• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    من آداب المجالس (خطبة)
    الشيخ عبدالله بن محمد البصري
  •  
    خطر الميثاق
    السيد مراد سلامة
  •  
    أعظم فتنة: الدجال (خطبة)
    د. محمد بن مجدوع الشهري
  •  
    فضل معاوية والرد على الروافض
    الدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري
  •  
    ما جاء في فصل الشتاء
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الرحمن، ...
    فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
  •  
    تفسير: (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    تخريج حديث: إذا استنجى بالماء ثم فرغ، استحب له ...
    الشيخ محمد طه شعبان
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    اختر لنفسك
    د. حسام العيسوي سنيد
  •  
    فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون (خطبة) - باللغة ...
    حسام بن عبدالعزيز الجبرين
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أحكام شهر ذي القعدة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / عقيدة وتوحيد
علامة باركود

الوكيل الكفيل جل جلاله

الوكيل الكفيل جل جلاله
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 15/12/2024 ميلادي - 13/6/1446 هجري

الزيارات: 681

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الوَكِيلُ - الكَفِيلُ جل جلاله

 

عَنَاصِرُ المَوْضُوع:

أوَّلًا: الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (الوَكِيلِ).

ثَانِيًا: الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (الكَفِيلِ).

ثَالِثًا: وُرُودُ الاسْمَيْنِ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ.

رَابِعًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.

خَامِسًا: ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذَيْنِ الاسْمَيْنِ.

سَادِسًا: المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ.

 

النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ: قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ:

أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:

1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً»؛ رواه البخاري.

 

2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ [1].

 

3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ [2].

 

4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.

 

5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة - عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ - لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً للهِ في بيتِ الله.

 

6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ [3].

 

7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ [4].

 

8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ [5].

 

9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ [6].

 

10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ - بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ - إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك(4).


11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها»؛ رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).

 

ثُمَّ قَدْ يَفْتَحِ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، مُتَّفَقٌ عَلَيه.

 

ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:

1- تَنْوِي تَعْرِيفَ المُسْلِمِينَ بِمَعَانِي اسْمَيِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى (الوَكِيلِ - وَالكَفِيلِ).

 

2- تَنْوِي غَرْسَ عَقِيدَةِ التَّوَكُّلِ فِي قُلُوبِ المُسْلِمِينَ.

 

3- تَنْوِي لَفْتَ نَظَرِ النَّاسِ إلَى أَنَّ الرِّزْقَ مِنَ الله وَحْدَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الكَفِيلُ بِعِبَادِهِ.

 

4- تَنْوِي حَثَّ المُسْلِمِينَ عَلَى الأَخْذِ بِالأَسَبَابِ مَعَ التَّوَكُّلِ واعْتِمَادِ القَلْبِ عَلَى الوَكِيلِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ.

 

أوَّلًا: الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (الوَكِيلِ):

الوَكِيلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ القَيِّمُ الكَفِيلُ الَّذِي تَكَفَّلَ بِأَرْزَاقِ العِبَادِ.

 

وَحَقِيقَةُ الوَكِيلِ أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بَأَمْرِ المَوْكُولِ إِلَيْهِ، يُقَالُ: تَوكَّلَ بِالأَمْرِ إِذَا ضَمِنَ القِيَامَ بِهِ، وَوَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى فُلاَنٍ أَيْ أَلجَأْتُهُ إِلَيْهِ واعْتَمَدْتُ فِيهِ عَلَيْهِ.

 

وَوَكَّلَ فُلاَنٌ فُلانًا إِذَا اسْتَكْفَاهُ أَمْرَهُ، إِمَّا ثِقَةً بِكِفَايَتِهِ أَوْ عَجْزًا عَنِ القِيَامِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، وَوَكِيلُكَ فِي كَذَا إِذَا سَلَّمْتَهُ الأَمْرَ وَتَرَكْتَهُ لَهُ وَفَوَّضْتَهُ إِلَيهِ واكْتَفَيْتَ بِهِ [7].

 

فَالتَّوَكُّلُ قَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى تَوَلِّي الإِشْرَافِ عَلَى الشَّيْءِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَتَعَهُّدِهِ؛ وَمِنْهُ مَا وَرَدَ عِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَوَكَّلَ لِي مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ لَحيَيْهِ، تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالجَنَّة» [8].

 

وَقَدْ يَأْتِي التَّوَكُّلُ بِمَعْنَى الاعْتِمَادِ عَلَى الغَيْرِ والرُّكُونِ إِلَيْهِ وَمِنْهُ مَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].

 

وَرُبَّمَا يُفَسَّرُ الوَكِيلُ بِالكَفِيلِ، وَالوَكِيلُ أَعَمُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ كَفِيلٍ وَكِيلٌ وَلَيْسَ كُلُّ وَكِيلٍ كَفِيلًا.

 

وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» [9].

 

وَالوَكِيلُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي تَوَكَّلَ بِالعَالَمِينَ خَلْقًا وَتَدْبِيرًا، وَهِدَايَةً وَتَقْدِيرًا، فَهُوَ المُتَوَكِّلُ بِخَلْقِهِ إِيجَادًا وَإِمْدَادًا كَمَا قَالَ -: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62]، وَقَالَ هُودٌ: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 56]، فَالوَكِيلُ الكَفِيلُ بِأَرْزَاقِ عِبَادِهِ وَمَصَالحِهِمْ[10].

 

وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَكِيلُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا اعْتِقَادَهُمْ فِي حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَخَرَجُوا مِنْ حَوْلِهِمْ وَطَوْلِهِمْ وَآمَنُوا بِكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ لاَ حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله، فَرَكَنُوا إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَجَعَلُوا اعْتِمَادَهُمْ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ حَيَاتِهِمْ، وَفَوَّضُوا إِلَيْهِ الأَمْرَ قَبْلَ سَعْيِهِمْ، وَاسْتَعَانُوا بِهِ حَالَ كَسْبِهِمْ، وَحَمَدُوهُ بِالشُّكْرِ بَعْدَ تَوْفِيقِهِمْ، وَالرِّضَا بِالمَقْسُومِ بَعْدَ ابْتِلَائِهِمْ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ المؤْمِنينَ: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [الأحزاب: 48]، وقال: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9] [11].

 

وَيَذْكُرُ ابْنُ القَيِّمِ أَنَّ تَوكِيلَ العَبْدِ رَبَّهُ يَكُونُ بِتَفْوِيضِهِ نَفْسَهُ إِلَيْهِ وَعَزْلِهَا عَنِ التَّصَرُّفِ إِلاَّ بِإذْنِهِ يَتَوَلَّى شُؤُونَ أَهْلِهِ وَوَلِيِّةِ، وَهَذَا هُوَ عَزْلُ النَّفْسِ عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَقِيَامُهَا بِالعُبُوِدِيَّةِ وَهُوَ مَعْنَى كَوْنُ الرَّبِّ وَكِيلُ عَبْدِهِ أَيْ كَافِيهِ وَالقَائِمُ بِأُمُورِهِ وَمَصَالِحِهِ؛ لِأَنَّهُ يَنُوبُ عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ، فَوَكَالَةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ أَمْرٌ وَتَعَبُّدٌ وإِحْسَانٌ لَهُ وَخَلْعَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ لَا عَنْ حَاجَةٍ مِنْهُ وَافْتِقَارٍ إِلَيْهِ، وَأَمَّا تَوْكِيلُ العَبْدِ رَبَّهُ فَتَسْلِيمٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ وَقِيَامٌ بِعُبُودِيَّتِهِ [12].

 

ثَانِيًا: الدَّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاِسْمِ (الكَفِيلِ):[13]

وَأَمَّا الكَفِيلُ فَهُوَ مِنْ كَفَلَهُ يَكْفُلُهُ وَكَفَّلَهُ إِيَّاهُ، وَالكَافِلُ: العَائِلُ، وَفِي التَّنْزِيلِ العَزِيزِ ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37] [14].

 

وَفِي الحَدِيثِ: «أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الجَنَّةِ، لَهُ وَلِغَيْرِهِ»، وَالكَافِلُ: القَائِمُ بِأَمْرِ اليَتِيمِ المُرَبِّي لَهُ، وَهُوَ مِنَ الكَفِيلِ الضَّمِينِ.

 

وَقَالَ ابِنُ الأَعْرَابِيِّ: «كَفِيلٌ وَكَافِلٌ، وَضَمِينٌ وَضَامِنٌ بِمَعْنَىً وَاحِدٍ».

 

وَفِي التَهْذِيبِ لِلأَزْهَرِيِّ: «وَأَمَّا الكَافِلُ فَهُوَ الَّذِي كَفَلَ إِنْسَانًا يَعُولُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ» [15].

 

ثَالِثًا: وُرُودُ الاسْمَيْنِ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ:

وَرَدَ (الوَكِيلُ) فِي القُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، مِنْهَا:

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، وَقَوْلُهُ: ﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [هود: 12].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [يوسف: 66].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 2].

 

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9].

 

وَأَمَّا (الكَفِيلُ) فَقَدْ جَاءَ مَرَّةً وَاحِدَةً:

فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91].

 

رَابِعًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى:

قَالَ الفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾: «كَفِيلًا بِمَا وَعَدَكَ» [16].

 

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾: يُقَالُ: «رَبًّا، وَيُقَالُ: كَافِيًا» [17].

 

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]: «كَفَانَا اللهُ، يَعْنِي: يَكْفِينَا اللهُ.

 

﴿ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ يَقُولُ: وَنِعْمَ المَوْلَى لِمَنْ وَلِيَهُ وَكَفَلَهُ، وَإِنَّمَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ (الوَكِيلَ) فِي كَلَامِ العَرَبِ هُوَ: المُسْنَدُ إِلَيْهِ القِيَامُ بِأَمْرِ مَنْ أَسْنَدَ إِلَيْهِ القِيَامَ بِأَمْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ القَومُ الذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الآيَاتِ قَدْ كَانُوا فَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى الله، وَوَثَقُوا بِهِ، وَأَسْنَدُوا ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَصَفَ نَفْسَهُ بِقِيَامِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَتَفْوِيضِهِمْ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ بِالوَكَالَةِ، فَقَالَ: وَنِعْمَ الوَكِيلُ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ» [18].

 

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81]: «وَتَوَكَّلْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى الله، يَقُولُ: وَفَوِّضْ أَنْتَ أَمْرَكَ إِلَى الله، وَثِقْ بِهِ فِي أُمُورِكَ، وَوَلِّهَا إِيَّاهُ.

 

﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ يَقُولُ: وَكَفَاكَ اللهُ، أَيْ: وَحَسْبُكَ بِالله وَكِيلًا، أَيْ: فِيمَا يَأْمُرُكَ، وَوَلِيًّا لَهَا وَدَافِعًا عَنْكَ وَنَاصِرًا» [19].

 

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102]: «وَاللهُ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَ مِنْ شَيْءٍ رَقِيبٌ وَحَفِيظٌ، يَقُومُ بِأَرْزَاقِ جَمِيعِهِ وَأَقْوَاتِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَتَصْرِيفِهِ بِقُدْرَتِهِ» [20].

 

وَقَالَ الخَطَّابِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ الفَرَّاءِ أَنَّهُ (الكَافِي): «وَيُقَالُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الكَفِيلُ بِأرْزَاقِ العِبَادِ، وَالقَائِمِ عَلَيْهِمْ بِمَصَالِحِهِمْ.

 

وَحَقِيقَتُهُ: أَنَّهُ الَّذِي يَسْتَقِلُّ بِالأَمْرِ المَوْكُولِ إِلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا قَولُ المُسْلِمِينَ ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾؛ أي: نِعْمَ الكَفِيلُ بِأُمُورِنَا القَائِمُ بِهَا» [21].

 

 

وَقَالَ أَبُوْ عَبْدِ الله الحُلَيْمِيُّ: «(الوَكِيلُ) وَهُوَ: المُوَكَّلُ وَالمُفَوَّضُ إِلَيْهِ عِلْمًا بِأَنَّ الخَلْقَ وَالأَمْرَ لَهَ، لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا» [22].

 

فَيَتَلَخَّصُ فِي (الوَكِيلِ) ثَلَاثَةُ مَعَانٍ:

1- الكَفِيلُ.

2- الْكَافِي.

3- الحَفِيظُ.

 

وَأَمَّا (الكَفِيلُ):

فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ﴾ [النحل: 91]: «وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ بِالوَفَاءِ بِمَا تَعَاقَدْتُمْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ رَاعِيًا، يَرْعَى المُوفِي مِنْكُمْ بِعَهْدِ الله الَّذِي عَاهَدَ عَلَى الوَفَاءِ بِهِ وَالنَّاقِضِ» [23].

 

وَسَاقَ بِسَنَدِهِ إِلَى مُجَاهِدٍ فِي مَعْنَى (كَفِيلًا) قَالَ: «وَكِيلًا» [24].

 

وَقَالَ الحُلَيْمِيُّ: «(الكَفِيلُ) وَمَعْنَاهُ: المُتَقَبِّلُ لِلْكِفَايَاتِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ وَكَفَالَةٍ [25] كَكَفَالَةِ الواحِدِ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لمَّا خَلَقَ المُحْتَاجَ وَأْلْزَمَهُ الحَاجَةَ، وَقَدَّرَ لَهُ البَقَاءَ الَّذِي لاَ يَكُونُ إِلَّا مَعَ إِزَالَةِ العِلَّةِ، وَإِقَامَةِ الكِفَايَةِ، لَمْ يُخْلِهِ مِنْ إِيصَالِ مَا عُلِّقَ بَقَاؤُهُ بِهِ إِلَيْهِ، وَإِدْرَارِهِ فِي الأَوْقَاتِ والأَحْوَالِ عَلَيْهِ.

 

وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ رَبُّنا جَلَّ ثَنَاؤُهُ، إِذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ مُرْتَزِقٍ أَنْ يَرْزُقَ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَرْزُقُ الجَمَاعَةَ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ، وَالأَجِنَّةِ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا، وَالطِّيْرِ الَّتِي تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا، وَالهَوَامِّ وَالحَشَرَاتِ، وَالسِّبَاعِ فِي الفَلَوَاتِ» [26].

 

وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: «(كَفِيلًا) يَعْنِى: «شَهِيدًا، وَيُقَالُ: حَافِظًا، وَيُقَالُ: ضَامِنًا» [27].

 

خَامِسًا: ثَمَرَاتُ الإيمَانِ بِهَذَيْنِ الاسْمَيْنِ:

1- إنَّ اللهَ - هُوَ القَائِمُ بَأَمْرِ الخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ وَالمُتَكَفِّلُ بِرِزْقِهِمْ وَإِيصَالِهِ لَهُمْ، وَالرَّعَايَةِ لِمَصَالِحِهِمْ، وَمَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَهَذَا لاَبُدَّ يَتَضَمَّنُ أَوْصَافًا عَظِيمَةً مِنْ أَوْصَافِهِ كَحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ وَوَفَاءِ عَهْدِهِ، وَصِدْقِ وَعْدِهِ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَوْصَافِ الجَلِيلَةِ، اللَّائِقَةِ بِكَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ.

 

قَالَ القُرْطُبِيُّ: «فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا لَابُدَّ لَهُ مِنْهُ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الوَكِيلُ وَالكَفِيلُ المُتَوَكِّلُ بِإِيصَالِهِ إِلَى العَبْدِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ فَيَخْلُقُ لَهُ الشَّبَعَ وَالرِّيَّ، كَمَا يَخْلُقُ لَهُ الهِدَايَةَ فِي القُلُوبِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ سَبَبٍّ مَلَكٍ أَوْ غَيْرِهِ يُوَكَّلُ بِهِ» [28].

 

2- الفَرْقُ بَيْنَ وَكَالَةِ الخَالِقِ وَوَكَالَةِ المَخْلُوقِ:

بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الخَلْقَ قَدْ يُشْرَكُونَ مَعَ الخَالِقِ فِي بَعْضِ دَلَالَاتِ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى كَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالحَيَاةِ.. وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ.

 

وَلَكِنْ هَذَا لَا يَعْنِي التَّشَابُهَ فِي الصِّفَاتِ لِمُجَرَّدِ الاشْتِرَاكِ فِي الأَسْمَاءِ فَأَيْنَ سَمْعُ الإِنْسَانِ مِنْ سَمْعِ الرَّحْمَنِ، وَأَيْنَ بَصَرُهُ مِنْ بَصَرِهِ، وَأَيْنَ عِلْمُهُ مِنْ عِلْمِهِ، وَأَيْنَ التُّرَابُ مِنْ رَبِّ الأَرْبَابِ.

 

وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الخَلْقِ قَدْ يَتَوَكَّلُ بِغَيْرِهِ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَاليَتَامَى والمَسَاكِينِ وَالأَرَامِلِ، فَلَا يَعْنِي هَذَا أَنَّهُ قَدْ شَابَهَ اللهَ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ، فإِنَّ هَذَا المُتَوَكِّلَ بِأَمْرِ غَيْرِهِ، هُوَ نَفْسُهُ مُحْتَاجٌ إِلَى رِزْقِ الله وَمَعُونَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ.

 

قَالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: «فَإِذَا عَلِمْتُمْ مَعْنَى (الوَكِيلِ) فَلِلَّهِ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَتُهُ العَلْيَاءُ، بِأَحْكَامٍ تَخْتَصُّ بِهِ أَرْبَعَة:

الأوَّل: انْفِرَادُهُ بِحِفْظِ الخَلْقِ.

الثَّانِي: انْفِرَادُهُ بِكِفَايَتِهِمْ.

الثَّالِث: قُدْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ.

الرَّابِع: إِنَّ جَمِيعَ الأَمْرِ، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، كُلُّ ذَلِكَ حَادِثٌ بِيَدِهِ».

 

ثُمَّ قَالَ: «المَنْزِلَةُ السُّفْلَى لِلْعَبْدِ وَلَهُ فِي ذَلِكَ ثَلاثَةُ أَحْكَامٍ:

أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنَ الأُمُورِ إِلَيْهِ لِتَحْصُلَ لَهُ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ وَيَرْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ شَغَبَ مَشَقَّةِ الوُجُوبِ..

 

الثَّانِي: أَنْ لَا يَسْتَكْثِرَ مَا يَسْألُ فَإِنَّ الوَكِيلَ غَنِيٌّ، وَلِهَذَا قِيلَ: مِنْ عَلَامَةِ التَّوْحِيدِ كَثْرَةُ العِيَالِ عَلَى بِسَاطِ التَّوَكُّلِ.

 

الثَّالِثُ: أَنَّكَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ وَكِيلَكَ غَنِيٌّ وَفِيٌّ قَادِرٌ مَلِيٌّ، فَأَعْرِضْ عَنْ دُنْيَاكَ وَأَقْبِلْ عَلَى عِبَادَةِ مَنْ يَتَوَلَّاكَ» [29].

 

وَنُضِيفُ بِأَنَّ الوَكِيلَ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى القِيَامِ بِأَمْرِ مُوَكِّلِهِ فِي وَقْتٍ وَعَاجِزًا عَنْهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ، غَنِيًّا فِي وَقْتٍ فَقِيرًا فِي آخَرَ، عَالِمًا بِشَيْءٍ جَاهِلًا بِغَيْرِهِ، حَيًّا فِي وَقْتٍ مَيِّتًا فِي غَيْرِهِ، وَاللهُ جَلَّ شَأْنُهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.

 

قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81].

 

وَقَالَ: ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 123].

 

وَقَالَ: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58].

 

وَقَالَ الغَزَّالِيُّ مُبَيِّنًا بَعْضَ الفُرُوقِ أَيْضًا: «(الوَكِيلُ) هُوَ المَوْكُولُ إِلَيْهِ الأُمُورُ، وَلَكِنِ المَوْكُولُ إِلَيْهِ يَنْقَسِمُ إِلَى:

(1) مَنْ وُكِلَ إِلَيْهِ بَعْضُ الأُمُورِ، وَذَلِكَ نَاقِصٌ.

 

(2) وَإِلَى مَنْ وُكِلَ إِلَيْهِ الكُلُّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى:

وَالمَوْكُولُ إِلَيْهِ يَنْقَسِمُ إِلَى:

(1) مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَوْكُولًا إِلَيْهِ لَا بِذَاتِهِ وَلَكِنْ بِالتَّوْكِيلِ وَالتَّفْوِيضِ، وَهَذَا نَاقِصٌ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ إِلَى التَّفْوِيضِ وَالتَّوْلِيَةِ.

 

(2) وَإِلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ بِذَاتِهِ أَنْ تَكُونَ الأُمُورُ مَوكُولَةً إِلَيْهِ، وَالقُلُوبُ مُتَوَكِّلَةً عَلَيْهِ، لَا بِتَوْلِيَةٍ وَتَفْوِيضٍ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الوَكِيلُ المُطْلَقُ.

 

وَالوَكِيلُ أَيْضًا يَنْقَسِمُ إِلَى:

(1) مَنْ يَفِي بِمَا يُوكَلُ إِلَيْهِ وَفَاءً تَامًّا مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ.

 

(2) وَإِلَى مَنْ لَا يَفِي بِالجَمِيعِ.

 

وَالوَكِيلُ المُطْلَقُ هُوَ الَّذِي الأُمُورُ مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَلِيٌّ بِالقِيَامِ بِهَا، وَفِيٌّ بِإتْمَامِهَا، وَذَلِكَ هُوَ اللهُ تَعَالَى فَقَطْ، وَقَدْ فَهِمْتَ مِنْ هَذَا مِقْدَارَ مَدْخَلِ العَبْدِ فِي هَذَا الاسْمِ [30].

 

3-وَلَيْسَ فِي إِجْرَاءِ هَذَا الاسْمِ عَلَى الله تَعَالَى نَقْصٌ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ البَعْضُ، مِنْ حَيْثُ مُبَاشَرَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لأَمْرِ الخَلَائِقِ وَمَا يُصْلِحُ حَالَهُمْ.

 

قَالَ ابْنُ الحَصَّارِ: «وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الاسْمَ نَقْصٌ لَا يَجُوزُ وَصْفُ الخَالِقِ بِهِ! وَهَذَا جَهْلٌ وَرَدٌّ لِلنُّصُوصِ، وَلَو عَلِمَ أَنَّ اخْتِرَاعَ الأَفْعَالِ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنَ الله وَحْدَهُ، وَأَنَّ مِنَ المُسْتَحِيلِ أَنْ يَنُوبَ عَنِ الله سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرُهُ، لَعَلِمَ وُجُوبَ اتِّصَافِهِ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الاسْمِ حَقِيقَةً، وَهُوَ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، فَمَنْ عَرَفَ اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ حُقَّ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَيُفَوِّضَ إِلَيْهِ جَمِيعَ شُؤُونِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المائدة: 11]» [31].

 

4- حَضَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَتَفْوِيضِ الأُمُورِ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ هَذَا مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ بِهِ، فَقَالَ: ﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، وقال: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84].

 

فَالتَوَكُّلُ إِذًا يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الإِيمَانِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ.

 

وَكَيْفَ لَا يَتَوَكَّلُ المُؤْمِنُ عَلَى الله وَهُوَ ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62].

 

وَهُوَ الكَافِي لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَفَوَّضَ أَمْرَهُ إلَيْهِ ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 171].

 

وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ مَحَبَّتِهِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الخَصْلَةِ فَقَالَ مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، وَوَعَدَهُمْ بِالأَجْرِ العَظِيمِ وَالثَّوَابِ الجَزِيلِ، فَقَالَ: ﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الشورى: 36].

 

وَحَرَّمَ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ التَّوَكُّلَ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ وَحْدَهُ حَسْبُهُمْ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، فَقَالَ: ﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 2].

 

وَقَالَ: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9].

 

وَقَالَ: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [الزمر: 38].

 

5- وَقَدْ بَلَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ الغَايَةَ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى الله تَعَالَى وَالإنَابَةِ لَهُ، وَتَفْوِيضِ الأُمُورِ إِلَيْهِ، وَقَدْ مَدَحَهُمْ رَبُّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173].

 

وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ يَقْصِدُونَهُمْ - وَذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ - فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ».

 

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ﴿ حَسْبُنَا اللُه وَنِعْمَ الوَكِيلُ ﴾، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ؛ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [32].

 

وَكَذَا مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي غَزْوَةِ الخَنْدَقِ مِنْ إِظْهَارِ التَّوَكُّلِ عَلَى الله وَتَسْلِيمِ الأَمْرِ لَهُ، وَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُمْ رَبُّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 22، 23].

 

6- ومِنْ عَجِيبِ مَا قَصَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائَيلَ فِي هَذَا البَابِ، مَا أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ: «ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرِائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائَتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِالله شَهِيدًا، قَالَ: فَائْتِنِي بِالكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِالله كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ عَلَى أَجَلٍ مُسَمَّى فَخَرَجَ فِي البَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكِبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكِبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبهِ ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْتُ كَفَى بِالله كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ كَفَى بِالله شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَإِنِّي جَهِدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكِبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكِبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكِبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا المَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَالله مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكِبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكِبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكِبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا» [33].

 

سَادِسًا: المَعَانِي الإيمَانِيَّةُ[34]:

التَّوَكُّلُ: كِلَةُ الأَمْرِ إِلَى مَالِكِهِ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ، وَهُوَ مِنْ أَصْعَبِ مَنَازِلِ العَامَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَوْهَى السُّبُلِ عِنْدَ الخَاصَّةِ؛ لِأَنَّ الحَقَّ تَعَالَى قَدْ وَكَّلَ الأُمُورَ كُلَّهَا إِلَى نَفْسِهِ، وَأَيْأَسَ العَالَمَ مِنْ مِلْكِ شَيْءٍ مِنْهَا.

 

قَوْلُهُ: «كِلَةُ الأَمْرِ إِلَى مَالِكِهِ»؛ أيْ: تَسْلِيمُهُ إِلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ.

 

«وَالتَعْوِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ»؛ أَيْ: الاعْتِمَادُ عَلَى قِيَامِهِ بِالأَمْرِ، وَالاسْتِغْنَاءُ بِفِعْلِهِ عَنْ فِعْلِكَ، وَبِإِرَادَتِهِ عَنْ إِرَادَتِكَ.

 

وَالوَكَالَةُ يُرَادُ بِهَا أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: التَّوْكِيلُ، وَهَوَ الاسْتِنَابَةُ وَالتَّفْوِيضُ.

 

وَالثَّانِي: التَّوَكُّلُ، وَهَوَ التَّعَرُّفُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنِ المُوَكِّلِ، وَهَذَا مِنَ الجَانِبَيْنِ، فإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُوَكِّلُ العَبْدَ وَيُقِيمُهُ فِي حِفْظِ مَا وَكَّلَهُ فِيهِ، وَالعَبدَ يُوَكِّلُ الرَّبَّ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.

 

فَأَمَّا وَكَالَةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 89].

 

قَالَ قَتَادَةُ: «وَكَّلْنَا بِهَا الأَنْبِيَاءَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ»، يَعْنِي قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ.

 

وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ العُطَارِدِيُّ: «مَعْنَاهُ إِنْ يَكْفُرْ بِهَا أَهْلُ الأَرْضِ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا أَهْلَ السَّمَاءِ وَهُمُ المَلَائِكَةُ».

 

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: «هُمُ الأَنْصَارُ أَهْلُ المَدِينَةِ».

 

وَالصَّوَابُ أَنَّ المُرَادَ مَنْ قَامَ بِهَا إِيمَانًا وَدَعْوَةً وَجِهَادًا وَنُصْرَةً، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ وَكَّلَهُمُ اللهُ بِهَا.

 

فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقُالَ: إِنَّ أَحَدًا وَكِيلُ الله؟

قُلْتُ: لَا؛ فَإِنَّ الوَكِيلَ مَنْ يَتَصَرَّفُ عَنْ مُوَكِّلِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، وَاللهُ ﻷ لَا نَائِبَ لَهُ، وَلَا يَخْلُفُهُ أَحَدٌ، بَلْ هُوَ الَّذِي يَخْلُفُ عَبْدَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ» [35].

 

عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُطْلَقَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَأَمُورٌ بِحِفْظِ مَا وَكَّلَهُ فِيهِ، وَرِعَايَتِهِ وَالقِيَامِ بِهِ.

 

وَأَمَّا تَوْكِيلُ العَبْدِ رَبَّهُ فَهُوَ تَفْوِيضُهُ إِلَيْهِ، وَعَزْلُ نَفْسِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ، وَإِثْبَاتِهِ لأَهْلِهِ وَوَلِيِّهِ. وَلِهَذَا قِيلَ فِي التَّوَكُّلِ: أَنَّهُ عَزْلُ النَّفْسِ عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَقِيَامُهَا بِالعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الرَّبِّ وَكِيلَ عَبْدِهِ: أَيْ كَافِيهِ وَالقَائِمُ بِأُمُورِهِ وَمَصَالِحِهِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ فِي التَّصَرُّفِ، فَوَكَالَةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ أَمْرٌ وَتَعَبُّدٌ وَإِحْسَانٌ لَهُ، وَخَلْعَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ، لَا عَنْ حَاجَةٍ مِنْهُ، وَافْتِقَارٍ إِلَيْهِ كَمُوَالَاتِهِ. وَأَمَّا تَوْكِيلُ العَبْدِ رَبَّهُ: فَتَسْلِيمٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَقِيَامٌ بِعُبُودِيَّتِهِ.

 

وَقَوْلُهُ: «وَهُوَ مِنْ أَصْعَبِ مَنَازِلِ العَامَّةِ عَلَيْهِمْ»؛ لِأَنَّ العَامَّةَ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ نُفُوسِهِمْ وَمَأْلُوفَاتِهِمْ، وَلَمْ يُشَاهِدُوا الحَقِيقَةَ الَّتِي شَهِدَهَا الخَاصَّةُ، وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ التَّوْكِيلَ فَهُمْ فِي رِقِّ الأَسْبَابِ؛ فَيَصْعُبُ عَلَيْهِمُ الخُرُوجُ عَنْهَا، وَخُلُوُّ القَلْبِ مِنْهَا، والاشْتِغَالُ بِمُلَاحَظَةِ المُسَبِّبِ وَحْدَهُ.

 

وَأَمَّا كَوْنُهُ «أَوْهَى السُّبُلِ عِنْدَ الخَاصَّةِ» فَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَجَلِّ السُّبُلِ عِنْدَهُمْ وَأَفْضَلِهَا، وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا.

 

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ البَابِ أَمْرُ الله رَسُولَهُ بِذَلِكَ، وَحَضُّهُ عَلَيْهِ هُوَ وَالمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ صلى الله عليه وسلم المُتَوَكِّلُ وَتَوَكُّلُهُ أَعْظَمُ تَوَكُّلٍ، وَقَدْ قَالَ اللهُ لَهُ: ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ [النمل: 79]، وَفِي ذِكْرِ أَمْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ مَعَ إِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الحَقِّ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الدِّينَ بِمَجْمُوعِهِ فِي هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ العَبْدُ عَلَى الحَقِّ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، وَاعْتِقَادِهِ وَنِيَّتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَكِّلًا عَلَى الله وَاثِقًا بِهِ. فَالدِّينُ كُلُّهُ فِي هَذَيْنِ المَقَامَيْنِ، وَقَالَ رُسُلُ الله وَأَنْبِيَاؤُهُ: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [إبراهيم: 12]، فَالعَبْدُ آفَتُهُ: إِمَّا مِنْ عَدَمِ الهِدَايَةِ، وَإِمَّا مِنْ عَدَمِ التَّوَكُّلِ، فَإِذَا جَمَعَ التَّوَكُّلَ إِلَى الهِدَايَةِ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ كُلَّهُ.

 

نَعَمْ، التَّوَكُّلُ عَلَى الله فِي مَعْلُومِ الرِّزْقِ المَضْمُونِ، والاشْتِغَالُ بِهِ عَنِ التَّوَكُّلِ فِي نُصْرَةِ الحَقِّ وَالدِّينِ مِنْ أَوْهَى مَنَازِلِ الخَاصَّةِ، أَمَّا التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فِيهِ وَفِي الخَلْقِ فَهَذَا تَوَكُّلُ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَوْهَى مَنَازِلِ الخَاصَّةِ؟

 

قَوْلُهُ: «لأَنَّ الحَقَّ قَدْ وَكَّلَ الأُمُورَ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَيْأَسَ العَالَمَ مِنْ مُلْكِ شَيْءٍ مِنْهَا».

 

جَوَابُهُ: أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ أَسْنَدَ إِلَى عِبَادِهِ كَسْبًا وَفِعْلًا وَإِقْدَارًا، وَاخْتِيَارًا، وَأَمْرًا وَنَهْيًا، اسْتَعْبَدَهُمْ بِهِ، وَامْتَحَنَ بِهِ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَمَنْ يُؤْثِرُهُ مِمَّنْ يُؤْثِرُ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ عَلَيْهِ فِيمَا أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَتَعَبَّدَهُمْ بِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ كَمَا يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ، وَكَمَا يُحِبُّ المُحْسِنِينَ، وَكَمَا يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَكَمَا يُحِبُّ التَّوَابِينَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ كِفَايَتَهُ لَهُمْ مَقْرُونَةٌ بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ كَافٍ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَحَسْبُهُ، وَجَعَلَ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ البِرِّ، وَمَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِهِ جَزَاءً مَعْلُومًا.

 

وَجَعَلَ نَفْسَهُ جَزَاءَ المُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ وَكِفَايَتُهِ؛ فَقَالَ: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2]، ﴿ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5]، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4]، ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]، ثُمَّ قَالَ فِي التَّوَكُّلِ: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].

 

فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الجَزَاءِ الَّذِي حَصَلَ لِلْمُتَوَكِّلِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ أَقْوَى السُّبُلِ عِنْدَهُ وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كَوْنُهُ وَكَلَ الأُمُورَ إِلَى نَفْسِهِ بِمُنَافٍ لَتَوَكُّلِ العَبْدِ عَلَيْهِ، بَلْ هَذَا تَحْقِيقُ كَوْنِ الأُمُورِ كُلِّهَا مَوْكُولَةً إِلَى نَفْسِهِ؛ لأَنَّ العَبْدَ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ مَعْرِفَةً صَارَتْ حَالُهُ التَّوَكُّلَ قَطْعًا عَلَى مَنْ هَذَا شَأْنُهُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الأُمُورَ كُلَّهَا مَوْكَولَةٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّ العَبدَ لَا يَمْلُكُ شَيْئًا مِنْهَا، فَهُوَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنِ اعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ، وَتَفْوِيضِهِ إِلَيْهِ، وَثِقَتِهِ بِهِ مِنَ الوَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ فَقْرِهِ، وَعَدَمِ مِلْكِهِ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ الأَمْرِ كُلِّهِ بِيَدِهِ وَإِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلُ يَنْشَأُ مِنْ هَذَينِ العِلْمَيْنِ.

 

فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ كُلُّهُ للهِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ؛ فَكَيْفَ يُوَكَّلُ المَالِكُ عَلَى مِلْكِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْتَنِيبُهُ فِيمَا هُوَ مِلْكٌ لَهُ دُونَ هَذَا المُوَكَّلِ؟ فَالخَاصَّةُ لمَّا تَحَقَّقُوا هَذَا نَزَلُوا عَنْ مَقَامِ التَّوَكُّلِ وَسَلَّمُوهُ إِلَى العَامَّةِ، وَبَقِيَ الخِطَابُ بَالتَّوَكُّلِ لَهُمْ دُونَ الخَاصَّةِ.

 

قِيلَ: لَمَّا كَانَ الأَمْرُ كُلُّهُ للهِ ﻷ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ، كَانَ تَوَكُّلُهُ عَلَى الله تَسْلِيمُ الأَمْرِ إِلَى مَنْ هُوَ لَهُ، وَعَزْلُ نَفْسِهِ عَنْ مُنَازَعَاتِ مَالِكِهِ وَاعْتِمَادُهُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَخُرُوجُهُ عَنْ تَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ، وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَكَوْنِهِ بِهِ، إِلَى تَصَرُّفِهِ بِرَبِّهِ، وَكَوْنِهِ بِهِ سُبْحَانَهُ دَونَ نَفْسِهِ، وَهَذَا مَقْصُودُ التَّوَكُّلِ.

 

وَأَمَّا عَزْلُ العَبْدِ نَفْسَهُ عَنْ مَقَامِ التَّوَكُّلِ فَهُوَ عَزْلٌ لَهَا عَنْ حَقِيقَةِ العُبُودِيَّةِ.

 

وَأَمَّا تَوَجُّهُ الخِطَابِ بِهِ إِلَى العَامَّةِ: فَسُبْحَانَ الله! هَلْ خَاطَبَ اللهُ بِالتَّوكُّلِ فِي كِتَابِهِ إِلَّا خَوَاصَّ خَلْقِهِ، وَأَقْرَبَهُمْ إِلَيْهِ، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَيْهِ؟ وَشَرَطَ فِي إِيمَانِهِم أَنْ يَكُونُوا مُتَوَكِّلِينَ، وَالمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ.

 

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الإِيمَانِ عِنْدَ انْتِفَاءِ التَّوَكُّلِ، فَمَنْ لَا تَوَكُّلَ لَهُ لَا إِيمَانَ لَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23].

 

وقال تعالى: ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122].

 

وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِ المُؤْمِنِينَ فِيمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.

 

وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ رُسُلِهِ بِأَنَّ التَّوَكُّلَ مَلْجَؤُهُمْ وَمَعَاذُهُمْ، وَأَمَرَ بِهِ رَسُولَهُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِع مِنْ كِتَابِهِ.

 

وَقَالَ: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 84، 85]، فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَوْهَى السُّبُلِ، وَهَذَا شَأْنُهُ؟ وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

 

التَّوَكُّلُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ:

قَالَ: «وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، كُلُّهَا تَسِيرُ مَسِيرَ العَامَّةِ.

 

الدَّرَجَةُ الأُولَى: التَّوَكُّلُ مَعَ الطَّلَبِ وَمُعَاطَاةِ السَّبَبِ عَلَى نِيَّةِ شَغْلِ النَّفْسِ بِالسَّبَبِ؛ مَخَافَةً، وَنَفْعِ الخَلْقِ، وَتَرْكِ الدَّعْوَى».

 

يَقُولُ: إِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَتَوَكَّلُ عَلَى الله وَلَا يَتْرُكُ الأَسَبَابَ، بَلْ يَتَعَاطَاهَا عَلَى نِيَّةِ شَغْلِ النَّفْسِ بِالسَّبَبِ؛ مَخَافَةَ أَنْ تَفْرُغَ فَتَشْتَغِلَ بِالهَوَى وَالحُظُوظِ، فَإِنْ لَمْ يَشْغَلْ نَفْسَهُ بِمَا يَنْفَعُهَا شَغَلَتْهُ بِمَا يَضُرُّهُ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الفَرَاغُ مَعَ حِدَّةِ الشَّبَابِ، وَمِلْكِ الجِدَةِ، وَمَيْلِ النَّفْسِ إِلَى الهَوَى، وَتَوَالِي الغَفَلَاتِ، كَمَا قِيلَ:

 

إنَّ الشَّبَابَ وَالفَرَاغَ وَالجِدَة
مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَة

وَيَكُونُ أيْضًا قِيَامُهُ بِالسَّبَبِ عَلَى نِيَّةِ نَفْعِ النَّفْسِ، وَنَفْعِ النَّاسِ بِذَلِكَ، فَيَحْصُلُ لَهُ نَفْعُ نَفْسِهِ وَنَفْعُ غَيْرِهِ.

 

وَأَمَّا تَضَمُّنُ ذَلِكَ لِتَرْكِ الدَّعْوَى؛ فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِالسَّبَبِ تَخَلَّصَ مِنْ إِشَارَةِ الخَلْقِ إِلَيْهِ، المُوجِبَةِ لِحُسْنِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، المُوجِبِ لِدَعْوَاهُ، فَالسَّبَبُ سَتْرٌ لِحَالِهِ وَمَقَامِهِ، وَحِجَابٌ مُسْبَلٌ عَلَيْهِ.

 

وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَشهَدَ بِهِ فَقْرُهُ وَذُلُّهُ، وَامْتِهَانُهُ امْتِهَانَ العَبِيدِ وَالفَعَلَةِ، فَيَتَخَلَّصَ مِنْ رُعُونَةِ دَعْوَى النَّفْسِ، فَإِنَّهُ إِذَا امْتَهَنَ نَفْسَهُ بِمُعْاطَاةِ الأَسْبَابِ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الأمْرَاضِ.

 

فَيُقَالُ: إِذَا كَانَتِ الأَسْبَابُ مَأَمُورًا بِهَا فَفِيهَا فَائِدَةٌ أَجَلُّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ، وَهِيَ المَقْصُوَدَةُ بِالقَصْدِ الأوَّلِ، وَهَذِهِ مَقْصُودَةٌ قَصْدَ الوَسَائِلِ، وَهِيَ القِيَامُ بِالعُبُودِيَّةِ وَالأَمْرِ الَّذِي خُلِقَ لَهُ العَبْدُ، وَأُرْسِلَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ الكُتُبُ، وَبِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَلَهُ وُجِدَتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ.

 

فَالقِيَامُ بِالأَسْبَابِ المَأْمُورِ بِهَا مَحْضُ العُبُودِيَّةِ، وَحَقُّ الله عَلَى عَبْدِهِ الَّذِي تَوَجَّهَتْ بِهِ نَحْوَهُ المَطَالِبُ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الثَّوابُ وَالعِقَابُ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

 

قَالَ: «الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: التَّوَكُّلُ مَعَ إِسْقَاطِ الطَّلَبِ، وَغَضِّ العَيْنِ عَنِ السَّبَبِ، اجْتِهَادًا لتَصْحِيحِ التَّوَكُّلِ، وَقَمْعًا لِشَرَفِ النَّفْسِ، وَتَفَرُّغًا إِلَى حِفْظِ الوَاجِبَاتِ».

 

قُوْلُهُ: «مَعَ إِسْقَاطِ الطَّلَبِ»؛ أَي مِنَ الخَلْقِ لَا مِنَ الحَقِّ، فَلَا يَطْلُبُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الكَلَامِ وَأَنْفَعِهِ لِلْمُرِيدِ؛ فَإِنَّ الطَّلَبَ مِنَ الخَلْقِ فِي الأَصْلِ مَحْظُوُرٌ، وَغَايَتُهُ أَنْ يُبَاحَ لِلضَّرُورَةِ، كَإِبَاحَةِ المَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَكَذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الطَّلَبُ وَالسُّؤَالُ.

 

َوسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي السُّؤَالِ: «هُوَ ظُلمٌ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وَظُلْمٌ فِي حَقِّ الخَلْقِ، وَظُلْمٌ فِي حَقِّ النَّفْسِ».

 

• أَمَّا فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الذُّلِّ لِغَيْرِ الله، وَإِرَاقَةِ مَاءِ الوَجْهِ لِغَيْرِ خَالِقِهِ، وَالتَعَوُّضِ عَنْ سُؤَالِهِ بِسُؤَالِ المَخْلُوقِينَ، وَالتَّعَرُّضِ لِمَقْتِهِ إِذَا سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ يَوْمَهُ.

 

• وَأَمَّا فِي حَقِّ النَّاسِ فَبِمُنَازَعَتِهِمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ بِالسُّؤَالِ، وَاسْتِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ، وَأَبْغَضُ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ يَسْأَلُهُمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَحَبُّ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ لَا يَسْأَلُهُمْ؛ فَإِنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحْبُوبَاتُهُمْ، وَمَنْ سَأَلَكَ مَحْبُوبَكَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لَمَقْتِكَ وَبُغْضِكَ.

 

• وَأَمَّا ظُلْمُ السَّائِلِ نَفْسَهُ: فَحَيْثُ امْتَهَنَهَا، وَأَقَامَهَا فِي مَقَامِ ذُلِّ السُّؤَالِ، وَرَضِيَ لَهَا بِذُلِّ الطَّلَبِ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ لَعَلَّ السَّائِلَ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَعْلَى قَدْرًا، وَتَرَكَ سُؤَالَ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، فَقَدْ أَقَامَ السَّائِلُ نَفْسَهُ مَقَامَ الذُّلِّ، وَأَهَانَهَا بِذَلِكَ، وَرَضِيَ أَنْ يَكُونَ شَحَّاذًا مِنْ شَحَّاذٍ مَثْلِهِ، فَإِنَّ مَنْ تَشَحذهُ فَهُوَ أَيْضًا شَحَّاذٌ مِثْلُكَ، وَاللهُ وَحْدَهُ الغَنِيُّ الحَمِيدُ.

 

فَسُؤَالُ المَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ سُؤَالُ الفَقِيرِ لِلْفَقِيرِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى كُلَّمَا سَأَلْتَهُ كَرُمْتَ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ عَنْكَ، وَأَحَبَّكَ، وَالمَخْلُوقُ كُلَّمَا سَأَلْتَهُ هُنْتَ عَلَيْهِ وَأَبْغَضَكَ وَمَقَتَكَ وَقَلَاكَ، كَمَا قِيلَ:

اللهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ
وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

وَقَبيحٌ بِالعَبْدِ المُرِيدِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِسُؤَالِ العَبِيدِ، وَهُوَ يَجِدُ عِنْدَ مَوْلَاهُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عَنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم تَسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: «أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ الله؟» وَكُنَّا حَدِيثِي عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ الله، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ الله؟» فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا، وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ الله، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ فَقَالَ: «أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الخَمْسِ - وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً - وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا»، قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ إِيَّاهُ [36].

 

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَزَالُ المَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحمٍ»[37].

 

وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ - وَهُوَ عَلَى المِنْبَر، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ المَسْأَلَةِ: «وَالْيَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَاليَدُ العُلْيَا: هِيَ المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى: هِيَ السَّائِلَةُ» [38].

 

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا فَإِنِّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» [39].

 

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المَسْأَلَةَ كد يكد بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي الأمْرِ الَّذِي لَابُدَّ مِنْهُ» [40]، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

 

وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: «مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِالله فَيُوشِكُ اللهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ» [41].

 

وَفِي السُّنَنِ وَالمُسْنَدِ عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَلَّا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، أَتَكَفَّلُ لَهُ بِالجَنَّةِ»، فَقُلْتُ: أَنَا، فَكَانَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا [42].

 

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ قَبِيصَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالةً، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، ورجلٌ أصابته حاجةٌ أو فاقةٌ حتى يتكلمَ ثلاثةٌ من ذَوِي الحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لقدْ حلَّت لَهُ المسألَةُ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ المَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ فَسُحْتٌ يَأَكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» [43].

 

فَالتَّوَكُّلُ مَعَ إِسْقَاطِ هَذَا الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ هُوَ مَحْضُ العُبُودِيَّةِ.

قَوْلُهُ: «وَغَضُّ العَيْنِ عَنِ التَّسَبُّبِ، اجْتِهَادًا فِي تَصْحِيحِ التَّوَكُّلِ».

 

مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُعْرِضُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالسَّبَبِ، لتَصْحِيحِ التَّوَكُّلِ بِامْتِحَانِ النَّفْسِ؛ لأَنَّ المُتَعَاطِيَ لِلسَّبَبِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ حَصَّلَ التَّوَكُّلَ، وَلَمْ يُحَصِّلْهُ لِثِقَتِهِ بِمَعْلُومِهِ، فإِذَا أَعْرَضَ عَنِ السَّبَبِ صَحَّ لَهُ التَّوَكُّلُ.

 

وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ: مَذْهَبُ قَوْمٍ مِنَ العُبَّادِ وَالسَّالِكينَ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ البَادِيَةَ بِلَا زَادٍ، وَيَرَى حَمْلَ الزَّادِ قَدْحًا فِي التَّوَكُّلِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ مَشْهُورَةٌ، وَهَؤُلَاءِ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِمْ وَإِلَّا فَدَرَجَتُهُمْ نَاقِصَةٌ عَنِ العَارِفِينَ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يُمْكِنُ بَشَرًا أَلْبَتَّةَ تَرْكُ الأَسْبَابِ جُمْلَةً.

 

فَهَذَا إِبْرَاهِيمُ الخَوَّاصُ كَانَ مُجَرَّدًا فِي التَّوَكُّلِ يُدَقِّقُ فِيهِ، وَيَدْخُلُ البَادِيَةَ بِغَيْرِ زَادٍ، وَكَانَ لَا تُفَارِقُهُ الإِبْرَةُ وَالخَيْطُ وَالرِّكْوَةُ وَالمِقْرَاضُ، فَقِيلِ لَهُ: لِمَ تَحْمِلُ هَذَا، وَأَنْتَ تَمْنَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: «مِثْلُ هَذَا لَا يُنْقِصُ مِنَ التَّوَكُّلِ؛ لِأَنَّ للهِ عَلَيْنَا فَرَائِضَ، وَالفَقِيرُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَرُبَّمَا تَخَرَّقَ ثَوبُهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِبْرَةٌ وَخُيُوطٌ تَبْدُو عَوْرَتُهُ، فَتَفَسَدُ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رِكْوَةٌ فَسَدَتْ عَلَيْهِ طَهَارَتُهُ، وَإِذَا رَأَيْتَ الفَقِيرَ بِلَا رِكْوَةٍ وَلَا إِبْرَةٍ وَلَا خُيُوطٍ فَاتَّهِمْهُ فِي صَلَاتِهِ».

 

أَفَلَا تَرَاهُ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ دِينُهُ إِلَّا بِالأَسْبَابِ؟ أَوَ لَيْسَتْ حَرَكَةُ أَقْدَامِهِ وَنَقْلِهَا فِي الطَّرِيقِ وَالاسْتِدْلَالِ عَلَى أَعْلَامِهَا - إِذَا خَفِيَتْ عَلِيْهِ - مِنَ الأَسْبَابِ؟

 

فَالتَّجَرُّدُ مِنَ الأَسْبَابِ جُمْلَةً مُمْتَنِعٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَحِسًّا.

 

نَعَمْ قَدْ تَعْرِضُ لِلصَّادِقِ أَحْيَانًا قُوَّةُ ثِقَةٍ بِالله، وَحَالٌ مَعَ الله تَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ كُلِّ سَبَبٍ مَفْرُوضٍ عَلَيْهِ، كَمَا تَحْمِلُهُ عَلَى إِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي مَوَاضِعِ الهَلَكَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الوَقْتُ بِالله لَا بِهِ، فَيَأْتِيهِ مَدَدٌ مِنَ الله عَلَى مُقْتَضَى حَالِهِ، وَلَكِنْ لَا تَدُومُ لَهُ هَذِهِ الحَالُ، وَلَيْسَتْ فِي مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ هَجْمَةً هَجَمَتْ عَلَيْهِ بِلَا اسْتِدْعَاءٍ فَحُمِلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا اسْتَدْعَى مِثْلَهَا وَتَكَلَّفَهَا لَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ.

 

وَفِي تِلْكَ الحَالِ إِذَا تَرَكَ السَّبَبَ يَكُونُ مَعْذُورًا لِقُوَّةِ الوَارِدِ، وَعَجْزِهِ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالسَّبَبِ، فَيَكُونُ فِي وَارِدِهِ عَوْنٌ لَهُ، وَيَكُونُ حَامِلًا لَهُ، فَإِذَا تَعَاطَى تِلْكَ الحَالَ بِدُونِ ذَلِكَ الوَارِدِ وَقَعَ فِي المُحَالِ.

 

وَكُلُّ تِلْكَ الحِكَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُحْكَى عَنِ القَومِ فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ حَصَلَتْ لَهُمْ أَحْيَانًا، لَيْسَتْ طَرِيقًا مَأْمُورًا بِسُلُوكِهَا، وَلَا مَقْدُورَةً، وَصَارتْ فِتْنَةً لِطَائِفَتَينِ:

• طَائِفَةٍ ظَنَّتْهَا طَرِيقًا وَمَقَامًا، فَعَمِلُوا عَلَيْهَا، فَمِنْهُمْ مَنِ انْقَطَعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الاسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا، بَلِ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ.

 

• وَطَائِفَةٍ قَدَحُوا فِي أَرْبَابِهَا، وَجَعَلُوهُم مُخَالِفِينَ لِلشَّرْعِ وَالعَقْلِ، مُدَّعِينَ لِأَنْفُسِهِم حَالًا أَكْمَلَ مِنْ حَالِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ قَطُّ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَا أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ الأَسْبَابِ، وَقَدْ ظَاهَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ دِرْعَينِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَمْ يَحْضُرُ الصَّفَّ قَطُّ عُرْيَانًا، كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَلَا مَعْرِفَةً، وَاسْتَأْجَرَ دَلِيلًا مُشْرِكًا عَلَى دِينِ قَوْمِهِ يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الهِجْرَةِ، وَقَدْ هَدَى اللهُ بِهِ العَالَمِينَ وَعَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَكَانَ إِذَا سَافَرَ فِي جِهَادٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ حَمَلَ الزَّادَ وَالمَزَادَ.

 

وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ أَولَو التَّوَكُّلِ حَقًّا، وَأَكْمَلُ المُتَوَكِّلِينَ بَعْدَهُمْ هُوَ مَنِ اشْتَمَّ رَائِحَةَ تَوَكُّلِهِمْ مِنْ مَسِيرَةٍ بَعِيدَةٍ، أَوْ لَحِقَ أَثَرًا مِنْ غُبَارِهِمْ، فَحَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَالُ أَصْحَابِهِ مَحَكُّ الأَحْوَالِ وَمِيزَانِهَا، بِهَا يُعْلَمُ صَحِيحُهَا مِنْ سَقِيمِهَا؛ فَإِنَّ هِمَمَهُمْ كَانَتْ فِي التَّوَكُّلِ أَعْلَى مِنْ هِمَمِ مَنْ بَعْدَهُمْ، فَإِنَّ تَوَكُّلَهُمْ كَانَ فِي فَتْحِ بَصَائِرِ القُلُوبِ، وَأَنْ يُعُبَدَ اللهُ فِي جَمِيعِ البِلَادِ، وَأَنْ يُوَحِّدَ جَمِيعُ العِبَادِ، وَأَنْ تُشْرِقَ شُمُوسُ الدِّينِ الحَقِّ عَلَى قَلُوبِ العِبَادِ، فَمَلَؤُوا بِذَلِكَ التَّوَكُّلِ القُلُوبَ هُدَىً وَإِيمَانًا، وَفَتَحُوا بِلَادَ الكُفْرِ وَجَعَلُوهَا دَارَ إِيمَانٍ، وَهَبَّتْ رِيَاحُ رَوْحِ نَسَمَاتِ التَّوَكُّلِ عَلَى قُلُوبِ أَتْبَاعِهِمْ فَمَلَأَتْهَا يَقِينًا وَإِيمَانًا، فَكَانَتْ هِمَمُ الصَّحَابَةِ ي أَعْلَى وَأَجَلَّ مِنْ أَنْ يَصْرِفَ أَحَدُهُمْ قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ وَاعْتِمَادِهِ عَلَى الله فِي شَيْءٍ يَحْصُلُ بِأَدْنَى حِيلَةٍ وَسَعْيٍ فَيَجْعَلُهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ قُوَى تَوَكُّلِهِ.

 

قَوْلُهُ: «وَقَمْعًا لِشَرَفِ النَّفْسِ»، يُرِيدُ أَنَّ المُتَسَبِّبَ قَدْ يَكُونُ مُتَسَبِّبًا بِالوِلَايَاتِ الشَّرِيفَةِ فِي العِبَادَةِ، أَوِ التِّجَارَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَالأَسْبَابِ الَّتِي لَهُ بِهَا جَاهٌ وَشَرَفٌ فِي النَّاسِ، فَإِذَا تَرَكَهَا يَكُونُ تَرْكُهَا قَمْعًا لِشَرَفِ نَفْسِهِ، وَإِيثَارًا لِلتَّوَاضُعِ.

 

وَقَوْلُهُ: «وَتَفُّرُّغًا لِحفْظِ الوَاجِباتِ» أَيْ: يَتَفَرَّغُ بِتَرْكِهَا لِحِفْظِ وَاجِبَاتِهِ التِي تُزَاحِمُهَا تِلْكَ الأَسْبَابُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

 

قَالَ: «الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: التَّوَكُّلُ مَعَ مَعْرِفَةِ التَّوَكُّلِ النَّازِعَةِ إِلَى الخَلَاصِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ، وَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَلَكَةَ الحَقِّ تَعَالَى لِلأَشْيَاءِ هِيَ مَلَكَةُ عِزَّةٍ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مُشَارِكٌ، فِيَكِلُ شِرْكَتَهُ إِِلَيْهِ، فَإِنَّ مِنْ ضَرُوَرَةِ العُبُودِيَّةِ أَنْ يَعْلَمَ العَبْدُ أَنَّ الحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ مَالِكُ الأَشْيَاءِ وَحْدَهُ».

 

يُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مَتَى قَطَعَ الأسْبَابَ وَالطَّلَبَ، وَتَعَدَّى تَيْنِكَ الدَّرَجَتَيْنِ، فَتَوَكُّلُهُ فَوْقَ تَوَكُّلِ مَنْ قَبْلَهُ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بحَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ، وَأَنَّهُ دَونَ مَقَامِهِ، فَتَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِهِ وَبِحَقِيقَتِهِ نَازِعَةً - أَيْ بَاعِثَةٌ وَدَاعِيَةٌ - إلَى تَخَلُّصِهِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ، أَيْ لَا يَعْرِفُ عِلَّةَ التَّوَكُّلِ حَتَّى يَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ، فَحِينَئِذٍ يَعْرِفُ التَّوَكُّلَ المَعْرِفَةَ الَّتِي تَدْعُوهُ إِلَى التَّخَلُّصَ مِنْ عِلَّتِهِ.

 

ثُمَّ بَيَّنَ المَعْرِفَةَ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا عِلَّةُ التَّوَكُّلِ، فَقَالَ: «أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَلَكَةَ الحَقِّ لِلْأشْيَاءِ مَلَكَةُ عِزَّةٍ، أيْ: مَلَكَةُ امْتِنَاعٍ وَقُوَّةٍ وَقَهْرٍ، تَمْنَعُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي مِلْكِهِ لِشَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ مُشَارِكٌ، فَهُوَ العَزِيزُ فِي مُلْكِهِ، الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِي ذَرَّةٍ مِنْهُ، كَمَا هُوَ المُنْفَرِدُ بِعِزَّتِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مُشَارِكٌ».

 

فَالمُتَوَكِّلُ يَرَى أَنَّ لَهُ شَيْئًا قَدْ وَكَّلَ الحَقَّ فِيهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ صَارَ وَكِيلَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِحَقِيقَةِ الأَمْرِ؛ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الأَمْرِ مَعَ الله شَيْءٌ، فَلِهَذَا قَالَ: «لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ مُشَارِكٌ»، فَيَكِل شِرْكَتَهُ إِلَيْهِ، فَلِسَانُ الحَالِ يَقُولُ: لِمَنْ جَعَلَ الرَّبَ تَعَالَى وَكِيلَهُ: فِيمَ وَكَّلَتَ رَبَّكَ؟ أَفِيمَا هُوَ لَهُ وَحْدَهُ؟ أَوْ لَكَ وَحْدَكَ؟ أَوْ بَيْنَكُمَا؟ فَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مُمْتَنِعٌ بِتَفَرُّدِهِ بِالمُلْكِ وَحْدَهُ، وَالتَّوَكِيلُ فِي الأَوَّلِ مَمْتَنِعٌ، فَكَيْفَ تُوَكِّلُهُ فِيمَا لَيْسَ لَكَ مِنْهُ شَيءٌ أَلْبَتَّةَ؟

 

فَيْقَالُ: هَهُنَا أَمْرَانِ: تَوَكُّلٌ وَتَوْكِيلٌ؛ فَالتَوَكُّلُ: مَحْضُ الاعْتِمَادِ وَالثِّقَةِ، وَالسُّكُونِ إِلَى مَنْ لَهُ الأَمْرُ كُلُّهُ، وَعِلْمُ العَبْدِ بِتَفَرُّدِ الحَقِّ تَعَالَى وَحْدَهُ بِمُلْكِ الأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُشَارِكٌ فِي ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الكَوْنِ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ تَوَكُّلِهِ، وَأَعْظَمِ دَوَاعِيهِ.

 

فَإِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَبَاشَرَ قَلْبهُ حَالًا لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ اعْتِمَادِ قَلْبِهِ عَلَى الحَقِّ وَحْدَهُ، وَثِقَتِهِ بِهِ، وِسُكُونِهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ وَطُمَأْنِيَنتِهِ بِهِ وَحْدَهُ، لِعِلْمِهِ أَنَّ حَاجَاتِهِ وَفَاقاتِهِ وَضَرُورَاتِهِ، وَجَمِيعَ مَصَالِحِهِ كُلِّهَا بِيَدِهِ وَحْدَهُ، لَا بِيَدِ غَيْرِهِ، فَأََيْنَ يَجِدُ قَلْبُهُ مَنَاصًا مِنَ التَّوَكُّلِ بَعْدَ هَذَا؟

 

فَعِلَّةُ التَّوَكُّلِ حِينَئِذٍ التِفَاتُ قَلْبِهِ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ مُلْكِ الحَقِّ، وَلَا يَمْلُكُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَواتِ وَلَا فِي الأَرْضِ، هَذِهِ عَلَّةُ تَوَكُّلِهِ، فَهُوَ يَعْمَلُ عَلَى تَخْلِيصِ تَوَكُّلِهِ مِنْ هَذِهِ العِلَّةِ.

 

نَعَمْ، وَمَنْ عِلَّةٍ أُخْرَى: وَهِيَ رُؤْيَةُ تَوَكُّلِهِ؛ فَإِنَّهُ التِفَاتٌ إِلَى عَوَالِمِ نَفْسِهِ.

وَعِلَّةٌ ثَالِثَةٌ: وَهِيَ صَرْفُهُ قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ إِلَى شَيْءٍ غَيْرُهِ أَحَبَّ إِلَى الله مِنْهُ.

فَهَذِهِ العِلَلُ الثَّلَاثَ: هِيَ عِلَلُ التَّوْكِيلِ.

 

وَأَمَّا التَّوَكُّلُ: فَلَيْسَ المُرَادُ مِنْهُ إِلَّا مُجَردَ التَّفْوِيضِ، وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ مَقَامَاتِ العَارِفِينَ؛ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ» [44].

 

وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44]، فَكَانَ جَزَاءُ هَذَا التَّفْوِيضِ قَوْلَهُ: ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 45]، فَإِنْ كَانَ التَّوَكُّلُ مَعْلُولًا بِمَا ذَكَرَهُ، فَالتَفْوِيضُ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَلَيْسَ فَلَيْسَ.

 

وَلَوْلَا أَنَّ الحَقَّ للهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الله وَرَسُولِهُ، فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ، وَهُوَ عُرْضَةُ الوَهْمِ وَالخَطَأِ: لَمَا اعْتَرَضْنَا عَلَى مَنْ لَا نَلْحَقُ غَبَارَهُمْ، وَلَا نَجْرِي مَعَهُمْ فِي مِضْمَارهِمْ، وَنَرَاهُمْ فَوْقَنَا فِي مَقَامَاتِ الإيمَانِ، وَمَنَازِلِ السَّائِرِينَ، كَالنُجُومِ الدَّرَارِي، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُرْشِدْنَا إِلَيْهِ، وَمَنْ رَأَى فِي كَلَامِنَا زَيْغًا، أَوْ نَقْصًا وَخَطَأً، فَيَهْدِ إِلَيْنَا الصَّوَابَ، نَشْكُرْ لَهُ سَعْيَهُ، وَنُقُابِلْهُ بِالقَبُولِ وَالإِذْعَانِ والانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ، وَاللهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ المُوَفِّقُ [45].

 

التَّوَكُّلُ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَةِ:

قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، وَقَالَ: ﴿ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 122]، وَقَالَ: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3].

 

وَقَالَ عَنْ أَوْلِيَائِهِ: ﴿ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [الممتحنة: 4].

 

وَقَالَ لِرَسُولِهِ: ﴿ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الملك: 29]، وَقَالَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ [النمل: 79]، وَقَالَ لَهُ: ﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81]، وَقَالَ لَهُ: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58]، وَقَالَ لَهُ: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].

 

وَقَالَ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [إبراهيم: 12].

 

وَقَالَ عَنْ أَصْحَابِ نَبِيِّهِ: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، وَقَالَ: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، والقرآن مملوء من ذلك.

 

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الذِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، «هُمْ الذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»[46].

 

وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ: قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَُلقِي فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا لَهُ: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]» [47].

 

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلَتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِيَ، أَنْتَ الحَيُّ الذِي لَا يَمُوتُ، وَالجِنُّ وَالإنْسُ يَمُوتُونَ» [48].

 

وَفِي التِّرْمِذِي عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونْ عَلَى الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَيْرَ، تَغُدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» [49].

 

وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ - يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ - بِاسْمِ الله، تَوَكَّلْتُ عَلَى الله. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله، يُقَالُ لَهُ: هُدِيتَ وَوُقِيتَ وَكُفِيتَ. فَيَقُولُ الشَّيْطَانُ لِشَيْطَانٍ آخَرَ: كَيْفَ لَكَ بِرَجَلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟» [50].

 

التَّوَكُّلُ نْصِفُ الدِّينِ، وَالنِّصفُ الثَّانِي الإِنَابَةُ؛ فَإِنَّ الدِّينَ اسْتِعَانَة وَعِبَادَةٌ، فَالتَّوَكُّلُ هُوَ الاسْتِعَانَةُ، وَالإِنَابِةُ هِيَ العِبَادةُ.

 

وَمَنْزِلَتُهُ أَوْسَعُ المَنَازِلِ وَأَجْمَعُهَا، وَلَا تَزَالُ مَعْمُوَرةً بِالنَّازِلِينَ، لِسِعَةِ مُتَعَلَّقِ التَّوَكُّلِ، وَكَثْرَةِ حَوَائِجِ العَالَمِينَ، وَعَمُومِ التَّوَكُّلِ، وَوُقُوعِهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالكُفَّارِ، وَالأبْرَارِ وَالفُجَّارِ وَالطَّيْرِ وَالوَحْشِ وَالبَهَائِمِ، فَأَهْلُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ - المُكَلَّفُونَ وَغَيْرُهُمْ - فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَإِنْ تَبَايَنَ مُتَعَلَّقُ تَوَكُّلِهِم، فَأَوْلِيَاؤُهُ وَخَاصَّتُهُ يَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ فِي الإِيمَانِ، وَنُصْرَةِ دِينِهِ، وإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ، وَفِي مَحَابِّهِ وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ.

 

وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي اسْتِقَامَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَحِفْظِ حَالِهِ مَعَ الله، فَارِغًا عَنِ النَّاسِ. وَدُونَ هَؤُلاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي مَعْلُومٍ يَنَالُهُ مِنْهُ، مِنْ رِزْقٍ أَوْ عَافِيَةٍ، أوْ نَصْرٍ عَلَى عَدُوٍّ، أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

 

وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ الإِثِمِ وَالفَوَاحِشِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ المَطَالِبِ لَا يَنَالُونَهَا غَالِبًا إِلَّا بِاسْتِعَانَتِهِمْ بِالله، وَتَوَكُّلِهِم عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ تَوَكُّلُهَمْ أَقْوَى مِنْ تَوَكَّلِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الطَّاعَاتِ، وَلِهَذَا يُلْقُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي المَتَالِفِ وَالمَهَالِكِ، مُعْتَمِدِينَ عَلَى الله أَنْ يُسَلِّمَهُمْ، وَيُظَفِّرَهُمْ بِمَطَالِبِهِمْ.

 

فَأفْضَلُ التَّوَكُّلِ: التَّوَكُّلُ فِي الوَاجِبِ - أَعْنِي وَاجِبَ الحَقِّ، وَوَاجِبَ الخَلْقِ، وَوَاجِبَ النَّفْسِ - وَأَوْسَعُهُ وَأَنْفَعُهُ: التَّوَكُّلُ فِي التَأْثِيرِ فِي الخَارِجِ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ. أَوْ فِي دَفْعِ مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ، وَهُوَ تَوَكُّلُ الأَنْبِيَاءِ فِي إِقَامَةِ دِينِ الله، وَدَفْعِ فَسَادِ المُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ، وَهَذَا تَوَكُّلُ وَرَثَتِهِم، ثُمَّ النَّاسُ بَعْدُ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى حَسْبِ هِمَمِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ، فَمِنْ مُتَوَكِّلٍ عَلَى الله فِي حُصُولِ المُلْكِ، وَمِنْ مُتَوَكِّلٍ فِي حُصُولِ رَغِيفٍ.

 

وَمَنَ صَدَقَ تَوَكُّلَهُ عَلَى الله فِي حُصُولِ شَيءٍ نَالَهُ. فَإِنْ كَانَ مَحْبُوبًا لَهُ مُرْضِيًا كَانَتْ لَهُ فِيهِ العَاقِبَةُ المَحْمُودَةُ، وَإِنْ كَانَ مَسْخُوطًا مَبْغُوضًا كَانَ مَا حَصَلَ لَهُ بِتَوَكُّلِهِ مَضَرَّةً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا حَصُلَتْ لَهُ مَصْلَحَةُ التَّوَكُّلِ دُونَ مَصْلَحَةِ مَا تَوَكَّلَ فِيهِ، إِنْ لَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ عَلَى طَاعَاتِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

 

مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَدَرَجَاتُهُ:

قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: «التَّوَكُّلُ عَمَلُ القَلْبِ»، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، لَيْسَ بِقَوْلِ اللِّسَانِ، وَلَا عَمَلِ الجَوَارِحِ، وَلَا هُوَ مِنْ بَابِ العُلُومِ والإِدْرَاكَاتِ.

 

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ المَعَارِفِ وَالعُلُومِ؛ فَيَقُولُ: «هُوَ عِلْمُ القَلْبِ بِكِفَايَةِ الرَّبِّ لِلْعَبْدِ».

 

وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالسُّكُونِ، وُخُمُودِ حَرَكَةِ القَلْبِ؛ فَيقُولُ: «التَّوَكُّلُ هُوَ انْطِرَاحُ القَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، كَانْطِرَاحِ المَيِّتِ بَيْنَ يَدَيِ الغَاسِلِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَهُوَ تَرْكُ الاخْتِيارِ، وَالاسْتِرْسَالُ مَعَ مَجَارِي الأَقْدَارِ».

 

قَالَ سَهْلٌ: «التَّوَكُّلُ الاسْتِرْسَالُ مَعَ الله مَعَ مَا يُرِيدُ».

 

وَمِنْهُم مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالرِّضَا؛ فَيَقُولُ: «هُوَ الرِّضَا بِالمَقْدُورِ».

 

قَالَ بِشْرٌ الحَافِي: «يَقُولُ أَحَدُهُمْ: تَوَكَّلْتُ عَلَى الله، يَكْذِبُ عَلَى الله، لَوْ تَوَكَّلَ عَلَى الله، رَضِيَ بِمَا يَفْعَلُ اللهُ».

 

وَسُئِلَ يَحْيَى بنُ مُعَاذٍ: مَتَى يَكُونُ الرَّجُلُ مَتَوَكِّلًا؟ فَقَالَ: «إِذَا رَضِيَ بِالله وَكِيلًا».

 

وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالثَّقَةِ بِالله، وَالطُّمَأنِينَةِ إِلَيْهِ، وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ.

 

قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: «التَّوَكُّلُ أَلَّا يَظْهَرَ فِيكَ انْزِعَاجٌ إِلَى الأَسْبَابِ مَعَ شِدَّةِ فَاقَتِكَ إِلَيْهَا، وَلَا تَزُولُ عَنْ حَقِيقَةِ السُّكُونِ إِلَى الحَقِّ مَعَ وُقُوفِكَ عَلَيْهَا».

 

قَالَ ذُو النُّونِ: «هُوَ تَرْكُ تَدْبِيرِ النَّفْسِ، وَالانْخِلَاعُ مِنَ الحَوْلِ وَالقُوَّةِ، وَإِنَّمَا يَقْوَى العَبْدُ عَلَى التَّوَكُّلِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الحَقَّ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ وَيَرَى مَا هُوَ فِيهِ».

 

وَقَالَ بَعْضُهُم: «التَّوَكُّلُ التَّعَلُّقُ بِالله فِي كُلِّ حَالٍ».

 

وَقِيلَ: «التَّوَكُّلُ أَنْ تَرِدَ عَليْكَ مَوَارِدُ الفَاقَاتِ فَلَا تَسْمُو إِلَّا إِلَى مَنْ إِليهِ الكِفَايَاتُ».

 

وَقِيلَ: «نَفْيُ الشُّكُوكِ وَالتَفْوِيضُ إِلَى مَالِكَ المُلُوكِ».

 

وَقَالَ ذُو النُّونِ: «خَلْعُ الأَرْبَابِ وَقَطْعُ الأَسْبَابِ»، يُرِيدُ قَطْعَهَا مِنْ تَعَلُّقِ القَلْبِ بِهَا، لَا مِنْ مُلَابَسَةِ الجَوَارِحِ لَهَا.

 

وَمِنْهُمِ مَنْ جَعَلَهُ مُرَكَّبًا مِنْ أَمْرَيْنِ أَوْ أُمُورٍ؛ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخَرَّازُ: «التَّوكُّلُ اضْطِرَابٌ بِلَا سُكُونٍ، وَسُكُونٌ بِلَا اضْطِرَابٍ»، يُرِيدُ: حَرَكَةَ ذَاتِهِ فِي الأَسْبَابِ بِالظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ، وَسُكُونًا إِلَى المُسَبِّبِ، ورُكُونًا إِلَيهِ، وَلَا يَضطَرِبُ قَلْبُهُ مَعَهُ. وَلَا تَسْكُنُ حَرَكَتُهُ عَنْ الأَسْبَابِ المُوَصِّلَّةِ إِلَى رِضَاهُ.

 

وَقَالَ أَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ: «هُوَ طَرْحُ البَدَنِ فِي العُبُودِيَّةِ، وَتَعَلُّقُ القَلْبِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالطَّمَأْنِينَةُ إِلَى الكِفَايَةِ؛ فَإِنْ أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِنْ مُنِعَ صَبَرَ»، فَجَعَلَهُ مُرَكَّبًا مِنْ خَمْسَةِ أُمُورٍ: القِيَامِ بِحَرَكَاتِ العُبُودِيَّةِ، وَتَعَلُّقِ القلْبِ بِتَدْبِيرِ الرَّبِّ، وَسُكُونِهِ إِلَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَطُمَأْنِينَتِهِ وَكِفَايَتِهِ لَهُ، وَشُكْرِهِ إِذَا أُعْطِيَ، وَصَبْرِهِ إِذَا مُنِعَ.

 

قَالَ أَبُو يَعْقُوبٍ النَّهْرَجُورِيُّ: «التَّوَكُّلُ عَلَى الله بِكَمَالِ الحَقِيقَيةِ، كَمَا وَقَعَ لإِبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ؛ فِي الوَقْتِ الذِي قَالَ لجِبْرِيلَ؛: «أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا»؛ لأَنَّهُ غَائِبٌ عَنْ نَفْسِهِ بِالله، فَلَمْ يَرَ مَعَ الله غَيرَ الله.

 

وَأَجْمَعَ القَوْمُ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يُنَافِي القِيَامَ بِالأَسْبَابِ، فَلَا يِصِحُّ التَّوَكُّلُ إِلَّا مَعَ القِيَامِ بِهَا وَإِلَّا فَهُوَ بَطَالَةٌ وَتَوَكُّلٌ فَاسِدٌ.

 

قَالَ سَهْلٌ بْنُ عَبْدِ الله: «مَنْ طَعَنَ فِي الحَرَكَةِ فَقَدْ طَعَنَ فِي السُّنَّةِ، وَمَنْ طَعَنَ فِي التَّوَكُّلِ فَقَدْ طَعَنَ فِي الإِيمَانِ».

 

فَالتَّوَكُّلُ حَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالكَسْبُ سُنَّتُهُ، فَمَنْ عَمَلَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَتْرُكَنَّ سُنَّتَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ هُوَ اضْطِرَابٌ بِلَا سُكُونٍ، وَسُكُونٌ بِلَا اضْطِرَابٍ وَقَوْلُ سَهْلٍ أَبْيَنُ وَأَرْفَعُ.

 

وَقِيلَ: «التَّوَكُّلُ قَطْعُ عَلَائِقِ القَلْبِ بِغَيْرِ الله».

 

وَسُئِلَ سَهْلٌ عَنِ التَّوَكُّلِ؛ فَقَالَ: «قَلْبٌ عَاشَ مَعَ الله بِلَا عَلَاقَةٍ».

 

وَقِيلَ: «التَّوَكُّلُ هَجْرُ العَلَائِقِ، وَمُوَاصَلَةُ الحَقَائِقِ».

 

وَقِيلَ: «التَّوَكُّلُ أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَكَ الإِكْثَارُ وَالإِقْلَالُ»؛ وَهَذَا مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَآثَارِهِ، لأَنَّهُ حَقِيقَتُهُ.

 

وَقِيلَ: «هُوَ تَرْكُ كُلِّ سَبَبٍ يُوصِلُكَ إِلَى مُسَبَّبٍ، حَتَّى يَكُونَ الحَقُّ هُوَ المُتَوَلِّي لِذَلِكَ»، وَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ وَجْهٍ، بَاطِلٌ مِنْ وَجْهٍ؛ فَتَركُ الأَسْبَابِ المَأَمُورِ بِهَا قَادِحٌ فِي التَّوَكُّلِ، وَقَدْ تَوَلَّى الحَقُّ إِيصَالَ العَبْدِ بِهَا، وَأَمَّا تَرْكُ الأسْبَابِ المُبَاحَةِ فَإِنَّ تَرْكَهَا لِمَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهَا مَصْلَحَةً فَمَمْدُوحٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَذْمُومٌ.

 

وَقِيلَ: «هُوَ إِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي العُبُودِيَّةِ، وَإِخْرَاجُهَا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ»، يُرِيدُ اسْتِرْسَالَهَا مَعَ الأَمْرِ، وَبَرَاءَتَهَا مِنْ حَوْلِهَا وَقُوَّتِهَا، وَشُهُودَ ذَلِكَ بِهَا، بَلْ بِالرَّبِّ وَحْدَهُ.

 

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: «التَّوَكُّلُ هُوَ التَّسْلِيمُ لأَمْرِ الرَّبِّ وَقَضَائِهِ».

 

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: «هُوَ التَّفْوِيضُ إِليْهِ فِي كُلِّ حَالٍ».

 

وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ التَّوَكُّلَ بِدَايَةً، وَالتَّسْلِيمَ وَاسِطَةً، وَالتَّفْوِيضَ نِهَايَةً؛ قَالَ أَبُو عَليٍّ الدَّقَّاقُ: «التَّوَكُّلُ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ: التَّوَكُّلُ، ثُمَّ التَّسْلِيمُ، ثُمَّ التَّفْوِيضُ؛ فَالمُتَوَكِّلُ يَسْكُنُ إِلَى وَعْدِهِ، وَصَاحِبُ التَّسْلِيمِ يَكْتَفِي بِعِلْمِهِ، وَصَاحِبُ التَّفْوِيضِ يَرْضَى بِحُكْمِهِ، فَالتَّوَكُّلُ بِدَايَةٌ، وَالتَّسْلِيمُ وَاسِطَةٌ، وَالتَّفْوِيضُ نِهَايَةٌ، فَالتَّوَكُّلُ صِفَةُ المُؤْمِنِينَ، وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ الأَوْلِيَاءِ، وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ المُوَحِّدِينَ، التَّوَكُّلُ صِفَةُ العَوَامِ، وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ الخَوَاصِّ، وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ خَاصَّةِ الخَاصَّةِ، التَّوَكُّلُ صِفَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَالتَّسْلِيمُ صِفَةُ إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ، وَالتَّفْوِيضُ صِفَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ»، هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الدَّقَّاقِ.

 

وَمَعْنَى هَذَا التَّوَكُّلِ: اعْتِمَادٌ عَلَى الوَكِيلِ، وَقَدْ يَعْتَمَدُ الرَّجُلُ عَلَى وَكِيلِهِ مَعَ نَوْعِ اقْتِرَاحٍ عَلَيْهِ، وَإِرَادَةٍ وَشَائِبَةِ مُنَازَعَةٍ، فَإِذَا سَلمَ إِلَيهِ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ، وَرَضيَ بِمَا يَفْعَلُهُ وَكِيْلُهُ، وَحَالُ المُفَوِّضِ فَوْقَ هَذَا فَإِنَّهُ طَالبٌ مُرِيدٌ مِمَّنْ فَوَّضَ إِلَيهِ، مُلْتَمِسٌ مِنْهُ أَنْ يَتَوَلَّىِ أُمُورَهُ، فَهُوَ رِضًا وَاخْتِيَارٌ، وَتَسْلِيمٌ وَاعْتِمَادٌ فَالتّوَكُّلُ يَنْدَرِجُ فِي التَّسْلِيمِ، وَهُوَ وَالتَّسْلِيمُ يَنْدَرِجَانِ فِي التَّفْويضِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

 

وَحَقِيقَةُ الأَمْرِ: أَنَّ التَّوكُّلَ حَالٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مَجْمُوعِ أُمُورٍ، لَا تَتِمُّ حِقَيقَةُ التَّوَكُّلِ إِلَّا بِهَا، وَكُلٌّ أَشَارَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ، أَوِ اثْنَينِ أوْ أَكْثرَ.

 

فَأَوَّلُ ذَلِكَ مَعْرِفَةٌ بِالرَّبِّ وَصِفَاتِهِ؛ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَكِفَايَتِهِ، وَقَيُّومِيَّتِهِ، وانْتِهَاءِ الأُمُورِ إِلَى عِلْمِهِ، وَصُدُورِهَا عَنْ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَهَذِهِ المَعْرِفَةُ أَوَّلُ دَرَجَةٍ يَضَعُ بِهَا العَبْدُ قَدَمَه فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ.

 

قَالَ شَيْخُنَا رضي الله عنه: «وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ فَيْلَسْوفٍ، وَلَا مِنَ القَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ القَائِلينَ بِأنَّهُ يِكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا مِنَ الجَهْمِيَّةِ النُّفَاةِ لِصِفَاتِ الرَّبِ عز وجل وَلَا يِسْتَقِيمُ التَّوَكُّلُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الإثْبَاتِ».

 

فَأَيُّ تَوَكُّلٍ لِمَنْ يَعْتقِدُ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ جُزَيْئَاتِ العَالَمِ سُفْلِيِّهِ وَعُلْوِيِّهِ؟ وَلَا هُوَ فَاعِلٌ بِاخْتِيارِهِ؟ وَلَا لَهُ إِرَادَةٌ وَمَشِيَئِةٌ، وَلَا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ؟ فَكُلُّ مَنْ كَانَ بِالله وَصِفَاتِهِ أَعْلَمَ وَأَعْرَفَ كَانَ تَوَكُّلُهُ أَصَحَّ وَأَقْوَى، وَاللهُ أَعْلَمُ.

 

الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِثْبَاتٌ فِي الأسْبَابِ والمُسَبِّبَاتِ.

 

فَإِنَّ مَنْ نَفَاهَا فَتَوَكُّلهُ مَدْخُولٌ، وَهَذَا عَكْسُ مَا يَظْهَرُ فِي بَدَوَاتِ الرَّأْيِ: أَنَّ إِثْبَاتَ الأسْبَابِ يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، وَأنَّ نَفْيَهَا تَمَامُ التَّوَكُّلِ.

 

فَاعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الأسْبَابِ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ تَوَكُّلٌ البَتَّةَ؛ لأَنَّ التَّوَكُّلَ مِنْ أَقْوَى الأَسْبَابِ فِي حُصُولِ المُتَوَكَّلِ فِيهِ، فَهُوَ كَالدُعَاءِ الذِي جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا فِي حُصُولِ المَدْعُوِّ بِهِ، فَإِذَا اعْتَقَدَ العَبْدُ أَنَّ تَوَكُّلهُ لَمْ يَنْصِبْهُ اللهُ سَبَبًا، وَلَا جَعَلَ دُعَاءَهُ سَبَبًا لِنَيْلِ شَيْءٍ؛ فَإِنَّ المُتَوَكَّلَ فِيهِ المَدْعُوَّ بِحُصُولِهِ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ حَصَلَ، تَوَكَّلَ أَوْ لَمْ يَتَوَكَّلْ، دَعا أَوْ لَمْ يَدْعُ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَمْ يَحْصُلْ تَوَكُّلٌ أَيْضًا أَوْ تَرَكَ التَّوَكُّلَ.

 

وَصَرَّحَ هَؤُلاءِ أَنَّ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ عُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ، لَا فَائِدَةَ لَهُمَا إِلَّا ذَلِكَ، وَلَوْ تَرَكَ العَبْدُ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ مَا فَاتَهُ شَيءٌ مِمَّا قُدِّرَ لَهُ، وَمِنْ غُلَاتِهِم مَنْ يَجْعَلُ الدُّعَاءَ بِعَدَمِ المُؤَاخَذَةِ عَلَى الخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ عَدِيمَ الفَائِدَةِ، إِذْ هُوَ مَضْمُونُ الحُصُولِ.

 

وَرَأَيْتُ بَعْضَ مُتَعَمِّقِي هَؤُلَاءِ - فِي كَتَابٍ لَهُ - لَا يُجَوِّزُ الدُّعَاءَ بِهَذَا، وَإِنَّمَا يُجَوِّزُهُ تِلَاوَةً لَا دُعَاءً، قَالَ: «لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِهِ يَتَضَمَّنُ الشَّكَّ فِي وُقُوعِهِ؛ لأَنَّ الدَّاعِيَ بَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالشَّكُّ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ شَكٌّ فِي خَبَرِ الله، فَانْظُرْ إِلَى مَا قَادَ إِنْكَارُ الأَسْبَابِ مِنْ العَظَائِمِ، وَتَحْرِيمِ الدُّعَاءِ بِمَا أَثْنَى اللهُ عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالدُّعَاءِ بِهِ وَبِطَلَبِهِ، وَلَمْ يَزَلْ المُسْلِمُونَ - مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى الآنَ - يَدْعُونَ بِهِ فِي مَقَامَاتِ الدُّعَاءِ، وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الدَّعَوَاتِ».

 

وَجَوَابُ هَذَا الوَهْمِ البَاطِلِ أَنْ يُقَالَ: بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُم مِنَ القِسْمَيْنِ لَمْ تَذْكُرُوهُ، وَهُوَ الوَاقِعُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَضَى بِحُصُولِ الشَّيءِ عِنْدَ حُصُولِ سَبَبِهِ مِنَ التَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ، فَنَصَبَ الدُّعَاءَ وَالتَّوَكُّلَ سَبَبَينِ لحُصُولِ المَطْلُوبِ.

 

وَقَضَى اللهُ بِحُصُولِهِ إِذَا فَعَلَ العَبْدُ سَبَبَهُ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِالسَّبَبِ امْتَنَعَ المُسَبَّبُ، وَهَذَا كَمَا قَضَى بِحُصُولِ الوَلَدِ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، فَإِذَا لَمْ يُجَامِعْ لَمْ يُخْلَقِ الوَلَدُ.

 

وَقَضَى بِحُصُولِ الشَّبَعِ إِذَا أَكَلَ، وَالرِّيِّ إِذَا شَرِبَ؛ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَشْبَعْ وَلَمْ يُرْوَ.

 

وَقَضَى بِحُصُولِ الحَجِّ وَالوُصُولِ إِلَى مَكَّةَ إِذَا سَافَرَ وَرَكِبَ الطَّرِيقَ، فَإِذَا جَلَسَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَكَّةَ.

 

وَقَضَى بِدُخُولِ الجَنَّةِ إِذَا أَسْلَمَ، وَأَتَى بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِذَا تَرَكَ الإسْلَامَ وَلَمْ يَعْمَلِ الصَّالِحَاتِ لَمْ يَدْخُلْهَا أَبَدًا.

 

وَقَضَى بِإنْضَاجِ الطَّعَامِ بِإيِقَادِ النَّارِ تَحْتَهُ.

 

وَقَضَى بِطُلُوعِ الحُبُوبِ التِي تُزْرَعُ بِشَقِّ الأرْضِ، وإِلقَاءِ البَذْرِ فِيهَا، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ لَمْ يُحَصِّلْ إِلَّا الخَيْبَةَ.

 

فَوِزَانُ مَا قَالَهُ مُنْكِرُو الأَسْبَابِ أَنْ يَتْرُكَ كُلٌّ مِنْ هَؤلاءِ السَّبَبَ المُوّصِّلَ، وَيَقُولُ: إِنْ كَانَ قُضِيَ لِي وَسَبَقَ فِي الأَزَلِ حُصُولُ الوَلَدِ، وَالشَّبَعِ، وَالرِّيِّ، وَالحَجِّ وَنَحْوِهَا، فَلَابُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَيَّ، تَحَرَّكْتُ أَوْ سَكَنْتُ، وَتَزَوَّجْتُ أَوْ تَرَكْتُ، سَافَرْتُ أَوْ قَعَدْتُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُضِيَ لِي لَمْ يَحْصُلْ أَيْضًا، فَعَلْتُ أَوْ تَرَكْتُ، فَهَلْ يَعُدُّ أَحَدٌ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ العُقَلَاءِ؟ وَهَلْ البَهَائِمُ إِلَّا أَفْقَهُ مِنْهُ؟ فَإِنَّ البَهِيمَةَ تَسْعَى فِي السَّبَبِ بِالهِدَايَةِ العَامَّةِ.

 

فَالتَّوَكُّلُ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ التِي يَحْصُلُ بِهَا المَطْلُوبُ، وَيَنْدَفِعُ بِهَا المَكْرُوهُ، فَمَنْ أَنْكَرَ الأَسْبَابَ لَمْ يَسْتَقِمْ مِنْهُ التَّوَكُّلُ، وَلَكِنْ مِنْ تَمَامِ التَّوَكُّلِ عَدَمُ الرُّكُونِ إِلَى الأَسْبَابِ، وَقَطْعُ عَلَاقَةِ القَلْبِ بِهَا، فَيَكُونُ حَالُ قَلْبِهِ قِيامَهُ بِالله لَا بِهَا، وَحَالُ بَدِنِهِ قَيَامَهُ بِهَا.

 

فَالأَسْبَابُ مَحَلُّ حِكْمَةِ الله وَأَمْرِهِ وَدِينِهِ، والتَّوَكُّلُ مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوِبِيَّتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَلَا تَقُومُ عُبُودِيَّةُ الأسْبَابِ إِلَّا عَلَى سَاقِ التَّوَكُّلِ، وَلَا يَقُومُ سَاقُ التَّوَكُّلِ إِلَا عَلَى قَدِمِ العُبُودِيَّةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

 

الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: رُسُوخُ القَلْبِ فِي مَقَامِ تَوْحِيدِ التَّوَكُّلِ.

 

فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ تَوَكُّلُ العَبْدِ حَتَّى يَصِحَّ لَهُ تَوْحِيدُهُ، بَلْ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ تَوْحِيدُ القَلْبِ، فَمَا دَامَتْ فِيهِ عَلَائِقُ الشِّرْكِ، فَتَوَكُّلُهَ مَعْلُولٌ مَدْخُولٌ، وَعَلَى قَدْرِ تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ تَكُونُ صِحَّةُ التَّوَكُّلِ؛ فَإِنَّ العَبْدَ مَتَى التَفَتَ إِلَى غَيْرِ الله أَخَذَ ذِلِكَ الالْتِفَاتُ شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ قَلْبِهِ، فَنَقُصَ مِنْ تَوَكُّلِهِ عَلَى الله بِقَدْرِ ذَهَابِ تِلْكَ الشُّعْبَةِ وَمِنْ هُنَا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِرَفْضِ الأَسْبَابِ، وَهَذَا حَقٌّ، لَكِنْ رَفْضُهَا عَنِ القَلْبِ لَا عَنِ الجَوَارِحِ، فَالتَّوَكُّلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِرَفْضِ الأَسْبَابِ عَنِ القَلْبِ، وَتَعَلُّقِ الجَوَارِحِ بِهَا، فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا مِنْهَا مُتَّصِلًا بِهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ.

 

الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ: اعْتِمَادُ القَلْبِ عَلَى الله، وَاسْتِنَادُهُ إِلَيْهِ، وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ اضْطِرَابٌ مِنْ تَشْوِيشِ الأَسْبَابِ، وَلَا سُكُونٌ إِليهَا، بَلْ يَخْلَعُ السُّكُونَ إِليْهَا مِنْ قَلْبِهِ، وَيلبسُهُ السُّكُونُ إِلَى مُسَبِّبِهَا.

 

وَعَلَامَةُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُبَالِي بِإقْبَالِهَا وَإِدْبَارِهَا، وَلَا يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ، وَيَخْفِقُ عِنْدَ إِدْبَارِ مَا يُحِبُّ مِنْهَا، وَإِقْبَالِ مَا يَكْرَهُ؛ لأَنَّ اعْتِمَادَهَ عَلَى الله، وَسُكُونَهُ إِلَيْهِ، وَاسْتِنَادَهُ إِلَيْهِ، قَدْ حَصَّنَهَ مِنْ خَوْفِهَا وَرَجَائِهَا، فَحَالُهُ حَالُ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ عَدُوٌّ عَظِيمٌ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ، فَرَأَى حِصْنًا مَفْتُوحًا، فَأَدْخَلَهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ، وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ الحِصْنِ، فَهُوَ يُشَاهِدُ عَدُوَّهُ خَارِجَ الحِصْنِ، فَاضْطِرَابُ قَلْبِهِ وَخَوْفُهُ مِنْ عَدُوِّهِ فِي هَذِهِ الحَالِ لَا مَعْنَى لَهُ.

 

وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْطَاهُ مَلِكٌ دِرْهَمًا، فَسُرِقَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: عِنْدِي أَضْعَافُهُ فَلَا تَهْتَمَّ، مَتَى جِئْتَ إِلَيَّ أَعْطَيْتُكَ مِنْ خَزَائِنِي أَضْعَافَهُ، فَإِذَا عَلِمَ صِحَّةَ قَوْلِ المَلِكِ، وَوَثِقَ بِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَعَلِمَ أَنَّ خَزَائِنَهُ مَلِيئَةٌ بِذَلِكَ لَمْ يُحْزِنْهُ فَوْتُهُ.

 

وَقَدْ مُثِّلَ ذَلِكَ بِحَالِ الطِّفْلِ الرَّضِيعِ فِي اعْتِمَادِهِ وَسُكُونِهِ، وَطُمَأْنِينَتِهِ بِثَدْيِ أُمِّهِ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ التِفَاتٌ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ بَعضُ العَارِفِينَ: المُتَوَكِّلُ كَالطِّفْلِ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا يَأْوِي إِلَيْهِ إِلَّا ثَديَ أُمِّهِ، كَذَلِكَ المُتَوَكِّلُ لَا يَأْوِي إِلَّا إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ.

 

الدَّرَجَةُ الخَامِسَةُ: حُسْنُ الظَّنِّ بِالله ﻷ.

 

فَعَلَى قَدْرِ حُسْنِ ظَنِّكَ بِرَبِّكَ وَرَجَائِكَ لَهُ. يَكُونُ تَوَكُّلُكَ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُهُم التَّوَكُّلَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالله.

 

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِهِ يَدْعُوهُ إِلَى التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّوَكُّلُ عَلَى مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ، وَلَا التَّوَكُّلُ عَلَى مَنْ لَا تَرْجُوهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

 

الدَّرَجَةُ السَّادِسَةُ: اسْتِسْلَامُ القَلْبِ لَهُ، وَانْجِذَابُ دَوَاعِيهِ كُلِّهَا إِلَيْهِ، وَقَطْعُ مُنَازَعَاتِهِ.

 

وَبِهَذَا فَسَّرَهُ مَنْ قَالَ: أَنْ يَكُونَ العَبْدُ بَيْنَ يَدَيِ الله، كَالمَيتِ بِيْنَ يَدَيِ الغَاسِلِ، يُقَلِّبُهُ كَيْفَ أَرَادَ، لَا يَكُونُ لَهُ حَرَكَةٌ وَلَا تَدْبَيرٌ.

 

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِم: التَّوَكُّلُ إِسْقَاطُ التَّدْبِيرِ، يَعْنِي الاسْتِسْلَامَ لِتَدْبِيرِ الرَّبِّ لَكَ، وَهَذَا فِي غَيرِ بَابِ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بَلْ فِيمَا يَفعَلُهُ بِكَ، لَا فِيمَا أَمَرَكَ بِفِعْلِهِ، فَالاسْتِسْلَامُ كَتَسْلِيمِ العَبدِ الذَّلِيلِ نَفْسَهُ لِسَيِّدِهِ، وانْقيَادِهِ لَهُ. وَتَرْكِ مُنَازَعَاتِ نَفْسِهِ وَإِرَادَتِهَا مَعَ سَيِّدِهِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

 

الدَّرَجَةُ السَّابِعَةُ: التَّفْوِيضُ.

وَهُوَ رُوحُ التَّوَكُّلِ وَلُبُّهُ وَحَقِيقَتُهُ، وَهُوَ إِلقَاءُ أُمُورِهِ كُلِّهَا إِلَى الله، وَإِنْزَالِهَا بِهِ طَلَبًا وَاخْتَيارًا، لَا كُرْهًا وَاضْطِرَارًا، بَلْ كَتَفْوِيضِ الابنِ العَاجِزِ الضَّعِيفِ المَغْلُوبِ عَلَى أَمْرِهِ كُلَّ أُمُورِهِ إِلَى أَبِيهِ، العَالِمِ بِشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ وَرَحْمَتِهِ، وَتَمَامِ كِفَايَتِهِ، وَحُسْنِ وَلَايَتِهِ لَهُ، وَتَدْبِيرِهِ لَهُ، فَهُوَ يَرَى أَنَّ تَدْبِيرَ أَبِيهِ لَهُ خَيْرٌ مِنْ تَدْبِيرِهِ لِنَفْسِهِ، وَقِيَامُهُ بِمَصَالِحِهِ وَتَوَلِّيهِ لَهَا خَيرٌ مِنْ قِيَامِهِ هُوَ بِمَصَالِحِ نَفْسِهِ وَتَوَلِّيهِ لَهَا، فَلَا يَجِدُ لَهُ أَصْلَحَ وَلَا أَرْفَقَ مِنْ تَفْوِيضِهِ أُمُورَهُ كُلَّهَا إِلَى أَبِيهِ، وَرَاحِتِهِ مِنْ حَمْلِ كَلَفِهَا وَثِقَلِ حِمْلِهَا، مَعَ عَجْزِهِ عَنْهَا، وَجَهْلِهِ بِوُجُوهِ المَصَالِحِ فِيهَا، وَعِلْمِهِ بِكَمَالِ عِلْمِ مَنْ فُوِّضَ إِلَيْهِ، وَقُدْرَتِهِ وَشَفَقَتِهِ.

 

فَإِذَا وَضَعَ قَدَمَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الرِّضَا، وَهِيَ ثَمَرَةُ التَّوَكُّلِ، وَمَنْ فَسَّرَ التَّوَكُّلَ بِهَا فَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِأَجَلِّ ثَمَرَاتِهِ، وَأَعْظَمِ فَوَائِدِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَوَكَّلَ حَقَ التَّوَكُّلِ رَضِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ وَكِيلُهُ.

 

وَكَانَ شَيْخُنَا رضي الله عنه يَقُولُ: «المَقْدُورُ يَكْتَنِفُهُ أَمْرَانِ: التَّوَكُّلُ قَبْلَهُ، وَالرِّضَا بَعْدَهُ، فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى الله قَبْلَ الفِعْلِ، وَرَضِيَ بِالمُقْتَضَى لَهُ بَعْدَ الفِعْلِ، فَقَدْ قَامَ بِالعُبُودِيَّةِ، أوْ مَعْنَى هَذَا.

 

قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دُعَاءِ الاسْتِخَارَةِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ» [51].

 

فَهَذَا تَوَكُّلٌ وَتَفْوِيضٌ ثُمَّ قَالَ: «فَإِنَّكَ تَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَتَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ» [52]، فَهَذَا تَبَرُّؤٌ إِلَى الله مِنَ العِلْمِ وَالحَوْلِ وَالقُوَّةِ، وَتَوَسُّلٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِهِ التِي هِيَ أَحَبُّ مَا تَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِهَا المُتَوَسِّلُونَ، ثُمَّ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ ذَلِكَ الأَمْرَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَتُهُ عَاجِلًا، أَوْ آجِلًا، وَأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْهُ إِنْ كَانَ فِيهِ مَضَرَّتُهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، فَهَذَا هُوَ حَاجَتُهُ التِي سَأَلَهَا، فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلَّا الرِّضَا بِمَا يَقْضِيهِ لَهُ، فَقَالَ: «وَاقْدُرْ لِيَ الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ» [53].

 

فَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الدُّعَاءُ عَلَى هَذِهِ المَعَارِفِ الإِلَهِيةِ، وَالحَقَائِقِ الإِيمَانِيَّةِ، التِي مِنْ جُمْلَتِهَا: التَّوَكُّلُ وَالتَّفْوِيضُ، قَبْلَ وُقُوعِ المَقْدُورِ، وَالرِّضَا بَعْدَهُ، وَهُوَ ثَمَرَةُ التَّوَكُّلِ، وَالتَّفْوِيَضُ عَلَامَةُ صِحَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا قُضِيَ لَهُ، فَتَفْوِيضُهُ مَعْلُولٌ فَاسِدٌ.

 

فَبِاسْتِكْمَالِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّمَانِي يَسْتَكْمِلُ العَبْدُ مَقَامَ التَّوَكُّلِ. وَتَثْبُتُ قَدَمُهُ فِيهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بِشْرٍ الحَافِيِّ: «يَقُولُ أَحَدُهُمْ: تَوَكَّلْتُ عَلَى الله، يَكْذِبُ عَلَى الله، لَوْ تَوَكَّلَ عَلَى الله لَرَضِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ اللهُ بِهِ».

 

وَقَوْلُ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ - وَقَدْ سُئِلَ: مَتَى يَكُونُ الرَّجُلُ مُتَوَكِّلًا؟ - فَقَالَ: «إِذَا رَضِيَ بِالله وَكِيلًا».

 

وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ فِي هَذَا البَابِ المَحْمُودُ الكَامِلُ بِالمَذْمُومِ النَّاقِصِ، فَيَشْتَبِهُ التَّفْوِيضُ بِالإِضَاعَةِ، فَيُضَيِّعُ العَبْدُ حَظَّهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ تَفْوِيضٌ وَتَوَكُّلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ تَضْيِيعٌ لَا تَفْوِيضٌ، فَالتَضْيِيعُ فِي حَقِّ الله، وَالتَفْويضُ فِي حَقِّكَ.

 

وَمِنْهُ اشْتِبَاهُ التَّوَكُّلِ بِالرَّاحَةِ، وَإِلقَاءُ حِمْلِ الكُلِّ، فَيَظُنُّ صَاحِبُهُ أَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَامِلٌ عَلَى عَدَمِ الرَّاحَةِ.

 

وَعَلَامَةُ ذَلِكَ: أَنَّ المُتَوَكِّلَ مُجْتَهِدٌ فِي الأَسْبَابِ المَأْمُورِ بِهَا غَايَةَ الاجْتِهَادِ، مُسْتَرِيحٌ مِنْ غَيْرِهَا لِتَعَبِهِ بِهَا، وَالعَامِلُ عَلَى الرَّاحَةِ آخِذٌ مِنَ الأَمْرِ مِقْدَارَ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، وَتَسْقُطُ بِهِ عَنْهُ مُطَالَبَةُ الشَّرْعِ، فَهَذَا لَوْنٌ، وَهَذَا لَوْنٌ.

 

وَمِنْهُ: اشْتِبَاهُ خَلْعِ الأَسْبَابِ بِتَعْطِيلِهَا. فَخَلْعُهَا تَوْحِيدٌ، َتَعطِيلُهَا إِلْحَادٌ وَزَنْدَقَةٌ، فَخَلْعُهَا عَدَمُ اعْتِمَادِ القَلْبِ عَلَيْهَا، وَوُثُوقِهِ وَرُكُونِهِ إِلَيْهَا مَعَ قِيَامِهِ بِهَا، وَتَعْطِيلُهَا إِلغَاؤُهَا عَنِ الجَوَارِحِ.

 

وَمِنْهُ: اشْتِبَاهُ الثِّقَةِ بِالله بِالغُرُورِ وَالعَجْزِ، وَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الوَاثِقَ بِالله قَدْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ، وَوَثِقَ بِالله فِي طُلُوعِ ثَمَرَتِهِ، وَتَنْمِيَتِهَا وَتَزْكِيَتِهَا، كَغَارِسِ الشَّجَرَةِ، وَبَاذِرِ الأَرْضِ، وَالمُغْتَرُّ العَاجِزُ: قَدْ فَرَّطَ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ وَاثِقٌ بِالله، وَالثِّقَةُ إِنَّمَا تَصِحُّ بَعْدَ بَذْلِ المَجْهُودِ.

 

وَمِنْهُ اشْتِبَاهُ الطُّمَأْنِينَةِ إِلَى الله وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ بِالطُّمَأْنِينَةِ إِلَى المَعْلُومِ، وُسُكُونِ القَلْبِ إِلَيْهِ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا إِلَّا صَاحِبُ البَصِيرَةِ، كَمَا يُذْكَرُ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارِانِيِّ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا بِمَكَّةَ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا إِلَّا شَرْبَةً مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَمَضَى عَلَيْهِ أَيَّامٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ يَوْمًا: «أَرَأَيْتَ لَوْ غَارَتْ زَمْزَمُ، أَيُّ شَيءٍ كُنْتَ تَشْرَبُ؟» فَقَامَ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا، حَيْثُ أَرْشَدْتَنِي، فَإِنيِّ كُنْتُ أَعْبُدُ زَمْزَمَ مُنْذُ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَرَكَهُ وَمَضَى.

 

وَأَكْثَرُ المُتَوَكِّلِينَ سُكُونُهُمْ وَطُمَأْنِينَتُهُمْ إِلَى المَعْلُومِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ إِلَى الله وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَىَ انْقَطَعَ مَعْلُومُ أَحَدِهِمْ حَضَرَهُ هَمُّهُ وَبَثُّهُ وَخَوْفُهُ، فُعُلِمَ أَنَّ طُمَأْنِينَتَهُ وَسُكُونَهُ لَمْ يَكُنْ إِلَى الله.

 

وَمِنْهُ: اشْتِبَاهُ الرِّضَا عَنِ الله بِكُلِّ مَا يَفْعَلُ بِعَبْدِهِ - مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَكْرَهُهُ - بِالعَزْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَحَدِيثِ النَّفْسِ بِهِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ وَالحَقِيقَةُ شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أُعْطِيتُ طَرَفًا مِنَ الرِّضَا، لَوْ أَدْخَلَنِيَ النَّارَ لَكُنْتُ بِذَلِكَ رَاضِيًا.

 

فَسَمِعْتُ شَيْخَ الإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: «هَذَا عَزْمٌ مِنْهُ عَلَى الرِّضَا وَحَدِيثُ نَفْسٍ بِهِ، وَلَوْ أَدْخَلَهُ النَّارَ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ، وَفَرْقٌ بَيْنَ العَزْمِ عَلَى الشَّيءِ وَبَيْنَ حَقِيقَتِهِ».

 

وَمِنْهُ: اشْتِبَاهُ عِلْمِ التَّوَكُّلِ بِحَالِ التَّوَكُّلِ، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ التَّوَكُّلَ وَحَقِيقَتَهُ وَتَفَاصِيلَهُ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ مُتَوَكِّلٌ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّوَكُّلِ، فَحَالُ التَّوَكُّلِ أَمْرٌ آخَرُ مِنْ وَرَاءِ العِلْمِ بِهِ، وَهَذَا كَمَعْرِفَةِ المَحَبَّةِ وَالعِلْمِ بِهَا وَأَسْبَابِهَا وَدَوَاعِيهَا، وَحَالُ المُحِبِّ العَاشِقِ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَكَمَعْرِفَةِ عِلْمِ الخَوْفِ، وَحَالِ الخَائِفِ وَرَاءَ ذَلِكَ. وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَعْرِفَةِ المَرِيضِ مَاهِيَّةَ الصِّحَّةِ وَحَقِيقَتِهَا وَحَالُهُ بِخَلَافِهَا.

 

فَهَذَا البَابُ يَكْثُرُ اشْتِبَاهُ الدَّعَاوَى فِيهِ بِالحَقَائِقِ، وَالعَوَارِضِ بِالمَطَالِبِ، وَالآفَاتِ القَاطِعَةِ بِالأَسْبَابِ المُوَصِّلَةِ، وَالله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

 

التَّوَكُّلُ مِنْ أَعَمِّ المَقَامَاتِ تَعَلُّقًا بِالأَسْمَاءِ الحُسْنَى:

فَإِنَّ لَهُ تَعَلُّقًا خَاصًّا بِعَامَّةِ أَسْمَاءِ الأَفْعَالِ، وَأَسْمَاءِ الصِّفَاتِ.

 

فَلَهُ تَعَلُّقٌ بِاسْمِ الغَفَّارِ، وَالتَّوَّابِ، وَالعَفُوِّ، وَالرَّؤُوفِ، وَالرَّحِيمِ، وَتَعَلَّقٌ بِاسْمِ الفَتَّاحِ، وَالوَهَّابِ، وَالرَّزَّاقِ، وَالمُعْطِي، وَالمُحْسِنِ، وَتَعَلُّقٌ بِاسْمِ المُعِزِّ، المُذِلِّ، الحَافِظِ، الرَّافِعِ، المَانِعِ، مِنْ جِهَةِ تَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ فِي إِذْلَالِ أَعْدَاءِ دِينِهِ، وَخَفْضِهِمْ وَمَنْعِهِم أَسْبَابَ النَّصْرِ، وَتَعَلُّقٌ بِأَسْمَاءِ القُدْرَةِ، وَالإِرَادَةِ وَلَهُ تَعَلُّقٌ عَامٌّ بِجَمِيعِ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى، وَلِهَذَا فَسَّرَهُ مَنْ فَسَّرَهُ مِنَ الأَئِمَّةِ بِأَنَّهُ المَعْرِفَةُ بِالله.

 

وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ بِحَسْبِ مَعْرِفَةِ العَبْدِ يَصِحُّ لَهُ مَقَامُ التَّوَكُّلِ. وَكُلَّمَا كَانَ بِالله أَعْرَفُ، كَانَ تَوَكُّلُهُ عَلَيْهِ أَقْوَى.

 

وَكَثِيرٌ مِنَ المُتَوَكِّلِينَ يَكُونُ مَغْبُونًا فِي تَوَكُّلِهِ، وَقَدْ تَوَكَّلَ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ وَهُوَ مَغْبُونٌ، كَمَنْ صَرَفَ تَوَكُّلَهُ إِلَى حَاجَةٍ جُزْئِيَّةٍ اسْتَفْرَغَ فِيهَا قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ. وَيُمْكِنُهُ نَيْلُهَا بَأَيْسَرَ شَيءٍ وَتَفْرِيغِ قَلْبِهِ لِلتَّوَكُّلِ فِي زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَالعِلْمِ، وَنُصْرَةِ الدِّينِ، وَالتَأْثِيرِ فِي العَالَمِ خَبَرًا.

 

فَهَذَا تَوَكُّلُ العَاجِزِ القَاصِرِ الهِمَّةِ، كَمَا يَصْرِفُ بَعْضُهُم هِمَّتَهُ وَتَوَكُّلَهُ، وَدُعَاءَهُ إِلَى وَجَعٍ يُمْكِنُ مُدَاوَاتُهُ بِأَدْنَى شَيءٍ، أَوْ جُوعٍ يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِنِصْفِ رَغِيفٍ، أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، وَيَدَعُ صَرْفَهُ إِلَى نُصْرَةِ الدِّينِ، وَقَمْعِ المُبْتَدِعِينَ، وَزِيَادَةِ الإِيمَانِ، وَمَصَالِحِ المُسْلِمِينَ، وَاللهُ أَعْلَمُ [54].



[1] رَوَى مسلمٌ عن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بيتٍ مِنْ بِيوتِ الله، يَتْلُونَ كِتابَ الله ويَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نزلتْ عَليهم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُم الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُم الملائكةُ، وَذَكَرَهُم اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».

[2] روَى الإمامُ أَحمدُ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (5507) عن أنسِ بنِ مالكٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَومٌ عَلَى ذِكْرٍ، فَتَفَرَّقُوا عنه إلا قِيلَ لَهُمْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُم»، ومَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ المجالسُ التي تُذَكِّرُ بِالله وبآياتهِ وأحكامِ شرعهِ ونحو ذلك.

[3] في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ غَدَا إلى المسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللهُ له في الجنةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أو رَاحَ»، وفي صحيح مُسْلِمٍ عَنْه أيضًا أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَطَهَّرَ في بيتهِ ثُمَّ مَضَى إلى بيتٍ مِنْ بيوتِ الله لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الله كانتْ خُطُواتُه: إِحدَاها تَحطُّ خَطِيئَةً، والأُخْرَى تَرْفَعُ دَرجةً».

[4] رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ في صَلَاةٍ مَا دَامَتِ الصلاةُ تَحْبِسُه، لا يَمْنَعُه أَنْ يَنْقَلِبَ إِلى أهلهِ إلا الصلاةُ».

ورَوَى البُخَاريُّ عَنه أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الملائكةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكم مَا دامَ فِي مُصَلَّاهُ الذي صَلَّى فيه، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللهُمَّ ارْحَمْه».

[5]، (4) رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لعلي بنِ أبي طالبٍ: «فوالله لأنْ يَهْدِي اللهُ بك رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ».

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ دَعَا إلى هُدَى كَانَ لَه مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَه، لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهم شيئًا».

[6] رَوَى التِّرْمِذِيُّ وصحَّحَه الألبانيُّ عن أبي أمامة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ اللهَ وملائكتَه، حتى النملةَ فِي جُحْرِها، وحتى الحوتَ في البحرِ لَيُصَلُّون عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخيرَ»، وَصلاةُ الملائكةِ الاسْتِغْفَارُ.

[7] لسان العرب (11/ 734)، وكتاب العين (5/ 405)، واشتقاق أسماء الله (136)، والمفردات (882).

[8] البخاري في المحاربين، باب فضل من ترك الفواحش (6/ 2497) (6422).

[9] الترمذي في الزهد، باب في التوكل على الله (4/ 573) (2344).

[10] زاد المسير (1/ 505).

[11] انظر: شرح أسماء الله للرازي (ص: 282)، والمقصد الأسنى (ص: 114).

[12] مدارج السالكين (2/ 127) بتصرف.

[13] النهج الأسمى (2/ 24-34).

[14] وقد قرئت بالتثقيل ونصب زكريا، وذكر الأخفش أنه قُرِئَ: ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ بكسر الفاء.

[15] اللسان (5/ 3906)، الصحاح (5/ 1811)، النهاية (4/ 192)، والأسنى (ورقة 412 ب).

[16] معاني القرآن (3/ 198)، وكذا قال ابن قتيبة في غريب القرآن (ص: 219) في قوله تعالى: ﴿ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيل ﴾ [يوسف: 66]؛ أي: كفيل.

[17] معاني القرآن (2/ 116).

[18] جامع البيان (4/ 118-119).

[19] جامع البيان (5/ 113).

[20] المصدر السابق (7/ 199).

[21] شأن الدعاء (ص: 77)، وقال نحوه البيهقي في الاعتقاد (ص: 61).

[22] المنهاج (1/ 208) وذكره ضمن الأسماء التي تتبع إثبات التدبير له دون ما سواه، ونقله البيهقي في الأسماء (ص: 87).

[23] جامع البيان (14/ 110).

[24] المصدر السابق (14/ 111) وسنده ضعيف، فيه: الحسين بن داود، الملقب: سنيد، ضُعِّف لكونه كان يُلقن شيخه حجاج بن محمد.

[25] في المنهاج: وضمان، وما أثبتناه من الأسماء للبيهقي.

[26] المنهاج (1/ 204)، وذكره ضمن الأسماء التي تتبع إثبات التدبير له دون ما سواه، ونقله البيهقي في الأسماء (ص: 67).

[27]التفسير (10/ 170).

[28] الأسنى (ورقة 412 أ).

[29] الكتاب الأسنى (ورقة 412 أ – 412 ب).

[30] المقصد الأسنى (ص: 81).

[31] الأسنى (ورقة 412 ب).

[32] رواه البخاري (8/ 229).

[33] الفتح (4/ 469).

[34] مدارج السالكين (2/ 123).

[35] أخرجه مسلم (1342) في الحج، باب: ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

[36] صحيح: أخرجه مسلم (1043) في الزكاة، باب: كراهة المسألة للناس.

[37] صحيح: أخرجه البخاري (1475) في الزكاة، باب: من سأل الناس تكثرًا، ومسلم (1040) في الزكاة، باب: كراهة المسألة للناس.

[38] صحيح: أخرجه البخاري (1429) في الزكاة، باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومسلم (1033) في الزكاة، باب: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى.

[39] صحيح: أخرجه مسلم (1041) في الزكاة، باب: كراهة المسألة للناس.

[40] صحيح: أخرجه أبو داود (1639) في الزكاة، باب: ما تجوز فيه المسألة، والترمذي (681) في الزكاة، باب: ما جاء في النهى عن المسألة، واللفظ له، والنسائي (5/ 100) في الصدقة، باب: مسألة الرجل الرجل في أمر لابد له منه، وأحمد في مسنده (5/ 19، 22)، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي: صحيح.

[41]صحيح: أخرجه أبو داود (1645) في الزكاة، باب: في الاستعفاف، والترمذي (2326) في الزهد، باب: ما جاء في هم الدنيا وحبها، وأحمد في مسنده (1/ 389، 407، 442)، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي: صحيح بلفظ: بموت عاجل أو غنى عاجل.

[42] صحيح: أخرجه أبو داود (1643) في الزكاة، باب: كراهية المسألة، وأحمد في مسنده (5/ 275، 276، 277، 279، 281)، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود: صحيح.

[43]صحيح: أخرجه مسلم (1044) في الزكاة، باب: من تحل له المسألة.

[44]صحيح: وقد تقدم.

[45] مدارج السالكين (2/ 123).

[46] صحيح: والحديث أخرجه البخاري (5705) في الطب، باب: من اكتوى أو كوى غيره، ومسلم (220) في الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

[47] آل عمران: (173)، والحديث أخرجه البخاري (4563، 4564) في التفسير، باب: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173].

[48] صحيح: أخرجه مسلم (2717) في الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وهو ليس في صحيح البخاري كما ذكر المصنف.

[49] صحيح: أخرجه الترمذي (2344) في الزهد، باب: في التوكل على الله، وابن ماجه (4164) في الزهد، باب: التوكل واليقين، وأحمد في مسنده (1/ 30، 52)، وقال الألباني في صحيح الجامع (5254): صحيح.

[50] صحيح: أخرجه الترمذي (3426) في الدعوات، باب: ما جاء ما يقول إذا خرج من بيته، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي: صحيح.

[51] صحيح: وقد تقدم.

[52] صحيح: وهو تتمة ما قبله.

[53] صحيح: وهو ما قبله.

[54] مدارج السالكين (2/ 112).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • القريب جل جلاله وتقدست أسماؤه
  • القوي المتين جل جلاله، وتقدست أسماؤه (2)
  • المحسن جل جلاله وتقدست أسماؤه
  • المعطي جل جلاله، وتقدست أسماؤه (2)
  • المقيت جل جلاله، وتقدست أسماؤه (2)
  • الهادي جلاله وتقدست أسماؤه
  • الوارث جل جلاله، وتقدست أسماؤه (2)
  • الوتر جل جلاله، وتقدست أسماؤه (2)

مختارات من الشبكة

  • معاني أسماء الله الحسنى: الوكيل الغني الحق المقيت الله سبحانه، الوكيل(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الوكيل جل جلاله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أنواع العقود التي يعقدها الوكيل(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الحسيب، الكافي، الوكيل)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حسبنا الله ونعم الوكيل(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • مع اسم الله (الوكيل) (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مع اسم الله (الوكيل) (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • دعاء الخوف والأمن: حسبنا الله ونعم الوكيل(مقالة - آفاق الشريعة)
  • معاني أسماء الله الحسنى ومقتضاها (الوكيل)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تأملات في اسمه تعالى الوكيل(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب