رضا المولى في رحلة الحج الأولى (6)

رضا المَولَى

في رحلة الحج الأُولَى (6)

وفي أول أيام التشريق فاتتني صلاة الفجر جماعة، وذكر الوالد أن الأستاذ الداعية عبد الله المصلح ألقى كلمة بعد الصلاة، ثم أجاب عن الأسئلة حتى أشرقت الشمس، وبدا كثير الدعابة هذه المرة، منها قوله: من عرف جواب هذا السؤال أعطيته ريالا بعد (150) سنة! وكان يقول في ندائه: يا أحبابي ويا إخواني، وإذا تكلم أحد الأعاجم بالفصحى تهلَّل وجهه واستبشر وأثنى عليه وعلى فصاحته.

وقبل الظهر بساعة ونصف الساعة عُقدت ندوة عن "الفكر الإرهابي"، شارك فيها الأستاذ مجد مكي، والشيخ محمد يسري إبراهيم، وهو من علماء الأزهر.

الأساتذة: مجد مكي، سعد الشهراني، محمد يسري إبراهيم، في ندوة

وبعد انتهائها تعرفنا على الأستاذ الشيخ سعد بن علي الشهراني، الأمين العام للهيئة العالمية للعلماء المسلمين، أستاذ العقيدة بجامعة أم القرى، وقد سلَّم على الوالد ورحَّب به وأثنى على كتبه، وسلَّمه الوالد "مشروع الجمعية العالمية للكتاب الإسلامي" ليعرضه على هيئة العلماء، عسى أن تتبنى المشروع، وقد قال له الوالد: إن هذا المشروع قد أخذ بمجامع قلبي، وأنه مهم وضروري للمسلمين، فإن الكتاب أكبر وأشهر وسيلة لحمل العلم، وهو ليس منظمًا في بلاد المسلمين...

وذكر أنه سيعرضه على الهيئة قريبًا.

وعلى مائدة الغداء سلَّم علينا أحد الأساتذة، ولما خرجنا سلَّم على الوالد مرة أخرى، وعرَّف بنفسه، وأنه أستاذ في جوهانسبرج، ومتجنس بجنسية جنوب أفريقيا، وهو من مصر، وأصله من الشام.

قال: وقد درس أربعة إخوة لي في الأزهر، وأنا تخصصت في الترجمة. وذكر أنه ترجم القرآن كله إلى الإنجليزية، وهو مطبوع، كما ترجم مقالات للشيخ الشعراوي، وما إلى ذلك.

قال: وقد أسلم على يدي أكثر من (2000) شخص. ولما قال ذلك قبَّل الوالد رأسه وأكبر عمله الدعوي.

وذكر أن مهمته لا تزيد على كونه موظف استعلامات، فربما كان يوزع النشرات والكتب الإسلامية، وأن مهمته وغيره في ذلك توضيح العقيدة الإسلامية والتركيز عليها.

وقال: إن البيئة هناك لا يصلح معها الجدال، فالدعوة بالحسنى أفضل. وعرَّض بذلك لأسلوب الشيخ أحمد ديدات رحمه الله.

وبعد العصر عزمنا على المضي إلى الجمرات لنرمي في الثلاثة: الصغرى، والوسطى، والكبرى.

وقد صحبنا إلى هناك الأستاذ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، الذي سبق ذكره، فتحدث مع الوالد عن شؤون العلم والعلماء والكتب والكتّاب في موريتانيا، وكان حديثا مشوِّقا..

وكنا قد تركنا كيس الأحجار في الحافلة التي تركتنا، أو تركناها، فأردنا أن نبحث عن الحصَى في الشارع، فذكر مرافقنا الأستاذ أنها موجودة عند الجمرات، فمضينا، وقلنا بأننا سنتفرق عند البحث عن الحصى، ونجتمع في المكان الفلاني، وبقينا نحو ربع ساعة نجول في حوالي الجمرة فلم نر حصى واحدة، ولم نلتق بالأستاذ بعدها.

وقد نزلنا في آخر الجمرة الكبرى فلم نعثر على الحصى، ربما لسببين:

الأول: أن التوسعة قرَّبت الحجاج من موضع الرمي، فصاروا يرمون والحصى تقع في الحفرة مباشرة، ولا يكادون يخطؤون، بينما في السابق كان الناس يرمون من بعيد نتيجة الزحمة، فتقع الحصى حواليهم.

والثاني: أن هناك من كان يجمع الحصى، مثلنا.

كما لم نجد الحصى في الساحة التالية للجمرة الكبيرة، أعني آخرها، فقد سوِّيت بالإسمنت والبلاط، ونظفت، فانتقلنا إلى شارع قريب من جبل لنجمعها، وكانت أطراف الجبل قد عولجت أيضًا حتى لا تنزل منها أحجار على الحجاج.

ثم إنه نزل مطر لعدة دقائق، فحمدنا الله تعالى على نعمته، وازدادت الرطوبة، وتعرَّق الناس..

جمعنا العدد الكافي من الحصى، وعدنا من جديد إلى الجمرة الصغرى، ومنها إلى الوسطى، فالكبرى، ونحن ندعو الله تعالى بعد كل رمي.

وبعد الانتهاء منها كان علينا أن نعود مرة أخرى إلى حدِّ الجمرة الصغرى، لأن المنفذ من هناك إلى السكن، فوصلناه وقد خرج الناس من صلاة المغرب، فصلينا مع جماعة أخرى، ثم صعدنا إلى غرفتنا واغتسلنا من العرق الذي غطى جسمنا ونفذ إلى ثيابنا. والحمد لله.

وقد قال الوالد يومها: لو أن الحصى بيعت بخمسين ريالاً عند الجمرات لاشتريتها!

نهاية الجمرات

في اليوم الثاني من أيام التشريق ألقى الشيخ عبدالله المصلح كلمة بعد صلاة الفجر أيضًا، وأكمل فيه تفسير سورة العصر، أو جزءًا آخر منها، وأجاب عن أسئلة الحاضرين، وخاصة عن رمي الجمرات وطواف الوداع، حتى طلوع الشمس.

ومما استفيد منه أن منى توسعت إلى خارج حدودها، وأجاز العلماء ذلك إذا امتدت الخيام من حدودها إلى الخارج، قياساً على صفِّ الصلاة إذا امتدَّ إلى خارج المسجد.

وقبل أن نمضي إلى رمي الجمرات بعد صلاة العصر، ذكر لنا أحد الإخوة أن معظم الحجاج قد نفروا، وقلَّت الزحمة بذلك كثيرًا، ورأينا آثار ذلك في طريقنا إلى الجمرة الصغرى، وأنهينا الرمي في ثلاثتها في ساعة.

وقبيل المغرب رأينا حشد الحافلات في الشوارع وهي تنقل الحجاج إلى مكة المكرمة للوداع، وبعضهم إلى المدينة المنورة للزيارة.

وهذا ثالث أيام التشريق، وهو آخر أيام الحج، وقد خيَّم السكون على المبنى الذي نحن فيه، إذ لم يبق فيه إلا قلة من الحجاج، ومضينا إلى إدارة العلاقات والحركة، وذكرنا للمدير أن سفرنا يكون غدًا الأربعاء إن شاء الله، وإقلاع الطائرة يكون الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، وكان اسمي واسم الوالد مدونًا عنده، فقال: إن سفركم إلى جدة سيكون في الساعة الخامسة فجرًا، واتفقنا على أن نمضي إلى الحرم الساعة الثانية عشرة ليلاً لأجل طواف الوداع.

ومضينا إلى رمي الجمرات بعد العصر، ورمينا بسهولة، في أقل من نصف ساعة.

ثم طفنا للوداع ليلاً، ومضينا إلى جدة فجرًا، وأقلعنا من مطارها قبل الظهر إلى حيث الرياض.

وحمدنا الله تعالى وشكرناه على نعمته علينا بأداء الحج.

وقال لي الوالد إثرها: أصبحت الآن "الحاج إبراهيم".

وأوصاني بأن أحجَّ عن أجداده إذا كتبت لي حجَّاتٌ أخرى، وخاصة عن جدِّنا "إسماعيل"، الذي له حقٌّ على الأسرة كلها.

صاحب الرحلة

وقد أملى الوالد عليَّ كثيرا من فقرات هذه الرحلة المباركة، وأبى أن يضع اسمه إلى جانب اسمي في التأليف.

وفيها أخباره أيضًا.

وكانت حركة الوالد هادئة ومحدودة في الحج، فكنت إلى جنبه.

ولم تكن سني مناسبة لزيارة الأساتذة والعلماء والمفكرين الذين يشاركوننا في السكن، كما أن الرابطة لم يكن في برامجها زيارات للضيوف إلى أماكن أثرية أو حضرية في مكة المكرمة، وعسى أن يُكتب لي المزيد من المشاهدات في حجات وعمرات تالية إن شاء الله، لأرى وأتعرف أكثر على أفضل بلاد الله.

وأنا أطلبُ "رضا المولَى، في رحلة الحج الأُولَى"

والحمد لله على فضله ونعمته

ملاحظة: صدرت الرحلة في كتاب يحمل العنوان نفسه:

(رضا المولى في رحلة الحج الأولى)

عن دار الإمام مسلم بالقاهرة عام 1436هـ.