• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    {وما النصر إلا من عند الله} ورسائل للمسلمين
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الرزاق، ...
    فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
  •  
    الأحق بالإمامة في صلاة الجنازة
    عبد رب الصالحين أبو ضيف العتموني
  •  
    فضل الصبر على المدين
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    تفسير قوله تعالى: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ...
    سعيد مصطفى دياب
  •  
    محاسن الإرث في الإسلام (خطبة)
    الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
  •  
    تفسير: (لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    علامات الساعة (2)
    تركي بن إبراهيم الخنيزان
  •  
    ما جاء في فصل الصيف
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    أحكام التعاقد بالوكالة المستترة وآثاره: دراسة ...
    د. ياسر بن عبدالرحمن العدل
  •  
    خطبة: أم سليم ضحت بزوجها من أجل دينها (1)
    د. محمد جمعة الحلبوسي
  •  
    خطبة: التربية على العفة
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    التلاحم والتنظيم في صفوف القتال في سبيل الله...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أسس التفكير العقدي: مقاربة بين الوحي والعقل
    الشيخ حذيفة بن حسين القحطاني
  •  
    ابتلاء مبين وذبح عظيم (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

من سورة الأنعام: غبش الشرك على الفطرة بين البأساء والنعماء

من سورة الأنعام: غبش الشرك على الفطرة بين البأساء والنعماء
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 12/1/2016 ميلادي - 1/4/1437 هجري

الزيارات: 21053

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

من سورة الأنعام

غبش الشرك على الفطرة

بين البأساء والنعماء


بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وآلِه وصحبه والتابعين.

قال الله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ * وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 40 - 51].

 

التعلق بالله في حالتي الرخاء والشدة من أهم مَعالم الإيمان، والدعاءُ - التجاءً إليه وحده؛ تضرعًا وخوفًا وطمعًا - دليلُه ومِسْباره؛ لأن ما جُبِلت عليه فطرةُ الإنسان مِن معرفته تعالى وتوحيده عز وجل راسخٌ فيها منذ خُلِق أولَ أمره، وإنما تَعترض المرءَ شواغلُ في أوقات الرَّفْهِ والغفلة، تكبت فطرته وتعطلها وتحجبها، فيَرتكس في ظلمات الجهل والشرك، فإنْ واجهَته محنة من بأس الله أيقظَته من غفلته، فانزاحت عنه شُبه الشِّرك، وانهار ركام الجهل، وضلت عنه آلهة الهوى، وازدهرت فطرة الإيمان في القلب نورًا هاديًا، وعلى اللسان دعاء نديًّا، وعاد الشاردُ إلى مَعطِنه تائبًا راجيًا، لا يسأل غيرَ الله، ولا يتوكل على سواه.

 

هذا هو الأصل في الإنسان السوي، تَنتابه الغفلة حينًا من الدهر، فإن ابتُلي بمحنةٍ أبصَر وتذكَّر، فتاب وأناب؛ لأن الضلال عارض يَسهُل على ذَوي الألباب تجاوزُه، والشرك ظلمة طارئة تنقشع لذوي البصائر، والقرآن الكريم في سورة الأنعام التي نحن بصدَدِ تفسيرها ينطلق من هذا الأصل في حواره مع المشركين؛ كي يتذكروا ما أودع الله تعالى في فطرتهم الأولى من معرفةٍ وتوحيد.

 

إذْ بعدَ أن ميَّز فيما سبق من السورة بين الأسوياء أحياءِ القلوب الذين يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَه، وبين أموات العقول والأفئدة صُمِّ الآذان عن الموعظة، بُكمِ الألسُنِ عن القول السديد، وقال: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [الأنعام: 36]، وبعد أن ذكَّر بحكمة الله في الاختيار، ومشيئته المطلقة في الابتلاء والاصطفاء، وقال: ﴿ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 39] - أخذ يحض الرسولَ صلى الله عليه وسلم على المصابرة في حوار المشركين، ومُحاجَجتِهم بما يَكمُن في نفوسهم من عقيدة التوحيد التي قد تنبعث عند الشدائد والمحن، فتنبثق نورًا هاديًا من بين ركام العقائد الضالَّة، والتصورات المنحرفة، وذلك بقوله عز وجل: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الأنعام: 40]، وقوله عز وجل: ﴿ أَرَأَيْتَكُمْ ﴾ تركيبٌ عربي مشهور؛ للتحريض على الرؤية الواعية العميقة، المصحوبة بالاستخبار والاستفهام، يُفتتَح به وبمثله ما يُراد التنبيه له والاهتمام به، والتحريض على رؤيته، والإمعان في استخلاص مُؤَدَّاه، كأنَّ قائله يَلفِت نظرك إلى شيء أغفلتَه، أو لم تكن رأيته من قبل، ويحضك على إمعان التأمل فيه.

 

وهمزة الاستفهام في أوله تقريرية، وحرف التاء بالفتح ضميرُ المخاطب في المذكر والمؤنث، والواحدِ والجمع؛ تقول: أرأيتَك، وأرأيتَكما، وأرأيتَكم، وأرأيتكن، وتسهيل همزة الفعل من قراءة ورش عن نافع، والمعنى: أخبروني عن حالكم إخبارَ من يرى ويتفكر في الحال والمآل.

 

وصيغة ﴿ قُلْ ﴾ في مستهلِّ الآية الكريمة أمرٌ من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يَسأل المشركين ويُحاجِجَهم، مُعرِّضًا بتناقضهم العقَدي؛ إذ يعبدون في رخائهم غيرَ الله، ثم يتوجَّهون إليه سبحانه في الشدة؛ أي: ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد سائلًا مُشركي قومك: ﴿ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ﴾ إن أتاكم بلاء من عذاب الله في الدنيا لا تُطيقونه، أو دهَمتكم زلزلةُ الساعة بشدتها وهولها؛ هل تتوجهون بالدعاء لدفع ذلك إلى غير الله من الأنداد والأوثان، أم تتوجهون به إلى الله تعالى؟! وعلَّق سبحانه وتعالى جوابهم بالصدق إذ قال عز وجل: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الأنعام: 40]؛ أي: إن صدَقتُم الجواب فلم تُموِّهوا، ولم تَركنوا إلى الأوهام والأهواء، وسَتْرِ حقيقة مشاعركم.

 

وفي هذه الآية الكريمة استفهام بليغ معجِز، موجَّه إلى المشركين، يَستبطن حقيقة مشاعرهم في أشد حالَين قد يُواجهونهما في الدنيا:

أول الحالين: عقابٌ منه تعالى؛ لجَراءتهم على الشرك وتمسُّكهم به، وإهلاكهم بما أهلك به أقوامًا غيرهم، زَلازلَ وعواصفَ مدمرةً، أو خسفًا أو طوفانًا.

 

وثاني الحالين: أن تَدْهمهم الساعة فجأة بعذابها الشديد الذي تذهل له ﴿ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 2].

 

هل يتوجَّهُ المرء بطلب النجاة في أحد هذين الحالين أو كِليهما إلى غير الله؟ أم أن فطرته تستعيد أصالتها وسواءها، وتستشعر ضعفها وصَغارها وعجزها أمام قدرة ربها وجبروته، فتتوجه بالدعاء إليه وحده، وتنسى ما كانت تعبد من دونه أوثانًا أو أهواء أو أخيلة فاسدة أو طواغيت؟ ولذلك عقَّب الحق سبحانه مقررًا حقيقة توجههم ودعائهم، فقال: ﴿ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ﴾ [الأنعام: 41]، وحرف "بل" في هذا السِّياق للإضراب عمَّا سبق ذكره، والآية تعبير عن الجواب السليم الذي ينبغي أن يصدر عنهم إن صدَقوا القول، وتخلصوا من جميع أصناف الشرك ورواسبه وأوهامه.

 

وقد ورد التعبير القرآني بتقديم المفعول على الفعل في قوله تعالى: ﴿ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ﴾؛ لِقَصْرِ دعائهم على الله تعالى وحده، وهو التوحيد الصحيح؛ أي: لَا تدعون إلا إياه، تدعونه عند الشدة، وتنصرفون عن دعوة آلهتكم؛ لأنكم في وقت الخطر لا تستطيعون الكذب على أنفسكم، وخيانتها بدعوة الأوثان التي تعبدونها وأنتم موقنون بعدم جدواها، وفطرتكم الأولى لا تثق بها ولا تركن لها، كالساحر الذي يعالج الناس بسحره، فإذا مرض عرض نفسه على الطبيب، وكالشيطان عندما تبرأ من المشركين في غزوة بدر وقد رأى الملائكةَ يقودهم جبريل عليه السلام يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 48].

 

إن الأصل في الإنسان عند المخاطر والشدائد أن يسترجع سواءه، ويُعرض عن ضلالاته، ويتوجه إلى ربه مقيمًا على التوبة، متمسكًا بها، بذلك تتميز التوبة النَّصُوح عن التوبة الزائفة التي قال عنها الحق سبحانه: ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ﴾ [يونس: 12]، وقال: ﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 49]؛ لذلك عقَّب الحق تعالى، وهو الحكيم العليم بخبايا نفوس العباد، ومآلات أعمالهم، وحقيقة توبتهم، وسلامة نواياهم، بقوله: ﴿ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 41]، وحرف "الفاء" في هذا السياق لترتيب الفعل على الدعاء وسرعة الإجابة، فيكشف عز وجل، في الدنيا والآخرة، ما نزل من الضر، ويرفعه كما يُرفَع الغطاء عن الإناء، ﴿ إِنْ شَاءَ ﴾ [الأنعام: 41]، إن أراد أن يرحمكم ويتفضل عليكم بما سألتم، فعَل، وإن لم يشأ لم يفعل، يكشف الضر عن الداعي، مؤمنًا كان أو كافرًا في الدنيا، بمقتضى مشيئته عز وجل وحكمته، إن شاء كَشْفَ الضُّرِّ كَشَفه، وإن شاء ضاعفه وعوَّض الأجر، وإن شاء ترك الحال على ما كان، واختار لعبده المؤمن خيرًا مما سأل، وهو عز وجل في جميع الأحوال فعَّال لما يريد، إرادته لا تُعارَض، ومشيئته لا تُغالَب؛ ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، إلا أن مشيئته عز وجل لا تكون مبررًا للإقامة على الشرك، كما كان يقول بعض المشركين: ﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾ [الأنعام: 148]، إن الله تعالى لا يفرض على الناس الشرك، ولا يرضاه لهم أو يقهرهم به، وقد قال: ﴿ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ [الزمر: 7]، إلا إذا استدعَوْه اختيارًا له، وإصرارًا عليه، وحرصًا على الإقامة به، وإسرافًا على أنفسهم فيه، فيركسهم فيه، ويَكِلهم إلى أنفسهم؛ لأنه تعالى أغنى الأغنياء عن الشرك، وقد قال: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ﴾ [الزمر: 7]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 28]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]، وفي الحديث القدسي يقول عز وجل: ((أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، مَن عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشِرْكَه)).

 

ثم قال عز وجل يصف حال المشركين عند الشدة: ﴿ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴾ تنسون أصنامكم وتتركونها، عبَّر عن الترك بأشد وجوهه، وهو الإعراض مع الذهول؛ أي: إنكم في غمرة محنتكم وتوجهكم بالدعاء إلى الله معرضون عن الأوثان والأنداد، لا تذكرونها ولا تستنجدون بها، نسيانًا لها وذهولًا عنها، أو يأسًا من نفعها أو ازدراءً لها؛ كما في قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ ﴾ [يونس: 22].

 

وظاهر من هذه الآية الكريمة أن كشْفَ الشدائد في الدنيا معلق بمشيئة الله وحكمته، أما شدائد المشركين في الآخرة حسابًا وعقابًا، فلا تكشف؛ لأنها معلَّقة بوعيده عز وجل وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، كما أن فيها حثًّا صريحًا واضحًا على التوحيد؛ عقيدة ومنهج حياة، وشجبًا ضمنيًّا للشرك والكفر، ودعوة صريحة إلى نبذ عبادة الأوثان المادية والمعنوية، وازدراء أهلها والمتعلقين بها، وتهديدًا بالعذاب لمن يستمر على عبادتها بعد هذا البيان.

 

وكما هو الأسلوب القرآني في التربية والتعليم والترغيب والترهيب وضرْبِ المثل، ذكَّرهم تعالى بأمم سابقة، فسَدت فطرتها، وأعرضت عن دعوة ربها، واستكبرت عن التضرع إليه والانقياد لأمره، فقال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم معرِّضًا بجفاء مشركي قريش وقسوتهم وعنادهم، ومواسيًا له فيما يلقاه من عدوانيتهم وتطاولهم، ومذكرًا بما لقيه إخوتُه من الأنبياء والرسل قبله:

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا ﴾ [الأنعام: 42] بعثنا رُسُلَنا بالبينات والهدى ﴿ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [الأنعام: 42] إلى أممٍ مِن قبلك أشد من مشركي قومك وأقوى، فكذبوا الرسل، وبهتوهم، ونبَذوا رسالة الله إليهم، واستكبروا عما دُعوا إليه من التوحيد وإخلاص العبودية، ومدُّوا إليهم الأيديَ بالأذى والعدوان ﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴾ [الأنعام: 42]، والبأساء والضراء لغةً: هي كل أصناف المحن؛ أي: فابتليناهم، كما هي سنَّتنا في الاختبار، بأصنافٍ من البؤس والضرر؛ شدةَ فقرٍ، وضيقَ معيشة، وأسقامًا وعِللًا وأمراضًا، وخوفًا وجوعًا ونقصًا من الأموال والأنفس والثمرات؛ ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ [الأنعام: 42]، والتضرُّع: هو التخشع والتذلل والانقياد والخضوع في الدعاء؛ أي: كي يخضعوا ويتطامنوا، وتذهب كبرياؤهم عندما يُحسُّون بضعفهم وحاجتهم إلى الله؛ لأن المرء كلما أحس بالضعف اقترب من الإيمان، وتخلى عن الغرور والكبرياء والعزة بالنفس، وتذكر قدرة ربه وفضلَه عليه، وحاجته واضطراره إليه، فيُفرده بالتوحيد والعبادة والتوجه، ويتضرع خاشعًا له، سائلًا رفع الشدة والمعافاة من الفتنة، والشأن في النفوس القابلةِ للشفاء من أمراضها والعودة عن ضلالها أن الشدة لا تَزيدها إلا تطهُّرًا من أدرانها، وانقشاعًا لظلمتها، وقربًا من الحق وأهله، فإذا هي مبصرة أوابة تائبة.

 

وإذ لم يتأثروا إيجابًا باختبار الشدة، ولم تحصُلْ بها لهم توبة، لَزِمَ التعجيبُ لأمرهم، والإنكار عليهم، وبيان أسباب إصرارهم، فقال تعالى:

﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾ [الأنعام: 43]، وحرف "لولا"[1] في هذا السياق لنفي تضرُّعهم مع تمنِّي وقوعه، بمعنى: هلَّا تضرعوا؛ أي: لم يتضرعوا، وكان ينبغي أن يؤدي ما نالهم من بأس إلى الخشوع والتضرع، ﴿ وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنعام: 43]، والقسوة حالةٌ يكون فيها القلب ميتًا مُصْمَتًا، لا ينفُذُ إليه الهدى؛ كما قال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]، ولا تنبعث منه نداوة الرحمة أو الرفق والتؤدة، لا يستنهضه رخاء، أو توقظه شدة؛ لأنه جفَّ وتعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية الإيجابية فيه، ومعنى الآية: أن قلوب المشركين قد اشتطَّتْ في الإعراض عن الحق لما ران عليها من القسوة والجفاء والغلظة، وما افتقدوه فيها من حِلم ولِين وحسن استماع وتصرف، والقسوة والجفاء والغلظة من أخلاق أهل النار؛ كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلٍّ جَوَّاظٍ جَعْظَرِيٍّ مستكبر))[2].

 

﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 43] وحسَّن لهم الشيطان أهواءهم وأعمالهم المنكرة الفاسدة؛ فاعتزُّوا بها، واتخذوها فضيلة ومكرمة، وتعالَوْا بها على الحق، واستكبروا على أهله، واستخفُّوا بعاقبة العصيان والتكذيب..

 

لقد ابتلى الحق سبحانه هؤلاء القوم ببأسه؛ لعل فطرتهم الأولى تنتفض، فينزاح عنها غبش الغفلة، وركام الشرك والضلال، وتتوب إلى بارئها متوجهة إليه وحده بالعبادة والدعاء والاستغاثة، ولكن فتنة البأس والشدة لم تُحْيِ فيهم مواتًا، ولم تُنْهِض فيهم همة؛ لأنهم واجهوها بقلوب قاسية، وطِباع جافية، واعتزازٍ بما زيَّنه الشيطان لهم؛ لذلك استدرجهم الحق سبحانه بعد الشدة طورًا آخر إلى الرخاء؛ فابتلاهم بالنعماء؛ علَّهم ينهضون من كبوة الشرك إلى رحابة الشكر، وقال جل جلاله:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾ فلما تركوا ما وعظهم به أنبياؤهم ورسلهم وأعرضوا عنه ونسُوه، ولم يوقظهم اختبار الشدة، ولم يردَّهم عن الغَيِّ بلاءُ البأساء ﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾، ولفظ: ﴿ فَتَحْنَا ﴾ قرأه ابن عامر: ﴿ فَتَّحْنَا ﴾ بالتشديد للمبالغة، وقرأه الباقون بالتخفيف، والفتح في هذه الآية الكريمة فتح استدراج ومكر؛ لأن الفتح لم يكن لهم، وإنما كان عليهم تسليطًا وفتنة واستدراجًا بقوله عز وجل: ﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ ﴾، ولم يقل: فتحنا لهم، كما في قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1]، بشارة له صلى الله عليه وسلم بالنصر والتمكين، أما الفتحُ على المشركين فأن تُغدَق عليهم فتن المال والنعم والعافية والقوة كما أغدقت على المشركين من قبلهم، وتُقبِل عليهم الدنيا كما أقبلت على ثمودَ وقارون، فيغتروا بما نالهم ونالوه، وظنوه دليلًا على رضا الله عنهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [فصلت: 50].

 

لذلك عقب الحق سبحانه بقوله:

﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ﴾؛ أي: حتى إذا فرحوا بما فُتِح عليهم به من الدنيا فَرَحَ بَطَرٍ واعتزاز بالنفس، وظنوه خيرًا دائمًا لا يَبيدُ، ومتاعًا اكتسبوه بعلمهم وقوتهم - أُخِذوا بغتة؛ ليكون ألمهم شديدًا، وعذابهم عظيمًا، ﴿ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ استأصلهم الله تعالى فجأة، وسلَّط عليهم العذاب الماحق ﴿ فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ هالكون يائسون من النجاة في الدنيا، منقطِعُو الرجاء من الآخرة، والإبلاس: هو الإطراقُ من الحزن والندم، واليأس والإحباط، ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ ودابر القوم لغةً هو آخرهم الذي يأتي من خلفهم، كناية عن إبادتهم ومحوِ آثارهم، واستئصالهم عن آخرهم، ﴿ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ والشكرُ التامُّ والثناء الجميل لرب العالمين على ما أرسَل من الرسل بالبِشارة والنِّذارة والعلم والحكمة، وما صبَر على المشركين ولطَف بهم وبيَّن لهم واستدرَجهم إلى الإيمان، وأقام الحجة عليهم، ثم أخذهم بالبأساء والضراء؛ لعل فِطرتهم تنتعش فيتوبوا، فلم يتوبوا، ثم فتح لهم أبواب النعمة؛ لعلهم يعرفون خالقَها ومسخِّرَها ويشكرون، فلم يعرفوا ولم يشكروا، ثم قطع دابرهم واسـتأصلهم وطهَّر الأرض مِن رِجسهم، وجعلهم عِبرة باقية، ومثَلًا ساريًا، كل ذلك منه تعالى منتهى الحكمة والعمل الصالح المُتوَّجَين بحمد الله الذي به تتم الصالحات[3]، والآية بهذا المعنى دليل على أن الحمدَ من أجَلِّ القربات، وأوفى الطاعات، وأنه واجبٌ كلما نصَر الله دِينه وأولياءه، وأهلَك الظَّلَمة من أعدائه، كما في قوله تعالى في الآيتين 58 - 59 من سورة النمل: ﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ * قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النمل: 58، 59].

 

إن الإصرارَ على الشرك والجحود والتمرُّد يكون بقسوة القلب وجفاء الطبع، كما يكون بغرور المرء إذا أقبلت عليه الدنيا نعيمًا ومالًا وجاهًا ومُتَعًا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]، ولا علاجَ لهذه القسوة إلا بالحرمان من النِّعَم؛ ليذوق المرءُ المُرَّ بعد الحُلْو، والفقر بعد الغنى، والمرض بعد الصحة، والضعف بعد القوة، وهو ما يعالج الله تعالى به بعض الأمم، يأخذهم بالبأساء فقرًا وضيقَ عيشٍ وأوبئةً وزلازلَ وعواصفَ وأمراضًا؛ كي ينتبهوا من غفلتهم، ويُقلعوا عن ضلالهم، ويتوبوا إلى ربهم، فإن لم يفعلوا دمَّرهم واستبدل خيرًا منهم، ولنا في قوم موسى إذ طغَوْا خيرُ مثالٍ؛ قال الحق سبحانه: ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 132 - 136]، وقال عز وجل: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ ﴾ [الزخرف: 55، 56].

 

هذه سنَّة الله تعالى في تدبير عباده في الدنيا، يبلِّغ المرءَ أمرَ دِينه بِشارةً ونِذارةً، فإن غفل أو استعصى ابتلاه بالشدة؛ كي يتذكرَ ويتوب، وبالرخاء استدراجًا؛ كي يشكر ويؤوب، والبأساءُ في الحياة الدنيا بضرَّائها والسراء بنعمائها هما البُوتقة التي تُجلِّي معادنَ الرجال؛ قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]، يُبتلى الكافرون بالخير والشر، وهم في ذلك بين خير التوبة النَّصوح الراسخة التي تأخذ بأيديهم إلى صراط مستقيم، وشرِّ الارتكاس في الجحيم بالإصرار على الباطل، والتوبة الزائفة عند المِحَن؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: 12]، وقال: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 101، 102]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتَ اللهَ يُعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراجٌ))، ثم تلا: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]، ويُبتلى المؤمنون بالخير والشر، وأمرُهم كلُّه إلى خير؛ لأنهم فيهما بين شُكر وصبر، وبين أجر موفور وذنب مغفور؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((عَجَبًا لأمر المؤمن، إن أمره كلَّه له خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابَتْه سرَّاءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضرَّاءُ صبر، فكان خيرًا له)).

 

ثم ينقُلُ الوحيُ المشركين من الاختبار بالنعماء المفتوحة عليهم والعذاب المحتمَل نزولُه بهم إلى تذكيرهم بثلاثِ نِعَمٍ امتَنَّ الله تعالى عليهم بها في أبدانهم؛ أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، بها قِوَامُ معيشتهم، وتدبير حياتهم، فيأمر الرسولَ صلى الله عليه وسلم بسؤالهم ثانية بقوله تعالى:

﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ ﴾ وأخْذُ السمع والبصر والخَتْمُ على القلب في الآية تعبيرٌ مجازي عن الصمَم والعمَى وغلبة الغباوة والجهلِ على القلب، ومَن اجتمعت فيه هذه الآفات فهو مُصْمَتٌ[4]، منقطعٌ عن العالم الخارجي، لا تواصلَ له معه بمنطوق أو مسموع، والآية أمرٌ من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: أرأيتم أيها المشركون، إن عطَّل الله أسماعكم فأصمَّكم، وعطَّل أبصاركم فأعماكم، وختَم على قلوبكم فنزَع منها خاصيةَ الفهم والمعرفة، وطبَع عليها طابعَ الغباوة والجهل ﴿ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ﴾؟ هل مِن شركائكم الذين تعبدونهم مَن يردُّ إليكم تلك الأسماعَ والأبصار والأفهام، وفي هذه الآية الكريمة تحذيرٌ بيِّن جليٌّ من الإعراض عن دعوات الإيمان والتوحيد، وعرضٌ واضحٌ لمشيئة الله تعالى وقدرته وحكمته؛ خلقًا وتدبيرًا واختيارًا واصطفاءً، كما في الآية السابقة من هذه السورة، وهي قوله تعالى: ﴿ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 39].

 

ثم بنوعٍ من الالتفات البلاغي التعجيبي اللطيف يخاطب الوحيُ الكريمُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ﴾ انظر يا محمد وتعجَّبْ مِن جهالة المشركين وكيف نتابع لهم الحجج على ضلالهم، ونُجري لهم الأدلةَ على الحق الذي ينبغي اتباعُه ﴿ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ﴾ ومع ذلك فهم يصدُّون عنها ويُعرِضون، فلا يزدادون بذلك إلا بُعدًا عن الإيمان، وميلًا إلى الباطل، وجُنوحًا إلى الضلال، وانجذابًا للكفرِ والشِّرك والطغيان.

 

ولمَّا كانت محاولة استنقاذهم من باطل الشرك إلى نور الإيمان بسؤالهم أولًا عمَّن يدعونه ويستجيرون به إذا دَهِمَهم العذاب أو أدركتهم الساعة، ثم بتنبيههم إلى أن أوثانهم التي يعبدونها من دون الله لا تردُّ إليهم أسماعَهم ولا أبصارهم ولا عقولهم إن عذَّبهم الله تعالى بفقدها - فقد هدَّدهم الحقُّ سبحانه عَقِب ذلك بما هو أشدُّ وأنكى وأعمُّ؛ ليعلموا أنه لا دافعَ لجميع أنواع العذاب إلا اللهُ تعالى، بقوله عز وجل:

﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ﴾، وحرف "هل" في الآية لاستفهامٍ معناه النفي، والظالمون في هذا السياق هم المشركون؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]؛ أي: لا يُهلَكُ إلا المشركون، أما البَغْتة فهي الفجأةُ بدون مقدمات علم، والآية أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: أخبروني عمَّنْ سيُهلَك إن نزل بكم عذاب الله فجأة وأنتم آمنون غافلون سادرون في غيِّكم، من غير أن تشعروا بمقدماته أو تروا شيئًا من أماراته، أو نزل بكم عذابه جِهارًا في تمام وعيِكم وشعوركم به ورؤيتكم له قادمًا عليكم أو محيطًا بكم ولم تملِكوا له دفعًا؟ هل سيُهلَك إلا مستحِقُّو العذابِ من المشركين، وهل سينجو إلا مستحِقُّو التكريمِ مِن أوليائه المؤمنين؟

 

إن عذاب الله لأعدائه ينزل حسب حكمته ومشيئته دائمًا، ينزل أحيانًا جهرة، يرى الناسُ مقدماتِه وسعيَه نحوهم، فلا يستطيعون دفعه، كما هو الشأن في قارون بقوله تعالى: ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴾ [القصص: 81]، والشأن في فرعون بقوله تعالى: ﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 39، 40]، وقوله عز وجل: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 90].

 

وينزل أحيانًا فجأةً بدون مقدمات؛ لأن المقدمات تدعو للاحتياط له ومنه؛ كحالِ عاد إذ نزل بهم العذاب فجأة، وقال عنهم عز وجل: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [فصلت: 15، 16]، وقال عن استبشارهم بمقدِّماته ومفاجأته لهم بدمارهم: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 24، 25]، وكحال ثمود الذين أُهلكوا بالصاعقة، وقال عنهم عز وجل: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [فصلت: 17]، وقال عن عادٍ وثمودَ معًا: ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 5 - 8].

 

إن الهلاكَ العام، عذابًا بالزلازل أو العواصف والصواعق وغيرها، إذا نزل في الدنيا بالمشركين مقدِّمة لهلاكهم في الآخرة حقًّا، ولكنه قد يصيب معهم بعضَ مَن يساكنهم من المؤمنين؛ لأن مِن سنن لله تعالى في إنزال العقوبات العامة في الدنيا إذا ما الفساد شاع وطغى، أن تعُمَّ بعض مُساكنيهم من الصالحين، الذين انخذلوا عن الهجرة ضعفًا أو عجزًا أو اضطرارًا، وفي الحديث الصحيح قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل: يا رسول الله أنَهلِكُ وفينا الصالحون؟ فقال: ((نَعَمْ، إذا كَثُرَ الخبَثُ))، وقال فيما رُوِي عن جابر رضي الله عنه: ((أوحى الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام: أن اقلِبْ مدينةَ كذا وكذا بأهلها، قال: يا رب، إن فيهم عبدك فلانًا لم يَعْصِك طرفةَ عين، فقال: اقلبها عليه وعليهم؛ فإن وجهَه لم يَتمَعَّرْ[5] فِيَّ ساعةً قط)، ثم يبعث الحق سبحانه كل من هلَك على نيته، ويحاسبه بها، إن مشركًا فمشرك، أو مؤمنًا فمؤمن، لا يغفر للمشرك؛ لقوله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ﴾ [النساء: 48]، ولا يُضِيعُ أجرَ المؤمنين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 35]، وقوله: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 171]، وقوله عز وجل: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 14]، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه عائشة رضي الله عنها: ((يغزو جيشٌ الكعبةَ، فإذا كانوا ببيداءَ مِن الأرض يُخسَفُ بأوَّلهم وآخِرهم))، فقلت: يا رسول الله، وكيف يُخسَفُ بأولهم وآخرِهم وفيهم أسواقُهم ومَن ليس منهم؟ قال: ((يُخسَفُ بأولهم وآخرِهم ثم يُبعَثون على نيَّاتهم)).

 

لقد وردت كل هذه التنبيهات الإلهية للمشركين في هذه الحلقة من سورة الأنعام بثلاثِ صِيَغٍ للاستفهام: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ.. ﴾ و﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ.. ﴾ و﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً... ﴾، تحذيرًا من الكفر والشرك، وإيجابًا للإيمان والتوحيد؛ ليكون جوابهم الطبيعي إقرارًا بفساد معتقداتهم، واعترافًا بوحدانية الله تعالى وقدرته؛ لأن الاعترافَ سيدُ الحُجج، وأثبَت الأدلة؛ ولذلك عقَّب عز وجل إتمامًا للحجة عليهم ببيانِ حكمته في بعث الرسل بالبِشارة والنِّذارة، والتذكير بسالف سنَّته في الإحسان لِمَن استجاب، والإهلاك لمن خالَف وأعرَض فقال:

﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾؛ أي: إن مهمة الأنبياء والرسل عليهم السلام هي البِشارة والنِّذارة، والبِشارة في مصطلح أهل الإيمان والإحسان نبأٌ سارٌّ بقَبول ربِّ العزةِ الأعمالَ، والورود في الآخرة على خير مآل، أما النِّذارة فهي التحذيرُ الشديد من العاقبة، ومَن وُجِّهت إليه فهو على خطر عظيم، متأرجح بين ضرورة الأوبة إلى ربه، أو الارتكاس في ذنبه، وقد أوجزت هذه الآيةُ ذلك بأفصحِ بيان، بِشارة بفوز الآخرة، ونِذارة من عذابها؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45 - 47]، وقال: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ﴾ [الكهف: 56]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث بعضَ أصحابه للدعوة قال لهم: ((بَشِّروا ولا تُنَفِّروا، ويَسِّروا ولا تُعَسِّروا))، والناس في تلقِّي البِشارة والنِّذارةِ بين أمرينِ، إقبالٍ أو إعراضٍ:

﴿ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ فمَن أقبل على دعوة الله، وآمَن بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأثمر إيمانه عبادة صحيحة وعملًا صالًحا - عصَمه تعالى من الخوف والحزن يوم القيامة، وأسكَنه دارَ المُقامة من فضله.

 

﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ ومَن أعرض عنها، وكذَّب بما بلغه مِن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفسَق عن أمرِ ربِّه - فمآلُه عذابُ الجحيم.

 

إنه العدل المطلَق مِن الله تعالى، لا ظلم ولا محاباة، ولكن إحقاق للحق، ورحمة للعالمين؛ كما في حديث مسلمٍ عن أبي ذر الغفاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا؛ فلا تَظَالَموا، يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه؛ فاستَهْدوني أَهْدِكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمتُه؛ فاستطعموني أُطعِمْكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا مَن كسوتُه؛ فاستكسوني أَكْسُكم، يا عبادي، إنكم تُخطِئون بالليل والنهار، وأنا أغفِر الذنوب جميعًا؛ فاستغفروني أغفِرْ لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضرِّي فتضرُّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولَكم وآخرَكم، وإنسَكم وجِنَّكم، كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من مُلكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيتُ كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخيطُ إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالُكم، أُحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجَد خيرًا فليحمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسه))؛ رواه مسلم.

 

وإن هؤلاء الأنبياءَ والرسلَ مجردُ بشرٍ مثلكم، اصطفاهم الحق سبحانه لتبليغ رسالته إليكم، لا يقولون على الله إلا الحقَّ الذي أُمروا بتبليغه، وليس لهم من سلطان إلا ما أقدرهم الله به ﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [إبراهيم: 11]، وما محمد صلى الله عليه وسلم الذي تُعرضون عن رسالته، وتجادلونه فيها، إلا بشرٌ مثلكم، أرسله الله إليكم؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ [آل عمران: 144]، وقال: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، فلا تُمْعِنوا في إيذائه بمحاولة تعجيزه ومطالبته بما ليس من مهمته أو قدرته، أو قدرة الأنبياء قبله، وقد قلتم من قبل: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 90 - 93]، وسألتم أن ينزل الله معه ملَكًا: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ﴾ [الأنعام: 8]، ونزول ملَكٍ إليكم لا يكون إلا لدماركم، والانتقام منكم، وسألتم أن ينزل الله عليه آية، وقد أنزل عليه من الآيات، وأجرى على يديه من المعجزات أكثرَ مما سألتم، فلم تؤمنوا، ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 37].

 

لذلك أمَر الحقُّ سبحانه رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يوضِّحَ لهم ما التبس عليهم من أمر الرسالة والرسول؛ كي يَهلِكَ مَن هلَك عن بينة، ويَحْيَى مَن حَيِيَ عن بيِّنة، وقال له:

﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ﴾، والخزائن جمع خزانة، وهي المكان الذي يحرز فيه المال، عبر بها على سبيل الاستعارة عن واسع مُلك الله، وقدرتِه على خَلْق الأرزاق وربطها بأسبابها، وبالِغِ حكمتِه في تقديرها وتوزيعها وإعطائها؛ أي: قل يا محمد للمشركين في جوابك على اشتراطهم للإيمان بما أرسل به أن يوسِّعَ الله عليهم في الرزق، ويفيض عليهم خيرات الدنيا وأسباب السعادة: إن الأرض كلها والكون كله خزائنُ الله للأموال والأرزاق؛ قال تعالى: ﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 19 - 21]، كل ذلك بيدِه تعالى وحده، وليس بيد نبي أو رسول، أو ملاك أو جن وإنس، يتصرف عز وجل فيه كما يشاء، هو وحده مالك الملك، يؤتي وينزع، ويعطي ويمنع، ويُعِزُّ ويُذِلُّ.

 

﴿ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ وقل لِمن يعلِّقون إيمانهم بما تكشفه لهم من غيبٍ يفيدهم في جلب المنافع ودفع المضار: إني لا أعلم الغيب؛ لأن الغيب لله، لا يُطْلِع عليه إلا مَن ارتضاه مِن رسله، وعلى قدر حاجتهم إليه في النِّذارة والبِشارة، وتبليغ الرسالة؛ قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ [الجن: 26، 27].

 

لقد أمره ربُّه تعالى بأن يبيِّنَ للمشركين طبيعته البشرية، وينفي عن نفسه أيَّ صفة من صفات الألوهية، ويعترف بعبوديته وخضوعه لله عز وجل، ويُظهر العجز والضعف والافتقار إليه سبحانه، وأن ما يسألونه من الخوارق والمعجزات لا يكون إلا بإرادة الله وقدرته؛ كيلا يُفتَنوا به مِثلما فُتِن النصارى بعيسى عليه السلام، واليهود بعزير؛ إذ زعموه ابن الله - تعالى اللهُ عن ذلك علوًّا كبيرًا.

 

ثم أمره تعالى بأن يميز نفسه عن الملائكة، صرفًا للمشركين عن فتن الوساوس والتخيلات، وهلوسات الشياطين، بقوله عقب ذلك:

﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ ولا أدعي صفة من صفات الملائكة؛ لأن الملائكة خلقٌ لله، متميِّز عن البشر؛ كلَّفهم ربُّهم بما يناسب طبيعتهم وما رُصِدوا له، ومن سنَّته تعالى أن يبعَثَ للبشر بشرًا مثلهم، يعيشون بينهم، فيطمئنُّون إلى بشريَّتهم، ويتخذونهم قدوة طيبة وأسوة حسنة في الاعتقاد والعبادة والمعاملة، وهذا ما بيَّنه جميع الرسل لأقوامهم على مدار التاريخ الرسالي: ﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [إبراهيم: 11]؛ من نوحٍ عليه السلام وقد قال لقومه: ﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ [هود: 31] إلى محمد صلى الله عليه وسلم إذ أمره ربه تعالى بقوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [فصلت: 6]، وقوله: ﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 93]، وقوله صلى الله عليه وسلم عن نفسِه: ((إنما أنا بشرٌ أنسى كما تنسَون، فإن نسِيتُ فذكِّروني))، وقال: ((إنما أنا بشرٌ أرضى كما يرضى البشرُ، وأغضَبُ كما يغضَبُ البشَرُ)).

 

إن مضمون هذه الآية كله في الرد على مَن سأل مِن المشركين نزولَ آية، أو نزولَ ملَكٍ مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو اشتَرَط جنَّةً أو كنزًا في الأرض، أو نحو ذلك؛ لذلك أُمِر الرسولُ صلى الله بأن يبين لهم حدود ما وكِّل به، وعلاقتَه بما يوحى إليه من القرآن الكريم وتشريعاته وأوامره ونواهيه بقوله عقب ذلك:

﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾؛ أي: قل لهم: إني لا أتبع إلا تعاليمَ الوحي من الله تعالى في القرآن؛ عقيدةً وشريعة، وعبادةً وسلوكًا، أعمل بها وأبلِّغها، وأكون فيها قدوةً حسنة وأسوة طيبة للمؤمنين، وليس لي أن أغيِّرَ بالزيادة أو النقص أو التحريف أو الكتمان، كما ليس لِمَن بلَغه الوحيُ إلا أن يتدبَّرَه بتبصُّر، ويتفكر فيه بقلب سليم؛ كي يهتديَ إلى الحق، فتسلَمَ له دنياه وأخراه، فمَن فعل واتَّبع مثلي كان مبصرًا للحق في جميع أمره، ومن لم يفعَلْ كان في الضلالة أعمى، والأعمى والبصير لا يستويان ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾ هل يستوي في الرؤية الأعمى والمبصر؟، وهل يستوي الغافل المُصِرُّ على غباوته والذكي الفَطِن حديدُ العقل والفؤاد؟ وهل يستوي مَن ضلَّ وأشرَك واتبع الأهواء ومَن اهتدى واتبع الوحيَ من ربِّه؟

 

إن القرآن الكريم نورٌ من الله عز وجل، لا يراه إلا ذوو البصائر النافذة، والقلوب النيِّرة؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 174]، وقال: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]، فمَن أبصَر الحقَّ واتبَعه فاز، ومَن عَمِيَ عن الحق ضلَّ وخسِر؛ ولذلك جاء التحضيضُ على التفكُّر والتدبُّر عقب ذلك بقوله تعالى: ﴿ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ﴾ هلَّا فكَّرتم في حال الأعمى والمبصر، وفهمتم ما جاءكم مِن ربِّكم فآمنتم؟!

 

وفي عموم هذه الآية الكريمة دليلٌ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحكُمُ برأيِه أبدًا، وإنما أقوالُه وأفعاله وتقريراته أمرٌ من ربه متبع، وسنَّة للمؤمنين به واجبة، بدليل قوله تعالى أيضًا: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 203]، وقوله عز وجل: ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 2]، وقوله سبحانه: ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [الحاقة: 44 - 47].

 

ثم اتَّجَه الوحيُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعلِّمه كيف يدعو، ومَن يدعو، ويُخبِرُه بصفات المؤهَّلين لقَبول النِّذارة والبِشارة، بقوله تعالى عقِب ذلك:

﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ ﴾ أنذِرْ بما أُنزل إليك من الوحيِ ﴿ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ﴾ الذين يتفكَّرون فيما أُنزل عليهم من ربهم، ويخافون عاقبةَ أمرهم، ويعرِفون مآلهم في الآخرة؛ حشرًا وحسابًا وجزاءً بالحسنى أو السوءى، جنَّةً أو نارًا، ﴿ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ ﴾ لا يُشركون مع الله أحدًا، ولا يوالون معه أو مِن دونه ندًّا، ولا ينتظرون من مخلوق نفعًا ولا ضرًّا، ولا يستشفعون بغيره أبدًا؛ ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ كي يحذَروا العاقبةَ وسوء المصير، فيجتنبوا الشرك ظاهرًا وخفيًّا، ويحتاطوا لأنفسهم فيتقوا ربَّهم، ويفوزوا بخيريِ الدنيا والآخرة.



[1] لولا لها موضعان: أحدهما يمتنع بها الشيء لوجود غيره، ومن الامتناع قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ ﴾ [الحج: 40]، وثانيهما إذا لم يكن لها جواب، بمعنى: "هلَّا" للتحضيض؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾ [الأنعام: 43]، وقوله: ﴿ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ﴾ [الأنعام: 8]، وقوله: ﴿ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي ﴾ [المنافقون: 10]، وقوله: ﴿ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ﴾ [البقرة: 118].

[2] العُتُلُّ: الفظُّ غليظُ الطبع، شديد الخصومة، الجوَّاظ: الشديدُ الصوت في الشرِّ، والمتكبِّر المختال، والجَعْظَرِيُّ: بفتح الجيم والظاء بينهما عين ساكنة، والراء في الآخر مكسورة: هو الذي يتمدَّحُ بما ليس فيه، أو ما ليس عنده.

[3] كان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمرُ يسُرُّه، قال: ((الحمدُ لله الذي بنعمتِه تتمُّ الصالحاتُ))، وإذا أتاه الأمرُ يكرَهُه قال: ((الحمدُ لله على كلِّ حالٍ))؛ أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"، والحاكم وصححه، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع".

[4] أصمَت الرجلُ فهو مصمَتٌ إذا أصيب بالصمتة وصار عاجزًا عن الكلام، والقُفْلٌ المُصمَتٌ: إذا أُبْهِمَ إغلاقُه، والبابٌ المُصمَتُ الذي لا يُفتَحُ.

[5] يتمعَّر: يتغيَّر غضبًا لله.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير سورة الأنعام للحافظ ابن حجر من فتح الباري
  • نفحات قرآنية .. في سورة الأنعام
  • الأوامر العملية في سورة الأنعام
  • في رحاب سورة الأنعام: الإعراض عن الحق إقبال على الباطل
  • من سورة الأنعام: منهج القرآن في إحياء الأمة وتنشئة أجيال الرواد
  • تأملات في سورة الأنعام (خطبة)
  • من سورة الأنعام: أبلغ الحق ولا عليك ممن كفر به
  • تفسير الآيتين الأولى والثانية من سورة الأنعام

مختارات من الشبكة

  • لطائف وإشارات حول السور والآي والمتشابهات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • معنى السورة لغة واصطلاحا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سور المفصل 212 - سورة الأعلى ج 1 - مقدمة لتفسير السورة(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • جدول متابعة الحفظ للأطفال(مقالة - موقع عرب القرآن)
  • مناسبة سورة الأنفال لسورتي البقرة وآل عمران(مقالة - آفاق الشريعة)
  • موهم التعارض بين القرآن والسنة: (دراسة نظرية تطبيقية) من أول سورة الفاتحة حتى نهاية سورة الأنعام(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • المناسبات في سورة الفرقان(مقالة - موقع أ.د. مصطفى مسلم)
  • ترجيحات الشنقيطي في أضواء البيان من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الأنعام جمعا ودراسة(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • مناسبة سورة الأنفال لسورة الأعراف(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة البروج(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 16/11/1446هـ - الساعة: 14:43
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب