• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أحكام شهر ذي القعدة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    من صيام التطوع: صوم يوم العيدين
    د. عبدالرحمن أبو موسى
  •  
    حقوق الوالدين
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة الكوثر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    من مائدة العقيدة: شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    الليلة الثلاثون: النعيم الدائم (3)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

تفسير سورة يونس (الحلقة السابعة) ثلاث حقائق من الإيمان بدونها ينتقض

تفسير سورة يونس (الحلقة السابعة) ثلاث حقائق من الإيمان بدونها ينتقض
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 10/12/2024 ميلادي - 8/6/1446 هجري

الزيارات: 659

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير السور الْمِئين من كتاب رب العالمين

تفسير سورة يونس (الحلقة السابعة)

ثلاث حقائق من الإيمان بدونها يَنْتَقِضُ


بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه.


قال الله تعالى: ﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ * وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يونس: 46 - 56].


قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، فوصف رسوله صلى الله عليه وسلم بما خلقه عليه من الرأفة والرحمة؛ وقال صلى الله عليه وسلم: ((أَقِرُّوا الطَّيرَ على مَكِناتها))[1]، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ((كنَّا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، فانْطَلَقَ لحَاجَتِهِ، فَرَأيْنَا حُمَّرَةً[2] مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءتِ الحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَعْرِشُ[3]، فَجَاءَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ فَجَعَ هذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْها، ورأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا، فَقَالَ: مَنْ حَرَّقَ هذِهِ؟ قُلْنَا: نَحْنُ، قَالَ: إنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يُعَذِّبَ بالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ))[4]، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما جَبَلَهُ عليه ربُّه تعالى من الرأفة والرحمة، وهما صفتان تقتضيان فيمن اتصف بهما أقصى درجات الرِّقة والرِّفق والإحسان، وإن نفسًا هذه سَجِيَّتُها لَحَرِيَّةٌ بأن تكون أقوى شعورًا بالمسؤولية، وأحسنَ قيامًا بها، ولأنه عليه السلام كان من أعلم الرسل بوعد الله ووعيده، وأرجاهم لرضاه ورحمته، وأخشاهم لغضبه وعقابه، وأشدهم حرصًا على هداية الناس، وتبليغهم رسالة ربهم تعالى، وأعْلَمِهم بطبيعة رسالته؛ وقد قال له ربه سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، فقد خصَّ ليلَه ونهاره لِما بُعِثَ به، يبلِّغه لقومه ألطفَ تبليغ وأحسنَه، فيسأل عن أحوالهم، ويشاركهم مشاعرهم، فترتاح نفسه لمن اقترب من رحمة الله التي أُرسِل بها، ونَهَلَ من مَعِينها، ويفرح لغضارة الإيمان فيمن آمن أشدَّ الفرح، ويحزن لكريهة الإعراض فيمن أعرض أشدَّ الحزن، والله تعالى يُصبِّره كلما آذاه المشركون أو كذَّبوه؛ فيقول له مرةً: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 127، 128]، ويقول له أخرى: ﴿ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [النحل: 37]، ويضرب له المثل بصبرِ مَن سَبَقَهُ من الرسل؛ بقوله تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الأحقاف: 35]، حتى إذا رأى الحقُّ تعالى شدةَ استعجاله نتائجَ دعوته، واستبطائه إيمانَ مَنْ حوله مِن المشركين، وحزنه وأسفه لإعراضهم، وغفلتهم عما ينتظرهم في الآخرة من خَسارٍ؛ وقد قال عنهم تعالى: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [يونس: 45]، هدَّأ عز وجل من رُوعِه[5]، مذكِّرًا بواجب التأني وعدم ترقُّب النتائج قبل أوانها، ومبينًا أن ذلك ليس من شأنه أو قدرته، وإنما هو من أمره تعالى؛ بقوله عز وجل: ﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ﴾ [يونس: 46].

 

وقوله تعالى: ﴿ وَإِمَّا ﴾ [يونس: 46]، مكونة من "إنْ" الشرطية، مدغمةً في "ما" الزائدة، أصلها "إن نُرِكَ" وزيدت "ما" في حرف الشرط "إن" ونون التوكيد في فعله ﴿ نُرِيَنَّكَ ﴾ [يونس: 46]، فكان توكيدًا مزدوجًا لمعنى الآية الكريمة، و"نرينك" فعل الشرط مضارع مبني على الفتح في محل جزم لاتصاله بنون التوكيد، والفاعل ضمير مستتر يعود لاسم الجلالة سبحانه، والكاف مفعول به، ﴿ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ﴾ [يونس: 46]، و"بعض" مفعول ثانٍ، و"الذي" مضاف إليه، وجملة "نعدهم" صلة؛ أي: وإما أن نعجِّل لهم في الدنيا أمام عينك وبحضورك بعضَ ما توعَّدناهم به مما يستحقونه من العقاب؛ قتلًا أو أسرًا، أو تشريدًا وخِذلانًا وإهانةً، مثلما عُوقبت به الأمم الكافرة من قبلُ أمام أعيُنِ أنبيائها، فترى ذلك وتشهد عليه، ﴿ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ﴾ [يونس: 46]، وإما أن يتأخر وقوع العذاب الدنيوي فيهم إلى ما بعد وفاتك، أو إلى يوم القيامة، فتشهد عليهم حينئذٍ وترى مصيرهم وعذابهم، ﴿ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ﴾ [يونس: 46]، من السوء أعمالًا وأقوالًا، ومرجعهم دائمًا إلى الله تعالى في حياتك وبعد مماتك، لا يخفى عليه حالهم، يعلم سرهم وعلانيتهم.

 

لقد كانت هذه الآية الكريمة تَطْمِينًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسكينًا لنفسه الحريصة على إيمان المشركين، والحزينة لاستعصاء بعضهم وإصرارهم على الكفر، وَرَدَت في المدة المكية ثلاثَ مراتٍ؛ لتكشف مدى حرصه صلى الله عليه وسلم على أداء رسالته، وصبره على لَأْوَاءِ التبليغ، وألمه لإعراض المشركين وشدة عداوتهم له، وردت أولًا في هذه الكريمة من سورة يونس عليه السلام، ثم وردت بسياق آخرَ في سورتين مكيتين أُخْرَيين؛ أُولاهما قوله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ [غافر: 77]؛ أي: فَاصْبِرْ - يا محمدُ - على ما تلاقيه من قومك؛ فإن بعض ما نتوعدهم به من الهلاك في الدنيا حقٌّ، إما أن ينزل بهم في حياتك فتراه، أو بعد مماتك فتشهد عليهم به في الآخرة، إذ يُبعَثون ويُحشَرون للحساب والعقاب، والثانية في قوله تعالى له صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [الرعد: 40]؛ أي: لا تحزن لإعراضهم، ولا تهتمَّ بتكذيبهم؛ لأن إلينا مصيرَهم، وعلينا حسابَهم، وبِيَدِنا ما استعجلوه من العذاب، فأَقْبِلْ على القيام بما أُمِرْتَ به من تبليغ رسالة الله، ولا تحفِل بأحد منهم؛ فإن سُنَّةَ الله في الخَلْقِ والاختبار والمجازاة بالجنة والنار سارية، وسُنَّتُه تعالى في إرسال الرسل إلى الأمم ماضية: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ﴾ [يونس: 47]، وكلمة ﴿ أُمَّةٍ ﴾ [يونس: 47]، لغةً - كما قال ابن فارس في معجمه - من: أمَّ يؤُم، أصلٌ واحد يتفرع منه أربعة أبواب؛ هي: الأصل، والمرجع، والجماعة، والدِّين، فكلُّ تجمُّعٍ حول أصل واحد أو عِرق واحد، أو وطن واحد أو دين واحد يُعَدُّ أُمَّةً؛ قال الخليل: "كلُّ شيء يُضَمُّ إليه ما سواه مما يليه، فإن العرب تُسمِّيه أُمَّة"، والأمة مطلقًا هي كل تجمُّع سكاني متآلِفٍ في بقعة من الأرض؛ لذلك فالأصل في الاجتماع الإنساني أنه كان أُمَّةً واحدة، نشأت من أول ذرية لآدم عليه السلام، متآلفة على أصل واحد، ودين واحد؛ هو الإسلام، ثم تاه بعضهم في مسارب الشيطان فاختلفوا وتباعدوا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ﴾ [يونس: 19]، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال: ((إني خلقتُ عبادي حنفاءَ، فاجتالَتْهُمُ الشياطينُ فحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزِّل به سلطانًا))، بذلك تفرَّقتِ البشرية أممًا، فبعث الله تعالى لكل أمة رسولًا؛ قال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [النحل: 36]، ووضع لهم بذلك معالم طريقٍ للهدى يهتدون بها، وموازينَ للقسط يعيشون بها، ويُقضَى فيما بينهم بها في الدنيا، ويُحكم عليهم بها في الآخرة، ﴿ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ ﴾ [يونس: 47]، ومجيء كل رسول لقومه مرتان؛ مجيء في الدنيا، ومجيء في الآخرة، أما في الدنيا فلتبليغ رسالة الله، وإقامة الحُجَّة بشارةً ونِذارةً؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال عز وجل: ﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون: 44]، وأما مجيئه في الآخرة فعند البعث؛ إذ يُجاء بالأنبياء كي يحضُرَ كلُّ واحد منهم حسابَ قومه، ويشهد لهم أو عليهم؛ قال تعالى: ﴿ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ [الزمر: 69، 70]، وقال تعالى عن شهادة محمد صلى الله عليه وسلم على قومه: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 41، 42]، وفي كلتا حالَيْ مجيء الرسل أقوامَهم يكون لأمر جَلَلٍ، تَنْبَنِي عليه أحكامٌ لها أثرها الدائم في حياة كل فرد؛ إقامةً للحُجَّةِ بالتبليغ في الدنيا، وشهادة عليهم في الآخرة يوم الحشر، ﴿ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ ﴾ [يونس: 47]، الذي أُرسِل إليهم في الدنيا يوم حشرهم في الآخرة، وشهِد عليهم بالإيمان أو الكفر، ﴿ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ﴾ [يونس: 47]، والفعل ﴿ قُضِيَ ﴾ يدل على إحكامِ أمرٍ ما، وإتقانه وإنفاذه؛ قال تعالى: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ [فصلت: 12]؛ أي: خلقَهُنَّ وأحْكَمَ خلقَهُنَّ، والقضاء الحُكْمُ؛ كما في قوله تعالى: ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 72]، والقِسط لغة بكسر القاف في هذا السياق هو العدل؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة: 42]، وفي سياق آخر يكون القِسط بمعنى النصيب، ومنه يُقال: تقسَّطنا الشيءَ بيننا، فأخذ كل واحد قسطًا؛ أي: نصيبًا، أما بفتح القاف فهو الجَور والظلم؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴾ [الجن: 14، 15]، وقضاء الله في الناس بالقِسط في الدنيا هو تبليغهم جميعًا رسالةَ ربهم تامةً كاملة، والفصل في مخالفاتهم ومنازعاتهم بالعدل؛ قال تعالى: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴾ [ص: 21، 22]، وقال: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105]، والرسل بذلك قضاةُ عدلٍ وقسط في تبليغ الناس رسالةَ ربهم في الدنيا، وتربيتهم بها، وتعليمهم كيفية العمل والحكم بها، أما يوم القيامة فيُقضى في الناس وبينهم بشهادة أنبيائهم عليهم؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 109]، وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]، وقال سبحانه: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، وقال لرسوله عيسى بن مريم عليه السلام: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 116]، فإذا حَكَمَ تعالى بين عباده يوم الحشر كان حكمه بعدلٍ، ينجو به الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويَهلِك به المكذِّبون.

 

إن الإيمان بالبعث والحساب والجزاء حقٌّ من حقوق الله على العباد، من أنكره فلا حظَّ له في الإسلام، ولكنه تعالى أحاطه بشروطٍ وضوابطَ ألزم نفسه بها قسطًا منه وعدلًا، ومن القسط أنه تعالى لا يُحاسِب أمة إلا إذا أرسل إليها رسولًا بالهدى ودين الحق، فإن أجابت حكم لها بالجنة، وإن أعرضت كان لزامًا معاقبتها بالقسط؛ قال تعالى: ﴿ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]؛ ولذلك عقَّب سبحانه بقوله تعالى: ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [يونس: 47]، لا يُظلَمون في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن الله أعذر إليهم في الدنيا، وأقام لهم الأدلة والبينات، ووضَّح لهم الطريق، وفي الآخرة لم تبقَ لهم حُجَّةٌ بعد شهادة رُسُلهم عليهم؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [الإسراء: 71]، وقال عز وجل: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17]، لا يُظلَمون في الدنيا بعدم تبليغهم رسالة ربهم كاملة بيِّنة واضحة، ولا يُظلمون في الآخرة بحساب حسناتهم وسيئاتهم، أو بتقدير جزائهم عدلًا وقسطًا، جنَّةً أو نارًا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ﴾ [الانشقاق: 6 – 11].

 

وبالتفاتٍ بيانيٍّ يخاطب الحق تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم مندِّدًا بما يقوله المشركون فيما بينهم؛ تكذيبًا منهم للقرآن، واستعجالًا ساخرًا بما حُذِّروا منه، واستبعادًا لِما أُخبروا باحتمال وقوعه؛ فيقول سبحانه: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 48]؛ أي: متى يقع ما حذرتنا منه وخوفَّتنا من وقوعه؟ ويعنُون بسؤالهم الساخر هذا الردَّ على قوله تعالى في الآيات الثلاثة السابقة: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَار... ﴾ [يونس: 45]، وقوله عز وجل: ﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ... ﴾ [يونس: 46]، وقوله عز وجل: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْط ﴾ [يونس: 47]، فيُلقِّنه الحق تعالى الردَّ على أسئلتهم المتشنجة هذه بما يهدِّئ روعهم، ويردُّهم إلى صواب السمع وسلامة الاستيعاب؛ بقوله سبحانه: ﴿ قُلْ ﴾ [يونس: 49]، لهم يا محمد: ﴿ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ﴾ [يونس: 49]، ليس لي قدرة على مجرد دفع الضرر عن نفسي أو عن غيري، ولا على جلب النفع لنفسي أو لغيري، ﴿ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ [يونس: 49]، إلا إذا شاء الله لي أو لأحد نفعًا أو ضررًا، بيدي أو على يدي، فيُقدرني عليه، ﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ [يونس: 49]، أنتم يا معشرَ مشركي قريش من جملة أمم الأرض، وكل أمة كتب الله لِما ينفعها أو يضرها، ولبقائها أو فنائها أجَلًا، ﴿ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ﴾ [يونس: 49]، الذي وُقِّت لهم، ﴿ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ﴾ [يونس: 49]، عن الموعد الذي أُجِّل لهم، ﴿ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [يونس: 49]، ساعة عنه، فلا تستعجلوا ما أُنذِرتموه، ولا تستبطئوا ما حُذِّرتموه؛ فإن الله تعالى لا يعجِّل لعجلةِ أَحَدٍ، أو يبطِّئها لتبطئة أحدٍ؛ وقد قال: ﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [يونس: 11]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [النحل: 61]، وفي الصحيح عن ابن مسعود قال:)) قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: اللَّهُمَّ بَارِكَ لِي فِي زَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَأَخِي مُعَاوِيَةَ، فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ عَنْ آجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَآثَارٍ مَبْلُوغَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَا يُعَجَّلُ مِنْهَا شَيْءٌ قَبْلَ حلِّهِ، فَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ أَوْ عَذَابِ الْقَبْرِ، كَانَ خَيْرًا))[6].

 

ومن العجيب أن المشركين قد ساروا في حربهم الإعلامية ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحدث أساليب الدعاية السوداء، والحرب النفسية، وكأنما ظنُّوا أن عدم نزول ما حذَّرهم الله به دليلٌ على كذب ما جاءهم به، فكان صلى الله عليه وسلم أنَّى توجَّه، وجَدَ خلفه أحدُ مشركَيْن؛ عمِّه أبا لهبٍ يكذبه ويحذِّر منه ويرميه بالحجارة، أو مشركٍ آخرَ يسأله ساخرًا: ﴿ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 48]، فيصبر ويتصبَّر ويُجيبه بما يُوحيه إليه الله؛ ولذلك تكرر نزول هذه الآية ست مرات في ست سور مكية هن سورة يونس بالآية 48، وسورة الأنبياء بالآية 38، وسورة النمل بالآية 71، وسورة سبأ بالآية 29، وسورة يس بالآية 48، وسورة الملك بالآية 25، ومع كل آية كان ينزل جوابها الذي يناسب ظروفها، وغاية السائل منها.

 

لقد كانت عُنْجُهِيَّةُ البداوة والكبرياء الجوفاء، والعصبية المزاجية، والحسد الأهوج قد لبَّس على عقول مشركي مكة بما منعهم حسنَ الاستماع، وسلامةَ الاستيعاب، وكان من الحكمة أن يُنبَّهوا لأخطاء اختياراتهم وسفاهاتهم وخطرها عليهم، باستقرائها واستنباطها وتتبُّع آثارها، بروِيَّة وهدوء وتدرُّج، بدلًا من مواجهتهم بها، تقريرًا لها وإدانة بها، وهم يتحدَّوْن مستنفَرين يردِّدُون: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 48]؛ لذلك قال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ ﴾ [يونس: 50] لهم: يا محمدُ سائلًا: ﴿ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا ﴾ [يونس: 50]، هل تصورتم حالكم إن نزل بكم عذابُ الله فجأة بالليل وأنتم نائمون في بيوتكم، أو بالنهار في صَحْوِكم وأنتم تلعبون أو تكسِبون؟ وهو كما قال تعالى: ﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾ [الأعراف: 4]، وقال عز وجل: ﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 97 – 99]، إنها أسئلة موجَّهة للمشركين خاصة، وأحرى بكل مؤمن ألَّا تعزُبَ عن ذهنه وهو يسعى في ليله ونهاره، وأن يحذَرَ أن يفاجَأه الموتُ وهو على فاحشة، أو مُطلَق ذنب، أو طلب له أو تمنٍّ له، أو ندم على عدم فعله، فتنتقض توبته ويأتي ربه عاصيًا، وما أروع ما قرأته لأبي حامد الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) إذ ذكر خيبة الرجل وهو يُحتضر، فيتذكر متعة محرَّمة فاتته في حياته، فيندم على عدم اقترافها، ويموت على ذلك، بدل حمده الله على ما عصمه منها!

 

ثم عقَّب عز وجل على حال المشركين وهم يستعجلون العقوبة؛ تفظيعًا لاختياراتهم، وتحذيرًا لهم منها؛ بقوله تعالى: ﴿ مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [يونس: 50]، أيُّ شيء يستعجلونه غير العذاب؟ إن العقلاء يسألون الخير ويعملون له وقد يستعجلونه، ولكن المشركين يستعجلون الشر لأنفسهم، فما أفظع ما يسألون! ﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ﴾ [يونس: 51]، الشر الذي استعجلتموه، ﴿ آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ [يونس: 51]، والهمزة في أول هذه الآية للاستفهام الإنكاري تهويلًا لسفاهة عقولهم، وخِفَّة أحلامهم، وتأخر إدراكهم لنتائج أعمالهم، وحرف "ثم" بضم الثاء حرف عطف في قراءة الجمهور يدل على الترتيب والتراخي؛ أي: أإذا ما حلَّ بكم ما استعجلتموه من العذاب، آمنتم، وقد فاتتكم فرصة الانتفاع بالإيمان؟ ﴿ آلْآنَ ﴾ [يونس: 51]، والهمزة للاستفهام الاستنكاري، والآن ظرف متعلق بمحذوف يُفهم من سياق الكلام، أي: هل الآن تؤمنون وقد نزل بكم العذاب؟ ﴿ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ [يونس: 51]، وقد كنتم تستكبرون وتتحدَّون وتستعجلون العذاب؛ استهانة به واستبعادًا له، وحينئذٍ يكون حالهم كحال فرعون عندما آمن بعد أن أدركه الغرق؛ في قوله تعالى: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 91].

 

إنه الجهل والغرور والتسرُّع في اتخاذ الأحكام والمواقف نَزَقًا وخِفَّةَ عقولٍ، شيمةُ مشركي قريش عند تلقِّيهم الوحي، وهذه الآيات الكريمة تبيِّن لهم عاقبة المسار الذي ينزلقون إليه، المسار المؤدي إلى يوم الحشر والمحاسبة والجزاء؛ إذ يرَون في الآخرة ما استعجلوه في الدنيا، تحدِّيًا وسفاهةً، فيندمون ولات ساعة مَندمٍ، ويُقال لهم: هذا هو العذاب الذي كنتم به تستعجلون في الدنيا، ﴿ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ [يونس: 52]، أي: الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، ﴿ ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ ﴾ [يونس: 52]، ذوقوا عذاب الخلد الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا هازئين ساخرين، ﴿ هَلْ تُجْزَوْنَ ﴾ [يونس: 52]: هل ما تنالونه من الجزاء في النار، ﴿ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 52]، إلا بما كنتم تواظبون على اكتسابه وعمله من الآثام؟ كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾ [الصافات: 20 – 24]، وقوله عز وجل: ﴿ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النمل: 90]، جزاءً وفاقًا لا ظلم فيه؛ لأن الله تعالى بلَّغهم رسالة الإسلام كاملة برسول صادق أمين، فلم يُذعنوا له ولم يقبلوا رسالته، وإنما تحدَّوه سفاهةً، وآذَوه عدوانًا وظلمًا، فكان مآلَهم العذابُ الدائم في النار.

 

وبعد أن بيَّن الوحيُ الكريم للمشركين مآل إصرارهم على الشرك، عاد حثًّا لهم على الإيمان متابعة لقوله تعالى وعطفًا عليه: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 48]؛ فقال عز وجل: ﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ﴾ [يونس: 53]؛ أي: يسألونك عن صحة ما أنبأتهم به من البعث والحساب والجزاء، جنةً ونارًا، والفعل ﴿ يَسْتَنْبِئُونَكَ ﴾ [يونس: 53]، من أصل "نبأ"، قياسه الإتيان من مكان إلى مكان، فيُقال لمن ينتقل من مكان إلى مكان: نابئ، وسُمِّيَ الخبر يُنقَل من جهة إلى جهة، أو من فرد إلى فرد، أو يُنشَر في صحيفة أو قناة إعلامية: نبأً، جمع أنباء، زِيدت في فعله الثلاثي حروف الطلب - الألف والسين والتاء – فصِيغ فِعْلُ: استنبأ؛ أي: استخبر وطلب نبأً وخبرًا، كما في المؤسسات الأمنية المعاصرة التي سُمِّيَت استخبارات أمنية، واستخبارات عسكرية، واستخبارات سياسية، وكما كان يفعله المشركون في قوله تعالى: ﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ ﴾ [يونس: 53]؛ يسألونك عن صحة ما أخبرتهم به، ﴿ أَحَقٌّ هُوَ ﴾ [يونس: 53]، والهمزة للاستفهام، و﴿ حَقٌّ ﴾ خبر مقدم للمبتدأ ﴿ هُوَ ﴾ [يونس: 53]، وتقديره: "أهو حق"؛ أي: هل ما أنبأتَنا به من نبأ البعث والنشور، والحساب والجزاء، والجنة والنار حقٌّ يقع، فنلقاه ونُعانِيه؟ ﴿ قُلْ ﴾ [يونس: 53]، يا محمد لهم غير مُغْضَب من قولهم، أو ملتفتٍ إلى لَحْن أقوالهم: ﴿ إِي ﴾ [يونس: 53]، نعم، وكلمة ﴿ إِي ﴾ [يونس: 53]، بكسر الهمزة وسكون الياء الخفيفة حرف جواب وتصديق بمعنى نعم، بشرط أن تتصل بقَسَم، ولذلك تُوصَل دائمًا بواو القسم، فيُقال: إي والله، ولا يُقال "إي" وحدها، كما في هذه الآية الكريمة إذ اتصلت مؤكدة بواو القسم، وفي قوله صلى الله عليه وسلم امتثالًا لأمر ربه: ﴿ إِي وَرَبِّي ﴾ [يونس: 53]؛ أي: نعم وأُقسم بالله، ﴿ إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾ [يونس: 53]، إنَّ ما أُخبِرتم به لَحَقٌّ، وحرف "إن" للتوكيد والنصب، واسمها الضمير المتصل المبني على الضم في محل الفتح، واللام للتوكيد، و"حق" خبر إن مرفوع، والآية مؤكدة بتركيبها جملةً إسمية، وحرف "إن" ولام القسم، وقد عزَّز الحق تعالى جوابَ رسول الله بالقسم سدًّا لجميع ذرائع الشك والتردد لدى المشركين؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ [سبأ: 3]، وقوله عز وجل: ﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [التغابن: 7]، على رغم أنه صلى الله عليه وسلم منذ نشأ معروفٌ فيهم بالصدق والأمانة، حتى إنهم لقَّبوه بالأمين، وحتى كان بعضهم يسأله عما بُعِث به، فيُجيبه فيُصدِّقه ويؤمن به، وأحيانًا يستحلفه بعض المتعصبين للشرك، فإذا حَلَفَ صدَّقه وآمن، وما ذلك إلا لأن الصدق كان الغالب على أخلاق عرب الجاهلية في زمن البعثة؛ لِما نشؤوا عليه من مروءة ورجولة وإباء، يُعَدُّ بها الكذب ضعفًا ومنقصة في المرء، كما في رواية أحمد والشيخين وأصحاب السنن الثلاثة - أبي داود والترمذي والنسائي - واللفظ للبخاري عن أنس قال: ((بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السجدة، إذ دخل رجلٌ على جمل، فأناخه في المسجد ثم عَقَلَهُ، ثم قال: أيكم محمدٌ؟ قلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال: ابنُ عبدالمطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتُك، فقال: إني سائلك فمُشدِّدٌ عليك في المسألة، فلا تَجِدْ عليَّ في نفسك، فقال صلى الله عليه وسلم: سَلْ عما بدا لك، فقال الرجل: أسألك بربك ورب من قبلك آللهُ أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم، قال الرجل: أَنشُدك بالله آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم، قال الرجل: أَنشُدك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السَّنَة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم، قال الرجل: أنشُدك بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم، قال الرجل: آمنتُ بما جئتَ به، وأنا رسول مَنْ ورائي من قومي، وأنا ضِمامُ بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر)).

 

ثم عقَّب الحق تعالى مبيِّنًا قدرته المطلقة على ما وعده وتوعَّد به؛ فقال عز وجل: ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [يونس: 53]، ولفظ "معجزين" من الفعل: (عَجَزَ)، والْعَيْنُ وَالْجِيمُ وَالزَّاءُ - كما قال ابن فارس في معجمه - أصلان صحيحان، أولها يدل على الضعف؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [يونس: 53]، والثاني يدل على مُؤخَّر الشَّيْءِ، ومنه العَجُزُ؛ وهو مُؤخِرُ الرجل والمرأة، ومن المعنى الأول يُقال: عجز الرجل عن الكلام أو الوقوف أو نحوه؛ أي: لا يستطيعه، وتُضاف إليه همزة التعدية: "أعجز" فيُقال: أعجزه المرض عن القيام، أو الفقر عن الإنفاق، أو الغباء عن الفهم، فإذا كنت قادرًا قلت: لا يُعجزني القيام، أو لا يعجزني الفقر، ولا يعجزني الفَهم أو الإدراك؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [يونس: 53]؛ أي: لستم معجزين أن يُؤتَى بكم، أو معجزين عن محاسبتكم ومجازاتكم، أو مُفْلِتين مما توعدناكم به، بعثًا ونشورًا، وحسابًا وعقابًا؛ كما قال تعالى بتفصيل أكثر: ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [العنكبوت: 22]، وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73]، والآية بذلك ردٌّ على ما يتخيله المشركون، أو يتوهمونه من عدم وجود يوم البعث حسابًا وجزاء، أو ما يعتقدونه من الضلالات التي ألقاها الشيطان في قلوبهم وعقولهم؛ كما في ردِّه تعالى عليهم بقوله عز وجل: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [العنكبوت: 4]، وقوله سبحانه: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21]؛ لذلك أكَّد تعالى قدرته المطلقة عليهم وعجزَهم التامَّ عن الإفلات من العقاب بصورة واضحة، نقلها إليهم من مجال الغيب والمصير المحتوم عن يوم القيامة، وما يكونون عليه من الحسرة والندامة إن لم يؤمنوا؛ فقال عز وجل: ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ﴾ [يونس: 54]؛ أي: لو كان لكل ذي نفس ظلمت بالشرك والكفر والعصيان، ﴿ مَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [يونس: 54]، كل ما في الأرض من كنوز وثروات وغيرها، ﴿ لَافْتَدَتْ بِهِ ﴾ [يونس: 54]؛ أي: لقدَّمَتْهُ فديةً لِما استحقته من العذاب، فلم يُقبَل منها، ﴿ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ﴾ [يونس: 54]، كتموا ندامتهم على ما ارتكبوه من الشرك استعدادًا لإنكاره والمجادلة عنه بالباطل، لما رأوا عذاب جهنم؛ كما فصَّل القرآن ذلك في سورة الأنعام بقوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 22 – 24]، إلا أن إنكارهم الشركَ لا يدفع عنهم ما يستحقونه من القضاء: ﴿ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ﴾ [يونس: 54]، بالعدل فيما أقدموا عليه من الشرك، وما ارتكبوه فيما بينهم من المظالم، ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [يونس: 54]، في الحكم عليهم أو الحكم فيما بينهم؛ لأن العدل يومئذٍ سيد الأحكام، ولأن الله أعذر إليهم في الدنيا، فأرسل إليهم رسوله، وقدَّم لهم الأدلة، ووضَّح لهم السبيل، وأراهم الآيات، ولم تَبْقَ لهم حُجَّة بعد شهادة الرسول عليهم يوم الحشر؛ كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [الإسراء: 71]، وقال سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ))[7]، وقال: ((يقتص الخلق بعضهم من بعض، حتى الجَمَّاءُ من القَرْنَاء، وحتى الذَّرَّةُ من الذَّرَّة))[8].

 

ثم عقَّب سبحانه على عدالة حكمه بين الخلائق ودِقَّةِ فَصْلِهِ بينهم، وقدرته الشاملة المطلقة عليهم بإعلان ثلاث حقائق إيمانية عامة، دائمة وشاملة، تَسَعُ السماوات والأرض وما فيهن، ولا يَسَعُ مخلوقًا أن يخرج من حكمها أو يجادل فيها، ولا يُقبَل إيمان بدونها؛ فقال عز وجل عن أولها:

﴿ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [يونس: 55]، وهو تقرير لواقع حقيقي يُذكِّر به الغافلين، ويحذِّر به المتهاونين والشاكِّين، ويهدِّد به المتمردين من كفار قريش زمن البعثة النبوية، وفي كل وقت وحين من الدنيا والآخرة.

 

ثم قال عن ثانيتها: ﴿ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُم لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 55]، وهو تقرير ناجزٌ لكل وعد وَعَدَه سبحانه أو توعَّده عز وجل لا يتخلَّف؛ كما أكَّده سبحانه بقوله: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]، وقوله سبحانه له المنُّ والفضل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [الرعد: 31]، وقوله سبحانه عن الصادقين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107 – 109].

 

ثم قال عن ثالثتها: ﴿ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يونس: 56]، هُوَ سبحانه يخلق ما يريد إيجاده من الجن والإنس وغيرهم، وَيُمِيتُ من يريد إماتته وإفناءه أو نقله إلى الآخرة، وإليه تُرجعون بالبعث والنشور، والحساب والجزاء، جنةً أو نارًا، يخلق عز وجل كذلك القلوب الحية فتسمو بصاحبها عملًا صالحًا ونفسًا طيبة، والقلوب الصَّدِئَةَ الميتة فلا يكاد يكون لصاحبها حياة بين الأحياء، أو خبر طيب بين الأموات، أو بشارةُ خيرٍ ليوم الحساب؛ ﴿ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [مريم: 39].



[1] صحيح، الألباني.

[2] الحُمَّرة: طائر صغير، بالضمة على الحاء والشدة والفتحة على الميم.

[3] تعرش:ترتفع وتحوم وتُظلِّل بجناحيها على مَن تحتها.

[4] رواه أبو داود بإسناد صحيح.

[5] الرُّوع بضم الراء هو القلب، وبفتحها هو الفَزَعُ.

[6] إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله رجال الشيخين غير الْمُغيرة اليشكري، فمن رجال مسلم.

[7] مسلم والبخاري في الأدب المفرد، والترمذي، وأحمد، وابن أبي الدنيا.

[8] أخرجه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، الألباني.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين: تفسير سورة يونس (الحلقة الثانية) ليس من عذر لمن يرى آيات الله وبيده القرآن
  • تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين: تفسير سورة يونس (الحلقة الثالثة) أربع سبل هن إلى النار أقرب
  • تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين: تفسير سورة يونس (الحلقة الرابعة) حقيقة الدنيا وحقائق الآخرة.. إن عرفت فالزم
  • تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين: تفسير سورة يونس (الحلقة الخامسة) أربع حقائق ينبغي للمؤمن استجلاؤها وتجليتها
  • تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين تفسير سورة يونس (الحلقة السادسة)
  • تفسير سورة يونس (الحلقة الثامنة) مأدبة الله لأوليائه في الدنيا بين الشاكرين والجاحدين
  • تفسير سورة يونس (الحلقة التاسعة) رسالتا نوح وموسى: دعوة واحدة بظرفين ومنهجين مختلفين
  • تفسير سورة يونس (الحلقة العاشرة) موسى: نبي يقود وفتية يؤسسون

مختارات من الشبكة

  • تفسير سور المفصل 212 - سورة الأعلى ج 1 - مقدمة لتفسير السورة(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصل (34) تفسير سورة قريش (لإيلاف قريش)(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سورة المفصل ( 33 ) تفسير سورة الماعون(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 32 ) تفسير سورة الكوثر ( إن شانئك هو الأبتر - الجزء الرابع )(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 31 ) تفسير سورة الكوثر ( فصل لربك وانحر - الجزء الثالث )(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 30 ) تفسير سورة الكوثر ( إنا أعطيناك الكوثر - الجزء الثاني )(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 29 ) تفسير سورة الكوثر ( إنا أعطيناك الكوثر - الجزء الأول )(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 28 ) تفسير سورة الكافرون(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 27 ) تفسير سورة النصر (الجزء الثاني)(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 26 ) تفسير سورة النصر (الجزء الأول)(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب