائق؟. لم أعر هذه الوساوس بالاً، ولم تفت في عضدي، فقد علمني رسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم ألا أزدري من المعروف شيئاً، وإن قل! وأن أزرع فسيلة وإن قامت الساعة!. ومما شجعني على المضي في كتابة هذه السطور ما أعرفه من ذكاء القارئ الغربي وما يتمتع به من الموضوعية والتجرد للحقيقة العلمية، ولكن أكاد أجزم أنه لن ينتفع أحدٌ من قراءاته لهذه الرسالة المتواضعة إذا دخل عليها، وهو يحمل مقررات سابقة وأحكام مبرمة من موروثاته الثقافية والتاريخية، لأنها ستحول حتماً بينه وبين قلبه، والأجدر بالباحث الحق عن الحق أن يعرض المعلومات التي يقرؤها على عقله، ويختبرها كما يختبر الباحث في العلوم التجريبية المعطيات المادية لديه.

 

وهذه الرسالة لن تعرض عليك السيرة النبوية أو الشمائل المحمدية كلها والتي جمعت المحاسن طراً حتى استحق ذلك الثناء الذي سمعته من الرب سبحانه، وصدَّرت رسالتي به، وهو قوله سبحانه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾[4]، فقد كان- بأبي هو وأمي- أرحم الناس وأعف الناس وأشجع الناس وأحلم الناس وأكرم الناس وأبر الناس، وأنصح الناس للناس، وأكثرهم تواضعاً، وأوسعهم صدراً وأرفعهم قدرًا، وأشرفهم نفسًا، وأشدهم صبراً، وأقومهم بحق الله وتبليغ رسالته، وأخشاهم لله وأتقاهم له، وقد حفظ لنا تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته اعترافات شتى من أصدقائه وأعدائه بعلو همته وسمو غايته وجمال عفته وعزة زهده. لن أتناول كل هذه الأخلاق العظيمة، فهذا يحتاج إلى مجلدات، وقد كُتِبَ فيها مجلدات كثيرة حقاً، ولكني اخترت واحدة من أعظم أخلاقه، ألا وهي رحمته صلى الله عليه وسلم!. لماذا رحمته وليس سخاؤه أو شجاعته أو عدله؟ والجواب: لأنها أعظم أخلاقه، ولأنها روح رسالته وصبغتها التي صبغها الله بها، ولأنها تعطي هذه الرسالة أهم خصائصها ألا وهي عالميتها وخلودها: ﴿ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [5].

 

وإنَّ مما يدعو إلى العجب أن أبرز مطاعن الغربيين لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي الطعن في رحمته، وهي من أخص أخلاقه صلى الله عليه وسلم وأعظمها إطلاقاً وألصقها بشخصيته، بل هي محمد نفسه، تجسدت فيه، فلا تفارقه في سائر أوقاته وأحواله وظروفه حتى في حالات غضبه وغيظه، وهذا يدعوني إلى إفرادها بالحديث ذباً عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفنيداً للرسالة المشينة التي حاولت تلك الرسوم الشوهاء توصيلها إلى عقول الناس البسطاء، وتعريفاً برحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي طعنت تلك الصور بها، وحاولت إخراجه للناس بصورة فظ غليظ أو مجرم حرب متعطش للدماء، سبحانك هذا بهتانٌ عظيم ! وقبل أن أعرفك بالرحمة المهداة أحببت أن أنقل إليك صورة محمد صلى الله عليه وسلم كما وصفها أصحابه، وهي صورة دقيقة كاملة التفاصيل تقريباً، حتى لكأنك تراه،! لتقارن بين الصور الشوهاء التي صورها بعض رسامي الكاريكاتير الدانمركيين، وأملتها عليهم خيالاتهم المريضة، وبين صورة محمد الأخاذة الوضيئة، راجياً لك المتعة والفائدة والهداية وتصحيح الصورة المقلوبة.


الفصل الأول: تعريفٌ عامٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم

المبحث الأول: صورة محمد صلى الله عليه وسلم

النقطة الأولى: محمدٌ صلى الله عليه وسلم كأنك تراه[6]:

أبيض أزهر اللون ليس بأبيض، ولا آدَم، مستنير مشرق الوجه مشرب بياضه حمرة كأن الشمس تجري في وجهه، أسيَل الجبين[7]، مسنون الخدين، وجهه بين الاستدارة والإسالة، إذا سُرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، مليحٌ كأنما صيغ من فضة، لا أوضأ ولا أضوأ منه. وصفه جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان (مقمرة)، وعليه حُلَّة حمراء، فجعلتُ أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر، فإذا هو عندي أحسنُ من القمر"[8]. عظيم الهامة، ضخم الرأس، واسع الجبهة، أكحل العينين وليس بأكحل، أهدب الأشفار، مستقيم الأنف، أقنى أي طويل في وسطه بعض ارتفاع، مع دقة أرنبته (ما لان من الأنف)، واسع الفم جميلُه، من أحسن عباد الله شفتين وألطفهم ختم فم، أشنب (مُحَدَّدُ الأَسْنانِ مع بَياضُ وبَريقُ) مفلج الأسنان بعيد ما بين الثنايا والرباعيات، إذا تكلم رُئِيَ كالنور يخرج من بين ثناياه. وكان في صوته صهل (بحة). من أحسن عباد الله عنقًا، لا ينسب إلى الطول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه يتلألأ في بياض الفضة وحمرة الذهب، وما غُيِّبَ في الثياب من عنقه فما تحتها فكأنه القمر ليلة البدر، بعيد ما بين المنكبين (عريض أعلى الظهر)، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، من لُبَّتِه إلى سُرَّتِه شعر يجري كالقضيب، أشْعَر الذراعين والمنكبين، كَتِفاه عريضان عظيمان، ضخم الكفين ممتلئة لحمًا، غير إنّها ألين من الحرير، وأبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك. مرتفع الأخمصين[9]، أملس القدمين ليس في ظهورهما تكسر، شثن الكفين والقدمين[10] ليس بالطويل البائن ولا بالقصير.

 

وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى أسرع حتى لكأن الأرض تطوى له، ليس فيه كسل، شديد الحركة، قوي الأعضاء غير مسترخ في المشي، وإذا التفت التفت معًا بجميع أجزائه، فلا يلوي عنقه يمنة أو يسرة، وعلى أعلى كتفه الأيسر خاتم النبوة، وهو خاتم أسود اللون، ويبلغ حجمه قدر بيضة الحمامة. رائحته أطيب من المسك، وعرقه كأنه اللؤلؤ، عن أنس خادمه قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَال (أي نام) عندنا، فعرِقَ وجاءت أمي بقارورة فجعلت تَسلُتُ العَرَق، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أم سُلَيم ما هذا الذي تصنعين؟ " قالت: "عَرَق نجعله في طيبنا وهو أطيَب الطيب"[11]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا صافحه الرجل وجد ريحه، وإذا وضع يده على رأس صبي فيظل يومه يُعرَف من بين الصبيان بريحه على رأسه. يقول جابر بن سمرة: ما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقًا فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرقه[12]، وقد كنت صبيًا، فمسح خدي فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جونة عطار.

 

ويمتاز صلى الله عليه وسلم بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، لا ينطق إلا حقاً، ولا يقول إلا صدقاً، لم يجرِّب عليه قومه كذباً قط، قبل الرسالة ولا بعدها. وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة صلى الله عليه وسلم.

 

وكان كلامه صلى الله عليه وسلم بَيِّن فَصْل ظاهر يحفظه من جَلَس إليه، وكان يُحَدِّث حديثاً لو عَدَّه العادُّ لأحصاه، ويعيد الكلمة ثلاثاً لِتُعقَل عنه، لا يُحَدِّث حديثاً إلا تبَسَّم وكان مِن أضحك الناس وأطيَبَهم نَفسًا، كثير التبسم، ولا يضحك إلا تَبَسُّماً، وكان إذا ضحك بانت أضراسه من غير أن يرفع صوته. طويل الصمت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، من رآه هابه، ومن خالطه أحبه.

 

قال خارجة بن زيد‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسماً، وكلامه فصلاً لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم؛ توقيراً له واقتداء به‏.‏

 

وكان صلى الله عليه وسلم حليماً لا يعجل، ولا يعاقب على السيئة بالسيئة، لم تعرف منه زلة، ولم تحفظ عنه هَفْوَة، يعفو عند المقدرة، ويصبر على المكاره، لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبراً، وعلى سفه الجاهل إلا حلماً، وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم فيئاً.

 

وكان صلى الله عليه وسلم جواداً سمحاً سخياً ندياً، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ما سئل شيئاً قط فقال ‏:‏ لا‏.‏ وكان أشجع الناس، لم يحفظ عليه فرة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة في أحد وحنين، وهو ثابت لا يبرح، صابرٌ لا يتزحزح، لم يولِّ دبره لعدوٍ قط.

 

وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خِدْرها، وإذا كره شيئاً عرف في وجهه. وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، يخفض طرفه‏،‏ نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، لا يجابه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يبهم، ويقول‏: ‏(‏ما بال الرجل أو ما بال أقوام‏؟)‏‏.‏


وكان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعاً، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويعمل بيده، و يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، بعيداً عن الكبر، يمنع الناس عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجلس في أصحابه كأحدهم، وكان- بأبي هو وأمي- لا يدع أحدا يمشي خلفه، ولا يترفع على غيره ولو عبده أو أمته في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أف قط، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره‏، ويدعو فيقول: " اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين"[13].

 

عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: (نعم) قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً قال: فدعا بصحيفة ودعا عليا ليكتب- ونحن قعود في ناحية- فنزل جبرائيل عليه السلام فقال: ﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 52]، فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا، فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وهو يقول: ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [14].

 

وكان صلى الله عليه وسلم أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخَّابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح[15].

 

وصفه هند بن أبي هالة فيما يرويه عنه الحسن بن علي رضي الله عنهما[16] فقال:‏

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه- لا بأطراف فمه- ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لايذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً- ما يطعم- ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها- سماحة- وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام‏.‏

 

وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره‏.‏

 

يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره‏.‏ الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة‏.‏

 

كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن، إذا انتهي إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوي، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، يتعاطفون بالتقوي، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب‏.‏

 

كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صَخَّاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه‏.‏ قد ترك نفسه من ثلاث‏:‏ الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث‏:‏ لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا‏.‏ لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، يقول: "إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه "، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ‏.‏ا.هـ.

 

وعلى الجملة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كامل الوصف، منقطع النظير، وهذا سبب نجاحه في دعوته وسرُّ اجتماع القلوب عليه.

 

وهذه الخلال والخصال التي ذكرتها إن هي إلا غيضٌ من فيض وقطرة من بحر، والمقام لا يسمح بالتفصيل، وإنما أردت التمهيد للبحث فحسب.

 

النقطة الثانية: اسمه ونسبه صلى الله عليه وسلم:

هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ويرجع نسبه إلى" عدنان " من ولد إسماعيل عليه السلام الذبيح بن إبراهيم الخليل أبي إسحاق عليهم جميعاً الصلاة والسلام.

 

وهو خير أهل الأرض نسباً على الإطلاق، فلنسبه من الشرف أعلى ذروة، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك، ولهذا شهد له به عدوه إذ ذاك أبو سفيان بين يدي ملك الروم هرقل في قصة شائقة، تعدُّ من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، ويمكن الرجوع إليها في صحيح البخاري[17].

 

ولرسول الله محمد عدة أسماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي (أي يُحشر الناس إثر بعثه)، وأنا العاقب"[18] والعاقب الذي ليس بعده نبي.

 

وورد اسمٌ آخر يتعلق بالبحث، وهو " نبي الرحمة "، فقد جاء رجلٌ ضريرُ البصر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ادعُ اللَّهَ تعالى أن يعافيني، قال: "إنْ شِئْتَ دَعَوْتُ، وَإِنْ شِئْتَ صَبرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ " قال: فادعُه، فأمره أن يتوضأَ فيُحسنَ وضوءَه ويدعوَ بهذا الدعاء: " اللَّهُمَّ إني أسألُكَ وأتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيّ الرَّحْمَةِ صلى الله عليه وسلم، يا مُحَمَّدُ! إني تَوَجَّهْتُ بكَ إلى رَبّي في حاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لي، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فيّ "[19].

 

ومحمد أشهر الأسماء، وبه سمي في التوراة صريحاً بما يوافق عليه كل عالم من مؤمني أهل الكتاب[20]، ومن أسمائه أحمد وهو الاسم الذي سماه به المسيح عليه السلام.

 

و" محمد " سمي به في التوراة لكثرة الخصال المحمودة التي وصف بها هو ودينه وأمته فيها، وفي معاجم اللغة المُحَمّدُ: الذي كثُرت خصاله الحميدة؛ وما سُمِّي الرسول محمُدًا إلَّا لأنّه محمّدٌ أي إن اسمه هو صفته، فطابق الاسم المسمَّى[21].

 

وهو اسم لا تكاد العرب تعرفه؟! وكان المشركون يشتمونه، ويسمونه مذمماً! على نقيض معنى اسمه، على نحو مشابه لما فعلته بعض الصحف الأوربية في وقت سابق، ولكن الرسول الحليم لم يكن ليضيق صدره، بل يجيب ببراعته اللغوية وحنكته السياسية قائلاً لأصحابه: " ألا تعجبون كيف يصـرف الله عني شتم قريش، ولعنهم؟ يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمد! "[22].

 

ومعنى (يصرف الله عني) أي لعنهم وشتمهم فلا يصيبني، لأنهم يلعنون ويشتمون غيري الذي يسمى مذمماً، بينما اسمي محمد صلى الله عليه وسلم. وكان كفار قريش لشدة كراهتهم له صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده فيقولون:

مذمم، وهو ليس اسمه ولا معروفاً به، فكان الذي يقع منهم مصروفاً إلى غيره بالبداهة، فيحصل ضد قصدهم، ويرد الله تعالى كيدهم في نحرهم، ليموتوا في غيظهم. ولكن ينبغي الإشارة إلى أن نعت قريشٍ محمداً بمذمم إنما أتى بعد الرسالة والخصومة فيها، وكان قبلها يدعى عندهم "الصادق الأمين".

 

ألا تتفق معي أن دفاع محمد صلى الله عليه وسلم عن نفسه كان هادئاً جداً بيد إنه مفحمٌ للخصم، يكاد يقتله غيظاً وحنقاً، ولو قُدِّرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيش إلى أيامنا؛ واطلع على تلك الصور سيئة الذكر لأجاب بمثله!.

 

والشيء بالشيء يذكر، فقد ذكَّرني دفاع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه بما روته لنا حبيبته المبرَّأة عائشة قالت: استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:

السام عليكم! (والسام الموت) قالت عائشة غاضبةً: بل عليكم السام واللعنة.

 

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله. قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلت: وعليكم[23]. وهذا الرفق منه من تجليات رحمته صلى الله عليه وسلم ومن دلائل نبوته!

وفي غزوة أحد أشرف أبو سفيان قائد جيش المشركين في زهو وغرور إثر نصر اختطفه من المسلمين على حين غرة، فقال: أفي القوم محمد؟. فقال رسول الله: لا تجيبوه! فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إنَّ هؤلاء قُتِلوا فلوا كانوا أحياءً لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يسوؤك! فقال أبو سفيان: أعل هبل!. فقال النبي: أجيبوه! قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: لنا العزَّى ولا عزَّى لكم. فقال النبي: أجيبوه! قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان:

يوم بيوم بدر والحرب سجال وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني![24].

 

هكذا كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يدير الحرب الإعلامية بعفةٍ وأدبٍ وطهارةٍ واحترامٍ وصدقٍ وهدوءٍ واعتدالٍ دون إسفافٍ في الكلام أو فجورٍ في الخصومة أو خنوعٍ للتهمة أو رضىً بالدون!.

النقطة الثالثة: شبهة والرد عليها:

قد تعترض وتقول: ولكن ردة فعل أتباعه على الإساءة إليه في الآونة الأخيرة كانت غاضبة جداً، وبعضها بلغ حد العنف والترويع؟.


أن تغضب أمة أسيء إليها فهذا من حقها خاصة إذا كانت الإساءة إلى أعظم حرماتها وأعز من تحب: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحب إليها من الوالد والولد!. عندما قدَّم المشركون الصحابي زيد بن الدثنة؛ ليقتلوه. واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟. قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي. قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمداً!![25].

 

ثمَّ هل تريدون منا أن نغمض أعيننا, ونصم آذاننا, ونلجم ألسنتنا، وكأن شيئاً لم يحدث؟!.. وأَنَّى لإنسانٍ مكرَّمٍ فضلاً عن مؤمن غيور يسمع ويرى حبيبه- الرحمة المهداة للعالمين من الرحمن الرحيم- يُستهزَأُ به، ويُسخرُ منه بالكلمة المقروءة والمسموعة وبالصورة والكاريكاتير، ثم يدفن رأسه، ويؤثر الصمت!؟ وهل يوقف الصمت عدواناً، أم يغري بالتمادي والتطاول؟ وماذا يبقى للأمة من كرامة يوم يُنال من مقام نبيها وإمامها، ويتطاول عليه بهذه الصورة الوقحة السافرة، ثم لا يُنتصَرُ له، ولا يُذاد عن حياضه؟!. أينتصر الوثنينون وعبَّاد الحجر والبقر لرموزهم ومقدساتهم، فتقوم الدنيا ولا تقعد لتمثال بوذا مثلاً في أيام طالبان أو لصورة له أيضاً امتهنت وصوِّرت على لباس سباحة في تايلند- وهذا حقهم، وحق كلِّ أمة أن تذود عن مقدساتها، وتتصدى لحملة الكراهية والاحتقار التي تشنها بعض بؤر العنصرية الآسنة- بينما يرفع بعضهم عقيرته ينتقد المسلمين، ويطالبهم بالعقلانية وعدم الانجرار وراء العاطف.

 

لن نبادل السب والإهانة والاستهزاء بمثله, لأنه ليس من خلقنا، وديننا ينهانا عنه, ثم إننا نحن المسلمين نُجل الرسل جميعاً، ونوقرهم، ونصدقهم، و﴿ لا نفرِّق بين أحد من رسله ﴾[26]. ونحن إذ نغضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإننا نغضب لإبراهيم وموسى وزكريا ويحيى وعيسى؛ لأن الإهانة لمحمد إهانة لجميع إخوانه فالأنبياء أخوة لعلات، أبوهم واحدٌ، وأمهاتهم شتى كما جاء على لسان رسول الله[27] الذي يقول: (أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي)[28]. أي أنا أخص الناس بعيسى وأقربهم إليه، لأنه بشَّر به[29]، ولأنه لا نبي بينهما، فكأنهما في زمن واحد. (والأنبياء أولاد علات) هم الأخوة لأبٍ واحدٍ من أمهات مختلفة، والمعنى: أن شرائعهم متفقة من حيث الأصول، و(دينهم واحد) هو دين التوحيد وإن اختلفت من حيث الفروع، حسب الزمن، وحسب العموم والخصوص.

 

ونحن إذ نغضب لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فإننا لا ندعو إلى فتنة، ولا نحرِّض على ترويع، ولكننا- في الوقت ذاته- لا نرضى أن تمر واقعة بهذا الخطر دونما حساب ولا عقاب للأيدي الآثمة التي اقترفت هذه الجريمة، بيد إننا ندعو إلى أن تكون ردة الفعل على هذا الحادث من قبل المسلمين مدروسة وهادئة، وأن توظف بشكل إيجابي من أجل إعادة تصحيح علاقة الإنسانية- ولا أقول المسلمين وحدهم- برسولها الذي بعثه الله رحمة للعالمين، بحيث تصير طريقته الحميدة وسيرته العطرة محور اهتمامها ومنهاج حياتها، لتطهِّر نفسها من أوحال الحضارة المادية المعاصرة، ولا أقصد التكنولوجيا فهي من حسناتها لو سُخِّرت وسيِّرت في وجهتها الصحيحة، وليس عند المسلمين مشكلة مع التكنولوجيا أو صراعاً مع العلم مثل الصراع الذي وقع بين الكنيسة والعلم وعانت منه أوربا لأحقابٍ طويلة. فطلب العلم الدنيوي في ديننا عبادة وفريضة، ولم يقل الله قط أن علم الدنيا غباء، أو أريد أن أهدم حكمة الحكماء، وأحطم عقل العقلاء كما زعم بولس الرسول، ولم تحل اللعنة على من يقول بكروية الأرض أو يربط بين الظواهر الطبيعية وقانون السببية، ولم يسجن في ديار الإسلام عالم أو يحرق بالنار بسبب آرائه ونتائجه العلمية، ولم نحرق كتب العلوم والفلسفة مثلما أحرق أساقفة أسبانيا كتباً تجاوز عددها المليون وخمسمئة ألف كتاب من ثمار حضارة وثقافة عاشت ثمانية قرون[30]. كلُّ ذلك لم يقع في بلاد الإسلام ولكنه للأسف وقع في أوربا[31].

 

أجدني قد استطردت، وأعود لأقول أنه ما ينبغي لوسائل الإعلام وتقنيات التأثير والخداع أن تخدع حواسنا، وتضلل عقولنا، وتمسخ فطرتنا التي فطرنا الله عليها، وتميل بنا عن الجادة.


المبحث الثاني: لمحة وجيزة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم:

ليس غرضي من البحث عرض السيرة النبوية، فالموضوع الذي يتناوله بحثي هو "محمدٌ رحمة للعالمين"، ولكن رأيت أنه لا بد من التوطئة له بلمحة وجيزة عن سيرته وعرض الخطوط العريضة في حياته، إذ كيف أتكلم عن صفةٍ ما والقارئ لا يعرف الموصوف أو يجهل أوليات حياته؟.


النقطة الأولى: ولادته ورضاعته وحضانته صلى الله عليه وسلم:

ولد صلى الله عليه وسلم في مكة، عام الفيل الذي نصر الله فيه بيته على عدوه من الحبشة- بقيادة أبرهة الذي أراد هدم الكعبة- نصرًا لا صنع للبشر فيه، إرهاصًا وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي ولد في مكة، ونبت فيها، وتعظيماً للبيت الحرام.

 

ولد صلى الله عليه وسلم يتيماً ثم ماتت أمه ولمَّا يستكمل إذ ذاك سبع سنين، فأوصد الباب في وجه الذين يفترون الكذب، إذ قد يزين لهم الشيطان زخرف القول بأن محمداً زرع أبويه وثمرة تربية وتنمية أسرية!. ثم كفله جده عبد المطلب وتوفي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمان سنين، ثم كفله عمه أبو طالب واستمرت كفالته له، فلمَّا بلغ ثنتي عشرة سنة خرج به عمه إلى الشام حيث رآه بحيرى الراهب، وبشَّر عمه بأنه سيكون لابن أخيه شأن عظيم (أي النبوة)، وأمره ألا يقدم به إلى الشام خوفاًَ عليه من يهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة!. وقد استغلَّ بعض المستشرقين الزيارة الخاطفة لبصرى، ليزعم أن محمداً ابن اثني عشر ربيعاً قد أخذ عن بحيرى الراهب علم الكتاب الذي عنده، وبنى عليه دعوى النبوة! ولكنَّ آيات القرآن كانت تتنزل على محمدٍ نجوماً بحسب الوقائع والأحداث المستجدة، فهل أحاط بها بحيرى علماً؟! وهل أخبر بالغار وببدرٍ وأحدٍ وحادثة الإفك وغيرها من الوقائع التي نزل القرآن بشأنها؟. وكان من الإنصاف وقد بنوا على واقعة لقائه ببحيرى أن يأخذوا بكل تفاصيلها، وفيها البشارة بنبوة محمد والإقرار بها، فلماذا يتقوَّلون عليه بأنه استفاد دعوى النبوة من راهب بصرى، ويغمضون أعينهم عما ورد في الواقعة التاريخية من بشارة الراهب لعمه!؟.


النقطة الثانية: شبابه ومشاركته قومه في معاليهم صلى الله عليه وسلم:

ولما بلغ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين سنة خرج إلى الشام في تجارة فوصل إلى "بصرى"، وهي أقصى ما وطئته قدماه من أرض الشام. ثم رجع؛ ليتزوج عقيب رجوعه خديجة بنت خويلد بنت الأربعين، وهي التي خطبته لما عرفت من صدقه وأمانته وبركته في رحلته التجارية، وكان قد خطبها أكابر قومها فأبت، وهي أول امرأة تزوجها، ولم ينكح عليها غيرها حتى ماتت، وأحبها حباً عظيماً لم ير مثله، ووفَّى لها في حياتها وبعد موتها.

 

وحُبِّبَ إليه قبل بعثته الخلوة والتعبد لربه، وكان يخلو بـ "غار حراء"، يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وبُغِّضت إليه الأوثان ودين قومه فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك، وهاتان أمارتان من أمارات النبوة: الخلوة وبغض الأوثان، فتدبر! وقد اجتنب مجمد ما كان عليه قومه من رذائل الجاهلية وأوضارها، فلم يغمس يده في شيءٍ منها، إلا إنه أسهم في حلف الفضول الذي عقد لنصرة المظلوم، وحرب الفجار، وبناء الكعبة، ونحو ذلك من مآثرهم.

 

فلما كمل له أربعون سنة أشرق عليه نور النبوة، وأكرمه الله تعالى برسالته، وبعثه إلى الناس كافة: أبيضهم وأسودهم عربيهم وأعجميهم، منذ اليوم الأول من دعوته، ولم يتطور خطابه الدعوي- كما يحلو لبعضهم أن يزعم-، تمشياً مع ظروف دعوته ومدى نجاحها، أي أنه خصَّ به قومه، ثم لمَّا اتسعت دولته كبرت طموحاته، وصبغ دعوته بالصبغة العالمية.

 

وكان مبعثه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثمان مضين من ربيع الأول على قول الأكثرين سنة إحدى وأربعين من عام الفيل. وفي يوم سابعه ختنه جده عبد المطلب، وصنع له مأدبة، وسماه محمداً، وهو اسم لا تكاد العرب تعرفه، وأرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أياماً، ثم أرضعته حليمة السعدية، وحضنته أمه آمنة بنت وهب، والفاضلة الجليلة أم أيمن بركة الحبشية. ولا يلتفت إلى الروايات الواهية التي تزعم أنه ولد مختوناً بل ختن على عادة العرب، وكانت ولادته عادية كسائر البشر، غير إن بعض الأخباريين والقُصَّاص أحاطوها بالخوارق، وبالغوا فيها، يقصدون رفع منزلته، فأساؤوا؛ لأن مقامه عالٍ رفيع الدرجات، ولا يحتاج إلى حشو السيرة بالأوهام والمبالغات أو لعلهم أرادوا بذلك أن يضاهوا بولادته ولادة سيدنا المسيح عليه السلام، وغاب عنهم أن رسول الله لم يبعث بالخوارق ولكنه بعث برسالةٍ تخاطب العقل الإنساني، وتتحداه، وتقدم مفهوماً جديداً للإعجاز، افتقرت إليه الرسالات السماوية السابقة بسبب تغير الزمان وتطور بني الإنسان.

 

النقطة الثالثة: بعثته وأول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم:

بعثه الله على رأس أربعين وهي سن الكمال، وكان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر النبوة الرؤيا الصادقة واستمر ذلك ستة أشهر، ثم أكرمه الله تعالى بالنبوة، فجاءه الملك وهو في خلوته بغار حراء، فقال له: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [32]، فرجع إلى أهله خائفاً، يرجف فؤاده حتى دخل على خديجة بنت خويلد. فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة:- وأخبرها خبر الغار- لقد خشيت على نفسي!. فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق!. وانطلقت به خديجة حتى أتت به ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر في الجاهلية، ويكتب من الإنجيل بالعبرانية، وكان شيخاً كبيراً قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى.

 

فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله به على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أومخرجي هم؟). قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا[33]، وأسلم ورقة، ليسجِّل التاريخ أن أول رجل يصدِّقُ محمداً ويعتنق دينه هو عالمٌ من أهل الكتاب، وهذا شاهدٌ ثانٍ بعد بحيرى، ثم لم ورقة ينشب أن توفي، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام في هيئة حسنة. ولا ريب أن أهل الكتاب أولى بمحمد صلى الله عليه وسلم من سائر الناس، لأنهم أهل دين سماوي، وكانوا يعرفون محمداً بأوصافه أكثر مما يعرفون أبناءهم، وكان اليهود ينتظرونه ويستفتحون به على خصومهم، فلما خرج من العرب كفروا به عصبية وحسداً من عند أنفسهم.

 

النقطة الرابعة: الأوائل:

ثم حمي الوحي، وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدعوة، فدعا قومه إلى الإسلام، فحاز قصب السبق صديقه ووزيره أبو بكر، وزوجته خديجة، وابن عمه علي بن أبي طالب وكان ابن ثمان سنين، يعيش في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفالته.

 

وهؤلاء نواة الإسلام: حرٌّ وعبدٌ وامرأة وفتىً!، ومنهم انبثق الدين، وسرى في الناس، وعم نوره في البقاع. أما العبد الذي بادر إلى الإسلام فزيد بن حارثة حب رسول صلى الله عليه وسلم، وكان غلاماً لخديجة، وهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا تزوجها.

 

وتعرَّف عليه أهله، فأبى أن يرجع معهم، وآثر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم.

 

النقطة الخامسة: تعذيب المستضعفين:

ودخل الناس في دين الله واحداً بعد واحدٍ، وقريش لا تنكر ذلك حتى بادأهم بعيب دينهم وأصنامهم وأنها لا تضر ولا تنفع، فحينئذ ناصبوه العداوة، فحمى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، لأنه كان شريفا معظماً في قومه. وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه، لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها. وأما أصحابه فمن كان له عشيرة تحميه امتنع بعشيرته، وسائرهم صبَّ عليهم المشركون العذاب صبَّاً، وفتنوهم عن دينهم فتوناً، منهم عمار بن ياسر، وأمه سمية وأهل بيته الذين عُذِّبوا في الله عذاباً شديداً، حتى قضى ياسر نحبه، ومرَّ أبو جهل بسمية- أم عمار- وهي تعذب، فطعنها بحربة في فرجها فقتلها، ليسجل التاريخ أن أول شهيدٍ في الإسلام امرأة!. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرَّ بهم- وهم يعذبون في الرمضاء- يسمع أنينهم، فيقول: "صبرا يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة"![34]. لم يعدهم ويمنيهم بالسعة والدولة والجاه والمناصب بل وعدهم الجنة، وبمثله وعد أصحاب العقبة فيما بعد، ولم يعهد إلى أحد بشيء من متاع الدنيا ومناصبها- كما يفعل عادة أصحاب المطامع وزعماء الإصلاح والثورات-، فهل هذا وعد ملك أم نبي؟. رويَ أنه صلى الله عليه وسلم أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب!.

 

ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك في أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: ((الأمر لله يضعه حيث يشاء!)). فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه[35]. ((الأمر لله يضعه حيث يشاء!)): عبارة قالها محمدٌ في أصعب أيامه، فلو كان محمدٌ مثل غيره من أصحاب المطامع والطموحات لأعطى بني عامر بن صعصعة ما يطلبون، ولأغرقهم بالوعود ومنَّاهم بالأماني، ليصل إلى مآربه، كمرشحي الانتخابات الذين يغرقون ناخبيهم بالوعود التي يسيل لها لعابهم، ويستثيرون غرائزهم ومطامعهم بالأماني الكذَّابة والأحلام الخلَّابة. ولكنه محمد رسول الله حقاً وصدقاً، يقول بتواضعٍ وصراحة: ليس له من الأمر شيء، فالأمر لله يضعه حيث يشاء! أين علماء التحليل النفسي، ليتدارسوا هذه الدلائل وأسرارها ومغازيها، وليعلموا أن هذا الرجل لا ينطق عن الهوى!.

 

النقطة السادسة: الهجرة إلى الحبشة:

واشتد أذى المشركين على من أسلم، وفُتِنَ منهم من فتن حتى يقولوا لأحدهم: اللات والعزى إلهك من دون الله؟

فيقول: نعم! وحتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون: وهذا إلهك من دون الله، فيقول: نعم[36]. فلما اشتد البلاء أذن الله سبحانه لهم بالهجرة الأولى إلى أرض الحبشة، وإنما اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبشة، لأن أهلها نصارى أهل كتاب، وفيها ملكاً عادلاً لا يظلم الناس عنده!. فأقام المهاجرون عند النجاشي على أحسن حال، فبلغ ذلك قريشاً فأرسلوا وفداً، ليكيدوهم عند النجاشي، فرجعوا بالفشل[37]. وظلَّ المهاجرون عند النجاشي ينشر عليهم ظله وحمايته حتى رجعوا إلى المدينة المنورة سنة سبع للهجرة.

 

النقطة السابعة: حصار الشعب وما بعده:

اشتد أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحصروه وأهل بيته في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى بلغهم الجهد وسمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب، و بدأ حبس الرسول صلى الله عليه وسلم في هلال المحرم سنة سبع من البعثة وخرج من الحصار وله تسع وأربعون سنة، وبعد ذلك بأشهر مات عمه أبو طالب، ثم ماتت خديجة بعد ذلك بيسير، فاشتد أذى الكفار له، فخرج إلى الطائف هو وزيد بن حارثة يدعو إلى الله تعالى وأقام به أياماً، فلم يجيبوه وآذوه وأخرجوه ورجموه بالحجارة حتى أدموا كعبيه، وكان أشد عليه من يوم أحد، فأرسل الله إليه ملك الجبال يستأذنه بإهلاك قومه، وأن يطبق عليهم جبلي مكة إن أراد، ولكن الرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم أجاب: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا))[38].

 

الفرج بعد الشدة: وفي طريقه لقي عداساً النصراني من نينوى، فآمن به وصدَّقه، وهو شاهدٌ ثالثٌ من أهل الكتاب[39]، وعندما رجع إلى مكة، لم يدخلها إلا في جوار المطعم بن عدي؛ اتقاء بطش قريش وفتكها، وبعدها أُسرِيَ به صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ثم عُرِج به إلى فوق السموات، للقاء ربه، ليطمئنَّ قلبه، فخاطبه ربه سبحانه، وفرض عليه الصلوات الخمس، وقيل كان ذلك مناماً، وهذا قولٌ لا يصح، فإنَّ محمداً لم يسرِ بقدرته أو بنفسه، وإنما أسريَ به، وما ذلك على الله بعزيز.

 

النقطة الثامنة: دعوة القبائل ولقاء الأنصار:

أقام صلى الله عليه وسلم بمكة يدعو القبائل إلى الله تعالى، ويعرض نفسه عليهم في مواسم الحج، وأن يؤووه حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة ليس غير، فلم تستجب له قبيلة، فلما رأى الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله، وتأملوا أحواله، وقد سمعوا عنه من أهل الكتاب، قال بعضهم لبعض: " تعلمون والله يا قوم أن هذا الذي توعدكم به اليهود، فلا يسبقونكم إليه ". وكان اليهود ينتظرون مبعثه، وقدَّر الله بعد ذلك أن اليهود يكفرون به حسداً من عند أنفسهم، ولكن نفراً من خيار بني إسرائيل صدَّقوا بمحمدٍ واتبعوه بعد أن عرفوه بنعته الوارد في كتبهم، منهم عبد الله بن سلام، وقصة إسلامه في السيرة عجيبة فيها أمارات قوية على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم: والبشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل ثابتة، وما تزال كثيرٌ من نصوص الكتاب المقدس المعاصر تحمل هذه البشارة بدلالة قاطعة صريحة، من مثل ما ورد في سفر التثنية 33: 2-3: النص (1): ((جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من ساعير وتلألأ من جبل فاران)) (2) ((عشرة آلاف قديس معه)).. ((وعن يمينه نار الشريعة لهم فأحب الربُّ الشعب)).. ((وحمى من ينتسبون إليه))[40]. وفاران هي مسكن إسماعيل، كما تذكر التوراة نفسها في سفر التكوين: 21: 21، تقول: ((وسكن- أي إسماعيل- في برية فاران)).

 

والنصوص التي تبشر بمحمد في الكتاب المقدس كثيرة، أكتفي بالإشارة إليها لمن يود مراجعتها والنظر فيها[41]، فمنها: (حبقوق 3: 3-6) وفيها ذكر تيماء، (أشعياء 21: 13- 17)، وفيه ذكر ((وحي من بلاد العرب الوعرة)) وفناء مجد قيدار ومن نسله قريش، ووقع ذلك في غزوة بدر، و بشارة أشعيا عن العاقر تجدها في (أشعياء فصل 54)، وغلاطية 4: 24- 27، والبشارة لموسى عليه السلام في (التثنية 18: 15- 20)، وتقول: ((أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، واجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به...)). وكذلك بشَّر به المسيح، ففي إنجيل يوحنا 15: 26: " فمتى جاء هو أي روح الحق، أرشدكم إلى الحق كله لأنه لن يتكلم من عنده بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بما سيحدث، سيمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم به"[42]. وما بشارة عيسى إلا محمد، قرأها رجلٌ عظيمٌ من أهل الكتاب، وعرف علامات النبي الأمي، فخرج يبحث عنه، ويتنقل بين المدن، حتى حطَّ رحاله في يثرب، فلقيه وعرفه وآمن به، واسمه سلمان الفارسي الذي صار فيما بعد من كبار أصحابه.

 

النقطة التاسعة: لقاء الأنصار والهجرة:

ولقي الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه ووعدوه أن ينصروه ويمنعوه حتى يبلغ رسالة ربه، ثم هاجر إليهم مع أصحابه. وهناك في يثرب التي سمَّاها المدينة جمع الله عليه أهل يثرب من قبيلتي الأوس والخزرج أخوةً متحابين بعد عداوة وقعت بينهم بسبب قتيل، فلبثت بينهم الحرب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأها الله بالإسلام، وألف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك قوله:﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [43] ولكن المشركين ازداد حنقهم على الإسلام وأهله، فشنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلسلة من الحروب المتتابعة، مما اضطر المسلمين إلى الدفاع عن أنفسهم، وإذن الله لهم بالقتال بأنهم ظُلموا، بعد أن أمروا بكف أيديهم.

 

النقطة العاشرة: رسالة عالمية ودعوة عامة:

واستطاع رسول الله بعد فترة أن ينتزع من قريش صلحاً سمِّي صلح الحديبية، ليتفرغ للدعوة ونشر الرسالة، فبعث رسلاً سفراء من أصحابه، وكتب معهم كتباً إلى الملوك، يدعوهم فيها إلى الإسلام إذ أرسله الله للناس كافة و رحمة للعالمين: فبعث إلى قيصر ملك الروم؛ و كسرى ملك فارس; والنجاشي ملك الحبشة، المقوقس ملك الإسكندرية; وجيفر وعياد ابني الجلندى الأزديين ملكي عمان; وثمامة بن أثال وهوذة بن علي الحنفيين ملكي اليمامة; والمنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين; والحارث بن أبي شمر الغساني، ملك تخوم الشام، وجبلة بن الأيهم الغساني، والحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن. واختلف جواب الملوك على كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من آمن كالنجاشي، ومنهم من رد رداً جميلاً كالمقوقس وهرقل، ومنهم من رد رداً قبيحاً مثل كسرى الذي مزَّق الكتاب، وبعضهم قتل السفير[44].

 

النقطة الحادية عشرة: نجاح الدعوة وأثرها:

نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته على نطاق واسع تتحير له العقول، فقد دانت لها الجزيرة العربية، وزالت الجاهلية بتقاليدها الفاسدة وأعرافها الباطلة وأوضاعها الجائرة وتصوراتها العليلة حتى حطمت الأصنام، وجلجل صوت الأذان يشق أجواء الفضاء ويملا الآفاق. وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثرة، وخرج الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة اللّه، وتحقق العدل والمساواة، وألغيت الطبقية واندثرت العصبية الجاهلية، وإنما الناس كلهم عباد اللّه، إخوان متحابون، متمثلون لأحكامه، أذهب اللّه عنهم عُبِّيَّةَ الجاهلية ونخوتها وتعاظمها بالآباء، ولم يبق هناك فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب ‏.‏ وهكذا تحققت- بفضل هذه الدعوة- الوحدة الإسلامية، والوحدة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، وانعدلت القيم والمقاييس، وتغير وجه الأرض، وازدهرت في الجزيرة العربية نهضة مباركة، وحضارة زاهرة، وتألقت وازدانت.

 

النقطة الثانية عشرة: حجة الوداع:

بعد أن تحقق إبلاغ الرسالة للناس كافة، واكتمل بناء المجتمع الإسلامي على أساس التوحيد، وشاء اللّه أن يري رسوله صلى الله عليه وسلم ثمار دعوته، التي عاني في سبيلها ثلاثة وعشرين عاماً حافلاً بالجهد والجهاد والاجتهاد والبلاء والإيذاء، وأحس رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنو أجله، ولذلك قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، ليجتمع بالأمة الإسلامية، فيأخذوا منه أصول الدين وكلياته، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة‏.

 

وفي اليوم التاسع من ذي الحجة يوم عرفة، وقد اجتمع حوله مئة ألف وأربعة وأربعون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، وألقى هذه الخطبة الجامعة‏ وتضمنت أول إعلانٍ عامٍ لحقوق الإنسان عرفته البشرية، أعلن فيها المساواة والعدل وحرمة الدماء والأموال وحقوق النساء، ووضع دماء الجاهلية وأموالها الربوية، وبدأ بربا عمه العباس، قال فيها[45]: "أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدرى لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله. وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، وكان مسترضعاً في بني ليث، فقتلته هذيل، فهو أول ما أبداً به من دماء الجاهلية.

 

وجاء فيها أيضاً: أما بعد: أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً..... إلخ. ا.هـ وبعد أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏﴿ ‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا‏ ﴾‏ ‏(المائدة‏: 3)‏، ولما نزلت بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما يبكيك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص، فقال‏:‏ ‏(‏صدقت‏)‏‏[46]‏‏.‏ وأقام أيام التشريق بمني يؤدي المناسك ويعلم الشرائع، ويذكر الله، ويقيم سنن الهدي من ملة إبراهيم، ويمحو آثار الشرك ومعالمها‏.‏

 

ولما قضى مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظاً من الراحة، بل ليستأنف الكفاح، ويجهز جيشاً كبيراً في صفر سنة 11هـ، وأمَّر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يوطئ الخيل تُخُوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم، وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحسبن أحد أن بطش الروم لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب‏.‏ وانتدب الناس يلتفون حول أسامة، وينتظمون في جيشه، حتى خرجوا ونزلوا الجُرْف، على فَرْسَخ من المدينة، إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ألزمتهم التريث، حتى يعرفوا ما يقضي الله به، وقد قضي الله أن يختار رسوله، ويقبضه إليه، وأن يكون هذا أول بعث ينفذ في خلافة أبي بكر الصديق.‏

 

النقطة الثالثة عشرة الأخيرة: مرضه وموته- بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم:

روى ابن إسحاق: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت رجع رسول صلى الله عليه وسلم من البقيع، فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه، فقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه. قالت: ثم قال: وما ضركِ لو متِّ قبلي، فقمتُ عليك وكفنتكِ، وصليت عليك ودفنتك؟ قالت قلت: والله لكأني بك، لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي، فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتامَّ به وجعه، وهو يدور على نسائه حتى استعزَّ به وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه، فاستأذنهن في أن يمرض في بيتي، فأذنَّ له. ولمَّا كان يوم الاثنين الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس وهم يصلون الصبح، فرفع الستر، وفتح الباب، فقام على باب عائشة، فكاد المسلمون يفتنون في صلاتهم- فرحاً به حين رأوه وتفرَّجوا عنه- فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم قال وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سروراً، لما رأى من هيئتهم في صلاتهم، وما رئي أحسن منه تلك الساعة. ثم رجع وانصرف الناس، وهم يرون أنه قد شفي. وخرج أبو بكر إلى أهله بـ " السنح " بعد أن اطمأنَّ على رسول الله غير إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلبث أن توفي حين اشتد الضحى من ذلك اليوم.

 

واضطرب الناس إثر سماعهم خبر موته، فقام فيهم أبو بكر خطيباً، فحمد الله تعالى وأثنى عليه. ثم قال: " أيها الناس، إنه من كان يعبد محمدا. فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله تعالى، فإن الله حي لا يموت. قال ثم تلا هذه الآية: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [47]. وكاد الناس بعد وفاته أن يختلفوا، ولكنَّ الله سلَّم، وجمع كلمتهم على أبي بكر الصديق، فبايعه الناس عبر انتخاب من الأمة، لا عهد للعرب بل للعالم به آنذاك، وخطب فيهم خطبة الحكم، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله. ثم قال: ((أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي، حتى أريح عليه حقه إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل. ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله. فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم))[48]. واستمرَّ نظام الحكم شورى بين الناس طيلة فترة الخلافة الراشدة، لينقلب بعد ذلك ملكاًُ عضوضاً وجبرية جرت على الأمة الويلات، كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.

 

هذه نبذة يسيرة من سيرة محمد، رأيت أنه لا بدَّ منها بين يدي البحث، وأردت أن توطِّئ له، وتكون كالمقدمة، إذ ليس من الحكمة أن أحدثك عن شمائل محمد وخصائصه، وأنت تجهل سيرته جهلاً مطبقاً أو لا تعرف عنه إلا النذر اليسير المشوَّش.


الفصل الثاني: رَحْمَةً لِلْعَالَمِين (الرحمة المهداة من رب العالمين)

المبحث الأول: خصائص رحمته صلى الله عليه وسلم

النقطة الأولى: الرحمة صفة الرب سبحانه:

يحاول بعضهم النيل من صفات الرب سبحانه، ويقولون: أنَّى لمحمدٍ أو للمسلمين عامة أن يتصفوا بالرحمة، وربهم الذي يعبدوه ويتوجهوا إليه في صلاتهم يتصف بالقسوة والمكر والبطش والانتقام، وأسماؤه تدلُّ عليه: القهار، المتكبر، المهيمن..... إلخ. وحسبك أن تتخيل النار التي أعدها للكفار، وهم طبعاً غير المسلمين، وترى بعض صورها وأوصافها كما وردت في القرآن وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم من الزقوم والحميم والصديد والسلاسل والأغلال والسعير، وخاصة في رحلة الإسراء والمعراج التي اطلعه ربه على بعض عذاب أهلها مما تقشعر لهوله الأبدان وتشيب له الولدان!. لنقرأ معاً على سبيل المثال هذه الآيات:﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [49].

 

ولم يقتصر هذا العذاب الأليم على الآخرة بل يعجِّل الرب عذابه وفتكه، ويُحلُّ غضبه وانتقامه على العصاة والمذنبين في الدنيا بالخسف والمسخ والزلزلة والصاعقة والريح العقيم والطوفان الذي أباد سكان المعمورة إلا أهل السفينة! ثمَّ يردف أصحاب هذه الشبهة قائلين: إذا كان ربُّ محمد- سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً- بهذه الصورة من القسوة والانتقام والبطش بأعدائه فلا يلام محمدٌ- حاشا له- في فظاظته وقسوته!؟


هذه الصورة التي ينقلها هؤلاء للرب سبحانه ليست صورة صحيحة، فإن لله تسعة وتسعين اسماً أو يزيد، يغلب عليها الأسماء التي تدلُّ على الرحمة والحنان والعفو والمغفرة والحب والكرم، من مثل: الرحمن، الرحيم, الغفار, الغفور الودود,العفو, التواب, البر,الكريم, الأكرم, الرؤوف, الحفيظ اللطيف, الستير الشافي, النصير, المولى,الرب..... إلى آخر هذه الأسماء الحسنى بيد أن هناك أسماء أخرى لله سبحانه تظهر قدرته وعظمته وجلاله، لأنه سبحانه يتصف بالكمال، واتصافه بالرحمة فقط يغري بالشر، ويجرِّئ مرضى القلوب على التمادي في الضلال.

 

بل إن العبد نفسه إذا اتصف بالرحمة دون حزم وبالرفق دون عزم فإنه يعيبه ذلك، فإذا كان الكمال البشري يقتضي اتصاف الإنسان بصفات القوة والشدة إلى جانب صفات الرحمة والرفق، فما بالك بالرب سبحانه؟. إن رحمة من غير قوة وعفواً من غير مقدرة ضعفٌ مقيت، وإن ربَّاً برَّاً رحيماً رحمة خالصة، لا قوة تحميها من استغلال مرضى القلوب، يقول لعباده: اصنعوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم! يغري عباده باقتراف الموبقات، ويحولُّهم إلى شعوبٍ من عتاة المجرمين!! أما ربنا سبحانه فإنه يتصف بصفات القوة والرحمة معاً، غير إن رحمته سبقت غضبه! وكما وصف الله نفسه، وأمر رسوله بتبليغ الناس حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم، وعلمٍ بربهم سبحانه، فقال: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ ﴾[50]. ولذلك نجد القرآن الكريم يستخدم في منهجه التربوي التعزيز بشقيه: السلبي والإيجابي، فيعمد إلى الإثارة والتشويق تارة وإلى التخويف والتحذير أخرى، ويستعمل الترغيب والترهيب غير إن الأصل في التربية الإسلامية هو التبشير والتيسير، وتقديم الرجاء على الخوف، وتحريم اليأس والقنوط من رحمة الله التي وسعت كل شيء. روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي)[51]. وحتى تعرف سعة رحمة الله اقرأ ما رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار)[52]. ومن مظاهر رحمته مغفرته لذنوب عباده، وتجاوزه عن زلاتهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أناسا من أهل الشرك، كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذين تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [الفرقان: 68- 70]. ونزل: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53] وفي هذا المعنى حديث النزول، وفيه: (إن الله تعالى يمهل حتى إذا كان ثلث الليل الآخر نزل إلى سماء الدنيا، فنادى: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من داع؟ حتى ينفجر)[53]. وقد مثَّل رسول الله رحمة ربه بمثال، روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار). قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: (لله أرحم بعباده من هذه بولدها)[54]. و(أرحم) أي أكثر رحمة، ورحمته تعالى إحسانه لعباده، ودفعه النقمة والعذاب عنهم، وعدم مؤاخذتهم على ما كسبوا. وقد تخلَّق محمدٌ بخلق ربه مما يليق بالعبد وعلى قدره من الرحمة والرأفة والعفو، حتى امتدحه ربه بها وأثنى عليه فقال: ﴿ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [55].

 

النقطة الثانية: الرحمة جوهر رسالته ومادتها:

وجوهر شخصيته صلى الله عليه وسلم، وليست صفة عارضة عجبت أشد العجب لتلك الصورة التي قدمت محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كرجل مجرم شرير تلفُّ رأسه قنبلة مدمرة، وتتهمه بالإرهاب والتطرف والقسوة! وإن لم تكن هذه الشبهة الداحضة جديدة ولا الأولى من نوعها، فالغارة على شخصية محمد صلى الله عليه وسلم قديمة، لا تكاد تهدأ حتى تبدأ، ولا تنطفئ حتى تسعَّر!. ولكن أليس من المفارقة أن يطعن الرجل في أخص صفاته: رحمته التي غلبت غضبه، وصبغت حياته، وسبقت سائر صفاته الأخرى، دون إخلالٍ بالتوازن الذي تتمتع به شخصيته الآسرة صلى الله عليه وسلم حتى قال- بأبي هو وأمي: ((إنما أنا رحمة))، وبهذه العبارة الوجيزة قدَّم محمدٌ نفسه للناس؟. ومن قبل بشر به أخوه عيسى، وأنه يأتي رحمة بعد غضب، ففي برنابا 72: 14- 17: "في ذلك الوقت يرحم الله العالم فيرسل رسوله للعالم...وسيأتي بقوة عظيمة على الفجار ويبيد عبادة الأصنام من العالم، وإني أُسرَّ بذلك لأنه بواسطته سيعلن ويمجَّد الله، ويظهر صدقي". و لابد من الإشارة إلى أن هذا الإنجيل قد صرَّح باسم الرسول محمد مراراً، ولكن الكنيسة لم تعترف به[56].

 

ويحقُّ لي أن أسأل: كيف يُنعت محمد بالقسوة والغلظة، وبالرحمة أرسل، ومن أجلها بُعِث، فهي جوهر رسالته ومادتها، كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين ﴾ [57]؟، فرسالته صلى الله عليه وسلم رحمة كلها حتى الحزم والقوة والعدل والشجاعة التي بلغ فيها منتهاها، تتجلى فيها رحمته، فإليها كان يدعو وبها، فهي أسلوبه ومنهجه وسياسته، وهي مناط نجاحه وتوفيقه في دعوته، رحمة لم يكن يصطنعها ويتملق بها شعبه بل فُطِر عليها، ولا أستطيع أن أقول أنها كانت بعضاً منه، لأن هذا التعبير فيه قصورٌ مخلٌّ، فقد كانت الرحمة تسري في أوصاله كالماء في العود الرطب وكالروح في الجسد، ولهذا اجتمع عليه أصحابه، وأحبوه حباً لم ير مثله قط، ولم يُسمع بمثله قط، وكأني بك ترغب أن ترى بعض صور هذا الحب.

 

النقطة الثالثة: رحمته سرُّ نجاحه صلى الله عليه وسلم:

لقد كانت رقة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ورحمته وشفقته من عوامل نجاحه التي استعملها واستغلها واستفاد منها في دعوته، قال الله تعالى:﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك ﴾ [58]. ورحمته صلى الله عليه وسلم بعدٌ من أبعاد فطنته حيث اتخذها شِبَاكاً؛ لصيد القلوب والاستيلاء عليها، ومفتاحًا سحريًّا فتح به مغاليق أقفال صدئة موصدة لا أمل البتة بفتحها، ولا يعني هذا أنه كان يتصنع الرحمة، ويتخذها ذريعة للوصول إلى مآربه السياسية- كما أسلفت- بل كانت طبيعته وفطرته التي فطره الله عليها؛ وكان حرياً بها، وهذا من مظاهر حكمته سبحانه، والحكمة تعني وضع الشيء في موضعه، ولذلك خصَّ محمداً بهذا الفضل، واجتباه من بين سائر الناس بالرسالة الخاتمة، وبعثه رحمة للعالمين. وشتان ما بين رحمة خالصة فطرية إنسانية وأخرى تحركها الأغراض، وتقوم على المصالح، فإذا وصلت إلى مآربها اختفت مظاهر هذه الرحمة الصناعية، ليرجع ذاك الرحيم المزعوم إلى طبيعته الوحشية الغالبة من قسوة وفتك غلظة وفظاظة.

 

النقطة الرابعة: رحمة عامة:

كانت رحمة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة عامة شاملة للإنسانية كلها بجميع ألوانها وأطيافها وتنوعاتها بل للوجود بأسره. إن رحمة المرء ولده ووالده وزوجه وقريبه رحمة فطرة، يستوي فيها سائر الخلق إلا من تحجَّر قلبه، ولكن الرحمة التي يكلفنا بها الإسلام هي الرحمة بالعامة، بأهل الأرض كافة، ويجعلها شرط اكتمال الإيمان، فليس بمؤمنٍ من لا يرحم: عن أبي موسى رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لن تؤمنوا حتى تراحموا!) قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم! قال: ((إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكن رحمة العامة))[59]. فهي رحمة للخلق كافة، وتشمل جميع الناس دون قيدٍ أو استثناء، بدليل حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص يَبْلُغُ به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « الرّاحِمونَ يَرْحَمُهُمْ الرّحمن، ارْحَمُوا أَهْلَ الأرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السّماءِ، والرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمن، مَنْ وَصَلَها وَصَلَتْهُ، وَمَنْ قَطعها بَتَّتْه»[60] فالرحمة بالخلق شرطٌ لتحصيل رحمة الخالق، بحسب عبارة الحديث: " ارْحَمُوا أَهْلَ الأرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السّماءِ".

 

أخلاقه صلى الله عليه وسلم إنسانية وليست عنصرية أو مصلحية وأعيذك بالله- أخي القارئ- أن تحسب أن أخلاقه صلى الله عليه وسلم كانت أخلاقاً ذرائعية نفعية، يتخذها سلماً لتحصيل مطالبه وتحقيق رغائبه، ثم إذا بلغ المرام نكث وغدر وعقَّ- حاشاه وصانه مولاه وحماه- ولم تكن أخلاقه خاصة بأصحابه أو بني قومه دون سواهم من سائر الناس كأخلاق العنصريين الضيقة التي لا تستوعب إلا بني جنسهم أو دينهم، وتضيق على سائر الملل والنحل بل كانت أخلاقه إنسانية عامة، وسعت المسلم وغير المسلم، والكبير والصغير والمرأة والرجل والإنسان والحيوان والطير. إن الإسلام يعتبر الناس جميعا أسرة واحدة، الأسرة البشرية يعتبرها الإسلام أسرة تنتمي إلى رب واحد وإلى أب واحد " أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب" هكذا قال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال القرآن في خطابه العالمي: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾[61] وما أحسن تعبير الشاعر:

 

إذا   كان   أصلي    من    تراب        فكلها بلادي وكل العالمين أقاربي

 

 

ولم يكن هذا من قبيل الأخلاق الماسونية الخادعة التي اتخذت من " الإنسانية" وشعاراتها الزائفة المتمثلة في " الحرية والعدالة والمساواة " ستارًا لخداع الإنسان، وشباكاً لاستلاب عقله، والاستيلاء على مقدراته وتدمير مقوماته. ولم تكن شبيهة بالأخلاق التوراتية والتلمودية، لأن ما يرد في النصّ التوراتي من وصايا تدعو إلى المحبة والخير والعدالة فإنّها وصايا عنصرية ضيقة تخصّ اليهود فقط شعب الله المختار كما ينعتون أنفسهم أو أبناء الله وأحباءه، ولا يجوز أن تطبقّ على الأجانب والأغيار.

 

إن الرحمة الإنسانية التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمثلها لم تكن من هذا النوع أبدًا، ويجب ألا تخلط بها. اليهودي يحقُّ له أن يسرق الأغيار، وأن يزني مع نسائهم، وأن يقرضهم بالرّبا، ويشهد بالزور، ويسرق، ويشتهي النساء الأجنبيات، ويغدر، ويغتصب كل من هو غير يهودي فقط، لكنّه لا يحقّ له هذا مع اليهودي، لأنّ اليهوديّ أخوه الودود بينما الأجنبي عدّوه اللدود. وهذا دون شّك يعبّر عن انعدام الرحمة الإنسانية التي يزخر بها ديننا الإسلامي. وإنّ الباحث في النصوص التوراتية يجدها تكرّس هذه النزعة وتنسبها إلى "يهوه" حتى تأخذ صفة الشرعية والديمومة، ونقرأ فيها على سبيل المثال: " للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا، لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها " (التثنية 23: 20).

 

"إذا افتقر أخوك عندك وبيع لك فلا تستعبده استعباد عبد. ولا تتسّلط عليه بعنف وإلى آبائه يرجع، وأمّا عبيدك الذين يكونون لك. فمن الشعوب الذين حولكم منهم تقتنون عبيداً وإماءً وأيضاً من أبناء المستوطنين النازلين في أرضكم منهم تقتنون ومن عشائرهم الذين عندكم. الذين يلدونهم في أرضكم فيكونون ملكاً لكم وتستملكونهم لأبنائكم من بعدكم ميراث ملك. تستعبدونهم إلى الدهر وأمّا إخوتكم بنو إسرائيل فلا يتسّلط إنسان على أخيه بعنف" (سفر اللاويين / 46:25).

 

إن هذه النصوص المقدسة عندهم تغذي نزعة العنصرية والعزلة والتسّلط والفوقية وضرورة القسوة والانتقام واستعباد الشعوب والأمم، ومثل هذه النصوص لا تجدها في القرآن ولا في السنة، وما ورد من نصوصٍ تأمر بالشدة والغلظة مع الآخر، فهي واردة في سياق تاريخي معين، لأن هذا الآخر ليس إلا محارب معتدٍ على حقوق المسلمين وحرماتهم، أما أهل الذمة والمستأمنين والمعاهدين من اليهود والنصارى فهؤلاء ينشر عليهم الإسلام ظله وحمايته، ويكفل لهم جميع حقوقهم، وحسبهم أن من آذاهم فقد آذى رسول الله نفسه!. هكذا أعلن نبي الرحمة والتسامح إذ قال: "ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه (أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه) يوم القيامة " رواه أبو داود. (ومعاهداً) ذمياً من أهل العهد أي الأمان والميثاق. وإذا كان الأمر كذلك، ألا يحق لي أن أتعجب من الدعوة إلى تغيير نصوص القرآن الداعية إلى الكراهية بزعمهم، بينما تفوح رائحة العنصرية البغيضة من حروف " الكتاب المقدس " عندهم؟

وإذا كان الإسلام يثير الكراهية الدينية، ويؤجج نار الصراع البغيض بين البشر- كما يزعم بعضهم- فكيف يبيح القرآن إذن للمسلم الزواج باليهودية والنصرانية والأكل من ذبائح أهل الكتاب؟ كيف يدعونا إلى كراهيتهم ثم يبيح لنا مصاهرتهم، ألا ساء ما يفترون؟ كيف يرخص لنا البر بهم والقسط إليهم ثم يحضُّ على بغضهم كما يدَّعون؟ أليست هذه جسور متينة من العلاقات يبنيها الإسلام، لتقوية وشائج القربى وأواصر المودة بين بني البشر؟ ولكن العيب كامنٌ في القراءة المبتورة للنصوص، والفهم الناقص الذي لا يرى اللوحة مكتملة، ولكن ينظر إلى جزءٍ منها، منفصلاً عن بقية الأجزاء، فيظهر مشوشاً مشوهاً إلى حدٍّ كبيرٍ!

 

النقطة الخامسة: رحمة حقيقية:

غير إن رحمته الواسعة وشفقته الشاملة لم تبق مجرد تعاليم نظرية أو كما يقال حبراً على ورق، شأنها كشأن سائر خصاله وخلاله التي ترجمها إلى الحياة العملية بدقة تدعو إلى التقدير والتدبر والمقارنة مع كثير من زعماء الكلام والخطباء الثرثارين المتشدقين بل مؤسسات الشعارات الجوفاء التي تتغنى بالحرية والمساواة والإخاء وهي من ألدِّ أعدائها، ولعل من المناسب أن نستحضر شهادة حبيبة رسول الله وابنة حبيبه وزوجته السيدة عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خلقه، فأجابت بعبارة وجيزة بليغة معبرة: " كان خلقه القرآن " رواه أحمد، ومَنْ أعرفُ بالرجل من زوجه وأهله؟ والأمثلة من سيرته تؤكد شهادة زوجته وتوثقها، وأعماله صلى الله عليه وسلم تصدِّقُ أقواله ولا تخالفها، وهذا من دلائل نبوته، وهي عندي أعظم من الخوارق وأشد تأكيداً لصدقه صلى الله عليه وسلم.

 

النقطة السادسة: ذروة الكمال الإنساني:

بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذروة الكمال الإنساني في سائر أخلاقه وخصاله وفي جميع جوانب حياته، وهو وجهٌ آخر من وجوه إعجازه الأخلاقي. ولو كان تفوق محمد صلى الله عليه وسلم في جانب الكرم والسخاء لكان أمراً مألوفاً جرت به العادة، فحاتم الطائي كان مضرب المثل في الكرم حتى إنه ذبح فرسه وقدمه طعاماً لضيفانه، وعنترة كان مثالاً في الشجاعة والفروسية، لم يبل في الحروب أحدٌ بلاءه، وقيس بن سعد بن عبادة بلغ الذروة في الدهاء، ولولا الورع ما غلبه خصومه في خصومة قط، والأحنف بن قيس اشتهر بالحلم، وأخباره في ذلك غريبة عجيبة، بيد أن تفوق محمد صلى الله عليه وسلم كان شاملاً لكافة هذه الجوانب، وبلغ ذروتها، وتربع على عرشها دون منازع.

 

النقطة السابعة: التوازن الأخلاقي:

وخاصية أخرى تميز كمال محمد صلى الله عليه وسلم، وهو التوازن في أخلاقه، فهو رحيم دون ضعف، متواضع بغير ذلة، محاربٌ لا يغدر، سياسيٌّ لا يكذب، يستخدم الحيلة في الحرب ولكن لا ينقض العهود والمواثيق، آمن خصومه بصدقه وأمانته، يجمع بين التوكل والتدبير، وبين العبادة والعمل، وبين الرحمة والحرب، وبين إدارة شؤون أسرته الكبيرة، فقد جمع بين تسع زوجات، وإدارة المجتمع والدولة، ويعطي لكلِّ ذي حقٍّ حقه، ولم تشْكُ واحدة من أزواجه يوماً من سوء عشرته، ولكن اشتكين ذات مرة من خشونة العيش، فخيَّرهنَّ بين البقاء معه أو أن يسرحهن سراحاً جميلاً فاخترنه دون تردد!. والمقصود أن صفات محمد وخصائصه تعمل ضمن منظومة متناسقة متناغمة، تتشابك جميعها لتأدية أغراضها، فلا تتوسع صفة أو تقوى على حساب أخرى، ولا تعمل إحداها ضد الصفة التي تقابلها. ووجه العظمة يتجلى لك من خلال الموازنة مع الناجحين في الحياة كأرسطو، ونابليون، ومحمد علي كلاي، وشكسبير، وشوقي، ومارادونا وسواهم، حيث يقتصر نجاحهم ونبوغهم على مجالاتٍ وميادين معينة، فهذا في السياسة، وذاك في الأدب، والآخر في الرياضة مثلاً، ولكنهم يفشلون في مجالات غيرها، وقد تكون أكثر أهمية منها، وقد تجد الرئيس الناجح في إدارة شؤون دولته المترامية الأطراف غير إنه فاشل في علاقاته الزوجية وفي إدارة بيته مثلاً.

 

ومظهرٌ آخر للتوازن هو ثبات أخلاقه، فمحمدٌ هو محمدٌ في رضاه وغضبه، وفي سلمه وحربه، وفي عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وفي بيته وسوقه ومسجده، مع أزواجه وأولاده، ومع أصحابه، وفي جميع أحواله وشؤونه. وهذا الثبات قليلٌ في الناس أو نادرٌ، فترى الشخص في رضاه فإذا ما غضب صار شخصاً آخر كأنه ليس هو، وترى الشخص ضحَّاكاً بسَّاماً بين زملائه فإذا دخل بيته عبس وبسر، وتتعرف على الرجل في الحضر فتراه في وجه، ويجمعك به السفر فيسفرُ لك عن وجه آخر، وترى زعيماً ما يفيض في السلم رقة وحناناً فإذا ما اشتعلت الحرب تحول إلى وحش فاتك! وترى السخي الجواد في الرخاء فإذا أصابته شدة ضنَّ بماله، وأمسك عن الإنفاق، أما محمد فقد كان سخياً ندياً في سائر أحواله، وكان رحيماً في سائر أحواله، وعلى ذلك فقس بقية الشمائل المحمدية، ولعلك الآن وصلت إلى الفكرة التي أحاول تقديمها إليك. كان محمد صلى الله عليه وسلم يملك القدرة على الجمع بين النقائض أو هكذا تبدو للناس، وهذا معجزة بحد ذاته ولكن ليست من الخوارق التي اشتهرت عن الأنبياء، وسيرته صلى الله عليه وسلم غنية بالأمثلة والشواهد التي تدلُّ على توازنه الخلقي، منها ما رواه البخاري عن خارجة بن زيد بن ثابت: أن أم العلاء، امرأة من الأنصار بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته: أنه اقتسم المهاجرون قرعة، فطار لنا عثمان بن مظعون- أي وقع في سهمنا وحصتنا-، فأنزلناه في أبياتنا، فوجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك يا أبا السائب، فشهادتي عليك: لقد أكرمك الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟). فقلت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال: (أما هو فقد جاءه اليقين- الموت-، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري، وأنا رسول الله، ما يفعل بي). قالت: فو الله لا أزكي أحدا بعده أبدا[62]. فالرسول دخل على عثمان لما مات وذرفت عيناه بالدموع حزناً على فقد رجلٍ من أصحابه، ولكنه في الوقت نفسه لم يأذن لأم العلاء أن تقول كلاماً تفجره العاطفة، ويخالف الشرع، ونهاها عنه، وهنا وجه الاستشهاد بقصة عثمان بن مظعون إذ جمع الرسول بين الرحمة التي تجلت في مشاعر الحزن على صاحبه والعاطفة الجياشة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضبط اللسان والجوارح بميزان الشرع الحنيف في موقف تطغى فيه العاطفة، وتستولي على النفوس، عندما أنكر على أم العلاء قولها في رثاء ابن مظعون: " فشهادتي عليك: لقد أكرمك الله!".

 

وإذا كان بعض الناس قد تحجرت عاطفته، فلا تتحرك لشيء، ولا ترقُّ لشيء، قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، لكن محمداً يفيض عاطفة ورحمة، فيفرح حتى يشرق وجهه، ويحزن، حتى إنه مرَّ عامٌ عليه يسمى عام الحزن، ويغضب حتى تحمرَّ وجنتاه، ويبكي حتى تبتل لحيته، ويضحك حتى تبدو نواجذه، وذاك هو الإنسان!.

 

بيد أنك تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله: في غضبه وفرحه وحزنه وضحكه وبكائه، موزوناً معتدلاً، لا يخرجه الانفعال عن حده: فلا الفرح يبطره، ولا الحزن ينسيه، ولا يستطيع الغضب أن يغتصب منه زمام أمره وقياد نفسه. ويحضرني في هذا المقام قصة من حياة محمد صلى الله عليه وسلم، لتقارن فيها بين صورة محمد صلى الله عليه وسلم في فرحه وأخرى في حزنه. في الأولى منهما يستقبل مولوده الذكر الوحيد بعد أن فقد جميع أولاده، وفي الأخرى يودعه وهو ينازعه الموت. يروي لنا خادمه أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد لي الليلة غلام. فسميته باسم أبي إبراهيم (أي الخليل)". ثم دفعته إلى أم سيف، امرأة قيِّن (حداد) يقال له: أبو سيف. فانطلق يأتيه واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، قد امتلأ البيت دخاناً، فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا أبا سيف! أمسك. جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي، فضمه إليه، ودعا له. هذا عند ولادة الغلام، ثم إن الغلام حضره الموت، وقد بلغ سنتين من عمره، فماذا فعل أبوه رسول الله؟ قال خادمه أنس نفسه: لقد رأيته وهو يجود بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال "تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا. والله يا إبراهيم! إنا بك لمحزونون"[63]. وما أخالك إلا عرفت ما أريده من إيراد القصة في هذا الموضع، ومحل الاستشهاد فيها، غير إن هناك شاهدٌ آخر في القصة أعظم مما ذكرت، ويدخل في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فقد روى المغيرة بن شعبة أنه انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم!. فبماذا أجاب محمد؟ وهل جاراهم فيما اعتقدوه؟ أليست هذه الحادثة فرصة سانحة؛ ليثبت محمدٌ صلى الله عليه وسلم مركزه بين الناس، ويدعم دعواه بالنبوة ولو جاء ذلك على حساب الحقائق العلمية والكونية؟ لو كان محمدٌ كذَّاباً- حاشا له- لفعل ذلك دون تردد، ولكن الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم صحح للناس اعتقادهم الخاطئ، وقال لهم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي)[64].


المبحث الثاني: من تجليات الرحمة:

النقطة الأولى: الرفق واللين والسهولة:

للرفق مكانة عظيمة في ديننا، والرفق ضد العنف والتغليظ والشدة، وهو حسن المعاشرة واللطف والرقة والشفقة واللين والتواضع والتؤدة والتأني ويشمل الرفق:

الصغار والضعفاء والزوجة والجاهل وسائر الناس بل والحيوان والطير.

 

والرفق من أخلاق النبوة وآدابها، يمنح صاحبه الجمال ويكسو أعماله به، ومن يحرمه حُرم الخير كله. والرفيق من الناس هو كل هين لين قريب سهل، يألف الناس ويألفهم. عن جرير: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من يحرم الرفق يحرم الخير))[65].

 

وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه))[66].

 

وعن عائشة أيضاً: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه))[67]. والأحاديث والأخبار الواردة في الرفق لا حصر لها، وقد أوردت كثيراً منها في الفصل الثالث من البحث، كالرفق بالحيوان والرفق بالمرأة والطفل والمتعلم والرفق بالنفس وبالناس.

 

النقطة الثانية: السماحة في المعاملات المالية:

السماحة صفة الإسلام وخصيصة له، يتميز بها عن سائر الأديان والمذاهب، ولذلك نهى عن الرهبانية والتبتل وترك الشهوات المباحة، رحمة بالناس، وورد في الحديث الصحيح: ((أحب الدين إلى الله الحنيفة السمحة))[68] و(السمحة) تعني السهلة التي لا تشدد فيها ولا عنت، ولا حرج فيها ولا تضييق. وقد ذمَّ الشرع الغلو والتنطع بالحمل على النفس فيما لم يأذن فيه الله تعالى، وإنما ندب إلى الشدة على الأعداء المحاربين، وفي نطاق الحرب زماناً ومكاناً، وسيأتي تفصيله.

 

ومن آداب التجارة في الإسلام: السماحة في المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحة والتضييق على الناس بالمطالبة، وإنظار المعسر، والتساهل في المعاوضات المالية كالبيع والشراء والدين والإجارة ونحوها والجود والكرم والعطاء بين المتعاقدين. والآثار الواردة في ذلك كثيرة، منها ما ورد في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلاً سمحاً- جواداً متساهلاً يوافق على ما طلب منه- إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى- أي طلب حقه-). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((غفر الله لرجل كان قبلكم، كان سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى، سهلاً إذا اقتضى))[69]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان الرجلُ يُداينُ الناس، فكان يقولُ لفتاهُ: إذا أتيتَ مُعسِراً فتجاوَز عنه، لعلَّ اللهَ أن يَتجاوَز عنا، قال: فلَقِيَ اللهَ فَتجاوَزَ عنه))[70]. ومصداقه من كتاب الله قوله سبحانه: ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [71].

 

النقطة الثالثة: حسن الخلق والرفق في الدعوة والمعاملة:

حسن الخلق والرفق ولين الجانب وبشاشة الوجه تحبب صاحب الدعوة إلى الناس، وتقربهم منه، بخلاف الغلظة والعنف والخشونة في التعامل فإنها تنفرهم منه، وتبغض الإسلام إلى قلوبهم، فيكون هذا الداعية الفظ الغليظ فتنة لهم لا رحمة.

ومن الرفق حسن الخطاب، والآيات فيه كثيرة منها:﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [72]. ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [73] وقوله: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [74]، لأن اللين في الخطاب أدعى إلى إجابة المدعوين أما المخاشنة لهم ربما تنفرهم عن الإجابة أو أشد من ذلك من وقوع التسابِّ والخصومة والعنف، وهو ما لا يرضاه الله. ولذلك أمر الله رسوليه موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون بالرفق واللين في قوله: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [75]. وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ هذه الآية: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ﴾ [طه: 44] فبكي يحيى وقال: إلهي هذا رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله؟.


والقرآن الكريم يقرر بوضوح أن الخشونة والغلظة فتنة لا دعوة، فقد خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾[76] ولا غرو أن وجدناه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، وأكثرهم رفقًا، وألطفهم عشرة، يعفو عن المسيء، ويصفح عن المخطئ حتى وصفه مولاه سبحانه: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [77].

 

النقطة الرابعة: التيسير:

تتجلى رحمة الله تعالى في يسر الأحكام الشرعية العملية وهي خصيصة من خصائص التشريع الإسلامي، وصفة عامة للشريعة الإسلامية في أحكامها الأصلية التي تلزم المكلفين. قال الشاطبي: إن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه[78]. والنصوص الدالة على ذلك كثيرة، كقوله تعالى في بيان وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة:﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157]، ونصوص أخرى تبين ذلك صراحة  كقوله: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286]، ومنها ما امتن الله تعالى به في سياق بيان بعض الأحكام الفرعية من أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، كقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [79] وقوله جل وعلا: ﴿ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [80] وقوله: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [81]. ومن اليسر إعفاء الصغير، والمجنون، والنائم من سريان الأحكام التكليفية عليهم، وإعفاء النساء من وجوب صلاة الجمعة والجماعة. وهذا  معنى كثير من الاشتراطات التي تشترط لوجوب حقوق الله تعالى من العبادات، والحدود، وبعض حقوق العباد كحق القصاص، وحق حد القذف، فقد اشترط فيها جميعا البلوغ والعقل، واشترط في حد الزنى أربعة شهود تقليلاً لحالات وجوب الحد، تخفيفاً وتيسيراً، واشترط للرجم لشدته الإحصان تخفيفاً عن غير المحصن، واستثنى الولي الفقير من عدم جواز الأكل من مال اليتيم؛ تخفيفاً عنه، فقد أذن له أن يأكل ولكن بالمعروف[82]، ومسائل غيرها كثيرة.

 

ومنها ما علم في مواضع كثيرة من السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفادى ما يكون سبباً لتكاليف قد تشق على المسلمين، وكان يتجنب أن يصنع شيئاً يكون فيه مشقة على أصحابه إذا اقتدوا به فيه، كما قال تعالى:﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، فمن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يحث أصحابه على ترك السؤال لئلا تفرض عليهم فرائض بسبب سؤالهم. فقد سأله رجل عن الحج:

أفي كل عام هو؟ فقال: ((لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم)) صحيح مسلم. وقال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)) وقال: ((ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية)) والحديثان في صحيح البخاري. وفي سنن الترمذي: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه)) وقال لبعض أصحابه: ((ما بالكم تأتوني قلحاً لا تسوكون؟ لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك كما فرضت عليهم الوضوء))[83] رواه أحمد. وكان صلى الله عليه وسلم يحب اليسر على الناس، ويأمر به. قالت عائشة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندي وهو مسرور طيب النفس ثم رجع إلي وهو كئيب، فقال: ((إني دخلت الكعبة ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي))[84] وتقع المشقة والتعب على الأمة؛ لقصدهم الاتباع لرسول الله في دخول الكعبة وذاك لا يتيسر لغالبهم إلا بتعب. وقد وقع الإجماع على عدم قصد المشقة والعنت في التكليف، وأنها وضعت على قصد الرفق والتيسير، وعلى هذا لم يزل أهل العلم والفتيا في الأمة على طلب اليسر على الناس. كما قال تعالى: ﴿ يُريد الله بِكُم اليُسْر ولا يُريدُ بِكُم العُسْر ﴾ [85]، وقوله: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [86]، وقال صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا "[87]. وجاء في وصفه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله))[88] وورد في الكتاب العزيز أنَّ من أبرز أوصاف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه: ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾[89]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا))[90] وقال أيضا: ((إن الله تعالى لم يبعثني معنتاً، ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً))[91] ومن أنواع اليسر ما يسميه الأصوليون والفقهاء اليسر التخفيفي، وهو ما وضع في الأصل ميسراً، غير أنه طرأ فيه الثقل بسبب ظروف استثنائية، وأحوال تخص بعض المكلفين، فيخفف الشرع عنهم من ذلك الحكم الأصلي، كأحكام المريض والمسافر وصلاة الخوف والمطر ونحوها[92]، وتفصيل ذلك يطول، والبحث يضيق عنه.

 

النقطة الخامسة: الرخص الشرعية:

الرخصة في اللغة اليسر والسهولة. وفي الشريعة: عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر، وعجز عنه مع قيام السبب المحرم. كتناول الميتة عند الاضطرار، وسقوط أداء رمضان عن المسافر. وهذا هو المراد من عبارات الأصوليين، وهو المعنى الحقيقي للرخصة. ويقابلها العزيمة التي هي عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى.

 

وقد شرعت الرخص لرفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة لفقدان المصالح الضرورية. ورفع الحرج مقصد من مقاصد الشريعة وأصل من أصولها، فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وانعقد الإجماع على ذلك. فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ﴾ [93] وقوله تعالى: ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾[94] وقوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [95]. ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: {بعثت بالحنيفية السمحة} رواه أحمد. وانعقد الإجماع على عدم وقوع الحرج في التكليف، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه، ولو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف، وذلك منفي عنها، فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة، وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير، كان الجمع بينهما تناقضاً واختلافاً، وهي منزهة عن ذلك[96]. ولكن قد يقع الحرج لظروف استثنائية تلم بالمكلف، فيقتضي ذلك رفع الحرج عنه. ورفع الحرج: إزالة ما في التكليف الشاق من المشقة برفع التكليف من أصله أو بتخفيفه أو بالتخيير فيه، أو بأن يجعل له مخرجاً، ورفع الحرج لا يكون إلا بعد الشدة خلافاً للتيسير.

 

ثم ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة بالضرورة، كرخص القصر، والفطر، والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار. فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقة. وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف لما يسببه من الانقطاع عن دوام الأعمال. ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف[97]؛ ولأجل ذلك لم يجب شيء من الأحكام على الصبي العاقل لقصور البدن، أو لقصوره وقصور العقل، ولا على المعتوه البالغ لقصور العقل. ولم يجب قضاء الصلاة في الحيض والنفاس، وانتفى الإثم في خطأ المجتهد، وكذا في النسيان والإكراه. ومنه القاعدة الفقهية:

المشقة تجلب التيسير " قال الفقهاء: على هذه القاعدة يتخرج جميع رخص الشرع كالتخفيف لأجل السفر والمرض ونحوها. ومثلها قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات.

 

كأكل الميتة عند المخمصة وإساغة اللقمة بالخمر ونحوها. قال الشاطبي: إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع[98].

 

والرخص الشرعية من مظاهر التيسير ورفع الحرج، والأخذ بها لا يدلُّ على ضعف الإيمان كما يتوهم بعض الناس، بل قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته))[99] وفي رواية في صحيح ابن حبان أيضاً وإسنادها قوي: ((كما يحب أن تؤتى عزائمه)). وقد يقبل من المسلم أن يشدد على نفسه بقدر، ويعمل بالعزائم، ويدع أحياناً بعض الرخص والتيسيرات في الدين؛ لنشاطٍ وسعةٍ يجدها من نفسه أو لشبابٍ وفراغٍ وعلو همة، ولكن الذي لا يقبل منه بحال أن يلزم بذلك عامة الناس، وخاصة إن جلب عليهم الحرج في دينهم، والعنت في دنياهم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أطول الناس صلاة إذا صلى لنفسه، حتى إنه كان يقوم بالليل فيطيل القيام حتى تتورم قدماه عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان أخف الناس صلاة إذا صلى بالناس، مراعياً ظروفهم وأعمالهم وتفاوتهم في القدرة والاحتمال، وقال: ((إذا صلى أحدكم بالنّاس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما يشاء))[100]. وقال لمعاذ لما أطال الصلاة بالقوم: ((أفتَّان أنت يا معاذ؟! وكررها ثلاثاً)). وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه))[101].

 

النقطة السادسة: التدرج في الدعوة والتعليم والتربية والتأديب والتشريع والحدود:

والتدرج بالناس في الدعوة والتعليم، وهو من مظاهر التبشير المطلوبة من الدعاة بتوجيه إمامهم صلى الله عليه وسلم القائل: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)[102]. فلا  يُطالبُ حديث العهد بالإسلام بأداء جميع التكاليف الشرعية، وأن نشدد عليه في ذلك، كما نشدد على المسلم الذي ولد في الإسلام، ورضع مناهجه ونشأ عليه، وتربى في أحضانه، وورث ثقافته وتقاليده من أسرته ومجتمعه أو كالمسلم الملتزم الذي ارتقى في درجات الخير، وأصبح أسوة للناس، بل نترفق بحديث عهد بالإسلام، ونتألف قلبه، ونتدرج به شيئاً فشيئاً؛ خشية الإعنات له. ويسميهم القرآن المؤلفة قلوبهم، ويعطون سهماً من الزكاة، وتأليف قلوبهم لا يقتصر على ذلك.

 

والتدرج أسلوب من أساليب الدعوة والتربية والتشريع استخدمه الإسلام في بناء الفرد والمجتمع والدولة، وتحريم الخمر مثالٌ مناسب للتدرج، فقد جاء تحريمه على أربعة مراحل، رحمة بالناس، وقد نجح نجاحاً منقطع النظير في تجفيف هذه العين الآسنة وصد الناس عنها، وكانوا من قبل يعشقونها، ويتغنى شعراؤهم بها، فلما نزلت: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾[103] قالوا: انتهينا انتهينا!!

 

النقطة السابعة: الوسطية أو الاعتدال والتوازن:

إن التوازن سمة الكون كله على اتساعه وضخامته، وهو سمة الإنسان السويّ الذي لم تنحرف فطرته، وسمة الإنسان الصالح المسلم، وثمرة المنهج الموزون الذي وضعه  خالق الكون وخالق الحياة وخالق الإنسان. و التوازن معنى واسع يشمل كل نشاط الإنسان وطاقاته المتنوعة، فهو ((توازن بين طاقة الجسم وطاقة العقل، وطاقة الروح، توازن بين ماديات الإنسان ومعنوياته، توازن بين ضروراته وأشواقه، توازن بين الواقع والخيال، توازن بين الإيمان بالشهادة والإيمان بالغيب، توازن بين الفردية والجماعية، توازن في النظم الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية، توازن في كل شيء في الحياة))[104]. إن التوازن هو أساس نظرة الإسلام إلى الحياة والإنسان، فالإسلام يوازن بشكل دقيق ملحوظ بين مختلف القوى والطاقات، كما أنه يقع في مركز وسط بين المادية المفرطة التي تحصر مساحة الحياة بما يقع في نطاق الحواس، والروحانية المغرقة التي تهمل عالم المادة وتستقذره وتلغيه من  حسابها. إلا إن بلوغ فضيلة التوازن مهمة صعبة وتكليف عسير، لما غلب على الإنسان من الظلم والجهل. ولذلك تحتاج الاستقامة على منهج التوازن إلى تعب ونصب ومراقبة، وهو هدف جدير بأن ينصب له الإنسان، لأنه يحرز له منتهى السعادة والاستقرار والأمن في حياته الروحية و المادية، وفي داري الدنيا والآخرة. ولا نبالغ إذا قلنا إن أكثر ما يصيب الناس من توتر وقلق وجزع وهلع وتعاسة وشقاوة ما هو إلا ثمرة اختلال التوازن أو فقدانه جزئياً أو كلياً، وبتعبير آخر هو ثمرة الطغيان والانحراف. ولذلك يحرص الإسلام على تحقيق التوازن رحمة بالناس، واستدامته في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، وفي كل تشريع من تشريعاته، ويجعله سمة ثابتة وأصيلة في منهجه، وهدف أساسي له يستنفر له كل طاقات الإنسان وقدراته[105].

 

النقطة الثامنة: التسامح والعفو:

من معاني العفو: إسقاط الحق وترك المطالبة، يقال: عفوت عن فلان إذا تركت مطالبته بما عليه من الحق، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]. أي التاركين مظالمهم عندهم لا يطالبونهم بها. والعفو من معالي الأخلاق، وندب إليه الشرع، وحث عليه، والآيات والأحاديث في الترغيب بالعفو كثيرة، منها ما وصف الله به عباد الرحمن، فقال: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ﴾ [الفرقان: 63] وقال أيضاً: ﴿ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾  (الزخرف: 89).

 

والعفو من أعظم أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ذهبت كلمته: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) مثلاً، بعد أن أمكنه الله من رقاب أعدائه من مشركي قريش، متأسياً بأخيه يوسف الصديق الذي عفا عن إخوته، قائلاً لهم: لا تثريب عليكم اليوم!. ومن أجمل قصص العفو قصة أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه- وزير رسول الله وخليفته من بعده- ومسطح بن أثاثة وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين  المساكين، وأبو بكر ينفق عليه لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإفك وهو اتهام المنافقين لعائشة بنت أبي بكر وزوج النبي بالزنا، خاض فيه مسطح، فغضب أبوها، وحلف ألا ينفق على مسطح، ولا ينفعه بنافعة أبداً، ولكن الله سبحانه دعاه إلى العفو والصفح، فقال:﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]. فقال أبوبكر: بلى أي رب! والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبداً[106]. والصفح ترك المؤاخذة، وهو أبلغ من العفو، ولذلك قال تعالى: ﴿ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾[البقرة: 109] وقد يعفو الإنسان ولا يصفح ولكن أبا بكر عفا وصفح.


الفصل الثالث: رحمة حقيقية

لم تبق رحمته صلى الله عليه وسلم مجرد تعاليم نظرية أو مواعظ جوفاء، بل ترجمها إلى الحياة العملية بدقة تدعو إلى التقدير وتغري بالتدبر في أسرار هذه الظاهرة الفذة، أما الصور والأمثلة من سيرته على رحمته فكثيرةٌ جداً، وأعماله تصدِّقُ أقواله ولا تخالفها، وهذا من دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم في دعوته.

 

المبحث الأول: صور من الرحمة المهداة

أما صور ومظاهر الرحمة في حياته وسيرته مع أهله وأولاده وأقاربه وأصحابه ومع سائر الناس، بل مع الحيوان والطير، فإنه يصعب حصرها واستقصاؤها، ولكن سأعرض صوراً من رحمته صلى الله عليه وسلم، استقيتها من ثنايا سيرته، وإن كانت سيرته رحمة كلها ورفقاً وليناً وخلقاً كريماً، لا تملك إلا الإعجاب به وإن لم تكن من أتباعه بل حتى لو كنت من عدوه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتمتع بشخصية جذابة آسرة، ووصفت أخلاقه بأنها كانت معجزة، أي لا يملك أحدٌ من الناس أن يدانيها فضلاً عن أن يضاهيها، وكان كثيرٌ من المشركين الذين يقابلون محمداً؛ لمحاولة إقناعه والتأثير عليه بترك دعوته، يخفقون في هذه المهمة وربما وقع بعضهم في شراك رحمته، وأعلن الإسلام على رؤوس الأشهاد، ويحضرني صورٌ وشواهد كثيرة من السيرة لا مجال لسردها.

 

النقطة الأولى: رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال:

هذا رجل بدوي غليظ القلب يدخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنر تعليق البدوي عندما رأى رحمة الرسول الكريم بأولاده ومزاحه ولعبه معهم وتقبيله لهم! عن أَبي هُرَيْرَةَ قالَ: «أَبْصَرَ اْلأَقْرَعُ بنُ حَابِسٍ الّنبيّ صلى الله عليه وسلم وهُوَ يُقَبّلُ الْحَسَنَ فقالَ إنّ لي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً ما قَبّلْتُ أحَداً مِنْهُمْ، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنّهُ مَن لاَ يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ»[107]. قانون حاسم ثابت صاغه محمد ببلاغته المعروفة لا يحابي فيه القساة الجفاة، ولا يجاملهم أو يسايرهم، وعقوبة زاجرة لغلاظ الأكباد الذين جفت الرحمة من قلوبهم، فمن لا يرحم الخلق لا يرحمه الخالق: "إنّهُ مَن لاَ يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ" كلماتٌ خالدة من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم. وتحكي أمّ خالدٍ بنت خالدِ بن سعيد- من ذكريات الطفولة- عن زيارتها لرسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم برفقة أبيها، وكانت حديثة السن، قالت: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعليّ قميصٌ أصفرُ, قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «سَنَه سَنه», قال عبدُ اللّه وهي بالحبشية: حسنة. قالت: فذَهبتُ ألعبُ بخاتم النبوّةِ، فزَبرَني أبي، قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «دَعْها». ثم قال: «أبلِي وأخْلِقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي »[108](1). إنها النبوة! أخلاق نبي لا ملك، تواضع ورحمة لا حدود لها. وانظر- رعاك الله- كيف تركَ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصبية الصغيرة حتى تَلعبَ به، وتعبث كما يحلو لها بخاتم النبوة على كتفه، فلا ينهرها ثم تراه يمازِحُها ويلاعبها ويخاطبها بلغتها لغة أهل الحبشة، وكانت قد نشأت فيها، ويستحسن ثوبها تطييباً لخاطرها! الملوك لا يفعلون ذلك!

 

ومن تواضعه ورحمته أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم على الصبيان في الطرقات، ويمسح على رؤوسهم ووجوههم، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله، وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدِّي أحدهم واحدًا واحدًا. قال: وأما أنا فمسح خدي. قال: فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جونة عطار[109]. نعم، كثيراً ما نرى بعض الزعماء السياسيين يسلمون على الأطفال ويلاطفونهم، ولكن ذلك غالباً ما يحدث تحت الأضواء، وفي المناسبات أو قبيل الانتخابات فحسب!.

 

رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بغلامٍ يهودي:

كان غُلامٌ يهوديّ يَخدُمُه صلى الله عليه وسلم فمَرِضَ, فأتاهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَعودُهُ, فقعَد عندَ رأسهِ فقال لهُ: «أسلِمْ». فنظَرَ إلى أبيهِ وهوَ عندَهُ, فقال له: أطِعُ أبا القاسِم صلى الله عليه وسلم، فأسلمَ،فخَرَجَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمدُ للّهِ الذي أنقَذَهُ منَ النار»[110]. قد تعترض وتقول: وهل دعوة الغلام إلى الإسلام رحمة؟ وربما يقول شيطانك على لسانك: هذا تغريرٌ بطفل صغير لا يقدر على التمييز!. ولن أتأخر عليك بالجواب لأبدد لك هذه الريبة التي تتردد في صدرك، وأقول لك: إن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يرى في دعوته للغلام إنقاذاً له من نار جهنم، وهو في نظرنا ليس مجرد رأي بل هو الحق لا ريب فيه! أليس إنقاذك لشخص ما من حريق اندلع في بيته أو مكتبه مثلاً، يريد أن يلتهمه رحمة له؟ فما بالك إذا كان إنقاذك إياه من نار جهنم؟ وهذا شعور رسول الله وعاطفته النبيلة الجياشة تجاه سائر الناس، ويحضرني حديث عنه صلى الله عليه وسلم، يمثِّل فيه لرحمته بتصوير رائع بليغ، فيقول: «مَثَلِى وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَاراً فَجَعَلَ الْفَرَاشَ وَالْجَنَادِبَ يَقَعْنَ فِيهَا- قَالَ- وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا- قَالَ- وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِى »[111]. هل رأيت المشهد التصويري العجيب لرحمة هذا النبي الحبيب؟ أليس من الحيف والظلم البشع أن يصوَّر في مشهدٍ مخالف تماماً كذلك المشهد المرعب الذي صورته فيه صحيفة (جلاندز بوستن) الدنمركية وأخواتها الأوربيات؟ ولكنه قلب الحقائق، تلك الصنعة التي أجادها بعض بني البشر، وتفوقوا فيها على الشياطين أنفسهم! والتعصب الممقوت الذي لم تستطع الحضارة المعاصرة التحرر من أسره إلا بعض المنصفين والعقلاء الذين مجدوا محمداً صلى الله عليه وسلم، واعترفوا بعبقرية العرب وأثرهم في الحضارة الإنسانية[112].

 

النقطة الثانية: رحمته صلى الله عليه وسلم بأهله:

أولى الناس برحمة الرجل هم أهله أي زوجته وأولاده، فإذا لم يرحمهم فمن يرحم؟! ولذلك كان رسول الله من أرحم الناس بأهله، ويقول: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِى»[113].

 

رحمته صلى الله عليه وسلم بأزواجه: تزوج رسول الله بثلاث عشرة زوجة، أولاهن خديجة، ولم يتزوج عليها حتى توفيت، وجمع بين تسعٍ في آن واحدٍ: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وسودة بنت زمعة بن قيس، وزينب بنت جحش بن رئاب، وميمونة بنت الحارث بن حزن، وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وصفية بنت حيي بن أخطب. وكان صلى الله عليه وسلم نعم الزوج، يغدق عليهنَّ من حبه وعطفه وحنانه، ويعدل بينهن فلا يجور ولا يميل، وكان يقوم بمهنتهم وخدمتهم، ويعمل بيده، ويكنس بيته، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه.

 

وبلغت رقته الشديدة مع زوجاته أنه يشفق عليهن حتى من إسراع الحادي في قيادة الإبل اللائي يركبنها، فقد كان ذات مرة في سفر، وكان هناك غلام اسمه أنجشة يحدو ببعض أمهات المؤمنين وأم سليم، فاشتد بهن في السياق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "رويدك يا أنجشة[114] سوقك بالقوارير"[115]. أي أمهل وارفق و(القوارير) جمع قارورة، وكني بذلك عن النساء؛ لضعف بنيتهن ورقتهن ولطافتهن، فشبهن بالقوارير من الزجاج، وفيها ملاطفة وتودد إلى النساء.

 

وكان يوصي بالنساء خيراً، ويحذر الأزواج من ظلمهن، إذ كان يقول: «ألاَ واسْتَوْصُوا بالنّسَاءِ خَيراً, فإنّمَا هُنّ عَوانٍ عِنْدَكمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنّ شَيْئاً غَيْرَ ذلِكَ, إلاّ أَنّ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهجُرُوهُنّ في المضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرّحٍ، فَإنْ أطَعْنكُمُ فَلاَ تَبْغُوا علَيْهِنّ سَبِيلاً. أَلاَ إنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُم حَقّاً، ولِنسَائِكمْ عَلَيْكُمْ حَقاً. فَأَمّا حَقكّمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ولاَ يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. ألاَ وحَقهُنّ عَلَيْكُمْ أنْ تُحسِنُوا إِلَيْهِنّ فِي كِسْوَتِهِنّ وطَعَامِهِن »[116].

 

النقطة الثانية: شبهة والرد عليها: ضرب الزوجة غلظة وفظاظة لا رحمة!

قد تتعجب وتسأل مستنكراً: أين رحمة محمد صلى الله عليه وسلم بالزوجة، وشريعته تبيح ضربها؟

وقبل أن أبدأ بالرد أذكرك بأن ضرب الزوجات قد غدا اليوم ظاهرة عالمية ومشكلة عامة، لا تخص المسلمين فقط ولكن تستفحل عند غير المسلمين والأمريكيين خاصة، انتقاماً لا تأديباً، وبغلظة وفظاظة لا ضرباً غير مبرِّحٍ كما اشترطه فقهاؤنا، ومثَّلوا له بالضرب بسواك ونحوه.

 

وأمرٌ آخر أنبِّه إليه، وهو أن المذاهب والشرائع الوضعية التي كانت تسود العالم آنذاك، كانت تشرِّعُ العنف ضدَّ المرأة إلى حد القتل! وبعد أن قررت نقطتين هامتين في هذه المسألة أشرع بالرد على الشبهة، لأقول:

إن الإسلام لا يقرُّ العنف ضد المرأة، غير إن الشرع أباح استخدام الضرب للتأديب في نطاقٍ ضيقٍ جداً، وذلك خاصٌّ بالمرأة الناشز التي خرجت عن قوامة زوجها، وشكلت تهديداً لنظام الأسرة، وأصرت عليه، إذ لا يبيح الإسلام اللجوء إلى الضرب إلا بعد استخدام الوعظ كمرحلة أولى ثم يجرَّب الهجر في المضاجع أثناء النوم بشروط وضوابط فقهية، تراجع في مظانها، ولا يهجر إلا في البيت، فإذا لم يجد الوعظ ولا الهجر فلا حرج من اللجوء إلى ضربٍ غير مبرح، هو إلى التهديد أقرب منه إلى التنفيذ، إذا وجد المصلحة في ذلك، ومثل هذه المرأة التي لم يصلحها وعظٌ ولا هجرٌ- والهجر عند النساء أشدُّ من الضرب نفسه؛ لرقتهن وغلبة العاطفة عليهن- غالباً ما تكون في حالة شذوذٍ نفسي، وقد ينفع فيه العقاب البدني كحلٍّ أخيرٍ، وهو- رغم ما فيه من ضررٍ على المرأة- خيرٌ من الطلاق وتمزيق الأسرة، وهي أشبه ما تكون بقانون الطوارئ أو الضرورة التي تباح في بعض الحالات الاستثنائية، ولكن بعض الأزواج لا يضع عصاه، وهذا تعسفٌ في استعمال الحق، لا يقبله الإسلام.

 

وإذا كان لابدَّ من كلمة أخيرة، فأقول: إن التشريع الإسلامي في هذه القضية موزون ومعتدل ومنطقي بالنظر العام إلى نظامه القانوني الذي يعطي الرجل حق القوامة على الأسرة أي رئاسة مؤسسة البيت وتدبير شؤونه، ومثل هذه السلطة لا بد لها من قوة تجعلها نافذة وفاعلة وضابطة وإلا فإنها ستبقى حبراً على ورقٍ ليس غير، إلا إن عماد هذه القوة الداعمة هو الوازع الديني عند المرأة قبل أيِّ شيءٍ آخر.

 

النقطة الثالثة: شبهةٌ أخرى! زواجه صلى الله عليه وسلم من عائشة:

و يتملكني شعورٌ أن بعض الحالات التي نثيرها بين ثنايا هذا البحث، قد لا تجد لديك القدرة على هضمها أو الاقتناع بها؛ لعوامل ثقافية وحضارية وغيرها تفرض مثل هذا الاختلاف في وجهات النظر، غير أني أريد أن أذكرك وأنت تقرأ حياة محمد أن تعيش زمانه ومجتمعه، وتحكم على كثيرٍ من الأمور بمنطق زمانه ومجتمعه وموازينهما لا بمنطقك وقناعاتك، ولا يعني كلامي هذا بحال من الأحوال أني أقيِّد الإسلام بزمانه ومكانه وأهله الأولين، لأنه رحمة عامة وشاملة تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتتجاوز عصر نزوله، وتخرج عن حدود أرض العرب التي أشرقت عليها شمس الرسالة، فالإسلام صالحٌ لكل زمان ومكان بل- بتعبيرٍ أقوى وأصح- لا يصلح لكلِّ زمان ومكان إلا الإسلام، ولكن ما قصدته هو اعتبار العرف واختلاف الزمان والمكان في النظر إلى كثيرٍ من الأمور، وأضرب لك مثلاً زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة، وهي بنت تسع سنوات، قد يقفُّ شعر رأسك، وتصرخ: هذا ظلم!.

 

ولكن رويدك قليلاً: ألم يكن لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أعداءٌ وخصومٌ؟. بلى إنهم كثيرون جداً وأعداءٌ ألداء أيضاً، ويرصدون كل حركاته وسكناته، ويتصيدون له الأخطاء!

والسؤال: لماذا لم يشنعوا عليه مثل هذا الزواج؟ لماذا كفُّوا ألسنتهم عن إثارة هذه الشبهة في وقتها؟. والجواب سهلٌ جداً، يفطن له اللبيب وغير اللبيب: إن هذا الزواج مقبولٌ اجتماعياً، وأعرافهم تقرُّه وتتقبله، ولا ترى فيه بأساً. ثمَّ إن البنات يتفاوتن في سن النضج من بيئة إلى أخرى، بل يختلفن في بيئة بعينها، وكثيراً ما ترى البنت الحديثة السن بين أترابها، فتجدها امرأة مكتملة جسداً وعقلاً! وأزيدك بما يؤيد هذا الكلام، وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن الخاطب رقم واحد لعائشة، فقد سبقه إلى خطبتها آخرون! وأترك الفرصة لصاحبة الشأن- وهي التي لم تتذمر يوماً من هذا الزواج بل كانت أسعد امرأة به-؛ لتروي لنا قصة خطبة رسول الله لها:

قَالَتْ عَائِشَةُ: لَمَّا مَاتَتْ خَدِيْجَةُ جَاءتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيْمٍ، فَقَالَتْ:

يَا رَسُوْلَ اللهِ! أَلاَ تَزَوَّجُ؟

قَالَ: (وَمَنْ؟ (قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْراً، وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّباً).

قَالَ: (مَنِ البِكْرُ، وَمَنِ الثَّيِّبُ)؟

قَالَتْ: أَمَّا البِكْرُ؛ فَعَائِشَةُ ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللهِ إِلَيْكَ، وَأَمَّا الثَّيِّبُ؛ فَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ، وَاتَّبَعَتْكَ.

قَالَ: (اذْكُرِيْهِمَا عَلَيَّ).

قَالَتْ: فَأَتَيْتُ أُمَّ رُوْمَانَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ رُوْمَانَ! مَاذَا أَدْخَلَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ؟

قَالَتْ: مَاذَا؟

قَالَتْ: رَسُوْلُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ عَائِشَةَ.

قَالَتْ: انْتَظِرِي، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ آتٍ.

فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَوَ تَصْلُحُ لَهُ

وَهِيَ ابْنَةُ أَخِيْهِ.

فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا أَخُوْهُ وَهُوَ أَخِي، وَابْنَتُهُ تَصْلُحُ لِي).

فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَتْ لِي أُمُّ رُوْمَانَ:

إِنَّ المُطْعِمَ بنَ عَدِيٍّ كَانَ قَدْ ذَكَرَهَا عَلَى ابْنِهِ، وَوَاللهِ مَا أُخْلِفُ وَعْداً قَطُّ.

قَالَتْ: فَأَتَى أَبُو بَكْرٍ المُطْعِمَ، فَقَالَ: مَا تَقُوْلُ فِي أَمْرِ هَذِهِ الجَارِيَةِ؟

قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: مَا تَقُوْلِيْنَ؟

فَأَقْبَلَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ: لَعَلَّنَا إِنْ أَنْكَحْنَا هَذَا الفَتَى إِلَيْكَ تُدْخِلُهُ فِي دِيْنِكَ.

فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا تَقُوْلُ أَنْتَ؟

قَالَ: إِنَّهَا لَتَقُوْلُ مَا تَسْمَعُ.

فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ مِنَ المَوْعِدِ شَيْءٌ، فَقَالَ لَهَا:

قُوْلِي لِرَسُوْلِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلْيَأْتِ.

فَجَاءَ، فَمَلَكَهَا.

 

النقطة الرابعة: شبهة واهية والرد عليها: رحمته بالنساء ليست إلا شهوة عارمة!

والشيء بالشيء يذكر، فإنَّ من الشبهات التي أثارها خصوم محمد حول حياته الزوجية، أنه كان تواقاً للنساء، شغوفاً بهنَّ، قد أسرن لبه وعقله، وقد أكثر منهنّ حتى بلغن إحدى عشرة زوجة أو أكثر، وأن هذا الذي تسميه رحمةً بالنساء ليس إلا شهوة عارمة مكبوتة وشبقاً جنسياً يستعر في صدره!!!، ولا شك أن من يقول هذا لا حظَّ له من المعرفة بسيرته صلى الله عليه وسلم، وليس له أدنى علم بمعيشته وطريقة حياته عليه الصلاة والسلام.

 

ونلخِّص الإجابة عن هذه الشبهة فيما يأتي:

أولاً: ليس حبُّ النساء والميل إليهنَّ عيباً في الرجل بل إنَّ مما يُمتدح به الرجل فحولته، ولو قيلَ: إن محمداً كان عنيناً مثلاً لكان ذماً يعيبه ونقصاً يلحقه- حاشا له-، أما أن يقال: إنه يحبُّ النساء، فإنه في نظري مدح لا قدح، فكلُّ الرجال الأسوياء يحبون النساء!. ثمَّ ما بالُ هؤلاء الخصوم يتخذ واحدهم الأخدان والخليلات بالعشرات بالسر والعلن خارج نظام الزواج، ثم ينكر على محمد تعدد الزوجات تحت مظلة الحياة الأسرية الكريمة التي تكفل فيها الحقوق، وتُصان الكرامة، وتحفظ الأبدان والأديان؟! لماذا يبيحون لأنفسهم من الحرام الخبيث الآسن ما يحرمونه على غيرهم من الحلال الطيب النظيف؟.


وأمرٌ آخر أحب أن ألفت نظرك إليه، وهو أن الإسلام لا يستقذر الجنس، ولا ينظر إليه على أنه رجسٌ، كما هو الشأن في بعض المذاهب والديانات التي تفرض الرهبانية، وتحرم الزواج، فالحياة الجنسية في الإسلام حياة طيبة فاضلة، قد ارتقى بها الإسلام إلى درجة العبادة، نعم العبادة، فالمسلم وهو يمارس الجنس مع زوجته يكون في عبادة، ويحتسب له أجرها، فهل تجد مثل هذا السمو بالعلاقة الجنسية في دينٍ آخر؟. عن أبي ذر؛ أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:

يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور! يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: " أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة (أي الجماع)". قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً"[117]. يقول الإمام النووي في شرحه على مسلم: " فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه أو إعفاف زوجته، ومنعهما جميعا من النظر إلى حرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة ". ((إن الإسلام لا يرفض الحياة الجنسية، لأنه يدعو إلى حياة طبيعية وسعادة الحب، بقدر ما يدعو إلى صحة البدن والقوة والشجاعة والجهاد وكسب المال، ولأنه يعارض الإعراض عن الدنيا كما يعارض الإسراف فيها. يطالبنا الإسلام بجني ((الثمار السماوية)) إضافة إلى ((الثمار الأرضية)) ويسمح للإنسان أن تمتد يداه- اللتان رفعتا إلى الله متذللة بالدعاء قبل قليل- نحو مسرات الدنيا، ولا تعلمنا الآداب الإسلامية الإلحاح في ذكر المحرمات، لأن الإسلام لا يسعى لإقامة جدار يحوط جميع الأنهار التي يمكنها إرواء العطش. ولا يطالب الإسلام بالقضاء على الشهوات بل يطالب بالسيطرة عليها ولا يسعى لقطع الشهوة الجنسية لكنه يضع لها الضوابط والحدود))[118].

 

ثانياً: إن التعدد في الزواج ليس مما يعاب به الأنبياء، وقد عدَّد الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم فإبراهيم عليه السلام تزوج سارة ثم هاجر، و يعقوب عليه السلام  تزوج بأربع نسوة، و داود عليه السلام تزوج بأكثر مما تزوج رسول الله بل يتهمه العهد القديم بأنه- حاشا له- زنى بامرأة أوريا وقتل زوجها بالحيلة، ثم أخذها[119]، وتزوج سليمان عليه السلام بألف امرأة، سبعمائة منهن حرائر من بنات السلاطين وثلثمائة جوار[120] كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من سفر الملوك الأول.

 

ثالثاً: إن التعدد لم يكن مما يعاب عند العرب، وكان سنةً جارية في حياتهم، وعندما حصر الإسلام التعدد في أربع، كان الرجل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: عندي ست زوجات أو تسع أو عشر أو أكثر، فبم تأمرني؟. فيأمره بأن يمسك أربعاً منهن ويسرح الأخريات! وإلا لو لم يكن التعدد شائعاً عندهم لاتخذوا تعدد الرسول  مطعناً، ولم يرد ذلك على لسان أحدٍ منهم.

 

رابعاً: إن زواجه صلى الله عليه وسلم، لم يكن بهدف التمتع وإشباع الشهوة، وإن كان ذلك أمراً فطريا ًسائغاً لا يعاب الإنسان به، وقد كان تعدد الزوجات سائداً بين العرب آنذاك بلا حد- كما قدَّمت-، ومع ذلك فإن هدف الرسول صلى الله عليه وسلم من زواجه كان أسمى من ذلك وأعلى، إذ أراد بتعدد الزوجات تحقيق غايات شريفة، ومراعاة مصالح عظيمة اقتضتها طبيعة الرسالة وضرورة الدعوة؛ فالزواج يوثق عرى الترابط الأسري، ويمدُّ في رقعة الصلات الاجتماعية؛ لتنتشر الدعوة، وتفتَّح الأبواب والطرق، ليبلِّغ الرسول الرسالة.

 

ومن المصالح تأليف قلوب الخصوم كزواج محمد صلى الله عليه وسلم برملة بنت أبي سفيان زعيم قريش آنذاك وخصمه اللدود الذي سُرَّ بهذا الزواج رغم العداوة المشتعلة بينهما.

 

وزواجه من جويرية بنت الحارث زعيم بني المصطلق الذي كان بركة على قومها بعد أن لحقت بهم هزيمة نكراء، ومفتاحاً لقوبهم لينفذ منها نور الإسلام. وزواجه من صفية بنت حيي بن أخطب بنت ملك اليهود التي وقعت أسيرة حرب في سهم جندي، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لا تصلح إلا لك!، ورقَّ لها رسول الله، ووهبها حريتها، واتخذها حليلة له تقديراً لمنزلتها في بني قومها وتطييباً لخاطرها، فهل في فعله صلى الله عليه وسلم ما يلامُ عليه؟.


ومن المقاصد الشرعية أيضاً لزواج النبي الإحسان إلى أصحابه من ذوي السبق في الجهاد والدعوة معه، فقد تزوج أرملة صاحبه الوفي أبي سلمة بعد أن قضى نحبه، وخلفها وراءه دون عائل، فضمها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه؛ عطفاً عليها، وتقديراً لتضحياتها الجسام، فهي رمز من رموز مأساة الهجرة.

 

ومن أعظم المصالح إطلاقاً المصلحة العلمية، وهي نقل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم كافةً في حله وترحاله وبخاصة حياته الأسرية بتفصيلاتها الكثيرة الدقيقة حتى الخصوصيات منها، مما لا يستطيع رجل واحد ولا امرأة واحدة نقله أو حصره، وذلك لأن رسول الله قدوة للناس في سائر أحواله، ويدخل في هذا المقصد تعليم النساء أمور دينهن، ونحو ذلك مما فيه مصلحة عامة. وقد لعبت أمهات المؤمنين دوراً بارزاً في تعليم الناس وإرشادهم، وبخاصة السيدة عائشة الفقيهة العالمة التي كانت تستدرك على الصحابة، وحققن هدفاً أساسياً من أهداف زواجه صلى الله عليه وسلم.

 

خامساً: ومن هذا القبيل زواج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، فإنه من أقوى الردود على الشبهة، فقد كان هذا الزواج مغرماً لا مغنماً، وامتحاناً ثقيلاً لمحمد، لم يكد يقدم عليه من شدة حيائه وتحرجه وخشية الأذى من قريش لولا أن الله أمره به؛ لإبطال التبني، وكان تقليداً شائعاً عند العرب، فمنعه الإسلام لما يترتب عليه من الكذب والتزوير وضياع الحقوق، ولكن كيف جاء التحريم؟ كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم نفسه قد تبنى مولاه زيد بن حارثة، ونسبه إليه، حتى كان يدعى بين القوم زيد بن محمد، وكان ذلك قبل البعثة، فأعتقه، وبعد أن بُعث زوجه من قريبته زينب بنت جحش على كرهٍ منها، فهي حرةٌ من ذؤابة قريش، وهو مولى!، ولذلك فشلت هذه العلاقة الزوجية، وتدخَّل رسول الله لإصلاح ذات البين مراراً ولكن دون جدوى؛ ليفاجأ بعد ذلك بالوحي يأمره بترك زيدٍ وشأنه في تطليق زينب، لأن الأمر سيؤول إلى أن يتزوج بها؛ لإبطال عادة التبني، وليعلم الناس أن أدعياءهم ليسوا أبناءهم، وكان مثل هذا الزواج محرماً في أعراف الجاهلية وقوانينها، فاعترى رسول الله صلى الله عليه وسلم همٌّ وقلقٌ، وساوره الخوف من لغط الناس عندما يرون نظام التبني الذي ألفوه ينهار أمام أعينهم، وما سيقولونه عنه: محمدٌ تزوج بزوج ابنه وما هي بزوجه َ!. ومن شدة تحرجه وحيائه من الموقف، وخشيته من حربٍ إعلامية مرتقبة، أخفاه في نفسه رجاء أن يعفيه الله منه بل كان زيد يأتيه يشكو امرأته، ويستأذنه في طلاقها، فينهاه عن ذلك، ويقول له: {أمسك عليك زوجك}! ولكن الله سبحانه لم يعف نبيه من هذا التكليف الثقيل بل عاتبه عتاباً مرَّاً، ولامه على تردده، وحضه على إنفاذ أمر الله سبحانه بإنفاذ رغبة زيد بتطليق زينب، ومن ثمَّ يتزوج منها، وإن قالت العرب: إن محمداً تزوج حليلة  ابنه أو مطلقته! لأن زيداً ليس بولدك، والتبني تقليدٌ باطلٌ وعرفٌ جاهليٌّ يجب هدمه، وإعلان هدمه سيتم أمام الأشهاد، ولا يهدمه قولٌ، وإنما يبطله رسول الله نفسه بزواجه من زينب؛ لأن زوجها السابق إنما هو زيدٌ بن حارثة، وليس زيداً بن محمد، ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [121]. عندئذٍ لم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفراً من تنفيذ التكليف الإلهي،﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [122]. وقد نفذت عائشة إلى لب الحقيقة عندما قالت: "لو كتم رسول الله شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية! " تقصد قوله تعالى:﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ﴾ [الأحزاب: 37]، وهذا من أظهر دلائل النبوة.

 

خامساً: إن مما يؤكد لك أنَّ زواج محمد لم يكن من باب التوسع والسرف في الشهوة والتمتع على عادة الملوك قديماً، أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً إلا زوجة واحدة، وهي عائشة الصدَّيقة العالمة الفقيهة، وغالب من يكون التمتع هدفه يحرص على الأبكار بل إنَّ محمداً نفسه حضَّ جابر بن عبد الله على زواج البكر، فقال له: ((هلَّا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك))[123]. فما باله يرغِّب بالأبكار وينكح الأرامل؟ أيفعل ذلك طالب شهوة أم صاحب دعوة؟ ثم إنَّ مما لا ينبغي أن تغفل عنه أنه لم يعدد إلا بعد موت خديجة رضي الله عنها، وقد بلغ الخمسين من عمره، ومن أراد التمتع والشهوة فإنه يتزوج في الشباب؛ لأنه سنُّ القوة الجنسية العارمة ثم تبدأ بالذبول! فما مكان الشهوة في حياة رجل عزف عنها وهو شاب، أيغرق فيها وهو شيخ؟. ونقول أيضاً: أين مكان الشهوة والمتعة في حياة رجل لم  يسترح ساعة من عناء الجهاد والعمل، فالمهام العظيمة والأعمال الجليلة التي كان يقوم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، كانت تشغل وقته وجهده، ولم يعرف عنه أنه كان ينشغل بالنساء والملذات عن تلك المهمات، فقد كان داعياً إلى الله لا يهدأ، ومجاهداً في سبيله لا يفتر، ومعلماً للناس الخير، وحاكماً بينهم بالعدل، وعابداً يقوم حتى تتفطر قدماه، ويصوم حتى يظن أصحابه أنه لا يفطر، ولكنه مع  ذلك كله كان زوجاً مثالياً ناجحاً في إدارته لبيوته[124].

 

ثمّّ هناك شاهدٌ آخر يدحض هذه الشبهة الواهية، فالمعهود بملوك المتعة وأمراء اللذة، أنهم يغرقون محظياتهم من الجميلات في جو من المتع والمسرات، ويغدقون عليهم من الهدايا والتحف والنفائس والأعطيات، ويسرفون في المآكل والمشارب والملابس والمراكب، لكننا نفاجأ ببساطة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وزهده بالدنيا وزينتها، حتى أثّر الحصير في جنب النبي صلى الله عليه وسلم، فرقَّ له عمر بن الخطاب حين رآه، فبكى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك؟)، فقال: "يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله "، فقال له: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟)[125].

 

لقد كانت بيوت محمد صلى الله عليه وسلم غاية في البساطة والتواضع، ضيقة لا تكاد تتسع له ولزوجاته، خاوية مقفرة تفتقر إلى الضروريات فضلاً عن الكماليات. وكذلك الحال  بالنسبة لطعامه وشرابه، حتى إنَّ نساءه سألنه ذات مرة زيادة النفقة، فخيرهنَّ بين البقاء معه والرضى بحياة الكفاف التي اختارها لنفسه وبين الطلاق، فاخترنه دون تردد، وهذه زوجته عائشة رضي الله عنها تروي لعروة ابن أختها عن شظف العيش في بيوت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، تقول: (ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نارٌ، فقلت: يا خالة ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء)[126]. بالله عليك هل هذه معيشة رجلٍ شهواني ينشد اللذات ويعكف عليها، وهو قادرٌ لو شاء أن يعيش عيشة الملوك وخاصة بعد أن توطدت أركان دولته واتسعت رقعتها، ولكنه اختار حياة الكفاف، ليس تحريماً للطيبات، فالإسلام يحلها، وينكر على من حرمها، ولكن مواساة لأصحابه وكان جلهم من الفقراء، وحذراً من التعلق بالدنيا والاستغراق في اللذات والغفلة عن الباقيات!؟. ثمَّ لو كانت النساء الجميلات غاية محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما يصبو إليه، لقبل عرض قريش في أول طريقه إذ عرضوا عليه أن يزوجوه بأجمل بناتهم وعرضوا عليه الملك والمال على أن يترك دعوته فأبى ذلك كلَّ الإباء! وقد تنبه الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل إلى فساد مثل هذه الشبه، وشهد لمحمدٍ بالنزاهة والعفة والطهارة، فقال: " وما كان محمد أخا الشهوات، برغم ما اتهم به ظلماً وعدواناً...ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوانياً لا هم له إلا قضاء مآربه من الملذات ". وهكذا- عزيزي القارئ- نجد أن هذه الشبهة داحضة، لا ينهض بها دليل من عقل ولا واقع، وهي ساقطة الاعتبار من كل وجه، ولا تأثير لها على شخصية كملت من جوانبها كافة.

 

النقطة الخامسة: رحمته صلى الله عليه وسلم ببناته:

وإذا كان أهل الجاهلية يكرهون البنات، ويتشاءمون منهن، بل وتبلغ الغلظة والقسوة مداها أحياناً بوأدهن، ولكن رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم يحب بناته، ويحسن إليهن، ويتواضع لهن، ويرق لهن، ويعطف عليهن، حتى وهو في صلاته بين يدي ربه سبحانه، وصلاة المسلمين يحرم فيها الكلام أو العبث! يحدثنا أبو قتادةَ قال: خرجَ علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأُمامَة بنتُ أبي العاص على عاتِقه فصلى, فإذا ركعَ وضعها, وإذا رفعَ رفعَها[127]. ومن ألطف أخباره وأرقها ما رواه لنا علي صهره أن فاطمة ابنة رسول الله عليها السلام اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحن حتى أثَّر في يديها، فبلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بسبي (رقيق)، فأتته تسأله خادماً، فلم توافقه (تصادفه)، فذكرت لعائشة حاجتها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك عائشة له، فأتانا وقد دخلنا مضاجعنا (أي اضطجعنا في فراشنا لننام)، فذهبنا لنقوم، فقال: (على مكانكما)، "فجاء فقعد بيني وبينها"[128]، حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: (ألا أدلكما على خير مما سألتماه، إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعا وثلاثين، واحمدا الله ثلاثا وثلاثين، وسبحا ثلاثا وثلاثين، فإن ذلك خير لكما مما سألتماه)[129]. ولكن لمَ لمْ يعط محمدٌ ابنته فاطمة خادماً؟ وهنا تبرز عظمة رسول الله، فهو لا يؤثر بناته ولا زوجاته على نساء المسلمين بشيء، ليس لقسوة في قلبه، فهو- كما رأيناه في تفاصيل القصة- يفيض رحمة وحباً وحناناً وشفقة، ولكنه التوازن الذي حدثتك عنه، فإنَّ كثيراً من أصحاب المكانة والنفوذ تحمله الشفقة على أولاده وأقاربه إلى إيثارهم وتفضيلهم على سائر الناس. وهذه قصة أخرى تظهر رأفته ببناته، ولكنها في الوقت نفسه تؤكد على أن العاطفة لم تكن لتميل به عن الجادة. عن السيدة عائشة أن أبا العاص بن الربيع صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيمن شهد بدراً مع المشركين، فأسره عبد اللّه بن جبير بن النعمان الأنصاري، فلما بعث أهل مكة في فداء أساراهم قدم في فداء أبي العاص أخوه عمرو بن الربيع، وبعثت معه زينب بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهي يومئذ بمكة بقلادة لها، كانت لأمها خديجة بنت خويلد، فأدخلتها عليه بتلك القلادة، فبعثت بها في فداء زوجها أبي العاص، فلما رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها، فرقَّ لها، وترحم على خديجة، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها متاعها فافعلوا!، قالوا: نعم يا رسول اللّه، فأطلقوا أبا العاص، وردوا على زينب قلادتها، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلي سبيلها إليه، فوعده ذلك وفعل[130]، انتهى.

 

وكان صلى الله عليه وسلم يحض على تربية البنات ورعايتهن، ويبشر من يحسن إليهنَّ بالأجر العظيم، عن عائشةَ زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم قالت: جاءتني امرأةٌ معها ابنتانِ تَسألني, فلم تجدْ عندي غيرَ تمرةٍ واحدة, فأعطيتها, فَقَسَمَتْها بينَ ابنتيها, ثم قامت فخرَجَت، فدخلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فحدّثتُه, فقال:« من يَلي من هذهِ البناتِ شيئاً فأحسَن إليهنّ كنّ له سِتراً من النار»[131]. وتذكَّر أن هذه التعاليم يُخاطبُ بها مجتمعاً كان يكره البنات إلى حد الوأد!. ومن عجيب رقته ورأفته صلى الله عليه وسلم أنه كان يقف للصلاة يريد إطالتها، فيسمع بكاء طفل في أثنائها يكون برفقة أمه التي تصلي مع رسول الله صلاة الجماعة؛ فإذا به يخفف صلاته ويتَجوَّز فيها؛ شفقة على الطفل وأمه، يقول- بأبي هو وأمي-: "إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وَجْد أمه به"[132].

 

النقطة السادسة: رحمته صلى الله عليه وسلم بالأرامل واليتامى:

كان يحث على رحمة الأرامل والمساكين ورعاية من لا راعٍ له، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((الساعي على الأرملةِ والمسكين كالمجاهدِ في سَبيلِ الله: كالقائم لا يَفتُر وكالصائم لا يُفطِر))[133]، فكافل الأرملة والمسكين كالمجاهد سواءً بسواء، والجامع بينهما الرحمة، فالمجاهد أيضاً رسالته وغايته التي خرج من أجلها "رحمة للعالمين " وإنقاذ الناس وتخليصهم من الجور والظلم.

 

رحمته باليتامى: وشملت رحمته اليتيم، ومن أولى بها منه، وحضَّ على كفالة الأيتام وإيوائهم، وهو الذي ذاق مرارة اليتم، إذ حُرِم صلى الله عليه وسلم من أبويه، فلم تكتحل عيناه برؤية أبيه، ثم لم يلبث أن فقد أمه بعيد فطامه، فآواه ربه سبحانه ورعاه، وامتنَّ عليه بهذه النعمة قائلاً: ﴿ ألم يجدك يتيماً فآوى ﴾ [134]، وأمره بشكر النعمة بألا يقهر يتيماً أو يظلمه، وأن يجبر كسر قلبه. عن سِهْلِ بنِ سَعْدٍ قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ في الْجَنّةِ كَهَاَتَيْنِ، وأَشاَرَ بإِصْبعَيْهِ يَعْنِي السّبّابَةَ وَالوُسْطَي»[135] ومن أخباره صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، أنه عندما قُتِل جعفر أمهل آل جعفر ثلاثاً، ثم أتاهم فقال: " لا تبكوا على أخي بعد اليوم ". ثم قال: "ادعوا لي بني أخي ". فجيء بنا كأنَّا أفرخ فقال: " ادعوا لي الحلاق " فأمره فحلق رؤُوسنا[136]. ثم لما رجع رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى أهله، قال لهم:(إن آل جعفر قد شغلوا بشأن ميتهم، فاصنعوا لهم طعاماً)[137].

 

النقطة السابعة: رحمته صلى الله عليه وسلم بالخدم والعبيد:

وتعال لنستمع إلى خادمه أنس رضي الله عنه يحدثنا عن رحمته وشفقته ولينه وعطفه وحنانه، وإن شهادة الخادم لصادقة، وخاصة أنس الذي خدمه تسع سنين، وكان معه كظله، في سائر أحواله، في حضره وسفره وصحته مرضه وشبعه وجوعه، وبتقلب الأحوال تختبر أخلاق الرجال، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النّاسِ خُلُقاً. فَأَرْسَلَنِي يَوْماً لِحَاجَةٍ.

 

فَقُلْتُ: وَاللّهِ لاَ أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجْتُ حَتّىَ أَمُرّ عَلَىَ صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ, يَا رَسُولَ اللّهِ. قَالَ أَنَسٌ: وَاللّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: هَلاّ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا[138]. وفي رواية[139]. فما أمرني بأمر فتوانيت عنه أو ضيعته فلامني أحد من أهل بيته إلا قال: «دعوه فلو قدر أو قضي أن يكون كان». وكان يوصي أصحابه بالعفو عن الخادم. روى أبو داود عن عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت. فلما كان في الثالثة قال: "اعفوا عنه في كلِّ يومٍ سبعين مرَّةً ". فإذا ضرب السيد عبده أو مملوكه فكفارته عتقه. كان لدى بني مقرّن خادمة، فلطمها أحدهم، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باكية، فاستدعى الرسول صلى الله عليه وسلم مالكها قائلاً له: "أَعتِقوها"، فقالوا: ليس لهم خادم غيرها. قال: "فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها، فليخلّوا سبيلها[140]. والقصة نفسها يرويها معاوية بن سويد، قال: لطمت مولى لنا فهربت. ثم جئت قبيل الظهر فصليت خلف أبي. فدعاه ودعاني. ثم قال: امتثل منه (اقتص منه). فعفا. ثم قال: كنا، بني مقرن، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ليس لنا إلا خادم واحدة. فلطمها أحدنا.

 

فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال (أعتقوها) قالوا: ليس لهم خادم غيرها. قال (فليستخدموها فإذا استغنوا عنها. فليخلوا سبيلها). وعن هلال بن يساف قال: كنا نزولاً في دار سويد بن مُقرِّن، وفينا شيخ فيه حِدَّةٌ ومعه جارية له فلطم وجهها، فما رأيت سويداً أشدَّ غضباً منه ذاك اليوم. قال: عجز عليك إلا حرُّ وجهها؟ لقد رأيتنا سابع سبعةٍ من ولد مقرِّن وما لنا إلا خادم، فلطم أصغرنا وجهها، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعتقها. (ج/ص: 2/764).

 

رحمته صلى الله عليه وسلم بالعبيد:

هل تعرف آخر كلمات تفوَّه بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه وقد حضره الموت؟. عن عليّ قال: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم". إنه يوصي بالعبيد، وهو يعالج سكرات الموت!. وعن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالربذة، وعليه حلة (ثوبان، إزار ورداء)، وعلى غلامه (عبده ومملوكه) حله، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه (قال له: يا بن السوداء)، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر، أعيرته بأمه، إنك امرو فيك جاهلية (خصلة من خصال الجاهلية، وهي التفاخر بالآباء)، إخوانكم خولكم ((العبيد والخدم هم إخوانكم في الدين أو الآدمية))، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)[141] وفي رواية أبي داود، قال: " إنهم إخوانكم فضلكم الله عليهم، فمن لم يلائمكم فبيعوه، ولا تعذبوا خلق اللّه"[142]. وقد رغَّب الإسلام بتحرير العبيد، ويسمى العتق، عن سعيد بن مرجانة، صاحب علي بن حسين، قال: قال لي أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أعتق امرأ مسلما، استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار)[143]. قال سعيد بن مرجانة: فانطلقت به (أي بالحديث) إلى علي بن حسين، فعمد علي بن حسين رضي لله عنهما إلى عبد له، قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم، أو ألف دينار، فأعتقه. وعن أبي مسعود الأنصاري قال: كنت أضرب غلاماً لي، فسمعت من خلفي صوتاً "اعلم أبا مسعود" مرتين " للَّهُ أقدر عليك منك عليه! ". من صاحب هذا الصوت؟


يقول أبو مسعود: فالتفتُّ فإِذا هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول اللّه، هو حرٌ لوجه الله تعالى. قال: " أما إنك لو لم تفعل للفعتك النار- أو لمستك النار-"[144].

 

شبهة والرد عليها:

ولربَّ قائلٍ يقول: عجبتُ لرحمة محمدٍ بالعبيد والمماليك، وحسن معاملته لهم، وحفظه لحقوقهم، ولكن لماذا أقرَّ الرق، ولم يلغه إلغاءً كاملاً!؟. والرد بإيجاز أن الإسلام يكره الرق ويجفف منابعه، ويحب العتق، ويشجع عليه، ويفتح أبوابه، ويرغِّبُ أتباعه به بل يلزمهم به في كثيرٍ من كفارات الذنوب، من مثل كفارة الظهار واليمين والقتل وسواها. والذنوب لا تنتهي، فالكفارات بابٌ مفتوحٌ من أبواب العتق. ولم يكتف بذلك بل حضَّ على العتق، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار حتى فرجه بفرجه) متفقٌ عليه.

 

والإسلام يتشوف إلى الحرية بيد أن الإسلام لا يستطيع أن يلغي الرق إلغاءً كاملاً رغم شدة توقه إلى الحرية، وذلك لأسباب منها: عجز الدولة الإسلامية آنذاك عن استيعاب العبيد بعد تحريرهم، وتأمين الكفاية لهم أو توفير فرص العمل لهم على الأقل، وسبب آخر جوهريٌّ، وهو أن الرق كان آنذاك نظاماً عالمياً راسخاً وعرفاً دولياً سائداً، ولا يقدر الإسلام وحده على إلغائه من جانبٍ واحدٍ، وكان لابدَّ من اتفاقٍ دوليٍ عامٍّ على تحريمه، وهذا ما كان متعذراً في عصره بل إن الرق استمرَّ حتى القرون المتأخرة، واستفحل في أوربا وأمريكا خاصة التي أقامت امبراطوريتها على أشلاء الحمر والسود، وشهدت النخاسة فيها ازدهاراً منقطع النظير، وانحدرت معاملة الرقيق إلى الحضيض من حيث إلغاء آدميته وعدم الاعتراف بإنسانيته!

 

النقطة الثامنة: رحمته صلى الله عليه وسلم بالمرضى والمعوقين:

وشملت رحمته صلى الله عليه وسلم حتى المعوقين عقلياً، عَنْ أَنَسٍ أَنّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً!.

فَقَالَ: « يَا أُمّ فُلاَنٍ! انظري أَيّ السّكَكِ شِئْتِ، حَتّىَ أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ » فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطّرُقِ، حَتّىَ فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا[145]. فهذه أخلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وفي حادثة أخرى عبس الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في وجه رجل أعمى جاءه يسأله عن أمرٍ من أمور دينه، وكان يجلس إلى رجالٍ من رؤساء قومه، يستميلهم إلى دينه، ويطمع بإسلامهم، فلم يتركه ربه سبحانه- رغم أن الأعمى لم ير عبوسه، ولم يفطن إليه-، وأنزل عليه آيات من القرآن تعاتبه عتاباً مراً: لم عبس في وجه هذا الأعمى المسكين؟ أما الآيات فهي في سورة تسمى "عبس "!، يقول الله فيها:﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ﴾ [146]. فهل يعقل أن تكون هذه الآيات من اختلاق محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل يعقل أن يكون المرسل والمستقبل فيها ذاتٌ واحدةٌ؟. وكيف يلوم محمدٌ نفسه هذا اللوم الشديد، وبصوتٍ مسموعٍ؟. قد يلوم المرء نفسه سراً في خلوته أما أن يلومها جهاراً في آيات يتلوها أصحابه آناء الليل وأطراف النهار، فهذا لا يفسره إلا الإذعان والإيمان بظاهرة الوحي. ولها أشباه ونظائر اعتبرها العلماء من دلائل النبوة لا مجال لسردها في هذه العجالة.

 

ومن الرحمة بالمعوقين مراعاة الشريعة لهم في كثيرٍ من الأحكام التكليفية، والتيسير عليهم ورفع الحرج عنهم، فعن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه: ﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ﴾. قال: فجاءه ابن أم مكتوم (الأعمى) وهو يملها علي (أي يقرؤها عليه ليكتبها)، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان رجلا أعمى، فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي (من ثقل الوحي)، ثم سري عنه، فأنزل الله عز وجل: ﴿ غير أولي الضرر ﴾[147]. وهذه الرخص الشرعية من تجليات الرحمة في التشريع الإسلامي، وأمثالها كثيرٌ جداً.

 

ومن أخباره في الرحمة بالمعوقين أنَّ رجلاً ضريرَ البصرِ أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: ادعُ اللَّهَ أنْ يُعافيني، قَالَ إنْ شِئتَ دَعوتُ، وإنْ شِئتَ صبرتَ فهوَ خيرٌ لكَ، قَالَ فادعُهْ، قَالَ فأمرَهُ أنْ يتوضَّأ فيُحسنَ وُضُوءَهُ ويدعو بهَذَا الدُّعاءِ: الَّلهُمَّ إنِّي أسألكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبيِّكَ مُحَمَّد نبيِّ الرَّحمةِ إنِّي توجَّهتُ بكَ إِلى رَبِّي في حاجتي هذِهِ لتُقْضَى لي، الَّلهُمَّ فَشَفِّعْهُ فيَّ "[148].

 

النقطة التاسعة: رحمته صلى الله عليه وسلم بالمتعلمين:

الرحمة بالمتعلمين والعلاقة الحميمة بين المعلم وتلاميذه شرطٌ ضروري لنجاح عملية التعليم، وهذا ما حققه الرسول الرحيم، ونجح نجاحاً باهراً في استلاب قلوب أصحابه. ومن رحمته صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم ما رواه لنا مُعَاوِيَةَ بنِ الْحَكَمِ السّلَمِيّ قال: صَلّيْتُ مَع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ, فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ الله, فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمَيّاهُ, مَا شَأْنُكُم تَنْظُرونَ إلَيّ؟ قال:

فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأيْدِيهِمْ عَلَى أفْخَاذِهِمْ فَعَرَفْتُ أنّهُمْ يُصَمّتُونِي، فَلَمّا رَأيْتُهُمْ يُسكّتُونِي سكَتّ، فَلَمّا صَلّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِأبِي وَأُمّي مَا ضَرَبَني وَلا كَهَرَني وَلا سَبّنِي, ثُمّ قال:«إنّ هَذِهِ الصّلاَةَ لا يَحِلّ فيها شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النّاسِ هَذَا إنّمَا هُوَ التّسْبِيحُ وَالتّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ»[149]. ومن غرائب أخباره في الرفق واللين والرحمة بالمتعلمين قصة الأعرابي الذي بال في المسجد! عن أنس رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي[150] فقام يبول في المسجد وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يصيحون به: مه مه! (أي اترك)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه دعوه!" (لا تقطعوا بوله)، فترك الصحابة الأعرابي يقضي بوله، ثم دعا الرسول عليه الصلاة والسلام الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: " إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين صبوا عليه دلوا من الماء. فقال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا!!! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لقد تحجرت واسعًا، (أي ضيقت واسعًا)"[151].

 

النقطة العاشرة: رحمته صلى الله عليه وسلم برعيته:

كان الرسول صلى الله عليه وسلم أقرب إلى المؤمنين من أنفسهم وأولى بها منهم، كما وصفه الله تعالى بقوله: ﴿ النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم ﴾[152]. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفِّي وعليه ديْن فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته". ولا ريب أن كفالة الدولة لرعاياها ورعايتهم مادياً ومعنوياً يعدُّ رحمة، لم نعرفها عند الدول والحكومات قديماً، وقد سبق بها محمد صلى الله عليه وسلم الدولة الحديثة في هذا الجانب. وإليك قصة جمل جابر مع نبي الرحمة، فهي تصلح شاهداً لرعاية الإمام لأصحابه ورعيته، وتفقده أحوالهم[153]: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكنت على جمل ثفال (بطيء) وإنما هو في آخر القوم، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من هذا؟.). قلت: جابر بن عبد الله. قال: (ما لك؟). قلت: إني على جمل ثفال. قال: (أمعك قضيب؟). قلت: نعم. قال: (أعطينه). فأعطيته فضربه فزجره، فكان من ذلك المكان من أول القوم. قال:(بعنيه). فقلت: بل هو لك يا رسول الله. قال: (بعنيه قد أخذته بأربعة دنانير، ولك ظهره إلى المدينة). فلما دنونا من المدينة أخذت أرتحل: قال: (أين تريد). قلت تزوجت امرأة قد خلا منها. قال: (فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك). قلت: إن أبي توفي، وترك بنات فأردت أن أنكح امرأة قد جربت خلا منها. قال: (فذلك). فلما قدمنا إلى المدينة قال: (يا بلال اقضه وزده). فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطاً!

 

النقطة الحادية عشرة: رحمته صلى الله عليه وسلم بخصومه:

بل تجاوزت رحمته كل حد، وفاقت الوصف، وغلبت غضبه، وأطفأت غيظه في أشد المواقف وأفظعها، كيف؟ عن عُرْوَة بْن الزّبَيْرِ أَنّ عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَدّثَتْهُ أَنّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللّهِ! هَلْ أَتَىَ عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ, وَكَانَ أَشَدّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ, إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ, فَلَمْ يُجِبْنِي إلَىَ مَا أَرَدْتُ, فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَىَ وَجْهِي, فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلاّ بِقَرْنِ الثّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلّتْنِي, فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبْرِيلُ, فَنَادَانِي، فَقَالَ: إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدّوا عَلَيْكَ, وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلّمَ عَلَيّ، ثُمّ قَالَ: يَا مُحَمّدُ! إنّ اللّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ, وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ, وَقَدْ بَعَثَنِي رَبّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ؟ إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ»، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه وسلم)): بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ, لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً »[154]. ونحو هذا أو قريب منه ما رواه أبو هريرةَ رضي اللهُ عنهُ قال: ((قَدِمَ طُفَيلُ بنُ عمرو الدّوسِيّ وأصحابهُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسولَ اللهِ إنّ دَوساً عَصَتْ وأبَتْ, فادْعُ اللهَ عليها, فرفع يديه فقيل: هلَكَتْ دَوسٌ. قال: اللهمّ اهدِ دَوساً وائْتِ بهم))[155]. وعن عبد الله بن مسعود قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين بالجعرانة ازدحموا عليه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عبداً من عباد الله بعثه الله إلى قومه فضربوه وشجّوه, قال: فجعل يمسح الدم عن جبهته ويقول: رب اغفر لقومي إنهم لا يعلمون)) قال عبد الله: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدم عن جبهته يحكي الرجل ويقول: ((رب اغفر لقومي إنهم لا يعلمون))[156].

 

رحمته صلى الله عليه وسلم بالمنافقين والمشركين كان رحمة للمنافقين أيضًا إذ تجاوز عنهم، رغم أنه كان يعرف دخائل نفوسهم وأضغان قلوبهم، حتى إنه أسرَّ بأسمائهم إلى أحد أصحابه حُذيفة رضي الله عنه، وخصَّه بذلك، وكان بوسعه لو شاء أن يفضحهم ويعاقبهم، ومع ذلك فلم يفضح سرهم، ولم يهتك سترهم؛ رحمة بهم وتأليفاً لقلوبهم، رجاء أن يتوبوا ويرجعوا ويطهِّروا أنفسهم من النفاق. وكذلك كان محمد رحمة للكافرين، لأن الله سبحانه رفع عنهم العذاب بفضله وحرمته: ﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ [157]. فتأمل قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته! ورغم إيذائهم له واستهزائهم به ومحاولتهم قتله إلا إنه كان لا يدعو عليهم شفقةً عليهم بل يدعو لهم رأفة بهم، وكان يقول: "إني لم أُبعث لعّاناً، وإنما بُعثت رحمة".

 

النقطة الثانية عشرة: رحمته صلى الله عليه وسلم بالأسارى:

قال ابن القيم في كتابه " زاد المعاد ": " وهبط عليه فى صلح الحديبية ثمانون متسلحون يريدون غرته فأسرهم ثم منَّ عليهم، وأسر ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة فربطه بسارية المسجد ثم أطلقه فأسلم. واستشار الصحابة في أسارى بدر فأشار عليه الصديق أن يأخذ منهم فدية تكون لهم قوة على عدوهم، ويطلقهم لعل الله أن يهديهم إلى الإسلام وقال عمر: لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قال عمر فلما كان من الغد أقبل عمر فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكى هو وأبو بكر فقال: يا رسول الله! من أي شئ تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة " وأنزل الله: ﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾  (الأنفال: 67). وقد تكلم الناس في أي الرأيين كان أصوب فرجحت طائفة قول عمر لهذا الحديث ورجحت طائفة قول أبي بكر لاستقرار الأمر عليه وموافقته الكتاب الذي سبق من الله بإحلال ذلك لهم ولموافقته الرحمة التي غلبت الغضب، ولتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك بإبراهيم وعيسى وتشبيهه لعمر بنوح وموسى ولحصول الخير العظيم الذي حصل بإسلام أكثر أولئك الأسرى ولخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء ولموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أولاً ولموافقة الله له آخراً حيث استقر الأمر على رأيه ولكمال نظر الصديق فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخراً وغلب جانب الرحمة على جانب العقوبة "[158]ا.هـ.

 

النقطة الثالثة عشرة: رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان والطير:

وإذا كان الأوربيون يتباهون بالرفق بالحيوان، و يرعون القطط والكلاب، ليس عن رحمة، ولكن من أجل اللعب والتسلية، وإلا فبم تفسر مثلاً مصارعة الثيران التي تسفح فيها دماء ذلك الحيوان المسكين؛ لاستجلاب المتعة إلى تلك القلوب الخاوية القاسية التي أفسدتها الحضارة الحديثة! أنا لا أدَّعي أن الرحمة نزعت من قلوب الأوربيين، ولكن ألا يدعو إلى التهمة وسوء الظن رفقهم المزعوم بالحيوان، وظلمهم ووحشيتهم مع بني الإنسان، وأقصد الإنسان في فلسطين والبوسنة والعراق وغوانتنامو وأخواتها! ألا يدعو ذلك إلى سوء الظن بالرفق المزعوم؟


نهى صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان: أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عن امرأة دخلت النار بسبب تعذيبها هرة! فقال: «عُذّبَتِ امرأةٌ في هِرّةٍ حَبَسَتْها حتى ماتَتْ جوعاً، فدَخَلَتِ فيها النارَ، قال: فقال: لا أنتِ أطعَمْتِها ولا سقَيْتِها حين حبَسْتِها، ولا أنتِ أرسَلْتِها فأكَلَتْ من خَشاشِ الأرضِ »[159]. فهذا حقٌّ  من حقوق الحيوان: توفير الطعام له، وعدم إيذائه.

 

رحمته صلى الله عليه وسلم بالجمل: ودَخَلَ مرةً حَائِطاً لِرَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ فَإذَا جَمَلٌ، فَلَمّا رَأى الجملُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حَنّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأتَاهُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: «مَنْ رَبّ هَذَا الْجَمَلِ (أي صاحب) لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأنْصَارِ فَقالَ: لِي يا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «أفَلاَ تَتّقِي الله في هَذِهِ البَهِيمَةِ التي مَلّكَكَ الله إيّاهَا فإنّهُ شَكَا إلَيّ أنّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ»[160]. ومَرّ صلى الله عليه وسلم بِبَعِيرٍ هزيل قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ من جوعه، فقالَ: «اتّقُوا الله في هَذِهِ الْبَهَائِم المُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً»[161]. وهذا حقٌّ آخر من حقوق الحيوان، وهو حقه في الطعام والراحة، وألا يحمَّلَ فوق طاقته.

 

وكان يحذر صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الدواب والحيوانات لغير الغرض الذي خُلِقت من أجله، فيقول:« إيّايَ أنْ تَتّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابّكُمْ مَنَابِرَ فإنّ الله إنّمَا سَخّرَهَا لَكُم لِتُبَلّغَكُم إلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالغِيهِ إلاّ بِشَقّ الأنْفُسِ وَجَعَلَ لَكُم الأرْضَ فَعَلَيْهَا فاقْضُوا حَاجَاتِكُم[162]. وهذا من الحقوق ألا تتخذ منابر للخطابة، وألا يوقف عليها، لأنها لم  تُخلق لذلك أي لا يجوز استعمالها خارج وظيفتها وما سخرت له، ولذلك حرم ديننا مناقرة الديوك ومناطحة الكباش ومثلها مصارعة الثيران التي تزدهر تجارتها في أسبانيا.

 

رحمته صلى الله عليه وسلم الطير والنمل: وشملت رحمته صلى الله عليه وسلم الطير والنمل، فعنْ عبد الرحمن بن عبد الله عنْ أبِيهِ قال: «كُنّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأيْنَا حُمّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأخَذْنَا فَرْخَيْهَا. فَجَاءَتْ الْحُمّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفرُشُ فَجَاءَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: مَنْ فَجّعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا, رُدّوا وَلْدَهَا إلَيْهَا, وَرَأى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرّقْنَاهَا فقال: مَنْ حَرّقَ هَذِهِ؟ قُلْنَا: نَحْنُ, قال: إنّهُ لاَ يَنْبَغِي أنْ يُعَذّبَ بالنّارِ إلاّ رَبّ النّارِ»[163]. وكان ذلك في سفر بل غزو، فأين هذا القائد البر الرحيم من قادة الجيوش الغابرة والمعاصرة التي إذا دخلت قرية أفسدوها واستباحوا دماء أهلها وأموالها، ودمروها تدميراً. هل يعرف الغرب أخلاق رسولنا الكريم وسيرته العطرة؟. ربما يعرفها بعض صالحيهم وعلمائهم، أما السواد الأعظم من الناس، فلا يعرفون شيئاً عنه، بل صوَّره لهم شياطينهم في صورة مرعبة مفزعة؛ تدعو إلى كراهيته، وتجاوز الحد إلى الاستهزاء به! فمن الملوم: هؤلاء الرعاع البسطاء أم علماؤنا ودعاتنا ثم وسائل إعلامنا التي سلطت الضوء على سقط المتاع، وهجرت الرحمة المهداة؟. وعَنْ عَائِشَةَ, أنها رَكِبَتْ بَعِيراً، فَكَانَتْ فِيهِ عُوبَةٌ، فَجَعَلَتْ تُرَدّدُهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكِ بِالرّفْقِ». وفي رواية: «يَا عَائِشَةُ إِنّ اللّهَ رَفِيقٌ يُحِبّ الرّفْقَ. وَيُعْطِي عَلَىَ الرّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَىَ الْعُنْفِ. وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَىَ مَا سِوَاهُ»[164].

 

الرحمة حين ذبح الحيوان: بل كان يأمر بالرفق والرحمة بالحيوان حتى وهو يُذبح، فهل عرفت أمة الرحمة حين الذبح والرحمة في الحرب، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله كَتَبَ الإحْسَانَ عَلى كُلّ شَيْءٍ فَإذَا قَتَلْتُمْ فأَحْسِنُوا القِتْلَةَ وإذَا ذَبَحْتُمْ فأَحْسِنُوا الذّبْحَةَ وليُحِدّ أحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وليُرِحْ ذَبِيحَتَهُ))[165].

 

شبهةٌ وردٌ: ذبائح الأضاحي: ديننا موزون، وهذا الوزن تراه في أخلاقه، وبعض الناس يرى جانباً منها فيسيء الفهم، وكان ينبغي أن يفهمها كما جاءت في سياقها وألا يغفل عن جوانب مقابلة تكملها. وقد تعالت أصواتٌ بالنكير على المسلمين في موسم الحج، واتهامهم بالقسوة والوحشية لأنهم يذبحون الأنعام بالجملة، ويلقونها بالعراء، يتقربون بهذا الذبح لتحصيل رضى الرب سبحانه! وهذا النقد مليءٌ بالظلم والمغالطات، فالأضاحي شعيرةٌ دينية، وواجب من واجبات الحج، بقصد إغناء الفقراء وسد جوعتهم، وقد بات اليوم جميع فقراء العالم الإسلامي يستفيدون من لحوم الأضاحي. والإسلام وإن كان ينادي بالرحمة بالحيوان، فإن هذا لا يقتضي تحريم ذبحها، لأنها خُلِقت لذلك، وتعدُّ غذاءً ضرورياً لحفظ صحة الإنسان. وجميع الأسوياء من بني البشر يتناولون لحومها، وكثيرٌ من الشواذ أصحاب الرحمة المفرطة، يمتنعون عن أكل لحوم الحيوانات رحمة بها، ولكنهم لا يتورعون عن سفك دم بني الإنسان. أما نظام الإسلام فهو نظامٌ موزونٌ معقولٌ واقعي، ولا يقوم على العواطف المجنحة والخيالات المريضة!. وقد فطن إلى هذا التوازن توماس كارلايل الكاتب الإنجليزي المعروف في كتابه: (الأبطال)، وقد عقد فيه فصلاً رائعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال فيه: " إني لأحب محمدًا- صلى الله عليه وسلم- لبراءة طبعه من الرأي والتصنع. ولقد كان ابن القفار هذا رجلاً مستقل الرأي لا يعول إلا على نفسه ولا يدعي ما ليس فيه ولم يكن متكبرًا ولكنه لم يكن ذليلاً، فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله وكما أراده، يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة. وكان يعرف لنفسه قدرها.. وكان رجلاً ماضي العزم لا يؤخر عمل اليوم إلى غد... "دخل الجنة رجلٌ في كلب: وإذا كانت امرأة دخلت النار في هرة، فقد دخل الجنة رجلٌ في كلب، ماذا فعل ذلك الرجل؟ يقول صلى الله عليه وسلم: ((بينا رجلٌ يَمشي فاشتدّ عليه العَطَشُ, فنَزَلَ بِئراً فشَرِبَ منها, ثمّ خرَجَ فإذا هو بكَلْبٍ يَلْهَثُ يأكُلُ الثّرَى مِنَ العَطَشِ, فقال: لقد بَلَغَ هذا مِثْلُ الذي بَلَغَ بي.

 

فمَلأَ خُفّهُ ثمّ أمسَكَهُ بفيه، ثمّ رَقِيَ فسَقَى الكلْبَ، فشَكَرَ اللهُ لهُ فغَفَرَ له. قالوا: يارسول الله، وإنّ لنا في البهائِمِ أجْراً؟ قال: «في كلّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجر»[166]. ألا تعجب! بل الأعجب ما رواه أَبِو هُرَيْرَةَ- رضى الله عنه، والحديث في البخاري- قَالَ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِىٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِى إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ» فهذه بغي أي امرأة تمتهن الدعارة، تدخل الجنة برحمتها كلباً فواعجباً!. وهذا الحديث لا يهون من معصيتها، ولكنه يعظِّم من قدر عملها، فالرحمة تثقل الميزان.

 

رحمته صلى الله عليه وسلم بالحمار: وإليك رحمته صلى الله عليه وسلم بالحمار نعم بالحمار، هذا الحيوان المسكين الذي يسب ويشتم ويضرب ويجلد دون أن تأخذهم به شفقة، يدافع عنه نبي الرحمة، ويقرر له حقوقه المادية والأدبية، وليسمع الظلمة الذين شمل جورهم وظلمهم الإنسان والحيوان والطير وسائر الدواب والهوام، وليتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، عن جَابِرٍ: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مُرّ عَلَيْهِ بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ في وَجْهِهِ فقال:«أمَا بَلَغَكُمْ أنّي لَعَنْتُ مَنْ وَسَمَ الْبَهِيمَةَ في وَجْهِهَا أو ْضَرَبَهَا في وَجْهِهَا، فَنُهِيَ عن ذَلِكَ »[167].


الفصل الثالث: الرحمة في العقوبات والجهاد

المبحث الأول: الرحمة في العقوبات:

وربما يحلو لبعضهم أن ينقض ما بنيناه بسهولة، فيقول لنا: ولكن قانون العقوبات في الإسلام يتعارض مع الرحمة، بل يتصف بالقسوة والغلظة، قتل، وقطع، وجلد، ونفي، وتغريم مال، وتعزير! وقد قطع محمد المرأة المخزومية التي سرقت، ورجم ماعز والمرأة الغامدية، وقطَّع أيدي وأرجل العرنيين، فأين الرحمة في ذلك؟!.

لا تروِّعنك هذه الشبهة فأمرها هين، وتفنيدها يسير، فالإسلام في ضبط المجتمع لا يعتمد على العقوبات، ولكنه يصلحه ويهذبه ويرتقي به بالتربية وتطهير النفوس وغرس القيم والمثل والوازع الديني الذي يتمتع بقوة ضبطٍ ذاتية لا يمكن أن يرقى إليها أي قانون وضعي، ويرافق التربية تطهير المجتمع من مثيرات الجريمة التي تغري بها، ويحول دون نشوء ظروفها التي تنمو فيها، فيحارب الفقر والمرض والبطالة والإثارة والظلم الاجتماعي، ثم بعد ذلك تأتي العقوبة كرادعٍ لمن تسوِّل له نفسه ارتكاب الجرائم وتهديد أمن المجتمع والدولة، وهي إلى التهديد والزجر أقرب منها إلى إيقاع العقوبة، ذلك لأن الإسلام وضع شروطاً لإقامة الحدود والعقوبات بالغة الدقة؛ توخياً للعدالة ودرءاً للعقوبة ما أمكن، وهي مظهرٌ من مظاهر الرحمة أيضاً، ويمكنك أن تختبر حقيقة هذا الكلام بالرجوع إلى تاريخ القضاء في الإسلام، لتتأكد بنفسك من ندرة تنفيذ هذه العقوبات، ويمكنك أن تعدَّ على أصابع يدٍ واحدة الحدود التي نفذها الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت نفسه ستطَّلع على مجتمع ينعم بالأمن والعافية والازدهار، وبذلك تعلم أن هذه العقوبات التي شرعها الإسلام، تتوافق وتتناغم مع موجب أسماء الله وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله، ومع الرحمة التي تمتع بها رسوله؛ لتزول عن الناس النوائب والمكاره، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه؛ فلا يطمع في استلاب غيره حقه، وهذا يتسق تماماً مع وظيفة العقوبة، ألا وهي إقامة العدل وحماية المجتمع[168].

 

ولكن المهم هو أن شفقته الواسعة، ورحمته الباهرة لم تكن لتحول بينه وبين تطبيق الحدود الشرعية؛ فكان يأخذ بقوة وحزم بوصية الله سبحانه: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 2].

 

ولم أجد شاهداً لهذا التوازن الدقيق المحكم أقوى من قصة المرأة المخزومية التي سرقت، فاغتمت قريش لها، لأنها ذات حسب ونسب وشرف، فكيف ينفذ عليها القانون؟ وأرادوا أن يشفعوا لها عند رسول الله، فقالوا ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلمه أسامة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" والحديث يشير إلى أن القطع عقوبة قديمة جاءت بها الشرائع السابقة، ولم يخترعها الإسلام.

 

إن تنفيذ الحدود والعقوبات وإن كان فيها أذى لبعض الأفراد ولكنها رحمة بالعامة، يقول الشيخ محمد أبو زهرة: ((وإذا كانت العقوبات بكل صورها أذى لمن ينزل به، فهي في آثارها رحمة بالمجتمع، ولسنا نريد الرحمة تلك الشفقة التي تنبعث من الانفعال النفسي، بل نريد من الرحمة العامة بالناس أجمعين التي لا تغرق بين قبيل وقبيل ولا جنس وجنس....، وهي الرحمة التي نزلت من أجلها الشرائع السماوية وحاول ابن الأرض أن يحققها فتقاصرت همته دون ذلك، بسبب ما توارثه من الأحقاد والحسد والتي اصطبغت بها القوانين التي سنها البشر. أما شرائع السماء فإنها تنزل من عند رب البرية الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء. وليس من الرحمة الرفق بالمجرمين، ولا الشفقة عليهم بل الرأفة بهم قسوة بالمجتمع بأسره فالرحمة هي الرحمة بالكافة، وينبغي التفريق بين الرحمة وبين انفعالاتنا النفسية. فالرحمة تتجلي في تحقيق العدل، ولا رحمة في ظلم أو إقرار باطل ولا نقصد التحرر من الرحمة الخاصة، ولكن إذا تعارضت العاطفة مع العدل وجب تقديمه على الرحمة))[169].

 

ولا يليق بك أن تكون عجولاً في الحكم قاصر النظر كأولئك الذين يطعنون في الإسلام، ويتهمون نظامه الجزائي بالقسوة، فهؤلاء ينظرون إلى الأمور بعينٍ عوراء، فهم لا يرون إلا العقوبة، ويتعامون عن الجريمة! يقولون: قطع اليد عدوان على حقوق الإنسان، وإهدار لكرامته، وتعطيلٌ لفعاليته!. ولكن لماذا لا تنظرون إلى الجريمة وآثارها في المجتمع، من ترويعٍ للآمنين، وتخريبٍ للعمران، وزعزعة للأمن، وقتلٍ وفتك وعدوانٍ على أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم. والواقع أن السارق مثلاً لا تقف جريمته عند حد السرقة، فالسارق إذا وجد من يقاومه قد يقتله، وقد يصادف امرأة، فيغتصبها، وقد يتلف، ويحرق، وقد، وقد......... وهكذا في سلسلة من الجرائم البشعة التي تخل بأمن المجتمع، وتهد استقراره، ولا تنتهي عند حدٍ، واقرأ إن شئت أخبار الحوادث المروعة التي تملأ صفحات الجرائد والمجلات، وتقشعر لهولها الأبدان!. نعم، قد يتضرر من حد السرقة بعض أفراد من شواذ الناس، ولكن المجتمع بأسره سيعيش في أمان، وهذا ما فعله الإسلام عندما نجح في تطهير المجتمع من الجريمة، وتحقيق الأمن والسلامة، فأيهما أولى بالرحمة: مجرمون من آحاد الناس وشواذهم أم المجتمع كله!؟. نعم، بعض الناس ينظر إلى العقوبات في الإسلام مبتورة عن النظام الإسلامي العام برمته، وفي هذا تشويه وتشويش، ولا يعطي صورة صحيحة وكاملة، وهذا خطأ، وخطأ آخر يقع فيه بعض من ينتقد نظام العقوبات، وهو أنه ينظر إليه من خلال مجتمع يعايشه، حافلٍ بمثيرات الجريمة ودواعيها، من بطالة وفقر وتفاوت طبقي وظلم اجتماعي وإثارة الغرائز الحيوانية، فيتخيل ساعتئذٍ صورة مفزعة منفرة للمجتمع، يتكاثر فيه مقطوعو الأطراف، وتندر الحجارة من كثرة الرجم، وتزدهر مهنة الجلادين!. وهذا وهمٌ باطلٌ وتصورٌ خاطئٌ، ولا أريد الإطالة ههنا، ولكن أذكرك بعامٍ مرَّ على المسلمين، يسمى عام الرمادة، وقعت فيه مجاعة شديدة، مما حدا بالخليفة الفاروق إلى رفع حد السرقة! لماذا؟. لأن الجوع بيئة خصبة ملجئة للسرقة، والحدود تدرأ بالشبهات، ولا تطبَّق إلا في مجتمعٍ نظيفٍ موزون.

 

إن الإسلام يعتمد على الإرهاب بالعقوبة أكثر من إيقاع العقوبة بحد ذاتها، ولذلك يشترط حضور حشد من الجماهير، ليروا تنفيذ الحكم، فيزحف الخوف إلى قلوبهم، ويقتل بذرة الجريمة فيها، ويسلم المجتمع من آثارها المدمرة. فما أحوجنا إلى تطبيق هذه التشريعات العظيمة الجليلة التي تصان بها الحقوق، وتحفظ به الحياة في هذا العصر الذي استفحلت فيه الجريمة، وزرعت مافيا الفساد الرعب والقلق في قلوبنا وبيوتنا، وعلى هؤلاء الذين يزعمون أن تنفيذ هذه الحدود قسوة أن يذكروا خطر الجريمة على الفرد والمجتمع والدولة بل تجاوزت الجريمة في أيامنا حدود الدولة، لتشكل خطراً على النظام العالمي بأسره.

وهناك وجهٌ آخر للرحمة في الحدود، ولكن لا يفقهه إلا من آمن بالله واليوم الآخر، وهو أن العبد إذا أصاب حداً من حدود الله، وعوقب به، فإنه يكون كفارة له. وهذا ما دفع بعض المجرمين إلى الإقرار بجرائمهم، وطالبوا رسول الله بتطهيرهم، ومنهم ماعز بن مالك رضي الله عنه الذي جاء رسول الله، وقد زنى فقال له: "طهِّرْني يا رسول الله! " أي أقم عليَّ الحد! فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعله يرجع ويتوب إلا أن ماعزاً أبى إلا الحد، وكرر طلبه، وألح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بتطهيره، في قصة طويلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد تاب توبة لو قُسِّمت بين أمة لَوَسِعتهم". ونحوه فعلت المرأة الغامدية.

وأكتفي بهذا القدر، فالحقُّ أبلج، والعيب ليس في الأبصار ولكن في القلوب الغلف، وصدق الله سبحانه القائل: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}[170].


المبحث الثاني: الرحمة في الحرب

أما الجهاد الذي جاءت به شريعتنا، وعمل به رسولنا صلى الله عليه وسلم، والتي حاولت بعض تلك الصور تشويهه، فإنه يختلف عن الحروب القذرة التي تديرها الدول المجرمة والقوى المستكبرة، من حيث أغراضه وغاياته، ومن حيث نظامه وضوابطه وآدابه، فالجهاد في الإسلام يتميز بوضوح أهدافه، ووضوح وسائله، والتزامه بأحكام الشرع، ومكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام: قبل القتال، وأثناء القتال، وبعد القتال.

النقطة الأولى: مفهوم الجهاد في الإسلام وأغراضه:

وقبل ذلك لا بدَّ أن تعلم أن مفهوم الجهاد في الإسلام أوسع من القتال، وما القتال إلا أحد ميادينه، فالجهاد هو بذل أقصى الجهد بالدعوة والبلاغ المبين للرسالة، ويدخل فيه القتال عند الضرورة؛ لنصرة الدين وإزالة العقبات عن طريقه، وللدفاع عن النفس ورد العدوان عن الجماعة، وكذلك لرفع ظلم الجبابرة والطواغيت عن البشرية[171].

والجهاد في الإسلام يستخدم القوة في موضعها، وفي أوانها، وبقدر ما توجبه ضرورة الجهاد دون سرف أو تجاوز، ومع الأعداء المقاتلين الذين باشروا العدوان، وامتدت أيديهم بالسوء إلى الإسلام وأهله، ففتنوهم في دينهم أو عذبوا المستضعفين من المؤمنين أو أخرجوهم من ديارهم، أو نهبوا ثرواتهم وأموالهم، وجاروا على حقوقهم، أو الذين احتلوا أراضيهم، وانتهكوا حرماتهم، وداسوا مقدساتهم، فالجهاد هنا مشروعٌ بل مفروضٌ، عملاً بقول الله تعالى:﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [172]، وما أظن هذا إلا محل اتفاقٍ بين جميع الشرائع والقوانين السماوية منها والوضعية.

فالجهاد في ديننا من حيث أهدافه لا يرمي إلى ظلم الأمم واستعبادها وتفتيتها ونهب خيراتها والاستكبار في الأرض وإشاعة الفساد والفوضى والفتن كما هو الحال في الحروب الصليبية قديماً، والحروب الاستعمارية الحديثة، وحروب أمريكا وحلفائها في أفغانستان والعراق وسواها، بل شُرِع الجهاد لدفع العدوان ورد الظلم، وهو حقٌّ كفلته كل الشرائع السماوية منها والوضعية، قال الله تعالى:﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [173].

ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبين له أنه لم يكره أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقاتله ما دام مقيماً على هدنته لم ينقض عهده، ولم يكره أحداً على الدخول في دينه البتة، وإنما دخل الناس في دينه اختياراً وطوعاً، فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى وأنه رسول الله حقاً[174]. وضرب ابن القيم مثلاً أهل اليمن وأهل الشام وفارس ومسلمة اليهود، وكيف اختاروا الإسلام على أديانهم، طوعاً لا كرهاً[175]، بخلاف تاريخ انتشار المسيحية، فقد فرض الامبراطور شارلمان المسيحية على السكسونيين بحد السيف، وقام الملك النرويجي " أولاف تروجسون " بفرض المسيحية قهراً على أحد رؤساء القبائل المجاورة، مهدداً له بثعبان سامٍّ وجهه إلى عنقه، وكان القوط في الأندلس يجبرون اليهود على التنصر، ويعذبونهم بوحشية وبشاعة، وفي سنة 1454م أصدر البابا مرسوماً منح فيه "هنري البحار البرتغالي" الحق في أن يغزو وأن يحتل، ويخضع جميع الشعوب والأقاليم التي يسودها حكم أعداء المسيح، وأن يحتل، ويحوز البحار اللازمة للقضاء على انتشار ((طاعون الإسلام)). وكان مما جاء في هذا المرسوم البابوي ما يلي: " إن سرورنا لعظيم أن نعلم أن ابننا المحبوب هنري أمير البرتغال قد سار على خطى أبيه- الملك جون- بوصفه جندياً قديراً من جنود المسيح؛ ليقضي على أعداء الله وأعداء المسيح من المسلمين والكفرة"[176]. فهذا يدل على شدة التعصب الديني عند النصارى، ولكن المسيح والمسيحية براءٌ من العدوان والعنف والتعصب الممقوت.

لقد سفكت باسم المسيحية وفي سبيلها دماء أغزر مما سفك في سبيل أية دعوة أخرى في تاريخ البشرية. بل إن القارة الأوربية التي هي مقر المسيحية هي وكر الحروب والدمار على طوال الألف الأخيرة من السنين[177]. وسنجد أنفسنا بعد قليل مضطرين للوقوف قليلاً عند سلسلة الحروب الصليبية الطاحنة التي شنتها أوربا ضد المسلمين وباسم رسول المحبة والسلام المسيح عليه الصلاة والسلام.

وعودٌ على بدءٍ، أقول: نحن- المسلمين- مأمورون بقتال من قاتلنا من الكفار أو صدَّ عن سبيل الله، فليس الكفر هو سبب قتالنا إياهم، ولكنه رد العدوان وإزالة الفتنة؛ لإظهار دين الله، والمقصود بالفتنة ردِّ دعوة الإسلام ومنع الناس من اعتناقه وصرفهم عنه. قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِين ﴾[178].

فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله، لا تشرع مقاتلته، لأنه لا مضرة علينا من كفره، وإنما مضرة كفره على نفسه، وهذا قول جمهور فقهاء الإسلام، وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، فإن الله سبحانه قال: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينََ ﴾[179] فقوله:﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدل على أن رد العدوان علة الأمر بالقتال، ثم قال: ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 190] والعدوان: مجاوزة الحد، فدل على أن قتال من لم يقاتلنا عدوان، ويدل عليه قوله: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 194] فدل على أنه لا يجوز الزيادة، وأنه ينبغي الاقتصار على مقاتلة من يقاتل، وأن من الاعتداء مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه من النساء والأطفال والشيوخ ومن اعتزل[180].

قد تقول: هذا يفسر لنا غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وحروبه التي خاضها، ولكن ما بال المسلمين اجتاحوا وسط أوربا، ووصلوا تخوم الصين مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفتوحات الإسلامية قد جرت بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه بدأ ذلك بنفسه عندما شنَّ حرباً على الروم في عقر دارهم؟.


والجواب على هذا الإشكال: أن الحرب ضرورة تفرضها طبيعة الاجتماع البشري، وسنة التدافع بين الناس الذي ذكره القرآن الكريم بقوله: ﴿ لَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [181] والدليل على هذه السنة الكونية أنه لم تخل الأرض في عصرٍ من العصور من الحروب والصراعات، ولن تخل!. وإذا قلبنا صفحات التاريخ لا نجد أمة من الأمم، ولا حقبة من الحقب، تكاد تخلو من الحروب مع الأمم المجاورة أو فيما بينهم وبالذات في ممالك وامبراطريات العالم القديم كقدماء المصريين والهكسوس والحيثين والآشوريين وأهل بابل وفينيقيا والفرس والإغريق وشعوب أوروبا من السلتين والقوطيين والغاليين والصقلبيين والجرمان والنورمان والتتر[182]. وكذلك الإغريق كانت الحروب عندهم قائمة على قدم وساق. ومن أشهرها حروب مورة (431-404 ق.م). ثم نشبت بينهم حروب صقلية (415- 413ق.م) وحرب الفرس 480 ق.م وحرب طروادة الضروس التي استمرت من سنة (1193- 1114ق.م) وحروب اسكندر المقدوني الذي تمكن من إخضاع العالم لسيطرته وسلطانه بالقوة[183].

ولا يختلف الرومان كثيراً عن اليونان في نظرتهم الفوقية للشعوب الأخرى وعلاقتهم العدائية معها، وتاريخهم مليء بالحروب، كحروبهم مع إيطاليا واليونان وقرطاجنة ثم البلاد الشرقية وحرب الفرس. ولقد عظم الرومان الحرب حتى نصبوا لها الإله مارس وعظمها لليونان فنصبوا لها زيوس، وقدسها قدماء المصريون فصنعوا لها الإله حورس[184].

وإذا نظرنا في أمر الحرب بالنسبة للديانات لم نجد حرباً أقسى وأعنف مما هو موجود في الديانة اليهودية التي تعتبر الحرب فيها حرب إبادة واستئصال لكل معالم العدو. في الباب العشرين من كتاب الاستثناء هكذا: 10 (وإذا دنوت من قرية لتقاتلها ادعهم أولاً إلى الصلح) 11 (فإذا قبلت وفتحت لك الأبواب فكل الشعب الذي بها يخلص ويكونون لك عبيداً يعطونك الجزية) 12 (وإن لم ترد تعمل معك عهداً وتبتدئ بالقتال معك فقاتلها أنت) 13 (وإذا سلمها الرب إلهك بيدك اقتل جميع من بها من جنس الذكر بفم السيف) 14 (دون النساء والأطفال والدواب وما كان في القرية غيرهم، واقسم للعسكر الغنيمة بأسرها وكل من سلب أعدائك الذي يعطيك الرب إلهك) 15 (وهكذا فافعل بكل القرى البعيدة منك جداً وليست من هذه القرى التي ستأخذها ميراثاً) 16 (فأما القرى التي تعطى أنت إياها فلا تستحي منها نفساً البتة) 17 (ولكن أهلكهم إهلاكاً كلهم بحد السيف الحيثي والأموري والكنعاني والفرزي والحوايي واليابوسي كما أوصاك الرب إلهك). وهذا تكرر في الباب الثالث والعشرين من سفر الخروج، وفي الباب الثالث والثلاثين من سفر العدد، وفي الباب السابع من سفر الاستثناء، وفي مواضع كثيرة من أسفار العهد القديم، لا يمكن نقلها ههنا، ولا يتسع لها البحث، فظهر من عبارات العهد القديم أن اللّه أمر في حق القبائل الست، أعني الحيثانيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحوايين واليابوسيين، أن يقتل بحد السيف كل ذي حياة منهم ذكورهم وإناثهم وأطفالهم، وهؤلاء يبلغ تعدادهم قريباً من ثمانين مليون نسمة أو يزيد حسب كتاب: " كشف الآثار في قصص أنبياء بني إسرائيل"[185]. وأمر فيما عداهم، أن يدعوا أولاً إلى الصلح، فإن رضوا به وقبلوا الإطاعة وأداء الجزية فيها، وإن لم يرضوا يحاربوا، فإذا حصل الظفر عليهم، يقتل كل ذكر منهم بالسيف ويسبي نساؤهم وأطفالهم، وينهب دوابهم وأموالهم، وتقسم على المجاهدين، وهكذا يفعل بكل القرى التي هي بعيدة من قرى الأمم الست. يقول رحمة الله الهندي: "وهذه العبارة الواحدة تكفي من جوابهم عن تقريراتهم الواهية، وقد نقلها علماء الملة الإسلامية سلفاً وخلفاً في مقابلتهم لكنهم يسكتون عنها كأنهم لم يروها في كلام المخالف، ولا يجيبونه عنها لا بالتسليم ولا بالتأويل"[186].‏ وفي الباب الثالث والثلاثين من سفر العدد: 51 (مر بني إسرائيل وقل لهم إذا عبرتم الأردن وأنتم داخلون أرض كنعان) 25 (فأبيدوا كل سكان تلك الأرض واسحقوا مساجدهم واكسروا أصنامهم المنحوتة جميعها واعقروا مذابحها كلها) 55 (ثم أنتم إن لم تبيدوا سكان الأرض فالذين يبقون منهم يكونون لكم كأوتاد في أعينكم ورماح في أجنابكم ويشقون عليكم في الأرض التي تسكنونها) 56 (وما كنت عزمت أني أفعل بهم سأفعله بكم). وهكذا فأسفار اليهود المتداولة اليوم طافحة بأنباء القتل والتخريب والتدمير والإهلاك والسبي، فهي تقرر شريعة القتال، ولكن في أبشع صورها حيث تحكم بقتل كل ذي حياة من الحثيين ومن ذكر معهم ولو كان طفلاً أو امرأة أو كانوا بالملايين. ووحشية اليهود في حروبهم في فلسطين ومجازر دير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا وقانا وغزة وجنين غيرها دليل ماثل أمام أعيننا وثمرة للعنف والتطرف الذي تغذيه بهم النصوص الدينية المحرفة.

أما في الديانة المسيحية فإن تعاليم السيد المسيح عليه السلام التي تنادي: ((أحبوا أعداءكم، باركوا لأعينكم، أحسنوا إلى مبغضيكم))، ساعدت على توحيد دعائم السلام في العالم وتجنيبه ويلات الحروب طيلة ثلاثة قرون إلى أن جاء القديس " أوغسطين " من بداية القرن الرابع الميلادي؛ ليسوّغ الحرب العادلة كما سماها، مؤيداً لها بعبارات للسيد المسيح جاءت في الإصحاح العاشر من إنجيل متى (العهد الجديد / 34): ((لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً بل سيفاً فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها. وأعداء الإنسان أهل بيته. من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني، ومن وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها " 24- 39" وقال في إنجيل لوقا في الإصحاح الثاني عشر: ((جئت لألقي ناراً على الأرض)). فماذا أريد لو أضطرمت ولي صبغة أصطبغها وكيف انحصر حتى تكتمل. أتظنون أني جئت لأعطي سلاماً. كلا أقول لكم بل انقساماً " 49- 51 "))[187]. هذه الوجهة الجديدة في فلسفة النصرانية للحرب كان من ثمارها فيما بعد جروبٌ طويلة دامت قروناً، وحصدت ملايين الأرواح البريئة من المسيحيين أنفسهم، واستئصال ملايين المسلمين واليهود بعد أن لاقوا أبشع الظلم والعذاب في أقبية محاكم التفتيش السيئة الذكر على إثر سحق دولة الأندلس ومحو حضارتها وعلومها[188].

وعودٌ على بدء: فإن الفتوحات الإسلامية قد اجتمع فيها ضرورة التدافع حسب سنن الله في المجتمعات، وضرورة الدعوة ونشر الدين الحق، فالمسلمون إنما خرجوا من جزيرة العرب، لنشر دين الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى البشرية التي جاءت لإتمام رسالة موسى وعيسى عليهما السلام، وهذا ما يجهله كثيرٌ من الناس، ويصدهم التعصب لأديانهم ومعتقداتهم عن قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم أو الاعتراف بهذه الحقيقة، فالإسلام بنيان واحد أسهم في تشييده سائر الأنبياء من لدن آدم ونوح وإبراهيم وحتى آخرهم وخاتمهم محمد، وهم جميعاً أخوة يكمل كلٌّ منهم الآخر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يمثِّل لرسالة الإسلام التي حملها كافة الرسل: "إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي، كمثل رجل بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون لـه، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟

قال: "فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين"[189].

 

وأريد أن أنبِّه إلى أمرٍ آخر، يغفل عنه كثيرٌ من الناس، وأراه مهماً جداً وجوهرياً، وهو أن الجهاد ليس شريعة جديدة ابتدعها الإسلام، ولكنه فريضة قديمة، قام بها رسل الله موسى وداود وسليمان وغيرهم، وذلك أن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، ولم يخلقهم عبثاً، فلمَّا خرج بعض عباده عن طاعته سبحانه، وتكبروا عن عبادته التي خلقوا لأجلها، وعبدوا من دونه الأوثان، واتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، شرع الجهاد لإخراج الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الواحد الديان، فكان الجهاد من سنة الأنبياء إلى أن جاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمضى على هذه الشريعة نفسها، وهي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وهذا يفسر لنا الفتوحات الإسلامية، إذ خرج العرب لحمل رسالة الل إلى الشعوب التي كانت آنذاك مستعبدة لملوكها وحكامها من الجبابرة والطواغيت، فكان من أعظم أهداف الفتوحات بعد نشر الإسلام تحرير الشعوب من نير الملوك الآلهة وتعسف الحكام المستبدين الذين استعبدوهم من دون الله، وهذا ما يفسِّر استقبال الشعوب المقهورة للفاتحين المسلمين ومؤازرتهم لهم أثناء الفتح.

 

وهذا الهدف الأسمى من الجهاد يعلمه كلُّ فرد في جيش المسلمين، ولا يغيب عن باله، جاءَ رجُلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: الرجُلُ يُقاتلُ للمَغنم، والرجُلُ  يُقاتلُ للذّكر، والرّجلُ يقاتلُ ليُرَى مكانهُ، فمَنْ في سبيلِ الله؟ قال: ((مَن قاتَلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا فهو في سبيلِ الله))[190]. وفي معركة القادسية بعث أمير الجيش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد جنوده واسمه ربعي بن عامر إلى رستم قائد الفرس فدخل ربعي عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة وقد جلس على سرير من ذهب ودخل ربعي بثياب رثة وسيف وترس وفرس قصيرة ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه فقالوا له: ضع سلاحك فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت فقال رستم: ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه؛ لندعوهم إليه فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نقفي إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي فقال رستم قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا قال: نعم! كم أحب إليكم يوماً أو يومين؟ قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا رؤساء قومنا فقال: ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل. فقال: أسيدهم أنت؟! قال: لا ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم. فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟. فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شىء من هذا، تدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟ فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة! إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب[191]". وبهذا يتبين أن المقصود من الجهاد هو رحمة الناس وهدايتهم للإسلام، وفسح السبيل أمامهم لمعرفة الحق، ودفع الظلم عنهم، وليس المقصود هو القتل والسلب واستعباد الناس.

 

قد تقول: كل الدول الطاغية والقوى المستكبرة تتذرع بالأغراض الشريفة والمقاصد الجليلة في شن حروبها، وتدَّعي تحرير الشعوب وجلب الحضارة والسعادة والحرية إليها! ولكن شتان بين دعاوى كاذبة مزيفة تقذف بها أبواق إعلامها الخادع رئاء الناس؛ وبين حرب المسلمين التي كانت بركة ونعمة وتحريراً حقيقياً للشعوب من نير الطغيان السياسي وظلم الملوك المتألهين!.

ولقد عرفت بلادنا الاستعمار الأوربي الذي زعم أنه جالب الحضارة وناشر العمران، ولكنه ما إن تمكن فيها حتى أنشب أظفاره وأنيابه في جسم الأمة، فأفسد الأخلاق والآداب، وفصم عرى التماسك الاجتماعي؛ وحاول هدم كل مقومات الأمة الثقافية والدينية والحضارية بل حال بين الناس وبين العلم والتهذيب والصلاح إلا طائفة على دينه فتح لها أبواب كلِّ شيء وأخرى تطاوعه وتنفذ مآربه ألقى إليها بالفتات، غير إنه فرض على الأمة تعلم لغات المستعمرين وتاريخهم وأديانهم، لأجل هدم مقوماتها الدينية والثقافية والقومية حتى لا يرجى لهم البرء من رق الاستعمار والتحرر من ربقته، كما هو معروف في جميع المستعمرات الأوربية، كبلاد الجزائر التي اقتلع الاحتلال الفرنسي لسان أهلها، وحاول أن يجتث دينها ويطمس حضارتها ويلغي خصوصيتها الثقافية، مستخدمين وسائل وأساليب وحيلاً غاية في الخسة والدناءة والبغي، فقد كان الفرنسيون في الجزائر على سبيل المثال يحرقون كل ما وقعت أيديهم عليه من كتاب أو مجلة أو جريدة أو حتى ورقةٍ مجرد ورقة كتبت حروفها بالعربية[192]، خلافاً لما كان عليه المسلمون الأولون في فتوحهم من العدل والإصلاح والتعمير وليس التخريب والتدمير، بشهادة المؤرخين الغربيين أنفسهم من مثل جوستاف لوبون صاحب العبارة الشهيرة: " ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب"[193]!.

النقطة الثانية: التوازن بين القوة والأخلاق:

إذا كانت الحرب ضرورة، فلا يعني الخضوع لغرائز الغضب والتعصب وإشباع نوازع الحقد والقسوة والأنانية. وإن سياسة الإسلام في الحرب كالسلم، لا تجاف الرحمة، ولا تنفصل عن الأخلاق، فالحرب لا تعني الفجور في الخصومة، ولا الجور في المعاملة، ولا الوحشية في القتال، ولا الانتقام والتشفي بعد القتال، كما قال سبحانه- وهو يعلم المؤمنين-:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [194]. و إذا كان لابد من الحرب، رداً لعدوانٍ أو دفعاً لفتنة، فلتكن حرباً تضبطها الأخلاق، وتحكمها الموازين، ولا تسيرها الشهوات والإحن. لتكن ضد الطغاة والمعتدين وذئاب البشر لا ضد البرآء والمسالمين والمستضعفين، وهذا واضح في تشريع القتال في القرآن ووجهته التي ارتضاها له عندما قال: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [195]. وبذلك غيَّر الإسلام أغراض الحروب وأهدافها التي كانت تضطرم نار الحرب لأجلها في الجاهلية قديمها وحديثها من النهب والسلب والقتل والإغارة والظلم والبغي والعدوان، وأخذ الثأر، والفوز بالوَتَر، وكبت الضعيف، وتخريب العمران، وتدمير البنيان، وهتك حرمات النساء، والقسوة بالضعاف والصبيان، وإهلاك الحرث والنسل، والعبث والفساد في الأرض، وهذا لا ينطبق على العرب بل كان هذا حال الحروب عند الروم والفرس وجميع شعوب الأرض، بينما الحرب- في الإسلام- تتجه إلى تحقيق أهداف نبيلة، وأغراض سامية، وغايات محمودة، وتتقيد بأخلاق الرحمة وآداب الإنسانية.

وهنا أمر أحب أن ألفت نظرك إليه، لأنك قد تقرأ بعض النصوص في القرآن والسنة، فتتوهم أنها تتعارض مع معاني الآية السابقة، خذ مثلاً قوله سبحانه: ﴿ فإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [196] أو قوله: َ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [197]!. فهذه الآيات ونحوها يوهم ظاهرها التعارض مع ما سبق تقريره، وأنا أقول لك: ليس بينهما تعارض، ولكنه تعارض بالظاهر، فلكلِّ نصٍّ منها مجاله الذي يختلف عن الآخر، فالآية السابقة: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190] أصلٌ ثابت من أصول تشريع الجهاد، وقاعدة كلية من قواعده تتصف بالعموم والشمول والثبات، بينما الآيات الأخرى جاءت في سياق تاريخي معين، ونزلت في عدو محارب، ما تزال الحرب بينه وبين المسلمين مستعرة، والمشركون هم الذين بدؤوها وسعروها، وكلما انطفأت أوقدوها، فلا يصح تنزيل هذه الآيات على قومٍ آخرين برءاء مسالمين، لأن الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم السلم لا الحرب غير إن من أراد السلم فلا بدَّ له من قوةٍ تحميه، ولا مفر من الاستعداد للحرب، فالضرورة تقدَّر بقدرها[198]. ويقول الإمام محمد أبو زهرة في " العلاقات الدولية في الإسلام": "الأصل في العلاقات هو السلم... ولا يسمح الإسلام لأتباعه بالتدخل في شؤون الآخرين إلا لضرورة "[199] وقد انتقد بعض الباحثين فكرة عدم التدخل في شؤون الآخرين مطلقاً لأنها قد تكون قبيحة أحياناً وحسنة في أحيان أخرى لنصرة المظلومين مثلاً، ودفاعاً عن الأقليات المضطهدة، وها هي الدول الكبرى اليوم تعطي هذا الحق لنفسها بحجة تعميم القيم الديمقراطية وحماية الأقليات ونحو ذلك!. ويقرر في نهاية المطاف أن التدخل في شؤون الآخرين لتحقيق مصالح إنسانية لا ضير فيها. ثم يخلص إلى نتيجة مفادها أن الأصل الحرب مع الدول المعتدية وإن كانت معاهدة أما الدول التي لم تُبَلَّغ الإسلام فالسلم هو الأصل[200]. ولكن أصحاب الخطاب الآخر المجافي للوسطية والاعتدال أساؤوا فهم النصوص، وأحلوها في غير محلها، وانتقوا منها ما يخدم أهواءهم، وأصدروا أحكامهم القاسية ضد غير المسلمين، مستشهدين بالنصوص نفسها التي نزلت في قريش مثلاً دون تحقيق لمناط الحكم بل لم ينج منهم المسلمون أنفسهم غير إن أصحاب هذا الخطاب لا يمثلون جمهور الأمة، لأن التيار العام والأقوى هو تيار معتدلٌ موزون، بيد إنه توصد في وجهه الأبواب، ولا تسلط عليه الأضواء!.

قد تقول: دعني من جماعات التطرف والترويع التي قد تكون استثناء من الأصل وخروجاً من القاعدة، أفرزتها ظروف وإحباطات وضغوط غير عادية، ومثيلاتها لا يكاد يخلو منها مجتمعٌ من المجتمعات الإسنانية، بيد أن بعض النصوص من الكتاب والسنة تدعو صراحة إلى ترويع الآمنين والاعتداء على البرءاء، مثل الآية التي تقول: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾[201]؟!. ويذكرني هذا الفهم المغلوط للآية بقول الشاعر العربي:وكم من عائبٍ قولاً سليماً وآفته من الفهم السقيم فليس المراد من الآية العدوان والترويع، ولم يرد هذا المعنى في أي كتاب من كتب التفسير المعتمدة، وإنما تحضُّ الآية على الأخذ بأسباب القوة التي تزرع المهابة في نفوس الأعداء الذين يتربصون بنا الفرص، وهو جزءٌ أساسي من عملية الحرب الدفاعية، وهو المعروف اليوم بالسلم المسلح. والدفاع عن النفس وحماية الحقوق مباح عند جميع الأمم، وهو المراد بالآية الكريمة وما يشابهها من النصوص.

أما قوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله))[202]، فهذا النص ظاهره يوهم أن الإسلام يخيِّر الناس بين أمرين لا ثالث لهما: فإما أن تسلموا أو تقتلوا!. ولكن ظاهر هذا يتعارض مع المعاهدات التي أقامها الرسول مع اليهود في المدينة، وحسب الحديث كان ينبغي أن يكرههم على اعتناق الإسلام، فلم تركهم على دينهم؟ والكلام نفسه ينطبق على بقية البلاد التي فتحها المسلمون، فإنهم لم يكرهوا أهل تلك البلاد على الإسلام، ومن دخل منهم فيه فبملء إرادته واختياره. أما مقولة أن الإسلام انتشر بحد السيف، فشبهة واهية داحضة من وجوه عدة دينية وتاريخية بل الحس والواقع يدحض هذه الفرية وأقصد وجود طوائف اليهود والنصارى في بلاد المسلمين شرقها وغربها وتعايشهم مع أهلها، فلو عرف المسلمون محاكم التفتيش، ونقلوا خبرة الأسبان والأوربيين في التعذيب والاضطهاد الديني لما تركوا على ظهرها من يهودي ولا نصراني على غرار التطهير العرقي الذي وقع ضد المسلمين في الأندلس مثلاً بعد ثمانية قرون من الاستقرار فيها، وذهب ضحيته ملايين المسلمين واليهود. أما الإسلام فقد دعا إلى التسامح والعفو والرحمة، وأقرَّ مبدأ الحرية الدينية، ورفع شعار:﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة256]، ولذلك فإننا نقول بكل فخرٍ واعتزاز: إن المسلمين هم الأمة الوحيدة على مرِّ التاريخ التي لم تكره الشعوب الخاضعة لها على اعتناق دينها، وما يزال إلى أيامنا هذه طوائف اليهود والنصارى والصابئة والهندوس وسواهم يعيشون بيننا، وقد منحهم الإسلام حق ممارسة عباداتهم وطقوسهم، واحتفظوا بدور عبادتهم وأديرتهم وأساقفتهم، ويحقُّ للمستشرقة الألمانية د. زيغريد هونكَة أن يأخذها العجب، فتقول: ((هذا عجيبٌ حقاً، إن مثل هذا لم يقع من قبل، من هو الإنسان الذي لا يستنشق نسيم الحرية بعد الحكم البيزنطي الجائر القاسي، وبعد هذه الاضطهادات الشنيعة التي جرت في أسبانيا، والاضطهادات المتواصلة التي قاسى اليهود الكثير من أهوالها؟ إن المسلمين السادة الجدد حماة البلاد وحكامها لم يتدخلوا في مسائل رعاياهم الداخلية: إنهم عادلون- هكذا كتب بطريرك القدس في القرن التاسع إلى بطريرك استنبول- والمسلمون لا يظلموننا أو يضطهدوننا. إنهم يمنحون مختلف أفراد رعاياهم من أصحاب العقائد الأخرى كل حرية في تأدية فرائضهم الدينية أو حقوقهم المدنية متى ما دفعوا الجزية وأطاعوا أولي الأمر))[203].

فالحديث الآنف الذكر: ((أمرت أن أقاتل الناس...))، إنما ورد في بيان ما يحقن دم الكافر المحارب في أرض القتال كما يبين أن المسلمين إنما يجاهدون لنشر دينهم، وليس لاستعباد الناس وظلمهم. والكلام حمَّال أوجه، ومن أراد الشبه حمله على غير وجهه لغاية في نفسه، ولو أنصف لجمع بين النصوص، وفهمها على ضوء سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته.

النقطة الثالثة: آداب الجهاد وضوابطه والرحمة فيه:

وأرى من الضروري التوسع في الحديث عن آداب الجهاد وضوابطه والرحمة فيه، لتعلقها بموضوع البحث مباشرة، فقد شرع رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم للحروب قواعد أخلاقية ألزم جنوده وأمراء جيوشه التقيد بها في مختلف الظروف، وأهمها الوفاء بالعهود والمواثيق، والرحمة في الحرب، والعدالة، والمعاملة بالمثل عند الضرورة[204]، عن صفوان بن عسال المرادي قال: ((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فقال: اغزوا بسم الله في سبيل الله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا))[205]. وكان إذا جاء قوماً بِلَيْل لم يُغِرْ عليهم حتى يُصبِح، ونهي أشد النهي عن التحريق في النار، ونهي عن قتل الصبر، وقتل النساء وضربهن، وفي سنن أبي داود عن رباح بن ربيع قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شىء فبعث رجلاً فقال: " انظر علام اجتمع هؤلاء؟ " فجاء فقال: على امرأة قتيل. فقال " ما كانت هذه لتقاتل! " قال وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً فقال: " قل لخالد لا تقتلن امرأة ولا عسيفاً "[206]. وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}"[207]. ونهي عن إهلاك الحرث والنسل وقطع الأشجار إلا إذا اشتدت إليها الحاجة، ولم يبق سواه سبيل‏.‏ ووصى عند فتح مكة‏: ((‏لا تجهزن على جريح، ولا تتبعن مدبراً، ولا تقتلن أسيراً‏))، وأمضى السنة بأن السفير لا يقتل. إلى غير ذلك من القواعد النبيلة التي طهرت الحروب من أدران الجاهلية حتى جعلتها جهاداً مقدساً‏.

ولم تكن هذه الوصايا مجرد كلامٍ يمضغ للدعاية، ولكنه كان يأخذ طريقه إلى التطبيق العملي، وشواهده وصوره كثيرة، ومنها فتح مكة وكان من أعظم أيام الإسلام، وعادة المنتصر أن يمتلئ زهواً وخيلاء وغروراً، وقد يسرف في القتل والانتقام؛ ليطفئ نار الحقد التي تشتعل في قلبه، ويشفي غليله من خصوم الأمس الذين وقعوا في قبضته، وقد كانت راية الأنصار في فتح مكة مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قائد قريش المنهزم قال له مهدداً ‏:‏ اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليـوم أذل الله قريشاً‏.‏ فلما حاذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال‏:‏ يا رسول الله، ألم تسمع ما قال سعد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(وما قال‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ قال كذا وكذا‏.‏ فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف‏:‏ يا رسول الله، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏بل اليوم يوم تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً‏)[208] ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس بن سعد. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل. ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، وفي يده قوس، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول‏:‏ ﴿ ‏جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ‏ ﴾[209]‏‏، ‏{‏قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ‏}[210]، والأصنام تتساقط على وجوهها‏.‏ وبعد تطهير الكعبة صلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيها ثم خطب أمام قريش‏، وكانت قد ملأت المسجد صفوفاً، ينتظرون ماذا يصنع ‏؟‏ فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فكان مما قاله في خطبته ‏:‏ ‏(يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية ‏:‏ ﴿ ‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾[211]. ثم قال‏:‏ ‏(‏يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال‏:‏ ‏(فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته‏:‏ ﴿ ‏ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ﴾ [يوسف: 92]‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء![212]. فكيف ترى معاملته لأهل مكة بعد كل هذا التاريخ المشحون عداوة وبغضًا؟ وأنا أريدك أن تتخيل أن نابليون مثلاً هو ذاك الفاتح الظافر بدل محمد، فكيف سيتصرف؟ لن أسلمك للخيال، فقد استسلم لنابليون أهالي مدينة عكا سنة1779م بعد أن أعطاهم الأمان، ولكنه نقض عهوده، وأبادهم عن بكرة أبيهم!!.

النقطة الرابعة: فظائع الحروب الصليبية:

وتعال معي لترى الصور الفظيعة والمناظر المروِّعة وحمامات الدم والإبادة الجماعية التي قامت بها جيوش الحملات الصليبية التي بدأت أولاها في 1096م، وخرجت الأخيرة منها من أوروبا في 1250م، وذلك بقيادة رهبان النصارى وقساوستهم، و نقلها المؤرخون المعاصرون منهم والشهود لتلك الحوادث، وأقتصر على بيت المقدس. ماذا جرى فيه لما دخل الصليبيون بيت المقدس؟

قال ابن الأثير: " وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف وأخذوا من عند الصخرة نيفًا وأربعين قنديلًا من الفضة وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم وأخذوا تنورًا من فضة وزنه أربعون رطلًا بالشامي وأخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلًا نقرة ومن الذهب نيفًا وعشرين قنديلًا وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء[213]. سبعون ألفاً في أسبوع، وفي بيت المقدس وحدها، ومن قبل أقاموا مجازر في أنطاكية وفي معرة النعمان التي أبادوا أهلها عن بكرة أبيهم، وقتلوا فيها مئة ألف! قال ابن الأثير في الكامل: "فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام فقتلوا ما يزيد على مائة ألف وسبوا السبي الكثير وملكوه".‏ بل لم يسلم منهم إخوانهم في الملة من النصارى حتى اضطر البطريرك نفسه إلى الالتجاء إلى مصر؛ ليعيش في حماية العبيديين[214].

فهل تعثر في تاريخ الفتوحات الإسلامية على مثيلاتها؟!

قد تتهم هذا المؤرخ العربي بالمبالغة، فلندع المؤرخ الشهير ويلز Wills يحدثنا عن المذبحة الرهيبة حسب تعبيره، يقول: " حدثت ببيت المقدس مذبحة رهيبة وكان دم المقهورين يجري في الشوارع، حتى لقد كان الفرسان يصيبهم رشاش الدم وهم راكبون، وعندما أرخى الليل سدوله جاء الصليبيون وهم يبكون من فرط الفرح، وخاضوا الدماء التي كانت تسيل كالخمر في معصرة العنب واتجهوا إلى الناقوس ورفعوا أيديهم المضرجة بالدماء يصلون لله شكراً"[215]. وإذا اتهمت ويلز بالمبالغة فقد شهد شاهد عيان صليبي هو وليم الصوري، الذي نقل إلينا بالتصوير الحي مشاهد النصر بزهو وفخر! يقول[216]: "اندفعوا هنا وهناك خلال شوارع وساحات المدينة مستلين سيوفهم، وبحماية دروعهم وخوذهم، وقتلوا جميع من صادفوا من الأعداء بصرف النظر عن العمر أو الحالة، ودون تمييز، وقد انتشرت المذابح المخيفة في كل مكان، وتكدست الرؤوس المقطوعة في كل ناحية بحيث تعذر الانتقال على الفور من مكان لآخر إلا على جثث المقتولين، وكان القادة قد شقوا في وقت سابق طريقاً لهم بواسطة مسالك متنوعة إلى مركز المدينة تقريباً وأحدثوا عندما تقدموا قتلا لا يوصف، وتبع موكبهم حشد من الناس متعطش لدماء الأعداء ومصمم تصميماً كاملاً على إبادتهم» وقال أيضاً: " ولقد كانت المجزرة التي ارتكبت في كل مكان من المدينة مخيفة جداً، وكان سفك الدماء رهيباً جداً لدرجة عانى فيها المنتصرون من أحاسيس الرعب والاشمئزاز ". ويتابع الصوري وهو من مؤرخي الحروب الصليبية تصوير وحشية الصليبيين ومذابحهم المرعبة في بيت المقدس: " كان القسم الأكبر من الناس قد التجأ إلى ساحة الهيكل لأنها واقعة في قسم منعزل من المدينة، وكانت محمية حماية قوية بسور وأبراج وبوابات، إلا أن هروبهم لم ينقذهم حيث تبعهم تانكرد على الفور بالجزء الأكبر من الجيش، وشق طريقه إلى داخل الهيكل، ونقل معه- حسب إحدى الروايات بعد مذبحة مخيفة- كمية ضخمة من الذهب والفضة والجواهر، هذا ومن المعتقد أنه أعاد هذه الكنوز سالمة بعد أن كان الصخب قد هدأ. وعلم القادة الآخرون- بعد أن كانوا قتلوا من واجهوا في الأجزاء المختلفة من المدينة- أن الكثير قد هربوا للالتجاء في الأروقة المقدسة للهيكل، ولذلك اندفعوا بالإجماع إلى هناك، ودخلت مجموعة كبيرة من الفرسان والرجالة قتلت جميع الذين كانوا قد التجأوا إلى هناك، ولم تظهر أي شفقة لأي واحد منهم، وغمر المكان كله بدم الضحايا. لقد كان بالفعل حكم الله القويم الذي قضى على الذين دنسوا حرم المسيح بطقوسهم الخرافية، وجعلوه مكاناً غريباً بالنسبة لأهله المؤمنين أن يكفِّروا عن خطاياهم بالموت وأن يطهروا الأروقة المقدسة بسفك دمائهم.. وبات من المحال النظر إلى الأعداد الكبيرة للمقتولين دون هلع، فقد انتشرت أشلاء الجثث البشرية في كل مكان، وكانت الأرض ذاتها مغطاة بدم القتلى، ولم يكن مشهد الجثث التي فصلت الرؤوس عنها والأضلاع المتناثرة في جميع الاتجاهات هو وحده الذي أثار الرعب في كل من نظر إليها، فقد كان الأرهب من ذلك هو النظر إلى المنتصرين أنفسهم وهم ملطخون بالدم من رؤوسهم إلى أقدامهم، إنه منظر مشؤوم جلب الرعب لجميع من واجهوهم. ويروى أنه هلك داخل حرم الهيكل فقط قرابة عشرة آلاف من الكفرة، بالإضافة إلى المطروحين في كل مكان من المدينة والشوارع والساحات، حيث قدر عددهم أنه كان مساوياً لعدد القتلى داخل حرم الهيكل.

وطاف بقية الجنود خلال المدينة بحثاً عن التعساء الباقين على قيد الحياة والذين يمكن أن يكونوا مختبئين في مداخل ضيقة، وطرق فرعية للنجاة من الموت، وسحب هؤلاء على مرأى الجميع وذبحوا كالأغنام، وتشكل البعض في زمر واقتحموا المنازل حتى قبضوا على أرباب الأسر وزوجاتهم وأطفالهم، وجميع أسرهم وقتلت هذه الضحايا، أو قذفت من مكان مرتفع حيث هلكت بشكل مأساوي. وادعى كل واحد من المغيرين ملكية دائمة للمنـزل الذي كان قد اقتحمه، وذلك بالإضافة إلى تملك كل ما كان موجوداً فيه، لأن الحجاج كانوا قد اتفقوا قبل الاستيلاء على المدينة أن كل رجل يحصل على شيء بعد الاستيلاء على المدينة بالقوة يكون حقاً له وملكاً إلى الأبد دون إزعاج، ونتيجة لهذا فتش الحجاج المدينة بدقة قصوى، وقتلوا سكانها بجرأة، وتغلغلوا في أكثر الأماكن عزلة وبعداً، واقتحموا غرف الأعداء الخاصة جداً، وعلق كل منتصر درعه وأسلحته عند مدخل البيت الذي استولى عليه كإشارة لكل من يقترب منه، حتى لا يتوقف عنده بل ليتجاوز ذلك المكان لأنه أصبح ملكية لشخص آخر[217]»اهـ

ويعترف مؤرخو الحملات الصليبية ببشاعة السلوك البربري الذي أقدم عليه الصليبيون، فذكر مؤرخ صليـبي ممن شهد هذه المذابح وهو "ريموند أوف أجيل"، أنه عندما توجه لزيارة ساحة المعبد غداة تلك المذبحة، لم يستطع أن يشق طريقه وسط أشلاء القتلى إلا بصعوبة بالغة، وأن دماء القتلى بلغت ركبتيه، وإلى مثل هذا القول أشار "وليم الصوري " وقال مؤرخ صليبي آخر وهو" أنتوني برج "[218] في تصوير فظائع النصارى في بيت المقدس التي تذكر بفظائع التتار لما دخلوا بغداد، والعجيب أنه يتحدث عنه بمشاعر سادية غريبة شاذة لا تمت إلى الإنسانية بصلة، ويسميه نصراً! يقول برج: " وبعد فوزهم بالنصر العظيم وبعد الحرارة والخوف وسفك الدماء في اليومين أو الثلاثة الأخيرة في حالة شعور مفرط هستيري تقريباً!!!، وبعد ذلك لم يشكوا لحظة في أن المسلمين المدافعين عن القدس كانوا كارهين للرب، ومدنسين للأماكن المقدسة، وعاملين لدى أعداء المسيح، وعابدين لشيء بغيض في مكان مهجور ذكر في الإنجيل، ولذلك قاموا بقتل كل رجل وامرأة وطفل وجدوهم في المدينة بفرح وباطمئنان تامين، وهم يرون أنهم كانوا ينفذون إرادة الرب!!!، ودامت المذبحة طوال الليل وقسماً من الليلة التالية. وعندما ذهب الراهب ريموند أوف أغيلرز لزيارة منطقة الهيكل في صباح اليوم التالي، وجدها قفراء مليئة بالجثث، بحيث أن المسجد الأقصى- وعلى لوائه يرفرف علم تانكرد- وقبة الصخرة كانا مليئين بجثث المذبوحين الذين وصلت دماؤهم لمستوى الركب، أما الناجون وحدهم من المدينة فكانوا الحاكم وطائفة من حرسه الذين سمح لهم ريموند بمغادرتها بعد دفع فدية ضخمة وتسليم خزائن هائلة، وذبح الباقون بما فيهم اليهود الذين حشدوا في معبدهم الرئيسي، ثم أضرمت النار في المبنى وهم أحياء، وعندما لم يبق من يقتلونه، سار المنتصرون خلال شوارع المدينة التي لا تزال مفروشة بالجثث وتفوح منها رائحة الموت، إلى كنيسة القيامة لتقديم الشكر للرب لرحمته العظيمة المتنوعة، ومن أجل انتصار الصليب الذي فازوا بها باسمه. اهـ ولطامس نيوتن تفسير على الإخبار عن الحوادث المستقبلة المندرجة في الكتب المقدسة. وطبع هذا التفسير سنة 1803 في البلد لندن. ففي الصفحة 65 من المجلد الثاني في بيان تسلط أهل التثليث على أورشليم هكذا: (فتحوا أورشليم في الخامس عشر من شهور تموز الرومي سنة 1099 بعد ما حاصروا خمس أسبوعات (هكذا) وقتلوا غير المسيحيين، فقتلوا أزيد من سبعين ألفاً من المسلمين وجمعوا اليهود وأحرقوهم ووجدوا في المساجد غنائم عظيمة)[219] انتهى. هذا بعض ما ارتكبه الصليبيون من مجازر تقشعر لها الأبدان، ودماء أهريقت جرت أنهاراً، وكل ذلك فعلوه باسم المسيح، والمسيح عيسى عليه السلام منه براء، وبإرادة الرب! فأي ربٍّ هذا الذي يأمر بهذا الفجور؟! وأكرر لك عبارة الصوري: " ولذلك قاموا بقتل كل رجل امرأة وطفل وجدوهم في المدينة بفرح وباطمئنان تامين، وهم يرون أنهم كانوا ينفذون إرادة الرب " فتأمل!!. لقد فتح المسلمون القدس في صدر الإسلام في عهد عمر بن الخطاب، وحرروها من أيدي الصليبيين في عهد الملك صلاح الدين الأيوبي، فهل قابلوهم السيئة بالسيئة؟! أرجو أن تقرأ التاريخ، واقرأ كتاب الأمان من عمر رضي اللّه عنه لنصارى الشام لتوازن وتقارن؛ لتعرف من الذين ينفذون إرادة الرب الرحمن الرحيم! ومن الرحماء ومن الإرهابيون؟ ولا يخفى هذا على لبيب! والفظائع التي صدرت عن النصارى لليهود وعن النصارى بعضهم إلى بعض أدهى وأمر، ولولا خشية التطويل والخروج عن الموضوع لسردتها، وأكتفي بهذا القدر، ولكن أقول لك قبل أن نغادر هذا الفصل: انظر إلى هؤلاء الطاعنين على محمد صلى الله عليه وسلم، المستهزئين به، هل قرأوا تاريخهم القديم منه والمعاصر المليء جوراً وظلماً لأهل ملتهم وغير ملتهم أم يتعامون عنه؟ اهـ

شبهةٌ قوية والرد عليها:

كأني بالقارئ الكريم يخاطبني بأصدق لهجة، ويقول: أود لو أصدقِّك فيما تقوله عن محمد الرؤوف الرحيم، ولكن أجد صعوبة بالغة في الثبات على هذه القناعة، لأن ما يرتكبه بعض المسلمين من قتل المدنيين وخطف السياح وترويع الآمنين يزرع ف نفسي الشك في الحقائق التي تقدمها عن الإسلام ونبيه محمد!. لا ألومك على هذا الاعتراض، فبعض الممارسات المروعة الشاذة تشوش الصورة على المستقبِل وتشوهها، ولكن هل من المعقول أن تلوم المسيح على ما يرتكبه النصارى من أخطاء؟ ثمَّ إن هؤلاء أقلية لا تمثِّل أمة بأسرها، فكيف تحمَّلُ أمةٌ جريرة طائفة قليلة منه، أخذت النصوص عن جهلٍ وهوى من غير فقه أو تدبر، والله عز وجل يقول: ﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164] وأغلب الدارسين والباحثين لهذه الظاهرة يفسرونها بأنها جاءت كردة فعل على الظلم الصارخ الذي يقع على المسلمين، وأن البطالة والفقر والإحباط والاحتلال كل ذلك عوامل ساهمت في نشوء هذه الظاهرة. وأنا لا أبرر تصرفاتهم، فالإسلام لا يقرُّها، وقد كفل حقوق غير المسلمين، وصان دماءهم وأموالهم وأعراضهم وسائر حقوقهم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة, وإِنّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً»[220]. ومن المعلوم أن شريعة الإسلام قد جاءت بحفظ الضروريات الخمس، وحرمت الاعتداء عليها وهى الدين والنفس والمال والعرض والعقل. ولا يختلف المسلمون فى تحريم الاعتداء على الأنفس المعصومة مسلمة كانت أو غير مسلمة.


خاتمة:

ما كتبته عن الرحمة المهداة لا يعدو أن يكون قطرة من بحر من سيرته العطرة وشمائله الكريمة وأخلاقه العظيمة صلى الله عليه وسلم، أهديها إلى إخواني من الغربيين والنصارى منهم خاصة، أردت أن أوصل إليهم رسالة وجهها إليهم رسول الإنسانية- وصيُّ السيد المسيح وبشارته وأخوه الأقرب- منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام، ولكن انقطع بها البريد، وسد في وجهها الطريق، فعسى أن تصل، فتبلغ الأسماع، وتتأملها العقول، وتتفتح لها القلوب، ويسعد بها الناس في أوربا وأمريكا واليابان وغيرها، أو بتعبير آخر تكتمل سعادتهم، فهم يمتلكون أسباب السعادة المادية، ولكنهم يفتقرون إلى السعادة الروحية، ويفتقدون الأمن النفسي بسبب الخواء الروحي وطغيان النزعة المادية، فعسى أن يجمع الله لهم السعادة بشقيها: المادي والروحي. ولكن الدور الأهم يقع على عاتق المسلمين الذين ابتعدوا عن دينهم كثيراً، فأساؤوا إلى دينهم أكثر مما أحسنوا إليه، وحجبوا صورته المضيئة الجميلة بانحطاطهم المعرفي والأخلاقي.

وكما بدأت هذه الرسالة بكلمة المستشرق الإسباني " جان ليك " أختمها ببرقية عاجلة بعثها مرماديوك إلى المسلمين، يقول فيها: إن المسلمين يمكنهم أن ينشروا حضارتهم بنفس السرعة التي نشروها بها سابقاً، إذا رجعوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حينما قاموا بدورهم الأول، لأن هذا العالم الخاوي لا يستطيع أن  يقف أمام حضارتهم!!. انتهت برقية مرماديوك، وأنا أبعثها بدوري إلى المسلمين في الغرب، لعلهم يدركون مغزاها!.


المراجع والمصادر

القرآن الكريم :مصادر السنة النبوية:

الكتب الستة: الجامع الصحيح للبخاري وصحيح مسلم وكتب السنن الأربعة- مسند الإمام أحمد- الموطأ للإمام مالك- المستدرك للحاكم- المعاجم الثلاثة للطبراني- شعب الإيمان للبيهقي وغيره.

• آثار الحرب في الفقه الإسلامي- دراسة مقارنة- دار الفكر- وهبة الزحيلي- ط4- 1412هـ- 1992م.

• إظهار الحق- رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي- دار الكتب العلمية- بيروت- ط1- 1413هـ- 1993م.

• البداية والنهاية- للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي.

• تباشير الإنجيل والتوراة بالإسلام والتوراة بالإسلام ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم-  د.نصر الله عبد الرحمن أبو طالب- دار الوفاء- المنصورة- ط1- 1425هـ- 2005م.

• التبشير والاستشراق- محمد عزت إسماعيل الطهطاوي- الزهراء للإعلام العربي- القاهرة- ط1- 1411هـ- 1991م.

• الحروب الصليبية- د. أحمد شلبي- مكتبة النهضة المصرية- القاهرة.

• دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة- د. موريس بوكاي- دار المعارف- ط 4- ع. ت.

• زاد المعاد في هدي خير العباد- ابن قيم الجوزية- مؤسسة الرسالة- مكتبة المنار الإسلامية- بيروت- الكويت- الطبعة الرابعة عشر، 1407- 1986م تحقيق: شعيب الأرناؤوط- عبد القادر الأرناؤوط.

• الرحيق المختوم- صفي الرحمن المباركفوري- دار ابن حزم- بيروت- ط1- 1423هـ- 2002 م.

• السيرة النبوية- ابن هشام.

• السيرة النبوية- محمد ناصر الدين الألباني- المكتبة الإسلامية- عمان- ط1.

• السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية- دراسة تحليلية- د مهدي رزق الله أحمد- مطبعة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية- الرياض- ط1- 1412هـ- 1992م.

• شمس الله تسطع على الغرب- د. سيغريد هونكة- دار النهضة العربية- القاهرة- 1964م.

• صحيح السيرة النبوية- إبراهيم العلي- دار النفائس- الأردن- 1415هـ/ 1995م.

• فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير- الشوكاني.

• فقه السيرة- محمد الغزالي- دار البيان للتراث- القاهرة- ط1- 1407هـ- 1987م.

• الكامل في التاريخ- ابن الأثير.

• الموسوعة الكويتية- مادة: (تيسير- رخصة- رفع الحرج).

• الموافقات في أصول الفقه- إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي- دار المعرفة- بيروت- تحقيق: عبد الله دراز.

• منهج التربية الإسلامية، محمد قطب- دار الشروق- القاهرة.

• هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى- ابن قيم الجوزية- نشر الجامعة الإسلامية- المدينة المنورة.

المجلات والدوريات:

• مجلة المجتمع الكويتية- العدد 1109- المرأة بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي- علي عزت بيغوفيتش.

• مجلة أمتي الكويتية- العدد الحادي عشر- ابن باديس كان أمة وحده.

 


 

[1] الأنبياء: 107.

[2] القلم: 4.

[3] التبشير والاستشراق- محمد عزت إسماعيل الطهطاوي- الزهراء للإعلام العربي- القاهرة- ط1- 1411هـ- 1991م- ص 109.

[4] القلم: 4.

[5] الأنبياء: 107.

[6] هذه الصورة جمعها الباحث من جملة الأحاديث الواردة في صفاته الخلقية صلى الله عليه وسلم.

[7] الأسيل: هو المستوي.

[8] رواه الترمذي.

[9] الأخمص من القدم ما بين صدرها وعقبها.

[10] أي غليظ الأصابع والراحة.

[11] صحيح مسلم.

[12] سنن الدارمي.

[13] رواه الترمذي عن أنس وصححه الألباني.

[14] صحيح السيرة النبوية- محمد ناصر الدين الألباني- المكتبة الإسلامية- عمان- ط1- ص 222.

[15] سنن الترمذي وغيره عن عائشة / وانظر: الرحيق المختوم- صفي الرحمن المباركفوري- دار ابن حزم- بيروت- ط1- 1423هـ- 2002 م- ص 474 (الصفات والأخلاق).

[16] رواه الحاكم في المستدرك والطبراني في المعجم الكبير والبيهقي في شعب الإيمان.

[17] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الأول- بدء الوحي- باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[18] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الثاني- كتاب المناقب- باب: ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم / أخرجه مسلم في الفضائل- باب: في أسمائه صلى الله عليه وسلم- رقم: 2354.

[19] رواه الترمذي (469) و قال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (1384)، والحاكم 1/320.

[20] اقرأ في السيرة: إسلام حبر اليهود عبد الله بن سلام.

[21] المحيط: المَحْمَدَ, المُحَمّدُ.

[22] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الثاني- كتاب المناقب- باب: ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[23] متفقٌ عليه.

[24] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الثاني- كتاب الجهاد والسير- باب: ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه.

[25] سيرة ابن هشام- جزء 4- صفحة 125.

[26] البقرة: 285.

[27] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الثاني- كتاب الأنبياء- باب: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها} /مريم: 16/. وأخرجه مسلم في الفضائل- باب: فضائل عيسى عليه السلام- رقم: 2365.

[28] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الثاني- كتاب الأنبياء- باب: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها} /مريم: 16 / صحيح مسلم- للإمام مسلم- الجزء الرابع- كتاب الفضائل- باب فضائل عيسى عليه السلام.

[29] انظر: إظهار الحق- رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي- دار الكتب العلمية- بيروت- ط1- 1413هـ- 1993 م- ص 422.

[30] شمس الله تسطع على الغرب- زيغريد هونكَة- دار النهضة العربية- القاهرة-   1964م- ص 458.

[31] المرجع نفسه- ص (274- 278).

[32] العلق: 1- 5.

[33] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الأول- بدء الوحي.- باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم / صحيح مسلم- للإمام مسلم- الجزء الأول- كتاب الإيمان- باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[34] البداية والنهاية- للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي- الجزء الثالث- فصل تعذيب قريش للمسلمين لأتباعهم النبي عليه الصلاة والسلام.

[35] البداية والنهاية- للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي- الجزء الثالث- فصل في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة على أحياء العرب.

[36] السيرة النبوية- لابن هشام- المجلد الثاني- ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة- فتنة المسلمين.

[37] البداية والنهاية- المرجع نفسه- فصل تعذيب قريش للمسلمين لأتباعهم النبي عليه الصلاة والسلام- باب هجرة أصحاب رسول الله من مكة إلى أرض الحبشة.

[38] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الثاني- كتاب بدء الخلق- باب: إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة في السماء، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه.

[39] البداية والنهاية- للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي- الجزء الثالث- فصل في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى دين الله.

[40] انظر: تباشير الإنجيل والتوراة بالإسلام والتوراة بالإسلام ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم-  د. نصر الله عبد الرحمن أبو طالب- دار الوفاء- المنصورة- ط1- 1425هـ- 2005م- ص 304 / إظهار الحق- المرجع السابق- ص 422.

[41] تباشير الإنجيل والتوراة بالإسلام والتوراة بالإسلام ورسوله محمد- المرجع السابق- 315 وما بعدها.

[42] المرجع نفسه- 355.

[43] آل عمران: 103.

[44] زاد المعاد- الجزء 1- فصل في كتبه ورسله إلى الملوك- صفحة 119.

[45] السيرة النبوية- لابن هشام- المجلد السادس- خطبة الوداع / البداية والنهاية- للإمام إسماعيل بن كثير الدمشقي- الجزء الخامس- فصل خطبة النَّبيّ عليه الصلاة والسلام.

[46] البداية والنهاية- ا بن كثير- الجزء الخامس- فصل خطبة النَّبيّ عليه الصلاة والسلام في ثاني أيام التشريق.

[47] آل عمران: 144.

[48] سيرة ابن هشام- ج 6- ص 82.

[49] الواقعة: 41- 56.

[50] الحجر: 49- 50.

[51] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الثاني- كتاب بدء الخلق- باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} (الروم: 27). وأخرجه مسلم في التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، رقم: 2751.

[52] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الرابع- كتاب الرقاق- باب: الرجاء مع الخوف.

[53] أحمد في مسنده وصحيح مسلم عن أبي سعيد و أبي هريرة معه معا.

[54] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الرابع- كتاب الأدب- باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته / و أخرجه مسلم في التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، رقم: 2754.

[55] التوبة: 128.

[56] تباشير الإنجيل والتوراة بالإسلام ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم-  ص363.

[57] الأنبياء- 107.

[58] آل عمران- 159.

[59] رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

[60] رواه الإمام أحمد والترمذي قال أبو عِيسَى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

[61] الحجرات: 13.

[62] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الأول- كتاب الجنائز- باب: الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه.

[63] صحيح مسلم. الإصدار- للإمام مسلم الجزء الرابع- كتاب الفضائل- باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال، وتواضعه، وفضل ذلك.

[64] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الأول- كتاب الكسوف- باب: الدعاء في الخسوف.

[65] رواه مسلم.

[66] رواه مسلم.

[67] رواه مسلم.

[68] رواه البخاري.

[69] رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب والبخاري في البيوع.

[70] متفق عليه.

[71] البقرة: 280.

[72] البقرة: 83.

[73] الإسراء: 53.

[74] العنكبوت: 46.

[75] طه: 44.

[76] آل عمران159.

[77] التوبة: 128.

[78] الموافقات- جزء 2- صفحة 121.

[79] الأعراف: 42.

[80] البقرة: 233.

[81] الأنعام: 152.

[82] انظر: الموسوعة الكويتية- مادة: (تيسير- رخصة- رفع الحرج).

[83] رواه أحمد وإسناده ضعيف.

[84] رواه أصحاب السنن عدا النسائي.

[85] البقرة: 185.

[86] الطلاق: 7.

[87] متفقٌ عليه.

[88] رواه البخاري.

[89] الأعراف: 156.

[90] رواه البخاري.

[91] رواه مسلم.

[92] الموسوعة الفقهية الكويتية- مادة التيسير واليسر.

[93] المائدة: 6.

[94] البقرة: 185.

[95] النساء: 28.

[96] الموافقات- الشاطبي- جزء 2- المسألة السادسة- صفحة 122.

[97] المرجع نفسه- ص 122.

[98] المرجع نفسه- ج 1- ص 340.

[99] صحيح ابن حبان قال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي.

[100] رواه البخاري.

[101] رواه البخاري.

[102] رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

[103] المائدة90-91.

[104] منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، 29-30.

[105] المرجع نفسه، 31.

[106] الجامع لأحكام القرآن- محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله- ج12- ص 185.

[107] أخرجه البخاري ومسلم وأحمد.

[108] أخرجه البخاري في الأدب باب من تركَ صَبيةَ غيرهِ حتى تَلعبَ به, أو قبّلَها أو مازَحَها.

[109] أخرجه مسلم.

[110] أخرجه البخاري في الجنائز- باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي الإسلام؟

[111] رواه البخاري وأحمد، وعند البخاري بلفظ الفراش.

[112] انظر: شمس الله تسطع على الغرب- د. سيغريد هونكة- دار النهضة العربية- القاهرة- 1964م.

[113] رواه الترمذي.

[114] غلام أسود حبشي، كان مملوكاً للنبي صلى الله عليه وسلم، يكنى أبا مارية.

[115] رواه البخاري ومسلم، أخرجه مسلم في الفضائل، باب: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء وأمر السواق مطاياهن بالرفق بهن، رقم: 2323.

[116] أخرجه الترمذي في تفسير سورة التوبة وفي كتاب الرضاع باب حق المرأة على زوجها وقال: هَذَا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. ومَعْنَى قَوْله (عَوَانٍ عِنْدَكُمْ) يْعني أسيرات فِي أيْدِيكُم.

[117] صحيح مسلم- للإمام مسلم- الجزء الثاني- كتاب الزكاة- باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.

[118] المجتمع، العدد 1109، المرأة بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي، علي عزت بيغو فيتش.

[119] العهد القديم- سفر صموئيل الثاني- الباب الحادي عشر / انظر: إظهار الحق- ص 473.

[120] إظهار الحق- ص 505 وما بعدها.

[121] الأحزاب: 40.

[122] الأحزاب: 37.

[123] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الثاني- كتاب الجهاد والسير- باب: استئذان الرجل الإمام.

[124] فقه السيرة- محمد الغزالي-.

[125] رواه البخاري.

[126] متفق عليه.

[127] أخرجه البخاري في الأدب.

[128] اللفظ في رواية أخرى للبخاري.

[129] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الثاني- كتاب الخمس- باب: الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمساكين، وإيثار النبي صلى الله عليه وسلم أهل الصفة والأرامل، حن سألته فاطمة وشكت إليه الطحن والرحى: أن يخدمها من السبي، فوكلها إلى الله / و أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم، رقم: 2727.

[130] رواه الحاكم في "المستدرك- في المغازي" ورواه ابن سعد في "الطبقات" أخرجه أبو داود في "سننه".

[131] أخرجه البخاري في الأدب.

[132] رواه البخاري.

[133] أخرجه البخاري في الأدب في باب الساعي على المِسكين و باب الساعي على الأرملة من حديث أبي هريرةَ.

[134] الضحى: 6.

[135] أخرجه البخاري في الصحيح في الأدب باب فضل من يعول يتيماً وأبو داود في الأدب باب في من ضم يتيماً.

[136] سُنَنُ أبي دَاوُد- للإمامِ أبي دَاوُد- الجزء الثاني- كتاب الترجل- باب في حلق الرأس.

[137] سنن ابن ماجه- للإمام ابن ماجه- الجزء الأول- كتاب الجنائز- باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت.

[138] أخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم باب حسن خلقه.

[139] أخرجها الإمام أحمد (13442ط قرطبة).

[140] صحيح مسلم- للإمام مسلم- الجزء الثالث- كتاب الأيمان- باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده.

[141] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الأول- كتاب الإيمان- باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك / وأخرجه مسلم في الإيمان والنذور، باب: إطعام المملوك مما يأكل، رقم: 1661.

[142] سُنَنُ أبي دَاوُد- للإمامِ أبي دَاوُد- الجزء الثاني- كتاب الأدب- باب في حق المملوك؟.

[143] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الثاني- كتاب العتق- باب: ما جاء في العتق وفضله / وأخرجه مسلم في العتق، باب: فضل العتق، رقم: 1509.

[144] سُنَنُ أبي دَاوُد- للإمامِ أبي دَاوُد- الجزء الثاني- كتاب الأدب- باب في حق المملوك.

[145] أخرجه مسلم في الفضائل باب قرب النبي عليه السلام من الناس, وتبركهم به.

[146] عبس: 1-12.

[147] صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الثاني- كتاب الجهاد والسير.

[148] سنن الترمذي (وشرح العلل)- للإمام الترمذي- المُجَلَّد الخَامِس- أبواب الدعوات عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

[149] أخرجه مسلم في الصلاة باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ماكان من إباحة.

[150] هو ذو الخويصرة اليماني رضي الله عنه.

[151] متفقٌ عليه، صحيح البخاري- للإمام البخاري- الجزء الرابع- كتاب

الأدب- باب: رحمة الناس والبهائم.

[152] الأحزاب: 6.

[153] صحيح السيرة النبوية- إبراهيم العلي- دار النفائس- الأردن- 1415هـ/1995م- ص 373.

[154] أخرجه مسلم في الجهاد باب مالقي النبي من أذى المشركين.

[155] أخرجه البخاري في الجهاد باب الدّعاءِ للمشركينَ بالهُدَى ليتَأَلّفَهم.

[156] أخرجه الإمام أحمد في المسند (4057) بسند حسن.

[157] الأنفال: 33.

[158] زاد المعاد في هدي خير العباد- ابن القيم- مؤسسة الرسالة- مكتبة المنار الإسلامية- بيروت- الكويت- ط 14- 1407- 1986- ج3- ص 99.

[159] أخرجه البخاري في المساقاة باب فضل سقي الماء.

[160] أخرجه أبو داود في الجهاد باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم،بسند صحيح. و(ذفراه) أي الموقع الذي يعرق من قفا رأسه،(تدئبه) أي تتعبه بكثرة ما تستعمله، من الدأب.

[161] أخرجه أبو داود في الجهاد باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، وسنده حسن و(المعجمة) أي العجماء لأنها لا تنطق.

[162] أخرجه أبو داود في الجهاد باب في الوقوف على الدابة بسند حسن.

[163] أخرجه أحمد في المسند(1/404) وأبو داود في الجهاد باب كراهية حرق العدو بالنار وهو حديث صحيح.

وقوله (حمرة) الحمرة بتشديد الميم المفتوحة نوع من الطير الصغار. (تفرش) بالفاء أي تبسط جناحها حول النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية (تعرِّش) بالعين أي: ترفرف بدنو من الأرض.

[164] أخرجه مسلم في البر والصلة باب الرفق وأبو داود في الجهاد باب ما جاء في الهجرة وفي الأدب باب في الرفق.

[165] أخرجه الترمذي: في الديات بابُ مَا جَاءَ فِي النّهْيِ عَنِ المُثْلَة والنسائي في الضحايا من الكبرى باب الأمر بإحداد الشفرة، وقال الترمذي: هَذَا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

[166] أخرجه البخاري في المساقاة باب فضل سقي الماء. والثرى: التراب الرطب.

[167] أخرجه أبو داود في الجهاد باب النهي عن الوسم في الوجه والضرب في الوجه والترمذي في الجهاد باب النهي عن التحريش بين البهائم وقال حسن صحيح. وهو كما قال.

[168] العقوبة في الفقه الإسلامي- أحمد فتحي بهنسي- دار الشرق- ط5-1403هـ/1983م- ص 23.

[169] الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي- محمد أبو زهرة- دار الفكر العربي- القاهرة- ع. ط- ع. ت- ص 11- 15.

[170] الحج: 46.

[171] آثار الحرب في الفقه الأسلامي- دراسة مقارنة- دار الفكر- وهبة الزحيلي ط4- 1412هـ- 1992م- (ص 34-37).

[172] البقرة: 190.

[173] الحج: 39- 40.

[174] هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى- ابن قيم الجوزية- الجامعة الإسلامية- المدينة المنورة- ص 12.

[175] المرجع نفسه- ص 12.

[176] آثار الحرب في الفقه الأسلامي- ص 52.

[177] آثار الحرب في الفقه الأسلامي- ص 52.

[178] البقرة: 191- 194.

[179] البقرة: 160.

[180] فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير- محمد بن علي الشوكاني- جزء 1- صفحة 293.

[181] البقرة: 251.

[182] آثار الحرب في الفقه الإسلامي- الزحيلي- ص 40.

[183] المرجع نفسه- ص 41.

[184] المرجع نفسه- ص 42.

[185] انظر: إظهار الحق- ص 82.

[186] المرجع نفسه- ص 481.

[187] آثار الحرب في الفقه الإسلامي للزحيلي- ص40 وما بعدها.

[188] حضارة العرب- غوستاف لوبون- ط2- ص335، عن آثار الحرب للزحيلي- ص50.

[189] متفقٌ عليه.

[190] أخرجه البخاري في الجهاد باب من قاتَلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا.

[191] البداية والنهاية- ابن كثير- جزء 7- صفحة 40.

[192] ابن باديس كان أمة وحده- مجلة أمتي- العدد الحادي عشر- ص 36.

[193] حضارة العرب- غوستاف لوبون- ص 40.

[194] المائدة: 8.

[195] البقرة: 190.

[196] التوبة: 5.

[197] التوبة: 123.

[198] آثار الحرب- الزحيلي- (130- 137).

[199] الجهاد والقتال في السياسة الشرعية- د.محمد خير هيكل- دار البيارق بيروت- توزيع دار ابن حزم بيروت- ط2- 1417هـ- 1996.

[200] المرجع نفسه- ص818- 820، 827.

[201] الأنفال: 60.

[202] متفقٌ عليه.

[203] شمس الله تسطع على الغرب- د. سيغريد هونكة- دار النهضة العربية- القاهرة- 1964م- ص.

[204] آثار الحرب- 141 وما بعدها.

[205] مسند أحمد بن حنبل- جزء 4- رقم الحديث- 18122- قال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره وهذا إسناد ضعيف لضعف أبي الغريف.

[206] سنن أبي داود- جزء 2- رقم الحديث 2669: قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.

[207] سنن أبي داود- جزء 2- رقم الحديث- 2614.

[208] السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية- دراسة تحليلية- د مهدي رزق الله أحمد- مطبعة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية- الرياض- ط1- 1412هـ- 1992 م- ص 564 / و رواه البخاري بلفظ: (كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة يوم تكسى فيه الكعبة).

[209] الإسراء: 8.

[210] سبأ: 49.

[211] الحجرات: 16.

[212] سيرة ابن هشام- ما قاله عليه السلام على باب الكعبة / وتجد الواقعة في معظم كتب السيرة في دخول الكعبة، وهي مستفيضة مشهورة، ويسمى أهل مكة الطلقاء.

[213] الكامل في التاريخ- ابن الأثير– الجزء السادس- ذكر ملك الفرنج لعنهم الله البيت المقدس / وانظر: العبر- ابن خلدون- ج5- ص 84.

[214] الصليبيون في الشرق- نقولا زيادة- ص 104.

[215] كتاب الحروب الصليبية- د. أحمد شلبي- مكتبة النهضة المصرية- القاهرة- ص 52 نقلاً عن كتاب:  صلى الله عليه وسلم lls Ashort History of the Middle east P. 74

[216] تاريخ الحروب الصليبية- (1/435) نقلاً عن الفتوح الإسلامية عبر العصور- د. عبد العزيز العمري- ص/215.

[217] المرجع السابق- ص/215.

[218] المرجع نفسه- ص/218.

[219] إظهار الحق- رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي- دار الكتب العلمية- بيروت- ط1- 1413هـ- 1993 م- ص 489.

[220] أخرجه البخاري في الجزية باب إِثمَ مَن قَتلَ مُعاهِداً بغير جُرمٍ.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • رحمة مهداة
  • الرسول الرحيم
  • رسالة إلى العقل والقلب
  • رحمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم
  • رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأسرى
  • وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
  • نبي الرحمة والسلام صلى الله عليه وسلم
  • محبة النبي صلى الله عليه وسلم
  • العنف ضد الأطفال وتعامل نبي الرحمة
  • ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء
  • قتل الأبرياء بين سماحة الإسلام وشرائع الإجرام
  • من مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم
  • خطبة المسجد الحرام 6/ 10/ 1430هـ
  • شكرًا نادين
  • رحمة النبي في التعامل مع المخطئ
  • الرحمة المهداة
  • معه نحو التميز
  • نبي الإسلام، الرحمة المهداة للعالمين
  • في تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله
  • وجعل بينكم مودة ورحمة
  • إن شانئك - يا رسول الله - هو الأبتر
  • رحمته - صلى الله عليه وسلم - بغير المسلمين
  • كانت الأخلاق معجزته صلى الله عليه وسلم
  • الرحمة المهداة
  • الأدب مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
  • رحمته .. صلى الله عليه وسلم .. معجزته
  • النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين
  • محمد صلى الله عليه وسلم .. هو الرؤوف الرحيم
  • رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الأسوة الكاملة
  • الرحمة .. خلق المؤمنين
  • لو عرفوه، لأحبوه
  • مشتاقة إليك يا رسول الله
  • شموخ وإباء يا حبيبي يا رسول الله
  • صفات النبي المرتبطة بالرحمة
  • الرحمة المهداة
  • هكذا عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: الرحمة
  • رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي الأمل في الأمة
  • كيف ننصر نبينا صلى الله عليه وسلم؟
  • السراج المنير
  • زيارة إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • الرحمة المهداة
  • لن يخزيك الله أبدا
  • ما هو واجبنا تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
  • وقف رسول الله الرحمة المهداة
  • لماذا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
  • رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد غنيا ثريا ولم يعش فقيرا
  • يا عباد الله إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • ما جاء في تكأة رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • ما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الطعام، وبعدما يفرغ منه

مختارات من الشبكة

  • دواعي اختيار مدينة رسول الله عاصمة لدولة رسول الله صلى الله عليه وسلم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبارة: "إلا رسول الله"(مقالة - ملفات خاصة)
  • الآثار الإيمانية للإيمان بالرسل(مقالة - آفاق الشريعة)
  • رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرحمة المهداة(كتاب - الإصدارات والمسابقات)
  • حديث: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها(مقالة - موقع الشيخ عبدالله بن حمود الفريح)
  • هيئة التعريف بالرسول تصدر كتابا بثلاث لغات لدحض الشبهات عن الرسول عليه الصلاة والسلام(مقالة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • باب وجوب الولاء لله ورسوله والمؤمنين والبراءة ممن حاد الله ورسوله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير آية: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين)(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
10- i5wati fi alislam
fatma ezzahra - tunisie 30-12-2015 04:55 PM

merci beaucoup mes amis

9- tré bien
ayoub - alger 24-01-2015 09:16 PM

je suis avec mouhamed

8- سلمت
المتخفي - السعوديه 18-10-2011 06:11 PM

سلمت

7- بارك الله لنا فيكم
احمد امجد الخطيب - syra 29-03-2009 12:10 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ابارك لك هذا المجهود العظيم جعله الله في ميزان حسناتك
اسلوب السرد ممتع جدا يلامس المشاعر والاحاسيس تارة والعقل والتفكير تارة اخرى وادعو الله عز وجل ان تسهم هذه االرساله في بلوغ اهداف الدين الحنيف وما احوجنا في هذه الحقبه العصيبه الى مثل هذه البحوث

6- مقاطعة
hadi 03-02-2009 10:50 PM
كمااااااااااااان...وكمااااااااااااااااااااااااااان

سفير الدنمارك ورئيس الوزراء والقناة الدنماركية يسعون إلى إيقاف المقاطعة ، وصلت الخسائر إلى 2 مليار يورو وإذا استمرت المقاطعة فتصل بعد 7 أشهر إلى 40 مليار يورو ، انشر لرفع المعنويات ليعلموا قدر ديننا ، إنشرها ولا تبخل على الرسول صلى الله عليه وسلم
بالله عليك أن ترسل هذه الرسالة
لكل من عندك حتى لو كنت انا

لا تقل مافي وقت بل قل فداك أبي وأمي يارسول



--
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ تَعَالى يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ"،

ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}.ـ

،'، سبحان الله وبحمدهـ ،'، سبحان الله العظيمـ ،'،
5- وفقك الله
محمد - مصر 29-01-2009 07:48 PM
اللهم صل على محمد وعلى اآل محمد
4- روائع
أبو محمد 13-03-2008 04:38 PM
رااااااااااااااااااائع جداً
وما أحوجنا إلى مثل هذا الطرح
3- أكثر من رائع
محمد برهيش أحمد 20-02-2007 11:36 PM
فهم لسان الآخرين لا يعني بالضرورة اتقان لغتهم ، ولكن فهم طريقة تفكيرهم وأسلوبهم في الحياة وتصورهم عنها ، والبحث نجح في تحقيق هذا الهدف .
البحث أكثر من رائع ، وحبذا لو ترجم إلى لغات القوم .
2- لسان حسان
سميرة عوض - سوريا 18-02-2007 01:40 PM
البحث يجمع بين العاطفة والعقل ، كلما قرأت بعضه ظننت العاطفة تغلب عليه ، فإذا قرأته مرة أخرى وجدت العقل يغلب عليه ... البحث أكثر من رائع ، ويخاطب الغرب بلسانهم وأسلوب تفكيرهم .. وفق الله الباحث وجزاه عن نبي الرحمة خير الجزاء ، وجعله لسان حسان في هذا الزمان .
1- كل فتاة بأبيها معجبة
سارة محمد علي الخطيب 07-02-2007 04:47 AM
هذا البحث كتبه قلب كاتبه لا قلمه ، ومداده دفق منه لا من حبره . كتبه راجياً شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ليس طامعاً بجائزة أو عرض دنيوي . لعله بالذب عن عرضه ، يوفِّه بعض حقه .
1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب