• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحافظة على صحة السمع في السنة النبوية (PDF)
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    اختيارات ابن أبي العز الحنفي وترجيحاته الفقهية في ...
    عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد التويجري
  •  
    القيم الأخلاقية في الإسلام: أسس بناء مجتمعات ...
    محمد أبو عطية
  •  
    فوائد من حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ...
    محفوظ أحمد السلهتي
  •  
    لم تعد البلاغة زينة لفظية "التلبية وبلاغة التواصل ...
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    البشارة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    حديث: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد
  •  
    خطبة: شهر ذي القعدة من الأشهر الحرم
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    تفسير سورة الكافرون
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (4)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    من مائدة الفقه: السواك
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    أهمية عمل القلب
    إبراهيم الدميجي
  •  
    أسوة حسنة (خطبة)
    أحمد بن علوان السهيمي
  •  
    إذا استنار العقل بالعلم أنار الدنيا والآخرة
    السيد مراد سلامة
  •  
    خطبة: أم سليم صبر وإيمان يذهلان القلوب (2)
    د. محمد جمعة الحلبوسي
  •  
    تحريم أكل ما ذبح أو أهل به لغير الله تعالى
    فواز بن علي بن عباس السليماني
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / النصائح والمواعظ
علامة باركود

فوائد من كتاب الفوائد (WORD)

فوائد من كتاب الفوائد
رضا أحمد السباعي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 29/5/2021 ميلادي - 17/10/1442 هجري

الزيارات: 23255

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

فوائد من كتب ابن القيم رحمه الله


 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].

 

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدَثاتها، وكل محدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

وبعد:

فقد وفَّقني الله عز وجل إلى البدء في قراءة كتب ابن القيم رحمه الله تعالى، ضمن مشروع قراءة تراث ابن القيم بإشراف الشيخ علي العمران حفظه الله تعالى.

 

وقد كنت خلال القراءة أحاول استخراج الفوائد والدرر من كلام هذا الإمام رحمه الله تعالى؛ فاجتمع لديَّ بعضُ الفوائد واللطائف، فأحببت تدوينها؛ لتكون مُعِينة لي ولإخواني على استحضار كلام وعِلم هذا الإمام الجليل.

 

وهذه "فوائد من كتاب الفوائد"، اعتمدت في استخراجها من تراث الإمام ابن القيم على طبعات عالم الفوائد ذات التحقيق المتميز بمنهج الشيخ بكر أبي زيد رحمه الله تعالى.

 

وإلى الفوائد أعزَّكم الله.

م الفائدة اسم الكتاب الصفحة
1- إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وأَلقِ سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلَّم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]. الفوائد 3
2- إذا حصل المؤثِّر وهو القرآن، والمحلُّ القابل وهو القلب الحي، ووُجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر؛ حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر. الفوائد 4
3- صاحب القلب الحي الواعي يجمع بين نور الفطرة ونور الوحي ﴿ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النور: 35]. الفوائد 4
4- عين اليقين نوعان: نوعٌ في الدنيا، ونوع في الآخرة، فالحاصل في الدنيا نسْبتُه إلى القلب كنسبة الشاهد إلى العين، وما أخبَرتْ به الرسلُ من الغيب يعايَن في الآخرة بالأبصار، وفي الدنيا بالبصائر، فهو عين يقين في المرتبتين. الفوائد 5
5- تضمَّنت سورة (ق) تقرير المبدأ والمعاد، والتوحيد والنبوة، والإيمان بالملائكة، وانقسام الناس إلى هالك شقي وفائز سعيد، وأوصاف هؤلاء وهؤلاء، وتضمَّنت إثبات صفات الكمال لله تعالى، وتنزيهه عما يضادُّ كماله من النقائص والعيوب، وذكر فيها القيامتين الصغرى والكبرى، والعالَمينِ الأكبرَ وهو عالَم الآخرة، والأصغرَ وهو عالَم الدنيا، وذكر فيها خلق الإنسان ووفاته وإعادته، وحاله عند وفاته ويوم معاده، وإحاطته سبحانه به من كل وجه، حتى علمه بوساوس نفسه، وإقامة الحفَظة عليه يُحصُون عليه كلَّ لفظة يتكلم بها، وأنه يوافيه يوم القيامة ومعه سائق يسوقه إليه، وشاهد يشهد عليه. الفوائد 6
6- شُبَهُ المنكرينَ للمعاد تعود إلى ثلاثة أنواع: أحدها: اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميز ولا يحصل معه تميز شخص عن شخص، والثاني: أن القدرة لا تتعلق بذلك، والثالث: أن ذلك أمر لا فائدة فيه. الفوائد 7
7- براهينُ المعاد في القرآن مبنيَّة على أصول ثلاثة: أحدها: تقرير كمال علم الرب سبحانه، كما قال في جواب من قال: ﴿ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ [يس: 78]: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 79].   والثاني: تقرير كمال قدرته؛ كقوله: ﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾ [يس: 81].   الثالث: كمال حكمته؛ كقوله: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾ [الدخان: 38].   ولهذا كان الصواب أن المعاد معلومٌ بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه، وأنه منزَّه عما يقوله منكروه، كما يُنزَّهُ كمالُه عن سائر العيوب والنواقص. ثم أخبر سبحانه أن المنكرين لذلك لمَّا كذَّبوا بالحق اختلَط عليهم أمرهم ﴿ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ﴾ [ق: 5] مختلط، لا يحصلون منه على شيء. الفوائد 8
8- أعظم آيات قدرة الله تعالى، وشواهد ربوبيته، وأدلة المعاد: خلق الإنسان؛ فإنه من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد، وأيُّ دليل أوضح من تركيب هذه الصورة الآدمية بأعضائها وقواها وصفاتها، وما فيها من اللحم والعظم، والعروق والأعصاب، والرباطات والمنافذ، والآلات والعلوم، والإرادات والصناعات؟ كل ذلك من نطفة ماء، فلو أنصف العبد لاكتفى بفكرة نفسه، واستدل بوجوده على جميع ما أخبَرتْ به الرسل عن الله وأسمائه وصفاته. الفوائد 12
9- في قوله تعالى: ﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ [ق: 24] إما أن يكون خطابًا للسائق والشهيد، أو خطابًا للملَكِ الموكَّل بعذابه وإن كان واحدًا، وهو مذهب معروف من مذاهب العرب في خطابها، أو تكون الألف منقلبة عن نون التأكيد الخفيفة ثم أُجري الوصل مجرى الوقف. الفوائد 14
10- صفات الملقَى في النار ستُّ صفات:   1- أنه كَفَّارٌ لنعم الله وحقوقه، كفارٌ بدينه وتوحيده وأسمائه وصفاته، كفَّار برسله وملائكته، كفار بكتبه ولقائه.   2- أنه معاند للحق، يدفعه جحدًا وعنادًا.   3- أنه منَّاع للخير، وهذا يعم منْعَه للخير الذي هو إحسان إلى نفسه من الطاعات والقرب إلى الله، والخير الذي هو إحسان إلى الناس، فليس فيه خير لنفسه، ولا لبني جنسه، كما هو حال أكثر الخلق.   4- أنه مع منعه للخير معتدٍ على الناس، ظلومٌ غشوم، معتدٍ عليهم بيده ولسانه.   5- أنه مُريب؛ أي: صاحب ريبٍ وشكٍّ، ومع هذا فهو آتٍ لكل ريبة، يقال: فلان مُريب، إذا كان صاحب ريبة.   6- أنه مع ذلك مشرك بالله، قد اتَّخَذ مع الله إلهًا آخر يعبده، ويحبه، ويغضب له، ويرضى له، ويحلف باسمه، وينذر له، ويوالي فيه، ويعادي فيه. الفوائد 15
11- صفات أهل الجنة:   1- أن يكون أوابًا؛ أي: رجَّاعًا إلى الله من معصيته إلى طاعته، ومن الغفلة عنه إلى ذكره. 2- أن يكون حفيظًا، قال قتادة: "حافظ لما استودعه الله من حقِّه ونعمته". 3- قوله: ﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ﴾ [ق: 33] يتضمن الإقرار بوجوده وربوبيته، وقدرته وعلمه، واطلاعه على تفاصيل أحوال العبد، ويتضمن الإقرار بكتبه ورسله وأمره ونهيه، ويتضمن الإقرار بوعده ووعيده ولقائه، فلا تصح خشية الرحمن بالغيب إلا بعد هذا كلِّه. 4- قوله: ﴿ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 33] وحقيقة الإنابة عكوف القلب على طاعة الله ومحبته والإقبال عليه.   ثم ذكر سبحانه جزاء من قامت به هذه الأوصاف بقوله: ﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 34، 35]. الفوائد 17
12- توجيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وما يدريك أن الله اطَّلَع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرتُ لكم)) أن هذا خطاب لقوم قد عَلِم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينَهم، بل يموتون على الإسلام، وأنهم قد يقارِفون بعض ما يقارِفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرِّين عليها، بل يوفِّقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم؛ لأنه قد تحقَّق ذلك فيهم، وأنهم مغفور لهم. الفوائد 21
13- التعليق على حديث ((أَذنَب عبدٌ ذَنْبًا فقال: اللَّهُمَّ اغفِرْ لي ذَنْبِي، فَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: أَذْنَبَ عبدي ذَنْبًا، فَعَلِم أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ ربِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عبدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغفِرُ الذَّنبَ، وَيَأخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ، اغفِرْ لِي ذَنبي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالى: أَذْنَبَ عَبدِي ذَنبًا، فعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنبِ، قد غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ)). الفوائد 22
14- بركات الأرض كثيرة ومتنوعة، فمِن برَكتِها أن الحيواناتِ كلَّها وأرزاقها وأقواتها تخرُج منها، ومِن بركتها أنك تُودِعُ فيها الحب فتُخرِجه لك أضعاف أضعاف ما كان، ومِن بركتها أن تحمل الأذى على ظهرها، وتُخرِج لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها، فتواري منه كل قبيح، وتخرج له كل مليح، ومِن بركتها أنها تستر قبائح العبد وفضلات بدنه وتواريها، وتضمه وتؤويه، وتُخرِج له طعامه وشرابه، فهي أحمل شيء للأذى، وأعوده بالنفع، فلا كان من التراب خير منه وأبعد من الأذى، وأقرب إلى الخير. الفوائد 23
15- في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15] الدلالةُ على ربوبية الله عز وجل ووحدانيته، وقدرته وحكمته ولطفه، والتذكير بنعمه وإحسانه، والتحذير من الركون إلى الدنيا واتخاذها وطنًا ومستقرًّا. الفوائد 25
16- للإنسان قوَّتانِ: قوة علمية نظرية، وقوة عملية إرادية، وسعادتُه التامة موقوفة على استكمال هاتين القوتين، واستكمالُ القوة العلمية يكون بمعرفة فاطره وبارئه، ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة الطريق التي توصِّل إليه، ومعرفة آفاتها، ومعرفة نفسه، ومعرفة عيوبها، فبهذه المعارف الخمسة يحصل كمال قوته العلمية، وأعلمُ الناسِ أعرفُهم بها وأفقههم فيها، واستكمالُ القوة العملية الإرادية لا يحصل إلا بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد، والقيام بها إخلاصًا وصدقًا، وإحسانًا ونصحًا، ومتابعةً، وشهودًا لمنَّتِه عليه وتقصيره هو في أداء حقه. الفوائد 25
17- طريقَا معرفة الربِّ في القرآن: أحدهما: النظر في مفعولاته، والثاني: التفكر في آياته وتدبُّرها، فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة. الفوائد 28
18- العبيد قسمان: عبيدُ طاعةٍ وعبودية، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 42]، وقال تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، ومن عداهم عبيدُ قهرٍ وربوبية. الفوائد 31
19- الفرق بين حكم الله تعالى وقضائه: أن حكمه تعالى يتناول حكمَه الدينيَّ الشرعي، وحكمه الكونيَّ القدَري، والنوعان نافذان في العبد ماضيانِ فيه، وهو مقهور تحت الحكمينِ، لكن الحكم الكوني لا يمكنه مخالفتُه، وأما الديني الشرعي فقد يخالفه، وأما القضاء فهو الإتمام والإكمال، وذلك إنما يكون بعد مضيِّه ونفوذه. الفوائد 33
20- خِذلانُ الله تعالى لعبده نوعان: أحدهما: ما يكون جزاءً منه للعبد على إعراضه عنه، وإيثار عدوه في الطاعة والموافقة عليه، وتناسي ذكره وشكره، فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه، والثاني: ألا يشاء له ذلك ابتداءً؛ لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية، ولا يشكره عليها، ولا يثني عليه بها، ولا يحبه، فلا يشاؤها له؛ لعدم صلاحية محله، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53]. الفوائد 35
21- لما كان الحزن والهمُّ والغم يضاد حياةَ القلب واستنارته، سأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ذهابها بالقرآن؛ فإنها أحرى ألا تعود، وأما إذا ذهبت بغير القرآن؛ من صحة، أو دنيا أو جاه، أو زوجة أو ولد، فإنها تعود بذهاب ذلك. الفوائد 37
22- المكروه الوارد على القلب: إن كان من أمر ماضٍ أحدَثَ الحزنَ، وإن كان من مستقبلٍ أحدث الهمَّ، وإن كان من أمر حاضر أحدَثَ الغمَّ. الفوائد 37
23- أنزَهُ الموجوداتِ وأطهرها، وأنورها وأشرفها، وأعلاها ذاتًا وقدرًا وأوسعها: عرشُ الرحمن جل جلاله؛ ولذلك صلح لاستوائه عليه، وكل ما كان أقرب إلى العرش، كان أنوَرَ وأنزَهَ وأشرف، وكل ما بعُد عنه كان أظلم وأضيق. الفوائد 38
24- قَبول المحل لما يوضع فيه مشروطٌ بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات، فكذلك في الاعتقادات والإرادات. الفوائد 41
25- قوله تعالى: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1] أبلَغُ في الذم مِن "شغلكم"؛ فإن العامل قد يستعمل جوارحه بما يعمل وقلبُه غير لاهٍ به، فاللهو ذهول وإعراض. الفوائد 43
26- من لم ينتفع بعينه، لم ينتفع بأذنه. الفوائد 44
27- للعبد سترٌ بينه وبين الله، وسترٌ بينه وبين الناس، فمَن هتَكَ السترَ الذي بينه وبين الله، هتَكَ اللهُ الستر الذي بينه وبين الناس. الفوائد 44
28- للعبد ربٌّ هو ملاقيه، وبيتٌ هو ساكنه، فينبغي له أن يسترضيَ ربَّه قبل لقائه، ويعمُرَ بيته قبل انتقاله إليه. الفوائد 44
29- إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها. الفوائد 44
30- الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غمَّ ساعة، فكيف بغمِّ العمر؟! الفوائد 44
31- محبوب اليوم يعقبه المكروه غدًا، ومكروه اليوم يعقبه المحبوب غدًا. الفوائد 44
32- أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كلَّ وقت بما هو أولى بها، وأنفع في معادها، فكيف يكون عاقلًا من باع الجنَّة بما فيها بشهوة ساعة؟! الفوائد 45
33- يخرُج العارف من الدنيا ولم يقضِ وطَرَه من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربِّه. الفوائد 45
34- المخلوق إذا خِفتَه استوحشتَ منه وهرَبتَ منه، والربُّ تعالى إذا خِفتَه أنستَ به وقربت إليه. الفوائد 45
35- لو نفع العلم بلا عملٍ، لَما ذمَّ الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص، لَما ذمَّ المنافقين. الفوائد 45
36- دافع الخطرةَ، فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمَّة، فإن لم تدافعها صارت فعلًا، فإن لم تتداركه بضدِّه صار عادة، فيصعب عليك الانتقال عنها. الفوائد 45
37- التقوى ثلاث مراتب:   إحداها: حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرَّمات.   الثانية: حميتها عن المكروهات.   الثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني.   فالأولى تعطي العبد حياته، والثانية تفيد صحته وقوته، والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته. الفوائد 45
38- لما طلب آدمُ الخلود في الجنة من جانب الشجرة، عوقب بالخروج منها، ولما طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤية، لبث فيها بضع سنين. الفوائد 46
39- إذا جرى على العبد مقدور يكرهه، فله فيه ستةُ مَشاهد:   الأول: مشهد التوحيد، وأن الله هو الذي قدَّره وشاءه وخلقه، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.   الثاني: مشهد العدل، وأنه ماضٍ فيه حكمه، عدلٌ فيه قضاؤه.   الثالث: مشهد الرحمة، وأن رحمته في هذا المقدور غالبةٌ لغضبه وانتقامه، ورحمته حشوه (أي ظاهره بلاء، وباطنه رحمة).   الرابع: مشهد الحكمة، وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك، لم يقدِّره سدًى، ولا قضاه عبثًا.   الخامس: مشهد الحمد، وأن له سبحانه الحمدَ التام على ذلك من جميع وجوهه.   السادس: مشهد العبوديَّة، وأنه عبدٌ محض من كل وجه، تجري عليه أحكام سيِّدِه وأقضيتُه بحكم كونه ملكه وعبده، فيصرِّفه تحت أحكامه القدريَّة كما يصرِّفه تحت أحكامه الدينيَّة، فهو محلٌّ لجريان هذه الأحكام عليه. الفوائد 46
40- قلَّة التوفيق وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربِّه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومَحْقُ البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يُفسِدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهمِّ والغم، وضنك المعيشة، وكسف البال - تتولَّد من المعصية والغفلة عن ذكر الله، كما يتولَّد الزرع عن الماء، والإحراق عن النار، وأضدادُ هذه تتولَّد عن الطاعة. الفوائد 47
41- سر العلاقة بين العبد وربِّه أنه لا يرى ربَّه إلا محسنًا، ولا يرى نفسه إلا مسيئًا أو مفرِّطًا أو مقصِّرًا، فيرى كلَّ ما يسُرُّه من فضل ربه عليه وإحسانه إليه، وكلَّ ما يسوءُه من ذنوبه وعدل الله فيه. الفوائد 47
42- مَن عظُم وقارُ الله في قلبه أن يعصيَه، وقَّره الله في قلوب الخلق أن يُذِلُّوه. الفوائد 49
43- إذا علقت شروش (جذور) المعرفة في أرض القلب، نبتت فيه شجرة المحبة، فإذا تمكَّنت وقويتْ أثمرَتِ الطاعة، فلا تزال الشجرة ﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ [إبراهيم: 25]. الفوائد 49
44- أول منازل القوم ﴿ اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: 41، 42]، وأوسطها ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [الأحزاب: 43]، وآخرها ﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ﴾ [الأحزاب: 44]. الفوائد 49
45- أرض الفطرة رحبة، قابلة لما يغرس فيها؛ فإنْ غُرست شجرة الإيمان والتقوى أورثتْ حلاوة الأبد، وإنْ غُرست شجرة الجهل والهوى فكلُّ الثمر مرٌّ. الفوائد 50
46- ارجع إلى الله، واطلبه من عينك وسمعك وقلبك ولسانك، ولا تشرد عنه من هذه الأربعة، فما رجع من رجع إليه بتوفيقه إلا منها، وما شرد من شرد عنه بخذلانه إلا منها، فالموفَّق يسمع ويبصر ويتكلم ويبطش بمولاه، والمخذول يصدر منه ذلك بنفسه وهواه. الفوائد 50
47- مِثال تَوَلُّد الطاعة ونُمُوِّها وتَزايُدها كمثل نَواةٍ غَرستَها فصارت شجرة، ثم أَثمَرَت فأَكلتَ ثَمرَها وغَرستَ نَواهَا، فكلَّما أَثمَر منها شيء جَنيتَ ثَمرَهُ وغَرستَ نَواه، وكذلك تَداعِي المعاصي، فليَتدبَّرِ اللَّبِيبُ هذا المِثال، فمِن ثَوابِ الحَسنةِ الحَسنَةُ بَعدَها، ومِن عُقوبةِ السيئةِ السيئةُ بَعدَها. الفوائد 50
48- ليس العَجَب من مملوك يتذلَّل لله تعالى ويتعبد له، ولا يمل من خدمته، مع حاجته وفقره إليه؛ إنما العجب من مالكٍ يتحبَّب إلى مملوكه بصنوف إنعامه، ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه. الفوائد 50
49- كفى بك عزًّا أنك له عبد، وكفى بك فخرًا أنه لك رب. الفوائد 50
50- إياك والمعاصي؛ فإنها أذلَّتْ عزَّ ﴿ اسْجُدُوا ﴾ [البقرة: 34]، وأخرَجت إقطاع ﴿ اسْكُنْ ﴾ [البقرة: 35]. الفوائد 51
51- لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر، وقع سهم العدوِّ منه في غير مقتل، فجرحه، فوضع عليه جُبار الانكسار، فعاد كما كان، فقام الجريح كأن لم يكن به قلَبةٌ. الفوائد 52
52- تالله ما نفع آدمَ عند معصيته عزُّ ﴿ اسْجُدُوا ﴾ [البقرة: 34]، ولا شرفُ ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ ﴾ [البقرة: 31]، ولا خصيصة ﴿ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75]، ولا فخرُ ﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ [الحجر: 29]، وإنما انتفع بذلِّ ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ﴾ [الأعراف: 23]. الفوائد 52
53- نجائب النجاة مهيَّأة للمراد، وأقدام المطرود موثوقة بالقيود. الفوائد 52
54- هبَّت عواصف الأقدار في بيداء الأكوان، فتقلب الوجود، ونجم الخير، فلما ركدت الريح، إذا أبو طالب غريق في لجة الهلاك، وسلمان على ساحل السلامة، والوليد بن المغيرة يقدُم قومه في التِّيه، وصهيب قد قدم بقافلة الروم، والنجاشي في أرض الحبشة يقول: لبيك اللهم لبيك، وبلال ينادي: الصلاة خيرٌ من النوم، وأبو جهل في رقدة المخالفة. الفوائد 52
55- أبو طالب إذا سئل عن اسمه قال: عبدمناف، وإذا انتسب افتخر بالآباء، وإذا ذُكرت الأموال عدَّ الإبل، وسلمان إذا سئل عن اسمه قال: عبدالله، وعن نسبه قال: ابن الإسلام، وعن ماله قال: الفقر، وعن حانوته قال: المسجد، وعن كسبه قال: الصبر، وعن لباسه قال: التقوى والتواضع، وعن وساده قال: السهر، وعن فخره قال: (سلمان منا)، وعن قصده قال: "يريدون وجهه"، وعن سيره قال: إلى الجنة، وعن دليله في الطريق قال: إمام الخلق وهادي الأئمة. الفوائد 54
56- الذنوب جراحات، ورُبَّ جرح وقع في مقتل. الفوائد 55
57- دخلتَ دار الهوى فقامرت بعمرك، ولو خرج عقلك من سلطان هواك، عادت الدولة له. الفوائد 55
58- إذا عرَضتْ نظرة لا تحلُّ، فاعلم أنها مِسْعَرُ حرب، فاستتر منها بحجاب ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 30]، فقد سلمت من الأثر، وكفى الله المؤمنين القتال. الفوائد 55
59- لابد من سِنَةِ الغفلة، ورقاد الهوى، ولكن كن خفيف النوم؛ فحراس البلد يصيحون: دنا الصباح. الفوائد 118
60- نور العقل يضيء في ليل الهوى، فتلوح جادة الصواب، فيتلمَّح البصير في ذلك النور عواقبَ الأمور. الفوائد 56
61- اخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق المحشو بالآفات، إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه ما لاعين رأت؛ فهناك لا يتعذر مطلوب، ولا يُفقد محبوب. الفوائد 56
62- يا بائعًا نفسه بهوى مَن حبُّه ضنى، ووصله أذى، وحسنُه إلى فناء، لقد بعتَ أنفس الأشياء بثمن بخس، كأنك لم تعرف قدر السلعة، ولا خسة الثمن، حتى إذا قدمت يوم التغابن، تَبيَّن لك الغبن في عقد التبايع، "لا إله إلا الله" سلعةٌ اللهُ مشتريها، وثمنها الجنة، والدلَّالُ الرسول، ترضى ببيعها بجزء يسير مما لا يساوي كلُّه جَناحَ بعوضة. الفوائد 56
63- يا مخنث العزم، أين أنت والطريق؟! طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجِع للذبح إسماعيل، وبِيعَ يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونُشِر بالمنشار زكريا، وذُبِح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقرَ وأنواع الأذى محمدٌ صلى الله عليه وسلم، تُزْهى أنت باللهو واللعب؟!   فيا دارَها بالحَزْنِ إنَّ مَزارَها = قريبٌ، ولكن دون ذلك أهوالُ الفوائد 56
64- الحرب قائمة وأنت أعزل في النظارة، فإنْ حرَّكت ركابك فللهزيمة، ومن لم يباشر حرَّ الهجير في طِلاب المجد، لم يَقِل في ظلال الشرف.   تقول سُليمى: لو أقمتَ بأرضنا = ولم تدرِ أنِّي للمُقامِ أطوفُ   قيل لبعض العُباد: إلى كم تتعب نفسك؟ فقال: راحتَها أريد. الفوائد 57
65- يا مكرمًا بحلة الإيمان بعد حلة العافية وهو يُخلِقهما في مخالفة الخالق، لا تُنكِر السلب؛ يَستحق من استَعمل نعمة المنعِم فيما يَكرهُ أن يُسلَبَها. الفوائد 57
66- عرائس الموجودات قد تزيَّنت للناظرين؛ ليبلوهم أيهم يؤثرهن على عرائس الآخرة، فمَن عرَف قدر التفاوت، آثَرَ ما ينبغي إيثاره.   وحِسانُ الكون لما أنْ بدَتْ = أقبَلتْ نحوي وقالت لي: إلـــيّ   فتعاميتُ كأنْ لم أرَها = عندما أبصَرتُ مقصودي لديّ الفوائد 57
67- قيل للحسن: سبقَنا القوم على خيل دهم، ونحن على حُمُرٍ معقرة، فقال: إن كنت على طريقهم، فما أسرَعَ اللحاق بهم! الفوائد 58
68- من فقَدَ أُنسَه بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف، ومن وجده بين الناس وفقَدَه في الخلوة فهو معلول، ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود، ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق القويُّ في حاله، ومن كان فتحه في الخلوة، لم يكن مزيده إلا منها، ومن كان فتحه بين الناس ونصحهم وإرشادهم، كان مزيده معهم، ومن كان فتحه في وقوفه مع مراد الله حيث أقامه في أي شيء استعمله، كان مزيده في خلوته ومع الناس، فأشرف الأحوال ألا تختار لنفسك حالةً سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه، فكن مع مراده منك، ولا تكن مع مرادك منه. الفوائد 58
69- مصابيح القلوب الطاهرة في أصل الفطرة منيرةٌ قبل الشرائع ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ﴾ [النور: 35]. الفوائد 58
70- وحَّدَ قُسٌّ (قس بن ساعدة الإيادي) وما رأى الرسول، وكفر ابنُ أُبَيٍّ وقد صلى معه في المسجد. الفوائد 58
71- سبق العلم بنبوة موسى وإيمان آسية، فسِيقَ تابوته إلى بيتها، فجاء طفل منفرد عن أم إلى امرأة خالية عن ولد! فلله كم في هذه القصة من عبرة: كم ذبح فرعون في طلب موسى مِن ولدٍ، ولسانُ القدر يقول: لا تربِّيه إلا في حجرك! الفوائد 59
72- متى همَّت أقدام العزم بالسلوك، اندفع من بين أيديها سدُّ القواطع، والقواطع مِحَنٌ يتبيَّن بها الصادق من الكاذب، فإذا خُضتَها انقلبت أعوانًا لك توصِّلك إلى المقصود.   قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾. [العنكبوت: 69].   (يقول ابن قيِّم الجوزية رحمه الله: إن الهمم العالية، والمطالب السامية، وكيفية الوصول إليهما، إنما يكون بالنية الصحيحة، وبقطع العوائد والعلائق والعوائق). الفوائد 60
73- الدنيا كامرأة بغيٍّ لا تثبت مع زوج، إنما تخطب الأزواج ليستحسنوا عليها، فلا ترضَ بالدياثة.   ميَّزتُ بين جمالها وفعالِها = فإذا الملاحة بالقباحةِ لا تَفِي   حلَفتْ لنا ألا تخونَ عهودَنا = فكأنها حلَفتْ لنا ألا تَفِـي   السير في طلبها سير في أرض مسبعة، والسباحة فيها سباحة في غدير التمساح، المفروح به منها هو عين المحزون عليه، آلامها متولدة من لذَّاتها، وأحزانُها من أفراحها:   مآربُ كانت في الشباب لأهلِها = عِذابًا فصارتْ في المشيبِ عَذابَا الفوائد 61
74- تزخرفت الشهوات لأعين الطباع، فغض عنها الذين يؤمنون بالغيب، ووقع تابعوها في بيداء الحسرات، فـ ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 5]، وهؤلاء يقال لهم: ﴿ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ﴾ [المرسلات: 46]. الفوائد 61
75- لما عرف الموفَّقون قدر الحياة الدنيا، وقلة الحياة الدنيا، وقلة المقام فيها، أماتوا فيها الهوى؛ طلبًا لحياة الأبد.   لما استيقظوا من نوم الغفلة، استرجعوا بالجد ما انتهَبَه العدوُّ منهم في زمن البطالة، فلما طالت عليهم الطريق، تلمحوا المقصد فقرُب عليهم البعيد، وكلما أمرَّت لهم الحياة حلَا لهم تذكُّرُ: ﴿ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 103].   وركبٍ سَرَوْا والليلُ مُلقٍ رواقَه = على كل مغْبرِّ المطالِعِ قائمِ   حَدَوْا عزماتٍ ضاعت الأرضُ بينها = فصار سُراهم في ظهور العزائمِ   تُريهم نجومُ الليل ما يبتغونه = على عاتق الشِّعْرى وهامِ النعائمِ   إذا اطَّردتْ في معرك الجِدِّ قصَّفوا = رماحَ العطايا في صدور المكارمِ   (رواق الليل: الرواق من الليل: مقدمه وجانبه، والشعرى: كوكب يطلع بعد الجوزاء). الفوائد 62
76- من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيَه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامِل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرَّض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذِكره ومناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلُّق القلب بغيره ولا تهرُب منه بنعيم الإقبال عليه والإنابة إليه.   وأعجب من هذا علمُك أنك لا بد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه وأنت عنه معرض، وفيما يُبعدك عنه راغب. الفوائد 62
77-
ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين:   إحداهما: سوء ظنِّه بربه، وأنه لو أطاعه وآثَرَه لم يُعطِه خيرًا منه حلالًا.   والثانية: أن يكون عالمًا بذلك، وأن من ترك لله شيئًا أعاضه خيرًا منه، ولكن تغلب شهوتُه صبرَه، وهواه عقلَه.   فالأول مِن ضعفِ علمه، والثاني مِن ضعف عقله وبصيرته.
الفوائد 63
78- قال يحيى بن معاذ: من جمع الله عليه قلبه في الدعاء، لم يرُدَّه. قلت: إذا اجتمع عليه قلبه، وصدقت ضرورته وفاقته، وقوي رجاؤه، فلا يكاد يُرَدُّ دعاؤه. الفوائد 63
79- لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها، وخداع الأمل لأربابه، وتملُّك الشيطان وقيادة النفوس، رأوا الدولة للنفس الأمارة، لجؤوا إلى حصن التضرُّع والالتجاء، كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده. الفوائد 63
80- شهوات الدنيا كلعب الخيال، ونظر الجاهل مقصور على الظاهر، فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر.   لاح لهم المشتهَى، فلما مدوا أيدي التناول، بان لأبصار البصائر خيط الفخ، فطاروا بأجنحة الحذر، وصوبوا إلى الرحيل الثاني ﴿ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴾ [يس: 26]. الفوائد 64
81- تلمح القوم الوجود، ففهموا المقصود، فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل، وشمروا للسير في سواء السبيل، فالناس مشتغلون بالفضلات، وهو في قطع الفلوات، وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح.   وقد وقع ثعلبانِ في شبكة، فقال أحدهما للآخر: أين الملتقى بعد هذا؟ فقال: بعد يومين في الدباغة. الفوائد 64
82- تالله ما كانت الأيام إلا منامًا، فاستيقظوا وقد حصلوا على الظفر.   ما مضى من الدنيا أحلام، وما بقي منها أمانيُّ، والوقت ضائع بينهما. الفوائد 64
83- كيف يَسلَم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا ينصفه، وعدو لا ينام عن معاداته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوى مُرْدٍ، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مزيِّن، وضعف مستولٍ عليه، فإنْ تولَّاه الله وجذبه إليه، انقهرت له هذه كلُّها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه، اجتمعت عليه فكانت الهلَكة. الفوائد 64
84- لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسُّنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرَض لهم من ذلك فسادٌ في فِطَرِهم، وظُلمةٌ في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحْق في عقولهم، وعمَّتهم هذه الأمور وغلبت عليهم، حتى ربِّي فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يَرَوها منكرًا، فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السُّنن، والنفس مقام العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلَبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلها هم المشار إليهم، فإذا رأيتَ دولة هذه الأمور قد أقبَلتْ، وراياتها قد نُصبت، وجيوشها قد ركبت، فبطنُ الأرض والله خيرٌ من ظهرها، وقُلَلُ الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس. الفوائد 65
85- اقشعرت الأرض، وأظلَمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظُلمِ الفجَرة، وذهبت البركات، وقلَّت الخيرات، وهُزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة، والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقِّبات إلى ربِّهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذرٌ بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤْذِن بليلِ بلاء قد ادلهمَّ ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السيل بتوبة نصوح، ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أُغلق، وبالرهن وقد غَلِق، وبالجناح وقد عَلِق ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]. الفوائد 65
86- العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملًا يُثقله ولا ينفعه. الفوائد 66
87- إذا حملتَ على القلب هموم الدنيا وأثقالها، وتهاونتَ بأوراده التي هي قوته وحياته، كنت كالمسافر الذي يحمِّل دابته فوق طاقتها ولا يوفيها علفها، فما أسرَعَ ما تقف به:   ومُشتَّتُ العزَماتِ يُنفِقُ عمرَه = حيرانَ لا ظَفَرٌ ولا إخفاقُ   **   هل السائقُ العَجلانُ يَملِكُ أمرَه = فما كلُّ سيرِ اليَعْمَلاتِ وخيدُ   رويدًا بأخفافِ المطيِّ فإنما = تُداسُ جِباهٌ تحتها وخُدودُ   (اليَعْمَلات: جمع يَعْمَلة، وهي الناقة النجيبة، المعتملة المطبوعة على العمل. [وخيد]: [وَخَدَ] البعير: أسرع الخطى). الفوائد 66
88- الغاية أول في التقدير، آخر في الوجود، مبدأ في نظر العقل، منتهى في منازل الوصول. الفوائد 67
89- أَلِفت عجزَ العادةِ، فلو علَتْ بك همَّتُك رُبى المعالي، لاحتْ لك أنوارُ العزائم.   إنما تفاوَتَ القومُ بالهمم لا بالصور.   نُزولُ همَّةِ الكسَّاح دلَّاهُ في جُبِّ العَذِرة.   بينك وبين الفائزين جبل الهوى، نزلوا بين يديه ونزلتَ خلفه، فاطوِ فضل منزلٍ تلحق بالقوم.   الدنيا مضمار سباق، وقد انعقد الغبار وخفي السابق، والناس في المضمار بين فارس وراجلٍ وأصحابِ حُمُر معقَّرة.   سوف ترى إذا انجلى الغبارُ = أفرسٌ تحتك أم حمارُ الفوائد 67
90- قوة الطمع في بلوغ الأمل توجب الاجتهاد في الطلب، وشدة الحذر من فوت المأمول. الفوائد 68
91- الصبر على عطش الضُّرِّ، ولا الشربُ من شِرعة مَنٍّ.   تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.   لا تسأل سوى مولاك؛ فسؤال العبد غيرَ سيده تشنيعٌ عليه. الفوائد 68
92- غرس الخلوة يثمر الأنس.   استوحش مما لا يدوم معك، واستأنس بمن لا يفارقك.   عزلة الجاهل فساد، وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها وسقاؤها.   إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة، واستحضرا الفكر، وجرَتْ بينهم مناجاة:   أتاك حديثٌ لا يُمَلُّ سماعُه = شهيٌّ إلينا نثرُه ونظامُهُ   إذا ذكَرتْه النفسُ زال عناؤها = وزال عن القلبِ المعنَّى ظلامُهُ الفوائد 68
93- إذا خرَجتْ من عدوك لفظة سفه، فلا تلحقها بمثلها تلقحها، ونسلُ الخصام نسل مذموم.   حميتك لنفسك أثر الجهل بها، فلو عرَفتَها أعنتَ الخصم عليها.   إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب، ابتدأت بإحراق القادح.   أوثق غضبك بسلسة الحلم؛ فإنه كلب؛ إنْ أفْلَتَ أتلَف. الفوائد 69
94- من سبقت له سابقة السعادة، دُلَّ على الدليل قبل الطلب.   إذا أراد القدر شخصًا، بذر في أرض قلبه بذر التوفيق، ثم سقاه بماء الرغبة والرهبة، ثم أقام عليه بأطوار المراقبة، واستخدم له حارس العلم، فإذا الزرعُ قائم على سوقه. الفوائد 69
95- إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة، وردفه قمر العزيمة، أشرقت أرض القلب بنور ربها.   إذا جن الليل تغالَبَ النوم والسهر، فالخوف والشوق في مقدم عسكر اليقظة، والكسل والتواني في كتيبة الغفلة، فإذا العزم حمل على الميمنة وانهزمت جنود التفريط، فما يطلع الفجر إلا وقد قسمت السُّهْمانُ، وبردت الغنيمة لأهلها. الفوائد 69
96- لا تسأم من الوقوف على الباب ولو طُردتَ، ولا تقطع الاعتذار ولو رُددتَ، فإن فُتح الباب للمقبولين دونك، فاهجم هجوم الكذابين، وادخل دخول الطفيلية، وابسط كف: ﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ﴾ [يوسف: 88]. الفوائد 70
97- يا مستفتحًا باب المعاش بغير إقليد التقوى، كيف توسع طريق الخطايا وتشكو ضيق الرزق؟!   لو وقفتَ عند مراد التقوى، لم يفُتْك مرادٌ.   المعاصي سدٌّ في باب الكسب، وإن العبد لَيُحرَمُ الرزق بالذنب يصيبه.   تالله ما جئتُكمُ زائرًا = إلا وجدتُ الأرض تُطوى لِي   ولا انثنى عزميَ عن بابِكم = إلا تعثَّرتُ بأذيالي الفوائد 70
98- من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان، فلينظر ماذا يوليه من العمل، وبأي شغل يشغله. الفوائد 70
99- كن من أبناء الآخرة، ولا تكن من أبناء الدنيا؛ فإن الولد يتبع الأم.   الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها، فكيف تعدو خلفها؟!   الدنيا جيفة، والأسد لا يقع على الجيف.   الدنيا مجاز، والآخرة وطن، والأوطار إنما تُطلَب في الأوطان. الفوائد 70
100- الاجتماع بالإخوان قسمان: أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يُفسِد القلب ويضيع الوقت.   ثانيهما: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق، والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها. ولكن فيه ثلاث آفات: الأولى: تزين بعضهم لبعض. الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود. الفوائد 71
101- الاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمارة، وإما للقلب والنفس المطمئنة، والنتيجة مستفادة من اللقاح، فمن طاب لقاحه طابت ثمرته، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحُها من الملَك، والخبيثة لقاحها من الشيطان. وقد جعل الله سبحانه برحمته الطيبات للطيبين، والطيبين للطيبات، وعكس ذلك. الفوائد 71
102- ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير، بل لا يؤثر سبب ألبتة إلا بانضمام سبب آخر إليه، وانتفاء مانع تأثيره، ولا يستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثره على غيره إلا الله الواحد القهار، فلا ينبغي أن يُرجى ولا يخاف غيره، هذا برهان قطعي على أن تعلُّق الرجاء والخوف بغيره باطل. فالحول والقوة التي يُرجى لأجلها المخلوق ويخاف إنما هما لله وبيده في الحقيقة، فكيف يُخاف ويرجى مَن لا حول له ولا قوة، بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فإنه على قدر خوفك من غير الله يُسلط عليك، وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان. الفوائد 71
103- التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه؛ فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65]، وأما أولياؤه فينجيهم به من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها؛ ولذلك فزع إليه يونس فنجَّاه الله من تلك الظلمات، وفزع إليه أتْباع الرسل فنجَوا به مما عذِّب به المشركون في الدنيا وما أعد لهم في الآخرة.   ولما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق له، لم ينفعه؛ لأن الإيمان عند المعاينة لا يُقبل.   هذه سنة الله في عباده. فما دُفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد؛ ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد، ودعوةُ ذي النون التي ما دعا بها مكروبٌ إلا فرَّج الله كربه بالتوحيد.   فلا يُلقي في الكُرَبِ العِظام إلا الشركُ، ولا يُنجي منها إلا التوحيدُ، فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها. الفوائد 72
104- كمال العبد بسبب قوتين، هما: العلم والحب، وأفضل العلم العلمُ بالله، وأعلى الحب الحبُّ له، وأكمل اللذة بحسبهما، والله المستعان. الفوائد 74
105- طالب الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيرُه وطلبه إلا بحبسين: حبس قلبه في طلبه ومطلوبه، وحبسه عن الالتفات إلى غيره.   وحبس لسانه عما لا يفيد، وحبسه على ذكر الله وما يزيد في إيمانه ومعرفته.   وحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات، وحبسها على الواجبات والمندوبات.   فلا يفارق الحبس حتى يلقى ربَّه فيخلصه من السجن إلى أوسع فضاء وأطيبه. الفوائد 74
106- جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحُسن الخلُق؛ لأن تقوى الله تُصلِح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يُصلِح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو إلى محبته. الفوائد 76
107- بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تُقطَع بخطوتين: خطوة عن نفسه، وخطوة عن الخلق، فيسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس، ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله، فلا يلتفت إلا إلى من دلَّه على الله وعلى الطريق الموصلة إليه. الفوائد 76
108- صاحَ بالصحابة واعظُ: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾ [الأنبياء: 1]، فجزعت للخوف قلوبهم، فجرت من الحذر العيون ﴿ فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾ [الرعد: 17]. الفوائد 76
109- تزيَّنت الدنيا لعليٍّ فقال: "أنت طالق ثلاثًا لا رجعة لي فيك"، وكانت تكفيه واحدة للسُّنة، لكنه جمع الثلاث لئلا يتصور للهوى جواز المراجعة، ودينُه الصحيح وطبعه السليم يأنفان من المحلِّل، كيف وهو أحد رواة حديث: ((لعن الله المحلِّلَ))؟ الفوائد 76
110- نور الحق أضوأ من الشمس، فيحق لخفافيش البصائر أن تعشوَ عنه. الفوائد 77
111- الطريق إلى الله خالٍ من أهل الشك ومن الذين يتبعون الشهوات، وهو معمور بأهل اليقين والصبر، وهم على الطريق كالأعلام ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]. الفوائد 77
112- لشهادة «أن لا إله إلا الله» عند الموت تأثيرٌ عظيم في تكفير السيئات وإحباطها؛ لأنها شهادة من عبدٍ موقن بها عارفٍ بمضمونها، قد ماتت منه الشهوات ولانت نفسه المتمردة، وانقادت بعد إبائها واستعصائها، وأقبَلتْ بعد إعراضها، وذلَّت بعد عزها، وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها، واستخذت بين يدي ربِّها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت، وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته. الفوائد 77
113- فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه وهو الدم، من طريق واحدة وهو السرة، فلما خرج من بطن الأم وانقطعت الطريق، فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقًا أطيب وألذَّ من الأول، وانقطعت تلك الطريق، فإذا تمت مدة الرضاع وانقطعت الطريقان بالفطام، فتح طرقًا أربعة أكمل منها: طعامان وشرابان؛ فالطعامان من الحيوان والنبات، والشرابان من المياه والألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ، فإذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة، لكنه سبحانه فتح له - إن كان سعيدًا - طرقًا ثمانية، وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبدَه المؤمن شيئًا من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له. الفوائد 79
114- من عرَف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس، ومن عرف ربَّه اشتغل به عن هوى نفسه.   أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص، وعن نفسك بشهود المنة، فلا ترى فيه نفسك ولا ترى الخلق. الفوائد 80
115- دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكًّا في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضب أورث العدوان على خلقه. الفوائد 80
116- أصول الخطايا كلها ثلاثة: الكِبرُ: وهو الذي أصار إبليس إلى ما أصاره، والحرص: وهو الذي أخرج آدم من الجنة، والحسدُ: وهو الذي جرَّأ أحد ابنَي آدم على أخيه، فمن وُقِيَ شرَّ هذه الثلاثة فقد وُقي الشَّرَّ، فالكفرُ من الكِبر، والمعاصي من الحرص، والبغي والظلم من الحسد.

الفوائد 80
117- جعل الله بحكمته كلَّ جزء من أجزاء ابن آدم ظاهره وباطنه، آلةً لشيء، إذا استُعمل فيه فهو كماله؛ فالعين آلة للنظر، والأذن آلة للسماع، والأنف آلة للشم، واللسان للنطق، والفرج للنكاح، واليد للبطش، والرِّجل للمشي، والقلب للتوحيد والمعرفة، والروح للمحبة، والعقل آلة للتفكير والتدبر لعواقب الأمور الدينية والدنيوية، وإيثار ما ينبغي إيثاره، وإهمال ما ينبغي إهماله. الفوائد 80
118- جمع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب))؛ (رواه ابن ماجه في التجارات) بين مصالح الدنيا والآخرة، فنعيمُها ولذَّتها إنما ينال بتقوى الله، وراحة القلب والبدن وترك الاهتمام والحرص الشديد والتعب والعناد والكد والشقاء في طلب الدنيا إنما يُنال بالإجمال في الطلب، فمن اتقى الله فاز بلذة الآخرة ونعيمها، ومن أجمَلَ في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها، فالله المستعان.   قد نادت الدنيا على نفسِها = لو كان في ذا الخلقِ مَن يَسمعُ   كم واثقٍ بالعيش أهلَكتُه = وجامعٍ فرَّقتُ ما يَجمَعُ الفوائد 81
119- قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69]، علق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هدايةً أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد جهادُ النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبلَ رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد.   قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة، لنهدينهم سبل الإخلاص.   ولا يتمكن جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا، فمن نُصِر عليها نُصِر على عدوه، ومن نُصرت عليه نُصر عليه عدوُّه. الفوائد 82
120- ألقى الله سبحانه العداوة بين الشيطان وبين الملَك، والعداوة بين العقل وبين الهوى، والعداوة بين النفس الأمارة وبين القلب، وابتلى العبد بذلك وجمع له بين هؤلاء، وأمدَّ كل حزب بجنود وأعوان، فلا تزال الحرب سجالًا ودُوَلًا بين الفريقين إلى أن يستولي أحدهما على الآخر ويكون الآخر مقهورًا معه، فإذا كانت النوبة للقلب والعقل والملَك، فهنالك السرور والنعيم واللذة والبهجة والفرح وقرة العين وطيب الحياة وانشراح الصدر والفوز بالغنائم، وإذا كانت النوبة للنفس والهوى والشيطان، فهنالك الغموم والهموم والأحزان وأنواع المكارة وضيق الصدر وحبس الملك. الفوائد 83
121- أعلى الهمم في طلب العلم طلبُ علم الكتاب والسُّنة، والفهم عن الله ورسوله نفسَ المراد، وعلم حدود المنزل. وأخسُّ همم طلاب العلم قصر همته على تتبُّع شواذ المسائل، وما لم ينزل ولا هو واقع، أو كانت همته معرفة الاختلاف وتتبع أقوال الناس، وليس له همة إلى معرفة الصحيح من تلك الأقوال. الفوائد 84
122- أعلى الهمم في باب الإرادة أن تكون الهمة متعلِّقة بمحبة الله والوقوف مع مراده الديني الأمري، وأسفلُها أن تكون الهمة واقفة مع مراد صاحبها من الله، فهو إنما يعبده لمراده منه لا لمراد الله منه، فالأول يريد اللهَ ويريد مراده، والثاني يريد من الله وهو فارغ عن إرادته. الفوائد 85
123- علماء السوء جلسوا على باب الجنة يَدْعون إليها الناسَ بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالُهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم؛ فلو كان ما دعَوا إليه حقًّا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلَّاء، وفي الحقيقة قُطَّاعُ الطريق. الفوائد 85
124- لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حَصْرِ العدو، دخل في حُصُرِ النصر، فعبثت أيدي سراياه بالنصر في الأطراف، فطار ذكره في الآفاق، فصار الخلق معه ثلاثة أقسام: مؤمن به، ومسالم له، وخائف منه. الفوائد 85
125- من أحدَثَ قبل السلام بطَل ما مضى من صلاته، ومن أفطر قبل غروب الشمس ذهب صيامه ضائعًا، ومن أساء في آخر عمره لقي ربَّه بذلك الوجه. الفوائد 88
126- لو قدَّمتَ لقمة وجدتها ولكن يؤذيك الشرهُ، كم جاء الثواب إليك فوقف بالباب، فردَّهُ بوَّابُ: سوف، ولعل، وعسى! الفوائد 88
127- كيف الفلاح بين إيمان ناقص، وأمل زائد، ومرض لا طبيب له ولا عائد، وهوى مستيقظ، وعقل راقد، ساهيًا في غمرته، عَمِهًا في سكرته، سابحًا في لُجة جهله، مستوحشًا من ربه، مستأنسًا بخلقه، ذِكرُ الناس فاكهته وقُوتُه، وذكر الله حبسُه وموته، لله منه جزء يسير من ظاهره، وقلبه ويقينه لغيره؟!   لا كان مَن لسواك فيه بقيةٌ = يجد السبيلَ بها إليه العُذَّلُ الفوائد 88
128- لما صوَّر الله تعالى آدم عليه السلام، ألقاه على باب الجنة أربعين سنة؛ لأن دأب المحب الوقوف على باب الحبيب، ورمى به في طريق ذل ﴿ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 67]؛ لئلا يعجب يوم ﴿ اسْجُدُوا ﴾ [البقرة: 34]. الفوائد 91
129- لما سَلِمَ لآدم أصلُ العبودية لم يقدح فيه الذنب.   ابن آدم، لو لقيتَني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشرِكُ بي شيئًا، لقيتُك بقُرابها مغفرة.   لما علم السيد أن ذنب عبده لم يكن قصدًا لمخالفته، ولا قدحًا في حكمته، علَّمه كيف يعتذر إليه: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة: 37]. الفوائد 93
130- العبد لا يريد بمعصيته مخالفة سيده، ولا الجرأة على محارمه، ولكن غلَبات الطبع، وتزيين النفس والشيطان، وقهر الهوى، والثقة بالعفو، ورجاء المغفرة. هذا من جانب العبد.   وأما من جانب الربوبية، فجريان الحكم، وإظهار عزِّ الربوبية وذلِّ العبودية، وكمال الاحتياج، وظهور آثار الأسماء الحسنى: كالعفوِّ والغفور والتواب والحليم، لمن جاء تائبًا نادمًا، والمنتقم والعدل وذي البطش الشديد، لمن أصرَّ ولزم المعرة. الفوائد 94
131- شراب الهوى حلو، ولكنه يورث الشرَق.   من تذكَّر خنق الفخ، هان عليه هجران الحبة.   يا معرقلًا في شرك الهوى، جمزة عزم وقد خرقت الشبكة.   لا بد من نفوذ القدر؛ فاجنح للسلم. الفوائد 95
132- لذَّات الدنيا كسوداءَ وقد غلبت عليك، والحور العين يعجبن من سوء اختيارك عليهن، غير أن زوبعة الهوى إذا ثارت سفت في عين البصيرة فخفيت الجادة. الفوائد 95
133- المعرفة بساط لا يطأ عليه إلا مقرَّب، والمحبة نشيد لا يطرب عليه إلا محبٌّ مغرم.   الحب غدير في صحراء ليست عليه جادة؛ فلهذا قلَّ وارده.   المحب يهرُب إلى العزلة والخلوة بمحبوبه والأنس بذكره، كهرَبِ الحوت إلى الماء، والطفل إلى أمِّه.   وأخرُجُ من بين البيوت لعلَّني = أُحدِّثُ عنك القلبَ بالسرِّ خاليَا الفوائد 96
134- ليس للعابد مستراح إلا تحت شجرة طوبى، ولا للمحبِّ قرارٌ إلا يوم المزيد.   يا منفقًا بضاعة العمر في مخالفة حبيبه والبعد منه، ليس في أعدائك أضرُّ عليك منك.   ما تبلُغُ الأعداءُ مِن جاهلٍ = ما يبلُغُ الجاهلُ مِن نفسِه الفوائد 96
135- احذر نفسك؛ فما أصابك بلاء قط إلا منها، ولا تُهادِنْها؛ فوالله ما أكرَمَها من لم يُهِنها، ولا أعزَّها من لم يُذِلَّها، ولا جبرها من لم يكسرها، ولا أراحها من لم يتعبها، ولا أمَّنَها من لم يخوِّفها، ولا فرَّحها من لم يحزنها. الفوائد 97
136- سبحان الله، ظاهرك متجمِّل بلباس التقوى، وباطنك باطية لخمر الهوى، فكلما طيَّبتَ الثوب فاحتْ رائحة المسكِر من تحته، فتباعَدَ منك الصادقون، وانحاز إليك الفاسقون. الفوائد 97
137- قال ابن القيم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار ويصيح: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ [البقرة: 245]، فألقى له حبَّ المال على رَوض الرِّضا، واستلقى على فراش الفقر، فنقل الطائر الحب إلى حوصلة المضاعفة، ثم علا على أفنان شجرة الصدق يغرد بفنون المدح، ثم قال في محاريب الإسلام يتلو: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ﴾ [الليل: 17، 18]". الفوائد 103
138- احترز من عدوَّينِ هلَكَ بهما أكثرُ الخلق: صادٌّ عن سبيل الله بشبهاته وزخرف قوله، ومفتونٌ بدنياه ورئاسته. الفوائد 105
139- من خلق فيه قوة واستعداد لشيء، كانت لذَّتُه في استعمال تلك القوة فيه، فلَذَّةُ من خُلقت فيه قوة واستعداد للجِماع استعمال قوته فيه، ولذة من خُلقت فيه قوة الغضب والتوثب استعمال قوته الغضبيَّة في متعلقها، ومن خُلقت فيه قوة الأكل والشرب فلذَّتُه باستعمال قوته فيهما، ومن خُلقت فيه قوة العلم والمعرفة فلذَّته باستعمال قوته وصرفها إلى العلم، ومن خُلقت فيه قوة الحب لله والإنابة إليه والعكوف بالقلب عليه والشوق إليه والأنس به، فلذَّتُه ونعيمه استعمالُ هذه القوة في ذلك، وسائرُ اللذات دون هذه اللذة مضمحلةٌ فانية، وأحمدُ عاقبتِها أن يكون لا له ولا عليه. الفوائد 105
140- سبحان الله، في النفس: كِبر إبليس، وحسد قابيل، وعتوُّ عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان، وهوى بلعام، وحِيَلُ أصحاب السبت، وتمرُّدُ الوليد، وجهل أبي جهل.   وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشَرَهُ الكلب، ورعونة الطاوس، ودناءة الجُعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصَولة الأسد، وفسوق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع.   غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك.   فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند، ولا تصلح سلعتُه لعقدِ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ... ﴾ [التوبة: 111]، فما اشترى إلا سلعة هذَّبها الإيمان، فخرجت من طبعها إلى بلد سكانُه التائبون العابدون. الفوائد 106
141- سلِّم المبيع قبل أن يتلف في يدك فلا يقبله المشتري.   قد عَلِم المشتري بعيب السلعة قبل أن يشتريها، فسلِّمْها ولك الأمان من الرد.   قدر السلعة يُعرَف بقدر مشتريها، والثمن المبذول فيها، والمنادي عليها، فإذا كان المشتري عظيمًا، والثمن خطيرًا، والمنادي جليلًا، كانت السلعة نفيسة. الفوائد 107
142- يا من هو من أرباب الخبرة، هل عرَفتَ قيمة نفسك؟ إنما خُلِقَت الأكوان كلُّها لك.   يا من غُذِيَ بلِبانِ البِرِّ، وقلِّب بأيدي الألطاف، كلُّ الأشياء شجرة وأنت الثمرة، وصورة وأنت المعنى، وصدفٌ وأنت الدر، ومخيض وأنت الزُّبْد. الفوائد 109
143- منشور اختيارنا لك واضحُ الخط، ولكن استخراجك ضعيف.   متى رُمتَ طلبي فاطلُبني عندك، اطلبني منك تجدني قريبًا، ولا تطلبني من غيرك؛ فأنا أقرب إليك منه.   لو عرَفتَ قدر نفسك عندنا، ما أهنتَها بالمعاصي، إنما أبعَدْنا إبليس إذ لم يسجد لك وأنت في صُلب أبيك، فواعجبًا كيف صالحتَه وتركْتَنا؟! الفوائد 110
144- لما سلَّم القوم النفوس إلى رائض الشرع، علمها الوفاق في خلاف الطبع، فاستقامت مع الطاعة، كيف دارت دارت معها.   وإني إذا اصطكَّتْ رقابُ مَطيِّهم = وثوَّرَ حادٍ بالرِّفاقِ عَجولُ   أُخالِفُ بين الراحتينِ على الحَشا = وأنظُرُ أني ملتمٍ فأَمِيلُ الفوائد 113
145- جُمِع فيك عقلُ الملَك، وشهوة البهيمة، وهوى الشيطان، وأنت للغالب عليك من الثلاثة: إنْ غلَبتَ شهوتك وهواك زدتَ على مرتبة ملَك، وإن غلَبَك هواك وشهوتُك نقَصتَ عن مرتبة كلب. الفوائد 113
146- مصدر ما في العبد من الخير والشر والصفات الممدوحة والمذمومة من صفة المعطي المانع؛ فهو سبحانه يصرِّف عباده بين مقتضى هذين الاسمين، فحظُّ العبد الصادق من عبوديته بهما الشكرُ عند العطاء، والافتقارُ عند المنع، فهو سبحانه يعطيه ليشكره، ويمنعه ليفتقر إليه، فلا يزال شكورًا فقيرًا. الفوائد 114
147- أصول المعاصي كلها، كبارها وصغارها، ثلاثة: تعلُّقُ القلب بغير الله، وطاعة القوة الغضبية، والقوة الشهوانية، وهي الشرك والظلم والفواحش؛ فغاية التعلق بغير الله الشركُ وأن يُدْعى معه إله آخر، وغاية طاعة القوة الغضبية القتل، وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا؛ ولهذا جمع الله سبحانه وتعالى بين الثلاثة في قوله: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ﴾ [الفرقان: 68]، فهذه الثلاثة يجرُّ بعضها إلى بعض، ويأمر بعضها ببعض؛ ولهذا كلما كان القلب أضعف توحيدًا وأعظم شركًا، كان أكثر فاحشة، وأعظم تعلقًا بالصور وعشقًا لها. الفوائد 116
148- هجر القرآن أنواع: أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإنْ قرأه وآمَنَ به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم. والرابع: هجر تدبُّرِه وتفهُّمِه ومعرفةِ ما أراد المتكلم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30]، وإن كان بعض الهجر أهوَنَ من بعض. الفوائد 118
149- كمال النفس المطلوب ما تضمن أمرين:   أحدهما: أن يصير هيئة راسخة، وصفة لازمة لها.   الثاني: أن يكون صفة كمال في نفسه. الفوائد 119
150- إذا أصبح العبد وأمسى وليس همُّه إلا الله وحده، تَحمَّلَ الله سبحانه حوائجه كلَّها، وحمَلَ عنه كلَّ ما أهَمَّه، وفرَّغ قلبه لمحبته، ولسانَه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همُّه، حمَّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكَلَه إلى نفسه، فشغَل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانَه عن ذكره بذكرهم، وجوارحَه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره، فكلُّ من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته، بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [الزخرف: 36]. الفوائد 121
151- العلم: نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في النفس. والعمل: نقل صورة علمية من النفس وإثباتها في الخارج. فإن كان الثابت في النفس مطابقًا للحقيقة في نفسها فهو علم صحيح. الفوائد 122
152- آفة العمل عدم مطابقته لمراد الله الدينيِّ الذي يحبه الله ويرضاه، وذلك يكون من فساد العلم تارة، ومن فساد الإرادة تارة. الفوائد 123
153- لا يتم الإيمان إلا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة، وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق، فيكون علمه مقتبسًا من مشكاة الوحي، وإرادته لله والدار الآخرة، فهذا أصحُّ الناس علمًا وعملًا، وهو من الأئمة الذين يهدون بأمر الله، ومن خلفاء رسوله في أمَّتِه. الفوائد 123
154- الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهرُه قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له، وإنْ حُقِن به الدماء وعُصِم به المال والذرية، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له، إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك، فتخلُّفُ العمل ظاهرًا مع عدم المانع دليلٌ على فساد الباطن وخلوِّه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوَّتُه دليل قوته، فالإيمانُ قلب الإسلام ولبُّه، واليقين قلب الإيمان ولبه، وكلُّ علم وعمل لا يزيد الإيمانَ واليقين قوةً فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول. الفوائد 124
155- التوكل على الله نوعان: أحدهما: توكلٌ عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية، أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية. والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه، فمتى توكَّلَ عليه العبد في النوع الثاني حقَّ توكُّلِه، كفاه النوعَ الأول تمام الكفاية، ومتى توكَّل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضًا، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل فيما يحبه ويرضاه. الفوائد 124
156- الذي يحقِّق التوكلَ القيامُ بالأسباب المأمور بها، فمن عطَّلها لم يصح توكلُه، كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقِّق رجاءه، فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنِّيًا، كما أن من عطَّلها يكون توكله عجزًا وعجزه توكلًا. الفوائد 126
157- وسرُّ التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضرُّه مباشرةُ الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قولُه: توكلت على الله، مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكلُ اللسان شيء وتوكلُ القلب شيء، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء. فقول العبد: توكلتُ على الله، مع اعتماد قلبه على غيره، مثل قوله: تُبتُ إلى الله، وهو مصرٌّ على معصيته مرتكب لها. الفوائد 126
158- الحياة الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنًا؛ فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان؛ ولهذا كان أكملُ الناس حياةً أكمَلَهم استجابة لدعوة الرسول، فإنَّ كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزءٌ منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول. الفوائد 127
159- الإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة: حياةُ بدنه، التي بها يدرك النافع والضار، ويؤْثر ما ينفعه على ما يضره، ومتى نقصت فيه هذه الحياةُ ناله من الألم والضعف بحسب ذلك؛ ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك.   وحياةُ قلبه وروحه، التي بها يميِّز بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهوى والضلال، فيختار الحقَّ على ضده، فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال، وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق، وقوة البغض والكراهة للباطل، فشعوره وتمييزه وحبُّه ونفرته بحسب نصيبه من هذه الحياة، كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم، ويكون ميله إلى النافع ونفرته عن المؤلم أعظم.   فهذا بحسب حياة البدن، وذاك بحسب حياة القلب، فإذا بطَلتْ حياته بطل تمييزه، وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤْثر بها النافع على الضار، كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك، الذي هو رسول الله، مِن روحه، فيصير حيًّا بذلك النفخ، وكان قبل ذلك من جملة الأموات، وكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي أُلقي إليه. الفوائد 129
160- قوله: ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾ [الأنعام: 122] يتضمن أمورًا: أحدها: أنه يمشي في الناس بالنور وهم في الظُّلمة، فمَثَلُه ومثلهم كمَثَلِ قوم أظلم عليهم الليل فضلُّوا ولم يهتدوا للطريق، وآخر معه نور يمشي به في الطريق ويراها ويرى ما يحذره فيها. ثانيها: أنه يمشي فيهم بنوره، فهم يقتبسون منه لحاجتهم إلى النور. ثالثها: أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في ظلماتِ شركِهم ونفاقهم. الفوائد 131
161- لا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه، وميله وحبه، ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه.   فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعةُ ربِّه بظاهره وباطنه، وأضَرُّ الأشياء عليه على الإطلاق معصيتُه بظاهره وباطنه، فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصًا له، فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرًا له، وإذا تخلَّى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له. الفوائد 133
162- قضاء الرب سبحانه في عبده دائرٌ بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة، لا يخرج عن ذلك ألبتة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابنُ أَمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سمَّيتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي. ما قالها أحد قط إلا أذهَبَ الله همَّه وغمه، وأبدله مكانه فرحًا))، قالوا: أفلا نتعلَّمُهن يا رسول الله؟ قال: ((بلى، ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلَّمهن)). الفوائد 135
163- لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرينِ صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها، وفنائها، واضمحلالها، ونقصها، وخستها. النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما هاهنا، فهي كما قال الله سبحانه: ﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 17]. الفوائد 136
164- إيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، وما أكثر ما يكون منهما؛ ولهذا نبَذَها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم واطرحوها ولم يألفوها، وهجروها ولو يميلوا إليها، وعَدُّوها سجنًا لا جنة؛ فزهدوا فيها حقيقة الزهد. الفوائد 137
165- أساس كل خير أن تَعلَمَ أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فتتيقن حينئذٍ أن الحسنات من نِعَمِه، فتشكُره عليها، وتتضرع إليه ألا يقطعها عنك، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فنبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك. وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصلُه بتوفيق الله للعبد، وكل شر فأصلُه خذلانه لعبده، وأجمَعوا أن التوفيق ألا يكلك الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يخلِّي بينك وبين نفسك. الفوائد 141
166- ما ضُرِب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله، وقد خُلقت النار لإذابة القلوب القاسية.   أبعدُ القلوب من الله القلبُ القاسي، فإذا قسا القلب قحطت العين، وقسوةُ القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة. الفوائد 142
167- إذا غُذِيَ القلب بالتذكر، وسقي بالتفكر، ونقِّي من الدغل، رأى العجائب وأُلهِم الحكمة.   ليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها، كان من أهلها، بل أهلُ المعرفة والحكمة الذين أحيَوا قلوبهم بقتل الهوى، وأما من قتل قلبه فأحيا الهوى، فالمعرفة والحكمة عاريَّةٌ على لسانه. الفوائد 143
168- القلب يمرض كما يمرض البدن، وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة، وجِلاؤه بالذِّكر، ويعرى كما يعرى الجسم، وزينتُه التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وشرابُه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة.   إياك والغفلة عمن جعل لحياتك أجلًا، ولأيامك وأنفاسك أمدًا، ومن كل ما سواه بد، ولا بد لك منه. الفوائد 143
169- من ترك الاختيار والتدبير في طلب زيادة دنيا أو جاه، أو في خوف نقصان، أو في التخلص من عدو؛ توكلًا على الله، وثقة بتدبيره له، وحسن اختياره له، فألقى كنفه بين يديه، وسلَّم الأمر إليه، ورضي بما يقضيه له؛ استراح من الهموم والغموم والأحزان، ومن أبى إلا بتدبيره لنفسه، وقع في النكد والنَّصَب، وسوء الحال والتعب، فلا عيش يصفو، ولا قلب يفرح، ولا عمل يزكو، ولا أمل يقوم، ولا راحة تدوم.   والله سبحانه سهَّل لخلقه السبيل إليه، وحجبهم عنه بالتدبير، فمن رضي بتدبير الله له، وسكَنَ إلى اختياره، وسلَّم لحكمه؛ أزال ذلك الحجاب، فأفضى القلب إلى ربه، واطمأنَّ إليه وسكن. الفوائد 144
170- للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها: ثلاثة سافلة، وثلاثة عالية: فالسافلة: دنيا تتزين له، ونفس تحدِّثه، وعدو يوسوس له، فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها.   والثلاثة العالية: علم يتبيَّن له، وعقل يرشده، وإله يعبُده، والقلوب جوالة في هذه المواطن. الفوائد 144
171- الهمة العلية لا تزال حائمة حول ثلاثة أشياء: تعرُّفٌ لصفة من الصفات العليا تزداد بمعرفتها محبةً وإرادة، وملاحظةٌ لمنَّة تزداد بملاحظتها شكرًا وطاعة، وتذكُّرٌ لذنب تزداد بتذكره توبة وخشية، فإذا تعلقت الهمة بسوى هذه الثلاثة، جالت في أودية الوساوس والخطرات. الفوائد 145
172- كل من آثَرَ الدنيا من أهل العلم واستحَبَّها، فلا بد أن يقول على الله غيرَ الحق في فتواه وحكمه، وفي خبره وإلزامه؛ لأن أحكام الرب سبحانه كثيرًا ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشهوات؛ فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحقِّ ودفعه كثيرًا.   فإذا كان العالم والحاكم محبًّا للرياسة متبعًا للشهوات، لم يتم له ذلك إلا بدفع ما يضادُّه من الحق، ولا سيما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى، فيخفى الصواب، وينطمس وجهُ الحق، وإن كان الحق ظاهرًا لا خفاء به ولا شبهة فيه، أقدم على مخالفته وقال: لي مخرَج بالتوبة، وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ﴾ [مريم: 59]. الفوائد 145
173- أما العابد الجاهل، فآفتُه من إعراضه عن العلم وأحكامه، وغلبة خياله وذوقه ووجده وما تهواه نفسه؛ ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره: احذروا فتنة العالم الفاجر، وفتنة العابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون؛ فهذا بجهله يصدُّ عن العلم وموجبه، وذاك بغيِّه يدعو إلى الفجور. الفوائد 149
174- أفضل ما اكتسبته النفوس، وحصلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، هو العلم والإيمان؛ ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ﴾ [الروم: 56]، وقوله: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبُّه، والمؤهلون للمراتب العالية. الفوائد 151
175- قال حماد بن زيد: قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما تَقدَّم؟ فقال: الكلام اليوم أكثر، والعلم فيما تقدم أكثر.   ففرَّق هذا الراسخُ بين العلم والكلام. الفوائد 151
176- من اشتغل بالله عن نفسه كفاه الله مؤونةَ نفسه، ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن اشتغل بنفسه عن الله وكَلَه الله إلى نفسه، ومن اشتغل بالناس عن الله وكَلَه الله إليهم. الفوائد 156
177- إنما يجد المشقةَ في ترك المألوفات والعوائد مَن تركها لغير الله، أما من تركها صادقًا مخلصًا من قلبه لله، فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة؛ ليُمتحَنَ أصادقٌ هو في تركها أم كاذب، فإنْ صبر على تلك المشقةِ قليلًا استحالت لذة؛ قال ابن سيرين: سمعت شريحًا يحلف بالله ما ترك عبدٌ لله شيئًا فوجد فقْدَه.   وقولهم: "من ترك لله شيئًا، عوَّضه الله خيرًا منه" حقٌّ، والعوض أنواع مختلفة، وأجلُّ ما يعوَّض به: الأنس بالله ومحبته، وطمأنينة القلب به وقوته، ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى. الفوائد 156
178- أقرب الوسائل إلى الله ملازمةُ السُّنة والوقوف معها في الظاهر والباطن، ودوام الافتقار إلى الله، وإرادة وجهه وحده بالأقوال والأفعال، وما وصل أحدٌ إلى الله إلا من هذه الثلاثة، وما انقطع عنه أحد إلا بانقطاعه عنها أو عن أحدها. الفوائد 157
179- الأصول التي انبنى عليها سعادة العبد ثلاثة، ولكل واحد منها ضد، فمن فقَدَ ذلك الأصلَ حصل على ضده: التوحيد وضده الشرك، والسُّنة وضدها البدعة، والطاعة وضدها المعصية.   ولهذه الثلاثةِ ضد واحد، وهو خلوُّ القلب من الرغبة في الله وفيما عنده، ومن الرهبة منه ومما عنده. الفوائد 157
180- الناس بالنسبة إلى سبيل المؤمنين أربع فرق:   الفرقة الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علمًا وعملًا، وهؤلاء أعلم الخلق.   الفرقة الثانية: من عَمِيَتْ عنه السبيلانِ من أشباه الأنعام، وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر، ولها أسلَك.   الفرقة الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها، فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة، وأن كل ما خالَفَ سبيل المؤمنين فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل، بل إذا سمع شيئًا مما خالف سبيل المؤمنين صرَفَ سمعه عنه، ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه.   الفرقة الرابعة: فرقة عرَفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصَّلة، وسبيل المؤمنين مجملة، وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع، فعرَفها على التفصيل، ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك، بل عرَفه معرفة مجملة، وإن تفصلت له في بعض الأشياء، ومن تأمَّل كتبهم رأى ذلك عيانًا. الفوائد 159
181- عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها: علم لا يُعمل به، وعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء، ومال لا يُنفق منه؛ فلا يستمتع به جامعه في الدنيا، ولا يقدمه أمامه إلى الآخرة، وقلبٌ فارغ من محبة الله والشوق إليه والأنس به، وبدنٌ معطَّل من طاعته وخدمته، ومحبة لا تتقيد برضاء المحبوب وامتثال أوامره، ووقت معطل عن استدراك فارط أو اغتنام برٍّ وقربة، وفكرٌ يجول فيما لا ينفع، وخدمة من لا تقرِّبك خدمته إلى الله ولا تعود عليك بصلاح دنياك، وخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله وهو أسير في قبضته ولا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.   وأعظم هذه الإضاعات إضاعتان هما أصل كل إضاعة: إضاعة القلب، وإضاعة الوقت؛ فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد كلُّه في اتباع الهوى وطول الأمل، والصلاح كلُّه في اتباع الهدى، والاستعداد للقاء الله، والله المستعان. الفوائد 162
182- لله سبحانه على عبده أمرٌ أمَرَه به، وقضاء يقضيه عليه، ونعمة ينعم بها عليه، فلا ينفك عن هذه الثلاثة، والقضاء نوعان: إما مصائب وإما معايب.   وله عليه عبودية في هذه المراتب كلِّها، فأحب الخلق إليه من عرَف عبوديته في هذه المراتب ووفاها حقها، فهذا أقرب الخلق إليه، وأبعدهم منه من جهل عبوديته في هذه المراتب فعطلها علمًا وعملًا.   فعبوديته في الأمر: امتثاله إخلاصًا واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي النهي: اجتنابه خوفًا منه وإجلالًا ومحبة.   وعبوديته في قضاء المصائب: الصبر عليها، ثم الرضا بها، وهو أعلى منه، ثم الشكر عليها، وهو أعلى من الرضا، وهذا إنما يتأتى منه إذا تمكَّن حبُّه من قلبه، وعلم حسن اختياره له، وبِرَّه به، ولطفه به، وإحسانه إليه بالمصيبة، وإنْ كره المصيبة.   وعبوديته في قضاء المعايب: المبادرة إلى التوبة منها والتنصل، والوقوف في مقام الاعتذار والانكسار، عالمًا بأنه لا يرفعها عنه إلا هو، ولا يقيه شرَّها سواه، وأنها إن استمرت أبعَدتْه من قربه، وطردته من بابه، فيراها من الضر الذي لا يكشفه غيره، حتى إنه ليراها أعظم من ضر البدن. الفوائد 163
183- قال بشر بن الحارث: أهل الآخرة ثلاثة: عابد، وزاهد، وصِدِّيق؛ فالعابد يعبد الله مع العلائق، والزاهد يعبده على ترك العلائق، والصدِّيق يعبده على الرضا والموافقة، إنْ أراه أخْذَ الدنيا أخَذَها، وإن أراه ترْكَها ترَكَها. الفوائد 167
184- إذا كان الله ورسوله في جانب، فاحذر أن تكون في الجانب الآخر، فإن ذلك يفضي إلى المشاقة والمحادة، وهذا أصلها، ومنه اشتقاقها، فإنَّ المشاقة أن يكون في شق ومن يخالفه في شق، والمحادة أن يكون في حد وهو في حد، ولا تستسهل هذا؛ فإن مبادئه تجرُّ إلى غايته، وقليله يدعو إلى كثيره، وكن في الجانب الذي فيه اللهُ ورسوله وإن كان الناس كلُّهم في الجانب الآخر. الفوائد 167
185- علامة صحة الإرادة أن يكون همُّ المريد رضا ربه، واستعداده للقائه، وحزنه على وقت مر في غير مرضاته، وأسفه على قربه والأنس به، وجماع ذلك أن يصبح ويمسي وليس له همٌّ غيره. الفوائد 170
186- قال بعض الزهاد: ما علمتُ أن أحدًا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان، فقال له رجل: إني أُكثِر البكاء، فقال: إنك إن تضحك وأنت مقرٌّ بخطيئتك خيرٌ من أن تبكي وأنت مُدِلٌّ بعملك، وإن المدلَّ لا يصعد عملُه فوق رأسه، فقال: أوصني، فقال: دع الدنيا لأهلها، كما تركوا هم الآخرة لأهلها، وكن في الدنيا كالنحلة؛ إنْ أكَلتْ أكلتْ طيبًا، وإن أطعَمتْ أطعمتْ طيبًا، وإن سقطتْ على شيء لم تكسره ولم تخدشه. الفوائد 170
187- الزهد أقسام: زهد في الحرام، وهو فرض عين.   وزهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة: فإن قويت التحقت بالواجب، وإن ضعفت كان مستحبًّا.   وزهد في الفضول، وزهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره، وزهد في الناس، وزهد في النفس بحيث تهون عليه نفسُه في الله.   وزهد جامع لذلك كلِّه، وهو الزهد فيما سوى الله وفي كل ما شغلك عنه. الفوائد 170
188- الفرق بين الزهد والورع: أن الزهد تركُ ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة، والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع. الفوائد 171
189- قال يحيى بن معاذ: عجبت من ثلاث: رجل يرائي في عمله مخلوقًا مثله ويترك أن يعمله لله، ورجل يبخل بماله وربُّه يستقرضه منه ولا يقرضه منه شيئًا، ورجل يرغب في صحبة المخلوقين ومودتهم والله يدعوه إلى صحبته ومودته. الفوائد 171
190- قال سهل بن عبدالله: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي؛ لأن آدم نُهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه، وإبليس أُمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتُب عليه.   قلت: هذه مسألة عظيمة لها شأن، وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وذلك من وجوه عديدة. الفوائد 171
191- مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر، قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ((والله إني لأُحِبُّك، فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعنِّي على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك)). الفوائد 185
192- تنوَّعت عبارات السلف في تفسير الفضل والرحمة في القرآن الكريم، والصحيح أنهما الهدى والنعمة؛ ففضلُه هداه، ورحمته نعمته. الفوائد 194
193- الصبر عن الشهوة أسهلُ من الصبر على ما توجبه الشهوة؛ فإنها إما أن توجب ألمًا وعقوبة، وإما أن تقطع لذةً أكملَ منها، وإما أن تضيع وقتًا إضاعتُه حسرة وندامة، وإما أن تثلم عِرضًا توفيرُه أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تُذهِب مالًا بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضيع قدرًا وجاهًا قيامُه خير من وضعه، وإما أن تسلُب نعمة بقاؤها ألذُّ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقًا لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب همًّا وغمًّا وحزنًا وخوفًا لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تُنسي علمًا ذِكرُه ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تُشمِت عدوًّا وتحزن وليًّا، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تُحدِث عيبًا يبقى صفة لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق. الفوائد 202
194- قال أبو الدرداء رضي الله عنه: يا حبذا نوم الأكياس وفطرُهم، كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومَهم، والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترِّين.   وهذا من جواهر الكلام، وأدله على كمال فقه الصحابة، وتقدُّمهم على من بعدهم في كل خير، رضي الله عنهم. الفوائد 206
195- الصادقون السائرون إلى الله والدار الآخرة قسمان:   قسم صرَفوا ما فضل من أوقاتهم بعد الفرائض إلى النوافل البدنية وجعلوها دأبهم، من غير حرص منهم على تحقيق أعمال القلوب ومنازلها وأحكامها، وإن لم يكونوا خالين من أصلها، ولكن هممهم مصروفة إلى الاستكثار من الأعمال.   وقسم صرفوا ما فضل من الفرائض والسُّنن إلى الاهتمام بصلاح قلوبهم، وعكفوها على الله وحده والجمعيَّة عليه، وحفظ الخواطر والإرادات معه، وجعلوا قوة تعبدهم بأعمال القلوب من تصحيح المحبة والخوف والرجاء والتوكل والإنابة، ورأوا أن أيسر نصيب من الواردات التي ترد على قلبه من الله أحب إليهم من كثير من التطوعات البدنية. الفوائد 208
196- أصل الأخلاق المذمومة كلها: الكبر والمهانة والدناءة، وأصل الأخلاق المحمودة كلها: الخشوع وعلو الهمة.   فالفخر والبطر والأشر، والعجب والحسد، والبغي والخيلاء، والظلم والقسوة والتجبر، والإعراض وإباء قبول النصيحة، والاستئثار وطلب العلو، وحب الجاه والرئاسة وأن يحمد بما لم يفعل، وأمثال ذلك كلُّها ناشئة من الكبر.   وأما الكذب والخسة والخيانة، والرياء والمكر والخديعة، والطمع والفزع، والجبن والبخل، والعجز والكسل، والذل لغير الله، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، ونحو ذلك، فإنها من المهانة والدناءة وصِغَرِ النفس.   وأما الأخلاق الفاضلة؛ كالصبر والشجاعة، والعدل والمروءة، والعفة والصيانة، والجود والحلم، والعفو والصفح، والاحتمال والإيثار، وعزة النفس عن الدناءات، والتواضع والقناعة، والصدق والإخلاص، والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضل، والتغافل عن زلات الناس، وترك الاشتغال بما لا يعنيه، وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك، فكلُّها ناشئة عن الخشوع وعلو الهمة.   والله سبحانه أخبَرَ عن الأرض بأنها تكون خاشعة، ثم ينزل عليها الماء فتهتز وتربو، وتأخذ زينتها وبهجتها، فكذلك المخلوق منها إذا أصابه حظُّه من التوفيق. الفوائد 209
197- مدار الشأن على همة العبد ونيته، وهما مطلوبه وطريقه، ولا يتم له إلا بترك ثلاثة أشياء: العوائد والرسوم والأوضاع التي أحدثها الناس.   الثاني: هجر العوائق التي تعوقه عن إفراد مطلوبه وطريقه وقطعُها.   الثالث: قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعلق بالمطلوب.   والفرق بينهما أن العوائق هي الحوادث الخارجية، والعلائق هي التعلقات القلبية بالمباحات ونحوها.   وأصل ذلك ترك الفضول التي تشغل عن المقصود من الطعام والشراب والمنام والخلطة، فيأخذ من ذلك ما يعينه على طلبه، ويرفض منه ما يقطعه عنه أو يضعف طلبه، والله المستعان. الفوائد 210
198- ذكر ابن سعد في الطبقات عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان إذا خطب على المنبر فخاف على نفسه العُجبَ قطعه، وإذا كتب كتابًا فخاف فيه العجب مزَّقه، ويقول: اللهم إني أعوذ بك من شرِّ نفسي.   اعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل يبتغي به مرضاة الله، مطالعًا فيه منة الله عليه به، وتوفيقه له فيه، وأنه بالله لا بنفسه، ولا بمعرفته وفكره وحوله وقوته، بل هو الذي أنشأ له اللسان والقلب والعين والأذن، فالذي منَّ عليه بذلك، هو الذي منَّ عليه بالقول والفعل، فإذا لم يغب ذلك عن ملاحظته ونظر قلبه، لم يحضُره العُجبُ، الذي أصلُه رؤية نفسه وغيبتُه عن شهود منة ربه وتوفيقه. الفوائد 223
199- الوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد وقطع العوائق والعلائق:   فالعوائد: السكون إلى الدعة والراحة، وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والأوضاع التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبَع، بل هي عندهم أعظم من الشرع؛ فإنهم ينكِرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع، وربما كفَّروه أو بدَّعوه وضلَّلوه، أو هجروه وعاقبوه لمخالفة تلك الرسوم، وأماتوا لها السنن، ونصبوها أندادًا للرسول يوالون عليها ويعادون، فالمعروف عندهم ما وافقها، والمنكَرُ ما خالفها.   وأما العوائق: فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها، فإنها تعوق القلب عن سيره إلى الله وتقطع عليه طريقه، وهي ثلاثة أمور: شرك، وبدعة، ومعصية، فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد، وعائق البدعة بتحقيق السنة، وعائق المعصية بتصحيح التوبة.   وأما العلائق: فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذِّ الدنيا وشهواتها ورياساتها وصحبة الناس والتعلق بهم.   ولا سبيل له إلى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضها إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى. الفوائد 225
200- من علامات السعادة والفلاح: أن العبد كلما زِيدَ في علمه زِيدَ في تواضعه ورحمته، وكلما زِيدَ في عمله زِيدَ في خوفه وحذره، وكلما زيد في عمره نقص من حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم.   وعلامات الشقاوة: أنه كلما زِيدَ في علمه زِيدَ في كبره وتيهه، وكلما زيد في عمله زيد فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه، وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده، فيسعد بها أقوام، ويشقى بها أقوام. الفوائد 227
201- من أراد علوَّ بنيانه، فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه، وشدة الاعتناء به؛ فإن علو البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه، فالأعمال والدرجات بنيان، وأساسها الإيمان، ومتى كان الأساس وثيقًا حمل البنيانَ واعتلى عليه، وإذا تهدَّم شيء من البنيان سهُل تداركه، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبُت، وإذا تهدَّم شيء من الأساس سقَط البنيانُ أو كاد. الفوائد 228
202- أركان الكفر أربعة: الكبر، والحسد، والغضب، والشهوة؛ فالكبر يمنعه الانقياد، والحسد يمنعه قَبول النصيحة وبَذْلَها، والغضب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة. الفوائد 231
203- الجهَّال بالله وأسمائه وصفاته المعطِّلون لحقائقها يبغِّضون الله إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريق محبته، والتوددِ إليه بطاعته من حيث لا يعلمون. الفوائد 233
204- السَّنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها؛ فمن كانت أنفاسه في طاعة، فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية، فثمرته حنظل، وإنما يكون الجداد يوم المعاد، فعند الجداد يتبين حلوُ الثمار من مُرِّها.   والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب، فروعها الأعمال، وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك.   والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب، ثمرُها في الدنيا الخوف والهم والغم، وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم.   وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم. الفوائد 240
205- خُلق بدن ابن آدم من الأرض، وروحُه من ملكوت السماء، وقرن بينهما؛ فإذا أجاع بدنه وأسهره وأقامه في الخدمة، وجدت روحُه خفة وراحة، فتاقت إلى الموضع الذي خُلقت منه، واشتاقت إلى عالمها العلوي، وإذا أشبعه ونعَّمه ونوَّمه واشتغل بخدمته وراحته، أخلد البدنُ إلى الموضع الذي خُلق منه، فانجذبت الروح معه فصارت في السجن، فلولا أنها ألفت السجن لاستغاثت من ألم مفارقتها وانقطاعها عن عالمها الذي خُلقت منه كما يستغيث المعذَّب. الفوائد 245
206- العارف لا يأمر الناس بترك الدنيا؛ فإنهم لا يقدرون على تركها، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم، فترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة؛ فكيف يؤمر بالفضيلة من لم يقم الفريضة؟! فإنْ صعُب عليهم تركُ الذنوب، فاجتهد أن تحبِّب الله إليهم بذِكر آلائه وإنعامه وإحسانه، وصفات كماله ونعوت جلاله؛ فإن القلوب مفطورة على محبته، فإذا تعلَّقت بحبِّه هان عليها ترك الذنوب والإصرار عليها والاستقلال منها، وقد قال يحيى بن معاذ: "طلب العاقل للدنيا خيرٌ من ترك الجاهل لها". الفوائد 247
207- ليس العجَب من صحيحٍ فارغ واقف مع الخدمة؛ إنما العجَبُ من ضعيف سقيم تعتوره الأشغالُ، وتختلف عليه الأحوال، وقلبه واقف في الخدمة غير متخلف بما يقدر عليه. الفوائد 248
208- معرفة الله سبحانه نوعان: الأول: معرفة إقرار، وهي التي اشترك فيها الناس؛ البرُّ والفاجر، والمطيع والعاصي. والثاني: معرفة توجب الحياء منه، والمحبة له، وتعلُّقَ القلب به، والشوق إلى لقائه، وخشيته والإنابة إليه، والأنس به، والفرار من الخلق إليه، وهذه هي المعرفة الخاصة الجارية على لسان القوم، وتفاوتُهم فيها لا يحصيه إلا الذي عرَّفهم بنفسه، وكشف لقلوبهم من معرفته ما أخفاه عن سواهم، وكلٌّ أشار إلى هذه المعرفة بحسب مقامه وما كُشف له منها.   وقد قال أعرَفُ الخلقِ به: ((لا أُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك))، وأخبر أنه سبحانه يفتح عليه يوم القيامة من محامده بما لا يحسنه الآن. الفوائد 248
209- لمعرفة الله تعالى بابان واسعان: الباب الأول: التفكر والتأمل في آيات القرآن كلِّها، والفهم الخاص عن الله ورسوله. والباب الثاني: التفكر في آياته المشهودة، وتأمُّل حكمته فيها، وقدرته ولطفه، وإحسانه وعدله، وقيامة بالقسط على خلقه.   وجماع ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها، وتفرُّده بذلك، وتعلقها بالخلق والأمر، فيكون فقيهًا في أوامره ونواهيه، فقيهًا في قضائه وقدره، فقيهًا في أسمائه وصفاته، فقيهًا في الحكم الديني الشرعي والحكم الكوني القدَري، و﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21]. الفوائد 249
210- الدراهم أربعة: درهم اكتُسب بطاعة الله وأُخرِج في حق الله، فذاك خير الدراهم، ودرهم اكتُسب بمعصية الله وأُخرِج في معصية الله، فذاك شرُّ الدراهم، ودرهم اكتُسب بأذى مسلم وأُخرِج في أذى مسلم، فهو كذلك، ودرهم اكتُسب بمباح وأُنفِق في شهوة مباحة، فذاك لا له ولا عليه.   هذه أصول الدراهم، ويتفرع عليها دراهمُ أُخَر: منها درهم اكتُسب بحقٍّ وأُنفِق في باطل، ودرهم اكتُسب بباطل وأُنفِق في حق، فإنفاقُه كفَّارتُه، ودرهم اكتُسب من شبهة، فكفَّارته أن يُنفَق في طاعة، وكما يتعلق الثواب والعقاب والمدح والذم بإخراج الدرهم، فكذلك يتعلق باكتسابه، وكذلك يُسأل عن مستخرجه ومصروفه: من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفَقَه؟ الفوائد 249
211- النِّعم ثلاثة: نعمة حاصلة يَعلم بها العبد، ونعمة منتظرة يرجوها، ونعمة هو فيها لا يشعُر بها، فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده عرَّفه نعمته الحاضرة، وأعطاه من شكره قيدًا يقيِّدها به حتى لا تشرُدَ؛ فإنها تشرُدُ بالمعصية وتُقيَّد بالشكر، ووفَّقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظَرة، وبصَّره بالطرق التي تسدها وتقطع طريقها ووفَّقه لاجتنابها، وإذا بها قد وافت إليه على أتمِّ الوجوه، وعرَّفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها.   ويحكى أن أعرابيًّا دخل على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، ثبَّت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقَّق لك النعم التي ترجوها بحُسن الظن به ودوام طاعته، وعرَّفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكُرَها، فأعجَبَه ذلك منه وقال: ما أحسَنَ تقسيمه! الفوائد 252
212- مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرشادات، والإرشادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة، فصلاحُ هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادُها بفسادها. الفوائد 252
213- في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((ذاك صريح الإيمان)) قولان: أحدهما: أنَّ ردَّه وكراهته صريح الإيمان. والثاني: أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريحُ الإيمان؛ فإنه إنما ألقاه في النفس طلبًا لمعارضة الإيمان وإزالته به. الفوائد 254
214- من المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركُه أسهل من قطع العوائد؛ فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحقُّ شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرُب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكلُّ الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئًا خسيسًا، لم يكن في سائر أمره إلا كذلك. الفوائد 255
215- قال شقيق بن إبراهيم: أُغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء: اشتغالُهم بالنعمة عن شكرها، ورغبتهم في العلم وتركُهم العمل، والمسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة، والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم، وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها، وإقبالُ الآخرة عليهم وهم معرضون عنها.   قلت: وأصل ذلك عدم الرغبة والرهبة، وأصله ضعف اليقين، وأصله ضعف البصيرة، وأصله مهانة النفس ودناءتها واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وإلا فلو كانت النفس شريفة كبيرة لم ترضَ بالدون.   فأصل الخير كلِّه - بتوفيق الله ومشيئته - شرفُ النفس ونُبلها وكِبَرُها.   قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]؛ أي: أفلح من كبَّرها وكثَّرها ونمَّاها بطاعة الله، وخاب من صغَّرها وحقَّرها بمعاصي الله. الفوائد 258
216- جماله سبحانه على أربع مراتب: جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء؛ فأسماؤه كلُّها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلُّها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة.   وأما جمال الذات وما هو عليه، فأمرٌ لا يدركه سواه ولا يعلمه غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تَعرَّفَ بها إلى من أكرمه من عباده؛ فإن ذلك الجمال مصونٌ عن الأغيار، محجوب بستر الرداء والإزار، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عنه: ((الكبرياء ردائي، والعظَمة إزاري)). الفوائد 265
217- الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يُحمَد، ومنه ما يُذم، ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم.   فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله وتنفيذ أوامره والاستجابة له، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه؛ فإن ذلك محمود إذا تَضمَّن إعلاء كلمة الله، ونَصْرَ دينه، وغيظ عدوه.   والمذمومُ منه ما كان للدنيا والرياسة، والفخر والخيلاء، والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه؛ فإن كثيرًا من النفوس ليس لها همة في سوى ذلك.   وأما ما لا يحمد ولا يذم، فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرَّد عن الوصفين. الفوائد 270
218- الحديث الشريف: ((إن الله جميل يحب الجمال)) مشتمل على أصلين عظيمين: فأوله معرفة، وآخره سلوك؛ فيُعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء، ويُعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق؛ فيحِب من عبده أن يجمِّل لسانَه بالصدق، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحَه بالطاعة، وبدَنَه بإظهار نعمه عليه في لباسه، وتطهيرِه له من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور المكروهة والختان وتقليم الأظفار؛ فيَعرفه بصفات الجمال، ويتعرَّف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة، فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبُده بالجمال الذي هو شرعه ودينه، فجمع الحديث قاعدتين: المعرفة، والسلوك. الفوائد 271
219- رَبٌّ ذو إرادة أمَرَ عبدًا ذا إرادة، فإنْ وفَّقه وأراد من نفسه أن يعينه ويلهمه فعل ما أمر به، وإنْ خذَله خلَّاه وإرادته ونفسه، وهو من هذه الحيثية لا يختار إلا ما تهواه نفسه وطبعُه، فهو من حيث هو إنسان لا يريد إلا ذلك؛ ولذلك ذمَّه الله في كتابه من هذه الحثيثة، ولم يمدحه إلا بأمر زائد على تلك الحيثية، وهو كونه مسلمًا ومؤمنًا وصابرًا ومحسنًا وشكورًا وتقيًّا وبَرًّا، ونحو ذلك، وهذا أمر زائد على مجرد كونه إنسانًا وإرادته صالحة، ولكن لا يكفي مجرد صلاحيتها إن لم تؤيَّد بقدر زائد على ذلك، وهو التوفيق، كما أنه لا يكفي في الرؤية مجرد صلاحية العين للإدراك، إن لم يحصل سبب آخر من النور المنفصل عنها. الفوائد 272
220- القرآن والعلم وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم صلاتٌ من الحق وتنبيهات وروادعُ وزواجر واردةٌ إليك، والشيب زاجر ورادع وموقظ قائم بك، فلا ما ورَدَ إليك وعَظَك! ولا ما قام بك نصَحَك! ومع هذا تطلُب التوقير والتعظيم من غيرك! فأنت كمصاب لم تؤثِّر فيه مصيبتُه وعظًا وانزجارًا، وهو يطلب من غيره أن يتعظ وينزجر بالنظر إلى مصابه، فالضرب لم يؤثِّر فيه زجرًا، وهو يريد الانزجار ممن نظر إلى ضربه! الفوائد 274
221- الطالب الصادق في طلبه كلما خَرِبَ شيءٌ من ذاته جعله عمارة لقلبه وروحه، وكلما نقص شيء من دنياه جعله زيادة في آخرته، وكلما مُنع شيئًا من لذَّات دنياه جعله زيادة في لذَّات آخرته، وكلما ناله همٌّ أو حزن أو غمٌّ جعله في أفراح آخرته؛ فنقصانُ بدَنِه ودنياه ولذَّتِه وجاهه ورئاسته: إنْ زاد في حصول ذلك وتوفيره عليه في معاده، كان رحمةً به وخيرًا له، وإلا كان حرمانًا وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنة، أو تركِ واجب ظاهر أو باطن، فإنَّ حرمان خير الدنيا والآخرة مرتَّب على هذه الأربعة. الفوائد 276
222- كل ذي لبٍّ يعلم أنه لا طريق للشيطان عليه إلا من ثلاث جهات: أحدها: التزيد والإسراف، فيزيد على قدر الحاجة، فتصير فضلة، وهي حظ الشيطان ومدخلُه إلى القلب، وطريق الاحتراز من إعطاء النفس تمامَ مطلوبها من غذاء أو نوم أو لذة أو راحة، فمتى أغلقت هذا الباب حصل الأمان من دخول العدو منه.   الثانية: الغفلة؛ فإن الذاكر في حصن الذِّكر، فمتى غفل فُتح باب الحصن فولَجَه العدوُّ، فيعسُر عليه أو يصعب إخراجه.   الثالثة: تكلُّف ما لا يعنيه من جميع الأشياء. الفوائد 277
223- أفضل الذِّكر وأنفعه ما واطَأَ فيه القلبُ اللسانَ، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكر معانيَه ومقاصده. الفوائد 279
224- أنفَعُ الناس وأضَرُّهم:   أنفعُ الناسِ لك رجلٌ مكَّنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرًا، أو تصنع إليه معروفًا؛ فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك؛ فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر.   وأضَرُّ الناسِ عليك من مكَّن نفسه منك حتى تعصي الله فيه، فإنه عون لك على مضرَّتِك ونقصِك. الفوائد 279
225- التوحيد ألطفُ شيء وأنزَهُه وأنظفه وأصفاه؛ فأدنى شيء يخدشه ويدنِّسه ويؤثِّر فيه، فهو كأبيضِ ثوب يكون، يؤثِّر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدًّا أدنى شيء يؤثر فيها؛ ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية، فإنْ بادَرَ صاحبه وقلع ذلك الأثرَ بضده، وإلا استحكَم وصار طبعًا يتعسر عليه قلعُه.   وهذه الآثار والطبوع التي تحصل فيه: منها ما يكون سريعَ الحصول سريعَ الزوال، ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال، ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال، ومنها ما يكون بطيء الحصول بطيء الزوال. الفوائد 282
226- الإنابة هي عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذاك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوفُ الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله، ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكَفَ على التماثيل المتنوعة، كما قال إمام الحنفاء لقومه: ﴿ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 52]. الفوائد 284
227- الشهقة التي تعرض عند سماع القرآن أو غيره لها أسباب: أحدها: أن يلوح له عند السماع درجة ليست له، فيرتاح إليها، فتحدث له الشهقة، فهذه شهقة شوق.   وثانيها: أن يلوح له ذنب ارتكبه، فيشهق خوفًا وحزنًا على نفسه، وهذه شهقة خشية.   وثالثها: أن يلوح له نقص فيه لا يقدر على دفعه عنه، فيُحدِث له ذلك حزنًا، فيشهق شهقة حزن.   ورابعها: أن يلوح له كمالُ محبوبه، ويرى الطريق إليه مسدودة عنه، فيُحدِث ذلك شهقة أسفٍ وحزن.   وخامسها: أن يكون قد توارى عنه محبوبه واشتغل بغيره، فذكَّره السماع محبوبه، فلاحَ له جمالُه، ورأى الباب مفتوحًا والطريق ظاهرة، فشهق فرحًا وسرورًا بما لاح له.   وبكل حال: فسبب الشهقة قوة الوارد، وضعف المحل عن الاحتمال، والقوةُ أن يعمل ذلك الوارد عمله داخلًا ولا يظهر عليه، وذلك أقوى له وأدوم، فإنه إذا أظهره ضعُف أثره وأوشك انقطاعه.   هذا حكم الشهقة من الصادق؛ فإنَّ الشاهق إما صادق، وإما سارق، وإما منافق. الفوائد 286
228- للعبد بين يدَي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه؛ فمن قام بحقِّ الموقف الأول، هوِّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفِّه حقَّه، شدِّد عليه ذلك الموقف؛ قال تعالى ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴾ [الإنسان: 26، 27]. الفوائد 291
229- في قوله تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83] جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووجود طعم المحبة في التملُّق له، والإقرار له بصفة الرحمة وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره، ومتى وجَد المبتلَى هذا كُشفتْ عنه بلواه، وقد جرِّب أنه من قالها سبع مرات - ولا سيما مع هذه المعرفة - كشَف الله ضُرَّه. الفوائد 292
230- في قوله تعالى عن يوسف نبيِّه أنه قال: ﴿ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]، جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد، والاستسلام للرب، وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة غيره سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجلَّ غايات العبد، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد، وطلب مرافقة السعداء. الفوائد 292
231- لا ينفكُّ العبد عن ضرورته إلى هذه الأصول الثلاثة، ولا فلاحَ له إلا بها: الشكر، وطلب العافية، والتوبة النصوح.   ثم فكَّرت فإذا مدار ذلك على الرغبة والرهبة، وليسا بيد العبد، بل بيد مقلِّب القلوب ومصرِّفها كيف يشاء، فإنْ وفَّق عبده أقبَلَ بقلبه إليه وملأه رغبة ورهبة، وإنْ خذَلَه ترَكَه ونفسه، ولم يأخذ بقلبه إليه، ولم يشأ له ذلك، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. الفوائد 296
232- فكَّرت: هل للتوفيق والخذلان سبب، أم هما بمجرد المشيئة لا سبب لهما؟ فإذا سببُهما أهلية المحل وعدمُها، فهو سبحانه خالق المحالِّ متفاوتةً في الاستعداد والقبول أعظم تفاوت؛ فالجمادات لا تقبل ما يقبله الحيوان، وكذلك النوعان كل منهما متفاوت في القبول؛ فالحيوان الناطق يقبل ما لا يقبله البهيم، وهو متفاوت في القبول أعظم تفاوت، وكذلك الحيوان البهيم متفاوت في القبول، لكن ليس بين النوع الواحد من التفاوت كما بين النوع الإنساني.   فإذا كان المحل قابلًا للنعمة بحيث يعرفها، ويعرف قدرها وخطرها، ويشكر المنعِم بها ويُثني عليه بها ويعظِّمه عليها، ويعلم أنها من محض الجود وعين المنَّة، من غير أن يكون هو مستحقًّا لها، ولا هي له ولا به؛ وإنما هي لله وحده وبه وحْده؛ فوحَّدَه بنعمته إخلاصًا، وصرفها في محبته شكرًا، وشهدها من محض جوده منَّة، وعرف قصوره وتقصيره في شكرها عجزًا وضعفًا وتفريطًا، وعلم أنه إن أدامها عليه فذلك محضُ صدقته وفضله وإحسانه، وإنْ سلَبَه إياها فهو أهلٌ لذلك مستحق له. الفوائد 296
233- وسبب الخذلان عدمُ صلاحية المحل وأهليته وقبوله للنعمة، بحيث لو وافته النِّعمُ لقال: هذا لي، وإنما أوتيتُه لأني أهله ومستحِقُّه، كما قال تعالى: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78]؛ أي: على عِلمٍ عَلِمَه الله عندي أستحقُّ به ذلك وأستوجبه وأستأهله، قال الفراء: أي على فضل عندي أني كنت أهله ومستحقًّا له إذ أُعطيتُه، وقال مقاتل: يقول على خير عَلِمَه الله عندي. الفوائد 298
234- أسباب الخذلان من بقاء النفس على ما خُلقت عليه في الأصل وإهمالها وتخليتها، فأسباب الخذلان منها وفيها، وأسبابُ التوفيق من جعل الله سبحانه لها قابلةً للنعمة، فأسبابُ التوفيق منه ومن فضله، وهو الخالق لهذه وهذه، كما خلَق أجزاء الأرض هذه قابلةً للنبات وهذه غير قابلة له، وخلَق الشجر هذه تقبل الثمرة وهذه لا تقبلها، وخلق النحلة قابلة لأنْ يخرُج منه بطونها شرابٌ مختلف ألوانه، والزنبور غير قابل لذلك، وخلَق الأرواح الطيبة قابلة لذِكره وشكره وحُجته، وإجلاله وتعظيمه وتوحيده، ونصيحة عباده، وخلَقَ الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك بل لضدِّه، وهو الحكيم العليم. الفوائد 299

♦♦♦♦♦


درر وفوائد وعظية

قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه:

لما قُضي في القدم بسابقة سلمان، عرض به دليل التوفيق عن طريق آبائه في التمجس، فأقبَل يناظر أباه في دين الشرك، فلما علاه بالحُجة، لم يكن له جواب إلا القيد، وهذا جواب يتداوله أهلُ الباطل من يوم حرفوه، وبه أجاب فرعون موسى: ﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي ﴾ [الشعراء: 29]، وبه أجاب الجهمية الإمامَ أحمد لما عرضوه على السياط، وبه أجاب أهل البدع شيخَ الإسلام حين استودعوه السجن، وها نحن على الأثر، فنزل به ضيف ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ﴾ [البقرة: 155]، فنال بإكرامه مرتبة: ((سلمان منا أهل البيت))، فسمع أن ركبًا على نية السفر، فسرق نفسه من أبيه ولا قطع، فركب راحلة العزم يرجو إدراك مطلب السعادة، فغاص في بحر البحث ليقع بدُرَّةِ الوجود، فوقف نفسه على خدمة الأدلاء وقوف الأذلاء.

 

فلما أحس الرهبان بانقراض دولتهم، سلموا إليه أعلام الإعلام على نبوة نبيِّنا، وقالوا: إن زمانه قد أظل، فاحذر أن تضل، فرحل مع رفقة لم يرفقوا به ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ [يوسف: 20]، فابتاعه يهودي بالمدينة، فلما رأى الحَرَّة، توقَّد حرُّ شوقه، ولم يعلم ربُّ المنزل بوجد النازل، فبينا هو يكابد ساعات الانتظار، قدم البشير بقدوم البشير، وسلمان في رأس نخلة، وكاد القلق يلقيه لولا أن الحزم أمسكه، كما جرى يوم ﴿ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ [القصص: 10]، فعجَّل النزول لتلقِّي ركب البشارة ولسانُ حاله يقول:

خليليَّ مِن نجدٍ قِفا بي على الرُّبا = فقد هبَّ مِن تلك الديارِ نسيمُ

فصاح به سيده: ما لك؟ انصرف إلى شغلك! فقال:

كيف انصرافي ولي في داركم شُغُلُ

 

ثم أخذ لسان حاله يترنَّم لو سمع الأطروش (الأطرش الذي لا يسمع):

خليليََّ لا واللهِ ما أنا منكما *** إذا عَلَمٌ مِن آل ليلى بَدا ليَا

فلما لقي الرسول، عارض نسخةَ الرهبان بكتاب الأصل، فوافقه.

يا محمد، أنت تريد أبا طالب، ونحن نريد سلمان.

 

قصة ذي البجادين (عبدالله المزني):

كان ذو البجادين يتيمًا في الصغر فكفله عمُّه، فنازعتْه نفسُه إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهمَّ بالنهوض، فإذا بقية المرض مانعة، فقعد ينتظر العمَّ، فلما تكاملت صحته نفد الصبر، فناداه ضمير الوجد:

إلى كم حبسُها تشكو المَضِيقَا *** أَثِرْها ربما وجدتْ طريقَا

 

فقال: يا عم، طال انتظاري لإسلامك، وما أرى منك نشاطًا، فقال: والله لئن أسلمتَ لأنتزعن كل ما أعطيتك، فصاح لسانُ الشوق: نظرة من محمد أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها.

ولو قيل للمجنون ليلى ووصْلَها
تريدُ أم الدنيا وما في طواياها
لقال: ترابٌ مِن غُبارِ نِعالِها
ألذُّ إلى نفسي وأشفى لبَلْواها

 

فلما تجرَّد للسير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، جرده من الثياب، فناولته الأم بجادًا فقطعه لسفرِ الوصل نصفين: اتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، فلما نادى صائح الجهاد، قنع أن يكون في ساقة الأحباب، والمحب لا يرى طول الطريق؛ لأن المقصود يُعينه.

ألا بلَّغ اللهُ الحِمى مَن يُريدُه *** وبلَّغ أكنافَ الحِمى مَن يُريدُها

 

فلما قضى نَحْبَه، نزل الرسول صلى الله عليه وسلم يمهد له لحده، وجعل يقول: ((اللهم إني أمسيت عنه راضيًا، فارضَ عنه))، فصاح ابن مسعود: "يا ليتني كنتُ صاحب القبر!".

فيا مخنث العزم، أقلُّ ما في الرقعة البيذق، فلما نهض تفرزن.

 

التعليق على حديث اللسان:

في السنن من حديث أبى سعيد يرفعه: ((إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تُكفِّرُ اللسانَ، تقول: اتقِ الله؛ فإنما نحن بك؛ فإنِ استقمتَ استقمنا، وإنِ اعوججتَ اعوججنا)).

 

قوله: "تكفِّر اللسان" قيل: معناه تخضع له، وفي الحديث: أن الصحابة لما دخلوا على النجاشي لم يكفِّروا له؛ أي لم يسجدوا ولم يخضعوا؛ ولذلك قال عمرو بن العاص: أيها الملِكُ، إنهم لا يكفِّرون لك.

 

وإنما خضعت للسان؛ لأنه بريد القلب وترجمانه، والواسطة بينه وبين الأعضاء.

 

وقولها: "إنما نحن بك"؛ أي: نجاتنا بك وهلاكنا بك؛ ولهذا قالت: "فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا".

 

غرور الأماني:

يا مغرورًا بالأماني، لُعن إبليس وأُهبِط من منزل العز بترك سجدة واحدة أُمِر بها، وأخرَجَ آدم من الجنة بلقمة تناوَلَها، وحَجَب القاتل عنها بعد أنْ رآها عيانًا بملء كفٍّ من دم، وأمَرَ بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لا يحلُّ، وأَمَر بإيساع الظَّهر سياطًا بكلمة قذف أو بقطرة من مسكِر، وأبان عضوًا من أعضائك بثلاثة دراهم، فلا تأمَنْه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه ﴿ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾ [الشمس: 15].

 

دخلت امرأة النار في هرة، وإن الرجل لَيتكلَّمُ بالكلمة لا يُلقي لها بالًا يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، وإن الرجل لَيعملُ بطاعة الله ستين سنة، فإذا كان عند الموت جارَ في الوصية فيُختَم له بسوء عمله، فيدخل النار.

 

العمر بآخره، والعمل بخاتمته.

 

الحكمة من تأخر خلق آدم عليه السلام:

كان أول المخلوقات القلم؛ ليكتب المقادير قبل كونها، وجعل آدم آخر المخلوقات، وفي ذلك حِكَمٌ:
أحدها: تمهيد الدار قبل الساكن.

 

الثانية: أنه الغاية التي خُلِق لأجلها ما سواه من السماوات والأرض، والشمس والقمر، والبر والبحر.

 

الثالثة: أن أحذق الصناع يختم عمله بأحسنه وغايته، كما يبدؤه بأساسه ومبادئه.

 

الرابعة: أن النفوس متطلعة إلى النهايات والأواخر دائمًا.

 

الخامسة: أن الله سبحانه أخَّر أفضل الكتب والأنبياء والأمم إلى آخر الزمان، وجعل الآخرة خيرًا من الأولى، والنهايات أكمل من البدايات.

 

السادسة: أنه سبحانه جمع ما فرَّقه في العالم في آدم، فهو العالم الصغير، وفيه ما في العالم الكبير.

 

السابعة: أنه خلاصة الوجود وثمرته، فناسب أن يكون خلقُه بعد الموجودات.

 

الثامنة: كرامته على خالقه أنه هيَّأ له مصالحه وحوائجه وآلات معيشته وأسباب حياته، فما رفع رأسه إلا وذلك كلُّه حاضر عتيد.

 

التاسعة: أنه سبحانه أراد أن يظهر شرفه وفضله على سائر المخلوقات، فقدَّمها عليه في الخلق؛ ولهذا قالت الملائكة: ليخلق ربُّنا ما شاء، فلن يخلق خلقًا أكرم عليه منا، فلما خلَقَ آدمَ وأمَرَهم بالسجود له، ظهر فضلُه وشرفه عليهم بالعلم والمعرفة، فلما وقع في الذنب ظنَّت الملائكة أن ذلك الفضل قد نُسِخ، ولم تطلع على عبودية التوبة الكامنة، فلما تاب إلى ربِّه وأتى بتلك العبودية، عَلِمَتِ الملائكة أن لله في خلقه سرًّا لا يعلمه سواه.

 

العاشرة: أنه سبحانه لما افتتح خلق هذا العالَم بالقلم، كان من أحسن المناسبة أن يختمه بخلق الإنسان، فإن القلم آلة العلم، والإنسان هو العالِم؛ ولهذا أظهر سبحانه فضل آدم على الملائكة بالعلم الذي خُصَّ به دونهم.

 

الرب يتعرف لعباده في القرآن الكريم:

القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكِبْر كما يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال، الدال على كمال الذات، فيستنفد حبُّه من قلب العبد قوةَ الحب كلَّها، بحسب ما عرَفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغًا إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به، أبى قلبُه وأحشاؤه ذلك كلَّ الإباء، كما قيل:

يُرادُ مِن القلبِ نسيانُكم *** وتأبى الطباعُ على الناقلِ

فتبقى المحبة له طبعًا لا تكلفًا.

 

وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان، انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أملُه، وقوي طمعه، وسار إلى ربِّه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاءُ جدَّ في العمل، كما أن الباذر كلما قوي طمعُه في المغلِّ غلَّق أرضه بالبذر، وإذا ضعُف رجاؤه قصَّر في البذر.

 

وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمَّارة، وبطَلت أو ضعُفت قواها من الشهوة والغضب، واللهو واللعب، والحرص على المحرَّمات، وانقبضت أعنَّةُ رعونتها، فأحضرت المطيَّة حظها من الخوف والخشية والحذر.

 

وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع، انبعث منها قوة الامتثال والتنفيذ للطلب، والاجتناب للنهي.

 

وإذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم، انبعث من العبد قوة الحياء؛ فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقُتُه عليه، فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونةً بميزان الشرع، غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.

 

وإذا تجلى بصفات الكفاية والحَسْب، والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم، ونصره لأوليائه وحمايته لهم ومعيته الخاصة لهم، انبعث من العبد قوة التوكل عليه، والتفويض إليه، والرضا به وبكل ما يجريه على عبده ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه.

 

والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله، وحسن اختياره لعبده، وثقته به، ورضاه بما يفعله به ويختاره له.

 

وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء، أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته، والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخشوع القلب والجوارح له، فتعلو السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوته وحدته.

 

وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبةَ الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قُربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذِكرِه، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همَّه دون ما سواه.

 

ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكلَ عليه، والافتقار إليه، والاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له.

 

وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في إلهيته، وإلهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزَّه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه، وعطاؤه في منعه، وبرَّه ولطفه وإحسانه ورحمته في قيوميته، وعدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجاوزه.

 

ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه، وعزه في رضاه وغضبه، وحلمه في إمهاله، وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه.

 

وأنت إذا تدبَّرتَ القرآن وأجَرتَه من التحريف، وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين، أشهَدَك ملِكًا قيومًا فوق سماواته على عرشه يدبر أمر عباده، يأمر وينهى، ويرسل الرسل وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويُثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويُعِزُّ ويُذِل، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع ويسمع، ويعلم السر والعلانية، فعَّال لما يريد، موصوف بكل كمال، منزَّه عن كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ليس لعباده من دونه وليٌّ ولا شفيع.

 

محبة العبد لربه وأثرها في نفسه:

لو كان في قلبك محبة، لبانَ أثرُها على جسدك:

ولما ادعيتُ الحبَّ قالتْ كذَبْتَني *** ألستُ أرى الأعضاء منك كواسيَا

 

لو تغذى القلب بالمحبة، لذهبت عنه بطنة الشهوات:

ولو كنتَ عُذْرِيَّ الصَّبابةِ لم تكنْ *** بَطينًا وأنساك الهوى كثرةَ الأكلِ

 

لو صحت محبتك، لاستوحشت ممن لا يذكِّرك بالحبيب.

 

واعجبًا لمن يدَّعي المحبة ويحتاج إلى من يذكِّره بمحبوبة، فلا يذكُرُه إلا بمذكِّر!

 

أقل ما في المحبة أنها لا تنسيك تذكُّرَ المحبوب:

ذكَرتُك لا أني نسيتُك ساعةً *** وأيسرُ ما في الذِّكر ذِكرُ لساني

 

إذا سافر المحبوب للقاء محبوبه ركبت جنوده معه، فكان الحب في مقدمة العسكر، والرجاء يحدو بالمطي، والشوق يسوقها، والخوف يجمعها على الطريق، فإذا شارف قدوم بلد الوصل، خرجت تقادم الحبيب للقاء.

 

فداوِ سُقمًا بجسمٍ أنت مُتلِفُه
وابرُدْ غرامًا بقلبٍ أنت مُضرِمُهُ
ولا تَكِلْني على بُعدِ الديارِ إلى
صبري الضعيفِ فصبري أنت تعلمُهُ
تَلَقَّ قلبي فقد أرسَلتُه عجلًا
إلى لقائك والأشواقُ تقدمُهُ

 

فإذا دخل على الحبيب، أفيضت عليه الخلع من كل ناحية؛ ليمتحن أيسكن إليها فتكون حظه، أم يكون التفاته إلى من ألبسه إياها.

 

التعليق على قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ﴾ [الفرقان: 55]:

♦ قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ﴾ هذا من ألطف خطاب القرآن وأشرف معانيه، وأن المؤمن دائمًا مع الله على نفسه وهواه وشيطانه وعدوِّ ربه.

 

وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائه، فهو مع الله على عدوِّه الداخل فيه على حرب أعدائه، يحاربهم ويعاديهم ويغضبهم له سبحانه، كما يكون خواصُّ الملِك معه على حرب أعدائه، والبعيدون منه فارغون من ذلك، غير مهتمين به، والكافر مع شيطانه ونفسه وهواه على ربِّه.

 

وعبارات السلف على هذا تدور:

فقد ذكر ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير قال: عونًا للشيطان على ربه بالعداوة والشرك.

 

وقال ليث عن مجاهد قال: يظاهر الشيطان على معصية الله يعينه عليها.

 

وقال زيد بن أسلم: ﴿ ظهيرًا ﴾؛ أي: مواليًا.

 

والمعنى: أنه يوالي عدوَّه على معصيته والشرك به، فيكون مع عدوه معينًا له على مساخط ربه.

 

فالمعية الخاصة التي للمؤمن مع ربِّه وإلهه قد صارت لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان ومع نفسه وهواه وقربانه؛ ولهذا صدَّر الآية بقوله: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ ﴾ [الفرقان: 55]، وهذه العبادة هي الموالاة والمحبة والرضا بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة، فظاهَروا أعداء الله على معاداته ومخالفته ومساخطه، بخلاف وليِّه سبحانه، فإنه معه على نفسه وشيطانه وهواه.

 

وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله، وبالله التوفيق.

 

التعليق على آيات الأعراف:

﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ [الأعراف: 175، 176].

فهذا مثل عالِم السوء الذي يعمل بخلاف علمه.

 

وتأمَّل ما تضمنته هذه الآية من ذمِّه، وذلك من وجوه:

أحدها: أنه ضلَّ بعد العلم، واختار الكفر على الإيمان عمدًا لا جهلًا.

 

ثانيها: أنه فارَقَ الإيمان مفارقةَ مَن لا يعود إليه أبدًا، فإنه انسلخ من الآيات بالجملة كما تنسلخ الحية من قشرها، ولو بقي معه منها شيءٌ لم ينسلخ منها.

 

ثالثها: أن الشيطان أدرَكَه ولحقه بحيث ظَفِر به وافترسه؛ ولهذا قال: ﴿ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ﴾، ولم يقل: تبعه، فإن في معنى "أتبعه" "أدركه" و"لحقه"، وهو أبلغ من "تبعه" لفظًا ومعنى.

 

رابعها: أنه غوى بعد الرشد، والغي: الضلال في العلم والقصد، وهو أخصُّ بفساد القصد والعمل، كما أن الضلال أخص بفساد العلم والاعتقاد، فإذا أُفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وإن اقتَرَنا فالفرقُ ما ذُكِر.

 

خامسها: أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم، فكان سبب هلاكه؛ لأنه لم يُرفع به، فصار وبالًا عليه، فلو لم يكن عالمًا كان خيرًا له وأخفَّ لعذابه.

 

سادسها: أنه سبحانه أخبَرَ عن خسة همته، وأنه اختار الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى. سابعها: أن اختياره للأدنى لم يكن عن خاطر وحديث نفس، ولكنه كان عن إخلاد إلى الأرض وميل بكليته إلى ما هناك. وأصل الإخلاد: اللزوم على الدوام، كأنه قيل: لزم الميل إلى الأرض، ومن هذا يقال: أخلَدَ فلان بالمكان: إذا لزم الإقامة به؛ قال مالك بن نويرة:

بأبناءِ حيٍّ مِن قبائلِ مالكٍ *** وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلَدُوا

 

وعبَّر عن ميله إلى الدنيا بإخلاده إلى الأرض؛ لأن الدنيا هي الأرض، وما فيها وما يُستخرج منها من الزينة والمتاع.

 

ثامنها: أنه رَغِبَ عن هداه، واتبَع هواه، فجعل هواه إمامًا له يقتدي به ويتبعه.

 

تاسعها: أنه شبَّهَه بالكلب الذي هو أخسُّ الحيوانات همة، وأسقطها نفسًا، وأبخلها وأشدها كلَبًا؛ ولهذا سمي كَلْبًا.

 

عاشرها: أنه شبَّه لهثه على الدنيا، وعدم صبره عنها، وجزعه لفقدها، وحرصه على تحصيلها - بلهث الكلب في حالتَي تركه والحمل عليه بالطرد وهكذا؛ هذا إنْ تُرك فهو لهثان على الدنيا، وإنْ وُعظ وزُجر فهو كذلك، فاللهث لا يفارقه في كل حال كلهث الكلب.

 

قال ابن قتيبة: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في الكلال وحال الراحة، وحال الري وحال العطش، فضرَبَه الله مثلًا لهذا الكافر، فقال: إنْ وعَظتَه فهو ضالٌّ، وإنْ ترَكتَه فهو ضالٌّ؛ كالكلب إن طردتَه لهث، وإن تركتَه على حاله لهث.

 

وهذا التمثيل لم يقع بكل كلب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وذلك أسوأ ما يكون وأشنَعُه.

 

الخلاف في حقيقة الإيمان:

وأما الإيمان، فأكثر الناس أو كلُّهم يدَّعونه ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]، وأكثر المؤمنين إنما عندهم إيمان مجمل، وأما الإيمان المفصَّل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة وعلمًا وإقرارًا ومحبة، ومعرفة بضده وكراهيته وبغضه، فهذا إيمان خواصِّ الأمَّة وخاصَّةِ الرسول، وهو إيمان الصِّدِّيق وحزبه.

 

وكثير من الناس حظُّهم من الإيمان الإقرار بوجود الصانع، وأنه وحده هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وهذا لم يكن يُنكِرُه عبَّاد الأصنام من قريش ونحوهم.

 

وآخرون الإيمان عندهم هو التكلم بالشهادتين، سواء كان معه عمل أو لم يكن، وسواء وافق تصديق القلب أو خالفه.

 

وآخرون عندهم الإيمان مجرد تصديق القلب بأن الله سبحانه خالق السموات والأرض، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإن لم يُقِرَّ بلسانه ولم يعمل شيئًا، بل ولو سبَّ الله ورسوله وأتى بكل عظيمة، وهو يعتقد وحدانية الله ونبوة رسوله، فهو مؤمن.

 

وآخرون عندهم الإيمان هو جحد صفات الرب تعالى؛ من علوِّه على عرشه، وتكلُّمه بكلماته وكتبه، وسمعه وبصره، ومشيئته وقدرته وإرادته، وحبه وبغضه، وغير ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسولُه، فالإيمان عندهم إنكار حقائق ذلك كلِّه وجحدُه، والوقوف مع ما تقتضيه آراء المتهوكين وأفكار المخرصين، الذين يرد بعضهم على بعض، وينتقض بعضهم قول بعض، الذين هم كما قال عمر بن الخطاب والإمام أحمد: مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مفارقة الكتاب.

 

وآخرون عندهم الإيمان عبادة الله بحُكم أذواقهم ومواجيدهم وما تهواه نفوسهم، من غير تقييد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

وآخرون الإيمان عندهم ما وجدوا عليه آباءهم وأسلافهم بحكم الاتفاق كائنًا ما كان، بل إيمانهم مبنيٌّ على مقدمتين: إحداهما: أن هذا قول أسلافنا وآبائنا، والثانية: أن ما قالوه فهو الحق.

 

وآخرون عندهم الإيمان مكارم الأخلاق، وحسن المعاملة، وطلاقة الوجه، وإحسان الظن بكل أحد، وتخلية الناس وغفلاتهم.

 

وآخرون عندهم الإيمان: التجرد من الدنيا وعلائقها، وتفريغ القلب منها، والزهد فيها، فإذا رأوا رجلًا هكذا جعلوه من سادات أهل الإيمان، وإن كان منسلخًا من الإيمان علمًا وعملًا.

 

وأعلى من هؤلاء من جعل الإيمان هو مجرد العلم وإن لم يقارنه عمل.

 

وكل هؤلاء لم يعرف حقيقة الإيمان، ولا قاموا به، ولا قام بهم، وهم أنواع: منهم من جعل الإيمان ما يضاد الإيمانَ، ومنهم من جعل الإيمان ما لا يعتبر في الإيمان، ومنهم من جعله ما هو شرط فيه ولا يكفي في حصوله، ومنهم من اشترط في ثبوته ما يناقضه ويضاده، ومنهم من اشترط فيه ما ليس منه بوجه.

 

والإيمان وراء ذلك كله، وهو حقيقة مركبة من: معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علمًا، والتصديق به عقدًا، والإقرار به نطقًا، والانقياد له محبة وخضوعًا، والعمل به باطنًا وظاهرًا، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان.

 

وكماله: في الحب في الله والبغض في الله، والعطاء لله والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده.

 

والطريق إليه: تجريد متابعة رسوله ظاهرًا وباطنًا، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى ما سوى الله ورسوله، وبالله التوفيق.

 

حدود الأخلاق:

للأخلاق حدٌّ متى جاوزتْه صارت عدوانًا، ومتى قصَّرتْ عنه كان نقصًا ومهانة:

فللغضب حد، وهو الشجاعة المحمودة، والأنفة من الرذائل والنقائص، وهذا كماله، فإذا جاوز حدَّه تعدى صاحبه وجارَ، وإن نقص عنه جبن ولم يأنف من الرذائل.

 

وللحرص حد، وهو الكفاية في أمور الدنيا وحصول البلاغ منها، فمتى نقص من ذلك كان مهانة وإضاعة، ومتى زاد عليه كان شرَهًا ورغبة فيما لا تُحمَد الرغبة فيه.

 

وللحسد حد، وهو المنافسة في طلب الكمال، والأنفة أن يتقدم عليه نظيره، فمتى تعدى ذلك صار بغيًا وظلمًا يتمنى معه زوالَ النعمة عن المحسود ويحرص على إيذائه، ومتى نقص عن ذلك كان دناءة وضعف همة وصِغَرَ نفس.

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلَكتِه في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها الناس))؛ رواه أحمد بن حنبل والبخاري، ولفظه عند البخاري في باب التمني: ((لا تحاسُد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل والنهار، يقول: لو أُوتيتُ مثل ما أوتي هذا، لفعلتُ كما يفعل، ورجل آتاه الله مالًا ينفقه في حقه، فيقول: لو أوتيتُ مثل ما أوتي، لفعلتُ كما يفعل)).

 

فهذا حسدُ منافسةٍ يطالب الحاسد به نفسَه أن يكون مثل المحسود، لا حسدُ مهانة يتمنى به زوال النعمة عن المحسود.

 

وللشهوة حد، وهو راحة القلب والعقل من كدِّ الطاعة واكتساب الفضائل، والاستعانة بقضائها على ذلك، فمتى زادت على ذلك صارت نهمة وشبقًا، والتحق صاحبها بدرجة الحيوان، ومتى نقصت عنه ولم يكن فراغًا في طلب الكمال والفضل، كانت ضعفًا وعجزًا ومهانة.

 

وللراحة حد، وهو إجمامُ النفس والقُوى المدركة والفعالة للاستعداد للطاعة واكتساب الفضائل، وتوفرها على ذلك، بحيث لا يُضعِفها الكدُّ والتعب ويضعف أثرها، فمتى زاد على ذلك صار توانيًا وكسلًا وإضاعة وفات به أكثر مصالح العبد، ومتى نقص عنه صار مضرًّا بالقُوى موهنًا لها، وربما انقطع به كالمنبتِّ الذي لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى.

 

والجود له حد بين طرفين، فمتى جاوز حدَّه صار إسرافًا وتبذيرًا، ومتى نقص عنه كان بخلًا وتقتيرًا.

 

وللشجاعة حد متى جاوزتْه صارت تهورًا، ومتى نقصت عنه صارت جبنًا وخورًا، وحدُّها الإقدام في مواضع الإقدام، والإحجامُ في مواضع الإحجام، كما قال معاوية لعمرو بن العاص: أعياني أن أعرف أشجاع أنت أم جبان؟ تُقدِم حتى أقول: مِن أشجع الناس، وتجبُن حتى أقول: من أجبن الناس! فقال:

شجاعٌ إذا أمكنَتْنيَ فرصةٌ *** فإن لم تكنْ لي فرصةٌ فجَبانُ


والغيرة لها حد إذا جاوزتْه صارت تهمة وظنًّا سيئًا بالبريء، وإذا قصَّرت عنه كانت تغافلًا ومبادئ دياثة.

وللتواضع حد إذا جاوزه كان ذلًّا ومهانة، ومتى قصر عنه انحرف إلى الكِبر والفخر.

وللعز حد إذا جاوزه كان كِبرًا وخلقًا مذمومًا، وإن قصَّر عنه انحرف إلى الذل والمهانة.

 

وضابط هذا كلِّه العدلُ، وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط، وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة، بل لا تقوم مصلحة البدن إلا به، فإنه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه، ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك، وكذلك الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر، والأكل والشرب والجماع، والحركة والرياضة، والخلوة والمخالطة، وغير ذلك، إذا كانت وسطًا بين الطرفين المذمومين كانت عدلًا، وإن انحرفتْ إلى أحدهما كانت نقصًا وأثمرت نقصًا.

 

فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود، ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهي؛ فأعلمُ الناس أعلمُهم بتلك الحدود، حتى لا يدخل فيها ما ليس منها، ولا يخرج منها ما هو داخل فيها.

 

قال تعالى: ﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 97].

 

فأعدلُ الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفة وفعلًا، وبالله التوفيق.

 

من حِكَم ابن مسعود رضي الله عنه:

1- من كلام عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: قال رجل عنده: ما أُحِبُّ أن أكون من أصحاب اليمين، أُحِبُّ أن أكون من المقرَّبين، فقال عبدالله: لكن هاهنا رجل وَدَّ أنه إذا مات لم يُبعَث؛ يعني نفسه.

 

2- وخرج ذات يوم فاتبعه ناس، فقال لهم: ألكم حاجة؟ قالوا: لا، ولكن أردنا أن نمشي معك، قال: ارجعوا؛ فإنه ذِلَّةٌ للتابع، وفتنة للمتبوع. وقال: لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي، لَحَثَوتُم على رأسي التراب.

 

3- وقال: حبذا المكروهان: الموت والفقر، وايم الله إن هو إلا الغنى والفقر، وما أبالي بأيهما بُليتُ، أرجو الله في كل واحد منهما: إن كان الغنى إن فيه للعطف، وإن كان الفقر إن فيه للصبر.

 

4- وقال: إنكم في ممرِّ الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيرًا فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرًّا فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارعٍ مثلُ ما زرَع، لا يسبق بطيء بحظِّه، ولا يُدرِك حريص ما لم يُقدَّرْ له.

 

5- من أُعطي خيرًا فالله أعطاه، ومن وُقي شرًّا فالله وقاه.

 

6- المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومُجالَستُهم زيادة.

 

7- إنما هما اثنتان: الهدي والكلام، فأفضل الكلام كلامُ الله، وأفضل الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، فلا يطولن عليكم الأمد، ولا يلهينَّكم الأمل؛ فإن كل ما هو آتٍ قريب، ألا وإن البعيد ما ليس آتيًا، ألا وإن الشقي من شَقِيَ في بطن أمه، وإن السعيد من وُعِظ بغيره، إلا وإن قتال المسلم كفر، وسبابه فسوق، ولا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام حتى يسلِّم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويعوده إذا مرض.

 

ألا وإن شرَّ الروايا روايا الكذب، ألا وإن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا أن يَعِدَ الرجل صبيَّه شيئًا ثم لا ينجزه، ألا وإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، والصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإنه يقال للصادق: صدق وبرَّ، ويقال للكاذب: كذَب وفجَر، وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم حدَّثَنا أن الرجل لَيصدُقُ حتى يُكتَب عند الله صدِّيقًا، ويكذب حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا.

 

8- إن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقى، وخير المِلَّة ملةُ إبراهيم، وأحسن السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وخير الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الحديث ذِكرُ الله، وخير القصص القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها، وما قل وكفى خيرٌ مما كثُر وألهى، ونفس تنجيها خيرٌ من إمارة لا تحصيها، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة ندامةُ يوم القيامة، وشر الضلالة الضلالةُ بعد الهدى، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، وخير ما أُلقِي في القلب اليقين، والريبُ من الكفر، وشر العمى عمى القلب، والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، والنَّوحُ من عمل الجاهلية.

 

9- من الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرًا، ولا يذكُر الله إلا هُجرًا.

 

وأعظم الخطايا الكذب، ومن يعفُ يعفُ الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يغفر يغفرِ الله له، ومن يصبر على الرزية يعقبه الله، وشرُّ المكاسب كسب الرِّبا، وشر المآكل مال اليتيم، وإنما يكفي أحدَكم ما قنعت به نفسه، وإنما يصير إلى أربعة أذرع، والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتمه، وأشرف الموت قتل الشهداء، ومن يستكبر يَضَعْه الله، ومن يعصِ الله يُطِعِ الشيطان.

 

10- ينبغي لحامل القرآن أن يُعرَف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطِرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصَمتِه إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا حكيمًا حليمًا سكينًا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا ولا غافلًا ولا سخَّابًا ولا صيَّاحًا ولا حديدًا.

 

11- من تطاوَلَ تعظمًا حطَّه الله، ومن تواضَع تخشعًا رفعه الله.

وإن للملَكِ لَمَّةً وللشيطان لمة؛ فلَمَّةُ الملَك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فإذا رأيتم ذلك فاحمدوا الله، ولمةُ الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فإذا رأيتم ذلك فتعوَّذوا بالله.

 

إن الناس قد أحسَنوا القول، فمن وافَقَ قولُه فعلَه فذاك الذي أصاب حظه، ومن خالف قولُه فعلَه فذاك إنما يوبِّخ نفسه.

 

لا ألفين أحدكم جيفة ليل قطرب نهار، إني لأُبغِضُ الرجل أن أراه فارغًا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة، ومن لم تأمره الصلاة بالمعروف وتنهه عن المنكر، لم يزدد بها من الله إلا بعدًا.

 

12- من اليقين ألا تُرضي الناس بسخط الله، ولا تحمد أحدًا على رزق الله، ولا تلوم أحدًا على ما لم يؤتِك الله، فإن رزق الله لا يسوقه حرصُ حريص، ولا يردُّه كراهة كاره، وإن الله بقسطه وحلمه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.

 

ما دمت في صلاة فأنت تقرع باب الملِك، ومن يقرع باب الملك، يفتح له.

إني لأحسبُ الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها.

 

كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سُرُج الليل، جُدُدَ القلوب، خُلقانَ الثياب، تُعرفون في السماء، وتَخفَون على أهل الأرض.

 

13- إن للقلوب شهوة وإدبارًا، فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها، ودعوها عند فترتها وإدبارها.

ليس العلم بكثرة الرواية؛ ولكن العلم الخشية.

 

إنكم ترون الكافر من أصحِّ الناس جسمًا وأمرضِه قلبًا، وتَلقَون المؤمن من أصحِّ الناس قلبًا وأمرضِه جسمًا، وايم الله لو مرضت قلوبُكم وصحَّتْ أجسامُكم، لكنتم أهون على الله من الجعلان.

 

14- لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يحُلَّ بذروته، ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحبَّ إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده وذامُّه عنده سواء، وإن الرجل لَيخرُجُ من بيته ومعه دينُه، فيرجع وما معه منه شيء، يأتي الرجل ولا يملك له ولا لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، فيقسم له بالله إنك لَذَيْتَ وذَيْتَ، فيرجع وما حُبِي من حاجته بشيء، ويسخط الله عليه.

 

15- لو سَخِرتُ مِن كلب لخشيتُ أن أُحوَّل كلبًا.

الإثم حَوازُّ القلوب.

ما كان من نظرة، فإن للشيطان فيها مطمعًا.

مع كل فرحة ترحة، وما مُلئ بيت حبرة إلا مُلئ عَبرة.

وما منكم إلا ضيف ومالُه عاريَّة، فالضيف مرتحِل، والعاريَّة مؤداة إلى أهلها.

 

16- يكون في آخر الزمان أقوام أفضلُ أعمالهم التلاوم بينهم، يُسمَّون الأنتان.

إذا أحب الرجل أن ينصف من نفسه، فليأتِ إلى الناس الذي يحبُّ أن يؤتى إليه.

الحق ثقيل مريء، والباطل خفيف وبيء.

رُبَّ شهوة تورث حزنًا طويلًا.

ما على وجه الأرض شيءٌ أحوج إلى طول سَجْنٍ من لسان.

إذا ظهر الزِّنا والرِّبا في قرية أُذِنَ بهلاكها.

 

17- من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء، حيث لا يأكله السوس، ولا يناله السراق؛ فليفعل، فإنَّ قلبَ الرجل مع كنزه.

 

لا يقلدنَّ أحدكم دِينَه رجلًا، فإنْ آمَنَ آمَن، وإنْ كفر كفر، وإن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت؛ فإن الحي لا تُؤمَنُ عليه الفتنة.

 

18- لا يكن أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمعة؟ قال: يقول: أنا مع الناس؛ إن اهتدَوا اهتديتُ، وإن ضلُّوا ضللتُ، ألا ليوطِّنْ أحدكم نفسه على أنه إنْ كفر الناسُ لا يكفُر.

 

وقال له رجل: علْمني كلمات جوامع نوافع، فقال: اعبُدِ الله لا تُشرِك به شيئًا، وزُلْ مع القرآن حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبَلْ منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومن جاءك بالباطل فاردد عليه وإن كان حبيبًا قريبًا.

 

19- يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أدِّ أمانتك، فيقول: يا رب، من أين وقد ذهبَتِ الدنيا؟! فتُمثَّل على هيئتها يوم أخذها في قعر جهنم، فينزل فيأخذها، فيضعها على عاتقه فيصعد بها، حتى إذا ظن أنه خارج بها هوتْ وهوى في أثرها أبد الآبدين.

 

اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذِّكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده في هذه المواطن، فسَلِ الله أن يمُنَّ عليك بقلب؛ فإنه لا قلب لك.

 

لقاحات مفيدة:

• الطلب لقاح الإيمان، فإذا اجتمَع الإيمان والطلب أثمَرا العمل الصالح.

 

• وحُسنُ الظن بالله لقاح الافتقار والاضطرار إليه، فإذا اجتمَعا أثمرا إجابة الدعاء.

 

• والخشية لقاح المحبة، فإذا اجتمعا أثمرا امتثال الأوامر واجتناب المناهي.

 

• والصبر لقاح اليقين، فإذا اجتمعا أورَثا الإمامة في الدين؛ قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].

 

• وصحة الاقتداء بالرسول لقاح الإخلاص، فإذا اجتمعا أثمَرا قَبولَ العمل والاعتداد به.

 

• والعمل لقاح العلم، فإذا اجتمَعا كان الفلاح والسعادة، وإنِ انفرَدَ أحدهما عن الآخر لم يفد شيئًا.

 

• والحلم لقاح العلم، فإذا اجتمَعا حصلت سيادة الدنيا والآخرة، وحصل الانتفاع بعلم العالم، وإن انفرد أحدهما عن صاحبه فات النفع والانتفاع.

 

• والعزيمة لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا والآخرة، وبلغت به همته من العلياء كل مكان، فتخلُّفُ الكمالات إما من عدم البصيرة، وإما من عدم العزيمة.

 

• وحُسنُ القصد لقاح لصحة الذهن، فإذا فُقِدا فُقِد الخير كلُّه، وإذا اجتمَعا أثمَرا أنواع الخيرات.

 

• وصحة الرأي لقاح الشجاعة، فإذا اجتمعا كان النصر والظفر، وإن فُقِدا فالخِذلانُ والخيبة، وإن وُجد الرأي بلا شجاعة فالجبن والعجز، وإن حصَلَت الشجاعة بلا رأيٍ فالتهورُ والعطب.

 

• والصبر لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما. قال الحسن: إذا شئتَ أن ترى بصيرًا لا صبر له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابرًا لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت صابرًا بصيرًا فذاك.

 

• والنصيحة لقاح العقل، فكلما قويت النصيحة قوي العقل واستنار.

 

• والتذكر والتفكر كلٌّ منهما لقاح الآخر، إذا اجتمعا أنتَجا الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة.

 

• والتقوى لقاح التوكل، فإذا اجتمعا استقام القلب.

 

• ولقاح أخذ أهبة الاستعداد للقاء قصرُ الأمل، فإذا اجتمعا فالخير كلُّه في اجتماعهما، والشر في فُرقتِهما.

 

• ولقاح الهمة العالية النيةُ الصحيحة، فإذا اجتمعا بلَغ العبدُ غاية المراد.

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.

 

https://cp.alukah.net/UserFiles/alukah/2021/fawwerd.doc





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • فوائد من كتاب "سير أعلام النبلاء" للإمام الذهبي
  • مواعظ ووصايا وفوائد من كتاب البداية والنهاية لابن كثير
  • فوائد من كتاب الوابل الصيب
  • فوائد من كتاب الفنون للإمام أبي الوفاء علي بن عقيل

مختارات من الشبكة

  • فوائد من كتاب الفوائد للعلامة ابن القيم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • فوائد من بدائع الفوائد لابن القيم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مخطوطة الفوائد المستغربة ( فوائد الحافظ ابن بشكوال )(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة الفوائد المشتملة على فوائد البسملة(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مجمع فوائد: بستان من الفوائد العلمية والحكم الوعظية (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • ويقيمون الصلاة: فوائد وفرائد (خمسة وأربعون فائدة)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • 100 فائدة من فوائد حديث: ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أخذ قرض من البنك دون فوائد لكنه إذا تأخر بالسداد أصبح بفوائد(مادة مرئية - موقع موقع الأستاذ الدكتور سعد بن عبدالله الحميد)
  • مخطوطة فائدة في فوائد اللباس(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • فوائد من كتاب الداء والدواء(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 18/11/1446هـ - الساعة: 8:24
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب