• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    ماذا سيخسر العالم بموتك؟ (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    فقه الطهارة والصلاة والصيام للأطفال
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    ثمرة محبة الله للعبد (خطبة)
    د. أحمد بن حمد البوعلي
  •  
    خطبة: القلق من المستقبل
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    فوائد وعبر من قصة يوشع بن نون عليه السلام (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    خطبة: المخدرات والمسكرات
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    {وما النصر إلا من عند الله} ورسائل للمسلمين
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الرزاق، ...
    فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
  •  
    الأحق بالإمامة في صلاة الجنازة
    عبد رب الصالحين أبو ضيف العتموني
  •  
    فضل الصبر على المدين
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    تفسير قوله تعالى: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ...
    سعيد مصطفى دياب
  •  
    محاسن الإرث في الإسلام (خطبة)
    الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
  •  
    تفسير: (لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    علامات الساعة (2)
    تركي بن إبراهيم الخنيزان
  •  
    ما جاء في فصل الصيف
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    أحكام التعاقد بالوكالة المستترة وآثاره: دراسة ...
    د. ياسر بن عبدالرحمن العدل
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

تفسير: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا}

تفسير: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا}
الشيخ محمد حامد الفقي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/9/2015 ميلادي - 25/11/1436 هجري

الزيارات: 19201

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير قوله تعالى:

﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 48]


يحذر الله تعالى بني إسرائيل ويخوفهم من هول ذلك اليوم، ويدعوهم إلى اتقائه واتخاذ كل ما يستطيعون من الوقايات التي تقيهم من مخاطره وتؤمنهم من مخاوفه، وقد حذر الله تعالى كل بني آدم وخوفهم ذلك اليوم في كل كتبه، وعلى لسان جميع رسله، وخصوصًا في القرآن الكريم، فإنه أكثر من ذلك التحذير والتخويف في صور شتى وبأساليب مختلفة.

 

والإيمان بهذا اليوم وما فيه - مما يجدر بالعاقل الكيس أن يعمل له ويَتَّقيه، ويتهيأ له، ويشغل به أعظم حيز من تفكيره؛ ليتزوَّد له زاده، ويعد له عدته - من أصول الإيمان الستة التي جاءت في حديث سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين ليعلمها لأصحابه: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورُسله واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره)).

 

ولن يكون إيمان بالله على وجهه الصحيح، إلا إذا كان إيمان باليوم الآخر يخيف من أهواله، ويدعو إلى اتقائه، ويبعث على الاستعداد والتهيؤ لما فيه من مثوبة وجزاء من مالك يوم الدين، أحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين سبحانه.

 

أساس الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بصفات الله إيمانَ يقين وإذعان، لا إيمانَ جدال ومِراء ولسان؛ فإن من صفاته سبحانه العدل والحكمة، والفضل والرحمة، ويستحيل على العدل الإلهي أن يجزي الناس ويثيب العباد كلهم على سواء - فاسقهم ومطيعهم، وبَرهم وفاجرهم، ومصلحهم ومفسدهم - فهذا ينافي العدل أعظم المنافاة؛ ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21]، ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [القلم: 35، 36]، ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ص: 27، 28].

 

ويَستحيل على العليم الحكيم أن يخلق الإنسان لعبًا، ويَتركه سُدًى كالسوائم التي لا مسؤولية عليها ولا حساب، وقد ميَّزه عنها، وأكرمه وفضَّله عليها، وعلى كثير ممن خلق تفضيلاً؛ ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36]، ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الدخان: 38، 39].

 

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [الحجر: 85].

 

﴿ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 3].

 

ويستحيل على فضله ورحمته وجوده وإحسانه - أن يَدَعَ المتقين الأبرار بدون أن يُثيبهم ويجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون، وبخير ما كانوا يجاهدون فيه ويهاجرون له، ويصبرون ويصابرون، ويرابطون ويصدقون ما عاهدوه تبارك اسمه عليه، وكانوا باعوا أنفسهم وأموالهم له، فقاتلوا عدوه في سبيله، فقتَلوا وقُتِلوا، وقد وعدهم وعدًا حقًّا أن يقبضهم الثمن، ويوفيهم الجزاء الأوفى بأحسن الذي كانوا يعملون، ومن أوفى بعهد من الله؟

 

كان اليهود كغيرهم من الجاهلين والوثنيين من الأمم التي عاشروها وخالطوها من المصريين واليونان وغيرهم يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا، ويشبهون حكم الله سبحانه وقضاءه في الآخرة وجزائها بحكم الملوك والرؤساء من خلقه في الدنيا، وأنه ما دام يمكن الخلوص من حكم الملك وعقوبته في الدنيا بشفاعة نسيب له أو حبيب أو نحو ذلك، فكذلك يمكن الخلوص من عقاب الآخرة وعذابها بشفاعة المقربين عند الله، وتوسط أحبابه لديه في رفع العقوبة عمن يستحقها بعمله في الدنيا، وسعيه بالفساد فيها، وأن أبناء الرؤساء والملوك وأقرباءهم وأحبابهم في الدنيا غير محاسبين بمقتضى القوانين والنظم التي يحاسب ويعامل بمقتضاها عامة الناس، فيسرحون ويمرحون في طاعة أهوائهم وشهواتهم كما يشاؤون لا زاجر ولا رادع، ثم لا ينالهم القانون والنظام بشيء مما ينال غيرهم من الرعية بالعقوبة على مثل ما يأتون من المنكر والشرور والفساد، وما يمنعهم ويحميهم من طائلة القانون والنظام إلا صلتهم النسبية بالملك، أو صداقتهم له وقربهم منه.

 

بل إنه لتتوالى عليهم الصلات والمِنَح، وتعلو بهم الدرجات، وتسمو بهم الترقيات، بدون أي مقتض لها إلا قرب النسب أو الصداقة أو المصاهرة، فزعم اليهود ومن صار على سنتهم - قديمًا وحديثًا - أن شأن الآخرة كذلك، وأن الله سبحانه يعامل عباده على نحو ما يعامل الملوك الناس على اختلاف الطبقات بالهوى والغرض، لا بالعدل والحكمة ولا بالحق والقسطاس المستقيم.

 

ثم تمادى بهم ضلالهم وجاهليتهم حتى طبقوا هذا القياس في شؤون الإنسان في الدين والدنيا، وتدبير الله سبحانه لها في الأعمال والأرزاق والآجال، والصحة والمرض وغيرها، فزعموا أن من خلق الله وعباده من له حق التحليل والتحريم والتشريع لبقية الخلق بما يمليه عليه هواه ويستحسنه رأيه، وله أن يستدرك في تشريع الله ودينه، ويزيد وينقص منه ما شاء، وأن من خلق الله وعباده من له الحق على الله في أن يجيب له كل طلب، ويسارع له إلى كل غرض، فإن طلب منه الله أن يرفع بلاءً في الأنفس أو الأموال سلطه على فرد أو جماعة أو قرية، فعلى الله أن يسارع إلى رفع ذلك البلاء، وإلا فذلك العبد هو الذي يرفعه، شأنه في ذلك كله شأن ولد الملك أو وزيره مع الملك سواءً بسواء.

 

على هذه الفوضى الشنيعة يعتمد أهل الكتاب وأشياعهم، وبهذا الاضطراب والاختلال الهمجي يدين بنو إسرائيل وأشباههم، وعلى هذا الأساس المنهار يبني أهل الكتب، ومن سلك سنتهم حياتهم وأعماله وصلتهم بالله، فيقولون متبجحين: ﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [المائدة: 18]، ويقولون: ﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ﴾ [البقرة: 80]، ويقولون: ﴿ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ [البقرة: 111].

 

ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون، وهذا شر ما يدعو إلى الفساد ويحمل على الفسوق والعصيان، ويغري النفس الشيطانية بالإمعان في شهواتها، وقد أمنت العقاب ونجت بأولئك الوسطاء والشفعاء، وتلك الأماني من العذاب، وهذا يهدم كل نظام، ويقضي على كل خلق ودين، ويملأ الدنيا بالشرور والخبائث، ويحيل الإنسان إلى شيطان مريد، فلذلك رد الله تعالى عليهم وعلى أشباههم وإخوانهم تلك الدعاوى الباطلة أشد الرد، فقال: ﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 111، 112].

 

وقضى على أمانيهم الكاذبة، وكشف لهم عن تلك الخدع الشيطانية التي غرَّهم بها وأغواهم هو وحزبه، وإن الطائفة عند الله لا قيمة لها، كما أن الأنساب متقطعة، وأن الله مُنزَّه عن الأهواء والأغراض فلا يُحابي أحدًا؛ لأن الكل عنده سواء، عبيد أكرمهم عنده أتقاهم وأقربهم إليه، وأصلحهم عملًا.

 

وأنه سيضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئًا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتى بها، وكفى به شهيدًا وحسيبًا؛ ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 94]، وذلك صيانة للإنسانية من الفوضى والاضطراب، والاختلال المؤدي إلى أعظم الشرور، وأروع الآثام والجرائم، وخوف الله أشد التخويف من يوم الدين الذي سيقوم الناس فيه لرب العالمين؛ ﴿ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ﴾ [البقرة: 48].

 

ولا تأخذ نفس جزاءَ نفس أخرى؛ ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ [فاطر: 18]، ﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ [البقرة: 48].

 

ولا يقبل الله الحكم العدل الشديد العقاب السريع الحساب الذي ليس بظلام للعبيد - من أي نفس ظلمت نفسها، واستحقت غضب ربها وعقوبته على ظلمها وبغيها وعداوتها - شفاعة أحد ممن زعموهم فيهم شركاءَ، وادعوا لهم الشركة مع الله في فصل القضاء، وزعموا أنهم يدخلون من يشاؤون الجنة، ويخرجون من النار من يشاؤون، كذبوا في كل ذلك، ﴿ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [المدثر: 48].

 

﴿ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ [البقرة: 48]؛ يعني: فدية؛ أي: لا يأخذ الله الولد بدل والده، ولا الوالد مكان ابنه، ولا العبد مكان سيده، ولا السيد مكان عبده،

﴿ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا ﴾ [لقمان: 33].

﴿ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [الدخان: 41].

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ﴾ [آل عمران: 91].

 

و"العدل" بفتح العين وكسرها: المقابل والمكافئ والمساوي؛ قال تعالى في جزاء الصيد يُقتَل في الحَرَم: ﴿ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ﴾ [المائدة: 95]، وقال: ﴿ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 70].

 

﴿ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾؛ أي: لا يجدون من آبائهم أو أبنائهم، أو مواليهم أو شيوخهم أو أوليائهم، لا يجدون لهم من هؤلاء مجتمعين، ولا من واحد منهم على انفراد وليًّا يتوَّلاهم بحفظه ورعايته، ويدفع عنهم عذاب المنتقم الجبار، ولا ينصرهم من الله ويحميهم من سطوته، ويغلبه على عظيم قهره وشديد بأسه.

 

﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7، 8]، ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ﴾ [الصافات: 24-26].

 

الشفاعة:

مصدر من قول الرجل: شفع لي فلان إلى فلان شفاعة، وهو طلبه وضمه إليه في قضاء حاجته، وأصل الشفع: ضم شيء إلى مثله، ويقال للمشفوع: شفع؛ قال تعالى: ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ [الفجر: 3]، وتقول: كان وترًا فشفعته، ومنه الشفعة؛ لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك، والشفع صاحب الشفعة، وصاحب الشفاعة، والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصرًا له وسائلًا عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى.

 

وقد ورَد في القرآن الكريم ذكر الشفاعة في مواضع عدة وبمعان مختلفة:

1- قال تعالى في سورة البقرة في مثل الآية التي هنا: ﴿ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾ [البقرة: 123].

 

2- وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254].

 

3- وفي البقرة: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255].

 

4- وفي النساء: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ﴾ [النساء: 85].

 

5- وفي الأنعام: ﴿ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 51].

 

6- وفي الأنعام أيضًا: ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 94].

 

7- وفي الأعراف: ﴿ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأعراف: 53].

 

8- وفي يونس: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِه ﴾ [يونس: 3].

 

9- وفي يونس أيضًا: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [يونس: 18].

 

10- وفي مريم: ﴿ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ﴾ [مريم: 87].

 

11- وفي طه: ﴿ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ﴾ [طه: 108، 109].

 

12- وفي الأنبياء: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 28].

 

13- وفي الشعراء: ﴿ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ [الشعراء: 100، 101].

 

14- وفي الروم: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [الروم: 13].

 

15- وفي السجدة: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ﴾ [السجدة: 4].

 

16- وفي سبأ: ﴿ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [سبأ: 23].

 

17- وفي يس: ﴿ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ ﴾ [يس: 23].

 

18- وفي الزمر: ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السموات وَالْأَرْضِ ﴾ [الزمر: 43، 44].

 

19- وفي غافر: ﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾ [غافر: 18].

 

20- وفي الزخرف: ﴿ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ ﴾ [الزخرف: 86].

 

21- وفي النجم: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السموات لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 26].

 

22- وفي المدثر: ﴿ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [المدثر: 48].

 

فبالتأمل في هذه الآيات يتبيَّن أن الله قد أثبت شفاعتين ونفى شفاعتين، فأثبت شفاعة الإنسان لأخيه في الدنيا عند حاكم أو أمير في إيصال حق أو دفع ضرر، لا ظلم فيه على أحد، أو فيه ظلم وضرر.

 

ويدل لهذا المعنى ما روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اشفعوا تُؤجَروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء)).

 

فله نصيب من أجر ذلك الخير الذي وصل إلى صاحبه أو الضرر الذي دفع عنه، وكذلك يكون عليه جزء ونصيب من الوزر إذا كانت الشفاعة في منع حق أو إيصال ضرر.

 

وأثبت كذلك شفاعة في الآخرة للملائكة كما في آية الأنبياء، ولخيار عباده من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين كما في بقية الآيات، لكن شرطها فإذنه، وأن يكون المشفوع له ممن رضي الله عنهم، كما في آية الكرسي في البقرة وآية يونس، وآية مريم وطه والأنبياء، فشرط في الشفيع أن يكون مرضيًّا عنه عند الله، وأن يستأذن، وأن يؤذن له، وفي المشفوع له أن يكون من الموحدين الذين اختصهم الله تعالى برضاه، وهذه الشفاعة إما أن تكون عامة للناس كلهم، وهي خاصة بنبينا محمد خاتم الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وإما أن تكون لبعض المؤمنين على اختلاف درجاتهم في العمل، فتكون لنبينا صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء والأنبياء والصالحين والملائكة، وقد جاء في هذه الشفاعة في الآخرة أحاديث كثيرة، خصوصًا الشفاعة العظمى التي هي المقام المحمود لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنها متواترة يكاد ينعقد الإجماع عليها ممن يعتد به من السلف والخلف، وقد ساق البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك أحاديث كثيرة نكتفي بسوق حديث أبي هريرة وحديث أنس عند البخاري ومسلم، ونسوقهما من لفظ مسلم.

 

فأما حديث أبي هريرة، فقال: ((إني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بلحم، فرفع إليه الذراع وكانت تُعجبه، فنهس منها نهسة، فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بِمَ ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر؛ خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم: ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته[1]، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسًا لم أُؤمر بقتلها، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله وكلَّمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم ورُوح منه، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبًا، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله عليّ ويُلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه لأحد قبلي، قم قال: يا محمد، ارفع رأسك، سَلْ تُعْطَه، اشفع تُشفَّع، فأرفع رأسي، فأقول: يا رب، أُمتي، فيقول: يا محمد، أُدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى)).

 

وأما حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، فقال مسلم: عن معبد بن هلال الجهني قل: ((انطلقنا إلى أنس بن مالك وتشفعنا بثابت، فانتهينا إليه وهو يصلي الضحى، فاستأذن لنا ثابت، فدخلنا عليه، وأجلس ثابتًا معه على سريره، فقال له: يا أبا حمزة، إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة، قال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون آدم فيقولون له: اشفع لذريتك؛ فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الله، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى، فإنه كليم الله، فيؤتى موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته، فيُؤتَى عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأقول: أنا لها، فأنطلق فأستأذن على ربي، فيُؤذن لي، فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يُلهمنيه الله، ثم أَخِر له ساجدًا، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسْمَعْ لك، وسَلْ تُعْطَه، واشفع تُشفَّعْ، فأقول: رب، أُمتي، أُمتي، فيقال: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان، فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربي فأحمد بتلك المحامد، ثم أَخِر له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: أُمتي، أُمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد، ثم أَخِر له ساجدًا، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أُمتي، فيقال: انطلق فمن كان في قلبه أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى من مثقال حبة من خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل)).

 

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: ((مَن قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه)).

 

وفي هذه الأحاديث وغيرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد أن يستأذن أولًا، وأن الله سبحانه يلهمه ويعلمه محامد وثناء على الله في هذا الوقت لا يعلمه أحد قبله؛ ولا بعده إلا هو في ذلك الوقت، لا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتقدم بطلب الشفاعة بمجرد طلب الخلق إليه ذلك، وفي الأولين أن هذه الشفاعة الكبرى هي لأهل المحشر عامة غير ما للمؤمنين من أمته خاصة، فالتي لأهل المحشر عامة يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر من يوم آدم إلى آخر الحياة الدنيا، فينتقلون بها إلى مواقف الحساب، ويدخل المؤمنون الجنة على درجاتهم.

 

وهذه الشفاعة في الواقع والحقيقة التي تدل عليه النصوص القرآنية والحديثية المتواترة الصريحة لا تغير شيئًا من حكم الله وقضائه الذي قضاه على أهل الحشر أن يقفوه في ذلك الكرب العظيم، ولا في قضائه الذي حكم به في أهل الجنة وأهل النار؛ لأن الله يقول: ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [ق: 29]، ويقول: ﴿ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ﴾ [الرعد: 41].

 

فلا نقض ولا استئناف، ولا استدراك لهذه الأحكام التي سبق بها القضاء قبل أن يخلق السموات والأرض، والشفاعة إنما هي تشريف وتكريم للشفيع، ورفع لمقامه وإعلان على رؤوس الأشهاد بأن هذا أفضل خلق الله وأكرمهم عند الله وأعلاهم درجة؛ ليعلم ذلك من سبق وجوده على وجود محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قد علم عنه ولا عن خصائصه ومزاياه وفضائله التي خصه الله بها علمًا وعملًا وإيمانًا، وتقوى ودينًا شيئًا.

 

أما أن الشفاعة تغير شيئًا من أحكام ذلك اليوم الآخر، فينصرف الناس مثلًا من المحشر قبل انقضاء المدة التي سبق حكم الجبار العليم بها، أو أن أحدًا يرتفع إلى الجنة درجة لم يكن سبق الحكم باستحقاقه لها - فكل ذلك محال تدل النصوص القرآنية على استحالته، وإن زعمه بعض الناس ممن لم يهتم بتدبر النصوص والجمع بينها، والله أعلم.

 

أما الشافعتان المنفيتان في القرآن الكريم، فهما (أولًا) ما ادَّعاه - ويدعيه الآن - المشركون لأوليائهم من الشفاعة عند الله في قضاء الحاجات وشفاء المرضى، ونحو ذلك، ويدعونهم في الشدائد والكروب، ويستغيثون بهم لأجل ذلك: ﴿ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [يونس: 18]، ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3].

 

ويدل عليها الآيات من سورة يونس وسورة سبأ، ويس والزمر وأمثالها، وبعض الحيوانات الإنسانية والبهائم الآدمية، يستدلون على هذه الشفاعة الكاذبة الخاطئة الكافرة الفاجرة بقوله تعالى: ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ [الزمر: 34]، وأولئك وإن كان الخطاب معهم ساقطًا، فإننا نتنزل ونقول لهم: لو عقلتهم وقرأتم الآيات من أولها إلى آخرها لعلمتم - إن كنتم تعلمون - أن ذلك في ثواب الآخرة لمن جاء بالصدق وصدق به من المتقين الذين يمتعهم ربهم في الجنة بما يشاؤون، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ ﴿ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الزمر: 35]، وأن هذه الآيات في هدم عقيدة المشركين في أولئك الشفعاء الذين لا يملكون شيئًا ولا يعقلون.

 

(وثانيًا): الشفاعة التي يدَّعيها المشركون لأوليائهم يوم القيامة لمجرد توهُّم أنهم صالحون، وتخيُّلِ أنهم مقربون، وأنهم ملكوا هذه الشفاعة بما دفعوا من ثمن في نظر أولئك الوثنيين، وكانت هذه ولا تزال عقيدة اليهود والنصارى في الأحبار والرهبان والكهان والقسيسين، وهي عقيدة عوام أهل الطرق المتصوفين الذين تسمع منهم وتقرأ في كتبهم أن أشياخهم ضمنوا لمريديهم وأتباعهم أن يدخلوهم الجنة، ويغلقوا دونهم النار مهما كان منهم من عمل، وإن مجرد الانتساب إلى الطريقة النقشبندية كفيل بالفوز بسعادة الدنيا والآخرة، وكل طائفة تدعي لشيخها تلك الدعاوى الفاجرة الخاسرة، ومن ثم اتخذوهم وقبورهم آلهة شرعوا لها عبادات وقربات وحفلات ضاهوا بها الجاهلية الأولى، وأربوا عليها ما تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدًّا، وكذبوا أشنع الكذب، فلن تغني عنهم شفاعتهم شيئًا، ولن تنفعهم شفاعة الشافعين وما لهم من حميم ولا شفيع يطاع، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً؟

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 94].

 

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة بنت محمد، اعملي، فلن أغني عنك من الله شيئًا))، وما قتل الإسلام في نفوس أهله، حتى أصبحت صدورهم قبورًا فيها قلوب كالجيف؛ من الوثنية والخرافات، والجبن والبخل، وأنواع الخبائث الخلقية، قلوب خالية إلا من تلك الشفاعات الكاذبة؛ فاحذرها أيها المؤمن الناصح لنفسه، وحاربها بكل ما أُوتيتْ من قوة إن أردت الخير لنفسك ولإخوانك ولأُمتك والإسلام، ولا يغرنك مُرَوِّجوها الفَجَرَة بما يشنعون ويُموِّهون في أن منكرها منكر للشفاعة الحقة الثابتة في الآخرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإخوانه من الأنبياء، وللصالحين، فإنهم يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون، وكن على بصيرة ونور من العلم الحق الذي يُمَيَّزُ به الحقُّ من الباطل، والهدى من الضلال، وأشعل في قبلك دائمًا نور القرآن والحديث، واحرص على أن تكون مع الصادق الذي قال الله تعالى له: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108].

 

واحذر أن يَفتنوك عما أنزل الله إليك على نبيك الصادق صلى الله عليه وسلم، عافاني الله وإياك من فتنهم وأباطيلهم، وهداني الله وإياك سبيل رسوله صلى الله عليه وسلم، ووفَّقنا الله وإياك للدعوة إليه على بصيرة وهدى مبين، فالهدى هدى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما توفيقي إلا بالله.

 

المصدر: مجلة الهدي النبوي - المجلد الرابع - العدد 43 - أول ربيع الثاني سنة 1359هـ.



[1] يشير إلى ما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات؛ ثنتين منهن في ذات الله عز وجل قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا وقال: بينما هو ذات يوم وسارة إذا أتى على جبار من الجبابرة فقيل له: إن هذا رجل معه امرأة من أحسن الناس. فأرسل إليه، فسأل عنها فقال: من هذه؟ قال: أختي. فأتى سارة فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك» قال الحافظ ابن حجر في الفتح (ج 6 ص246) أما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة. فلكونه قال قولاً يعتقده السامع كذباً لكنه، إذا حقق لم يكن كذباً. لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين فليس بكذب محض. فقوله «إني سقيم» يحتمل أن يكون أراد إني سأسقم، واسم الفاعل يستعمل بمعنى المستقيل كثيراً أو سقيم بما قدر على من الموت، أو سقيم الحجة (قال أبو طاهر) أو سقيم النفس لاعتلالها وكثرة همومها وأحزانها لكفركم وإصراركم على أوثانكم. قال الحافظ: وقوله «بل فعله كبيرهم هذا» قال القرطبي: قال تمهيداً للاستدلال على أن الأصنام ليست بآلهة وقطعاً لقومه في قولهم: إنها تضر وتنفع. وهذا الاستدلال يتجوز فيه في الشرط المتصل. ولهذا أردف قوله «بل فعله كبيرهم هذا» بقوله «فاسألوهم إن كانوا ينطقون» قال ابن قتيبة: معناه إن كانوا ينطقون فق فعله كبيرهم هذا. وقوله «هذه أختي» مراده أنها أخته في الإسلام. لأنه لم يكن في الأرض التي فيها ذلك الجبار غيرهما مؤمنين بالله.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون
  • تفسير: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة)
  • تفسير: { ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله }
  • تفسير: { الرحمن الرحيم }
  • تفسير: (قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين)
  • تفسير: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين)
  • تفسير: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله...)
  • { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا }

مختارات من الشبكة

  • تفسير قوله تعالى: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا...}(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تدبر آية: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • غرائب وعجائب التأليف في علوم القرآن (13)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مفسر وتفسير: ناصر الدين ابن المنير وتفسيره البحر الكبير في بحث التفسير (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • شرح كتاب المنهج التأصيلي لدراسة التفسير التحليلي (المحاضرة الثالثة: علاقة التفسير التحليلي بأنواع التفسير الأخرى)(مادة مرئية - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • تفسير قوله تعالى: {من قتل نفسا بغير نفس}(مقالة - آفاق الشريعة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (135 - 152) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 16/11/1446هـ - الساعة: 14:43
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب