• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    واجب ولي المرأة
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (9)
    د. عبدالسلام حمود غالب
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / نوازل وشبهات / شبهات فكرية وعقدية
علامة باركود

منهج استشراقي في تزييف حقائق التاريخ الإسلامي

منهج استشراقي في تزييف حقائق التاريخ الإسلامي
إسماعيل الكيلاني

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 4/5/2015 ميلادي - 15/7/1436 هجري

الزيارات: 11902

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

منهج استشراقي في تزييف حقائق التاريخ الإسلامي


بعد الهزيمة العسكرية والإخفاقِ الذي لحِق بالصليبيِّين، وفشلِهم في تحقيق أهدافِهم على الأرض الإسلامية، عادوا أدراجَهم من حيث أتَوا، وبدأ عددٌ من القساوسة والرهبان العائدين ينشرُ مذكراتٍ وكتبًا عن الإسلام والمسلمين، مُلِئت بالطعن والعيب عليه، فهو: "صورةٌ مُشوهة مُخزِية لتعاليم النصرانية، وفِرقةٌ منشقَّة عن الكنيسة"، ومحمد صلى الله عليه وسلم "كاردينال منشقٌّ على البابوية، طمع في كرسيِّها، فلما خابت آماله ادَّعى النبوة، وقاتلٌ لصٌّ، وكافر وساحر، وإرهابي ينشر الدماء، وداعية إباحية...، والمسلمون "وحوش، وخنازير، وأبناء شياطين"، والقرآن الكريم "غير مُنسجِم ولا منتظم فيما يحويه، وكل ما فيه مخالفٌ للعقل ويُعِيق الفكر، يناقض بعضه بعضًا"؛ [المستشرقون والإسلام: 6 - 10].

 

تزييفُ حقائق التاريخ الإسلامي والعبثُ بها من أخطرِ أسلحة الحرب الصليبية الجديدة في ساحة الفكر، وكتاباتُ "فيليب حتى" تأتي في مقدِّمة هذا العبث.

 

وتبنَّتِ الكنيسة كلَّ ما يُعادِي الإسلام حتى لو كان صادرًا عن أعدائها؛ فالبابا "بونوا الرابع عشر" - الذي اشتهر بكونه الحبرَ الأعظم في القرن الثامن عشر الميلادي - لم يتردَّد في مباركة "فولتير" الأديب، الذي اشتهر بعدائه للكنيسة ومحاربته لها، عندما أصدر مسرحيته التي سماها "محمد أو التعصب"، وهاجم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وتهجَّم على الإسلام وتاريخه...، والتي ذاع صيتُها في أوروبا، حتى سُمِح لها بأن تُسجَّل في قائمة مؤلفات مسرح الكوميدي فرانسيز؛ [دراسة الكتب المقدسة: 136].

 

ولم يقِفِ الأمرُ عند هذا الحد، بل تداعى رجالُ الكهنوت والسياسة والفكر من أجل وضع الخطط التي تكفُلُ لهم تخليصَ بيت المقدس وإعادة الأرض الإسلامية إلى السيطرة النصرانية، وقام القسُّ الإسباني "ريمون رول" يُنادِي باستخدام سلاح التنصير والغزو الفكري، بدلاً من الحرب الصليبية العسكرية، فكان أولَ مَن نادى باستخدام الإرساليات التنصيرية، وكذلك أول مَن نادى بضرورة إيجاد كرسي للدراسات الشرقية الإسلامية في الجامعات الأوروبية، وهو الذي أدخل تعليم العربية في المعاهد النصرانية للدراسات العليا؛ [مجلة العالم الإسلامي عدد يوليو (تموز) 1963م].

 

وهكذا انتقلت المواجهةُ إلى ساحةٍ جديدة، هي الساحة الفكرية، وكان العبثُ بالتاريخ الإسلامي من أخطر الميادين التي ولَجها هؤلاءِ، وكل مَن له أدنى اطِّلاع على مناهج التاريخ التي تنشأ عليها أجيال المسلمين، وتدرس لهم في المدارس والجامعات، يلمسُ آثار هذا العبث، ويقدر ضراوةَ الحملة الشرسة التي يقودُها هؤلاء ضد الأمة المسلمة وتاريخها.

 

وتأتي كتابات الدكتور "فيليب حتى" في مقدِّمة هذه الدراسات التاريخية التي عبثت بالتاريخ الإسلامي، وعملت على تشويهه، وتكمنُ خطورتُها في أنها أضحت المرجع لكثير من الدارسين العرب والمسلمين.

 

مَن هو؟

وُلِد "فيليب حتى" في قرية شملان بلبنان عام 1886م، وتُوفِّي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1978م، تلقَّى تعليمَه الأوَّلي في قريته، ثم أكمل دراسته حتى المرحلة الثانوية في "المدرسة الأمريكية" بسوق الغرب في جبل لبنان، التي أسسَتْها الإرسالية التنصيرية الأمريكية، ثم دراسته الجامعية الأمريكية ببيروت "الكلية الإنجيلية سابقًا" التي أوفدته عام 1910م إلى إسطنبول مندوبًا إلى مؤتمر "جمعية الطلبة المسيحيين في العالم"، ثم اختارَتْه في صيف عام 1913م ليُلقِي محاضرةً في المؤتمر الثامن للجمعية العالمية للطلبة المسيحيين، المنعقد في "موهونك" بولاية نيويورك الأمريكية، وقد أبلغه الدكتور "هيوارد بلس" - رئيس الجامعة الأمريكية ببيروت - أن بإمكانه متابعة دراسته العليا في أية جامعة يريدها في الولايات المتحدة الأمريكية.

 

تابَع دراستَه العليا في جامعة كولومبيا بدعمٍ من الجامعة الأمريكية وجمعية الطلبة المسحيين في العالم، وتخرَّج بدرجة دكتور في الفلسفة عام 1916م، وأصبح محاضرًا في الجامعة نفسِها حتى عام 1920م؛ حيث حصل على الجنسيةِ الأمريكية، ثم عاد إلى بيروت ليُدَرِّس في الجامعة الأمريكية حتى عام 1926م، رجَع بعدها إلى الولايات المتَّحدة ليعمل محاضرًا في جامعة برنستون، الشهيرة في ميدان الدراسات الاستشراقية والعداء للإسلام والمسلمين، ثم أستاذًا مساعدًا فيها، إلى أن أصبح رئيسًا لقسم اللغات والآداب الشرقية (قسم الدراسات الشرقية)، واستمرَّ في رئاسته لهذا القسم حتى تقاعده عام 1954م.

 

وهو مستشار غير رسمي لوزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط، ورغم تظاهرِه بالدفاع عن القضايا العربية هناك [بعض الوفود العربية في الأمم المتحدة استعانت به واتَّخذته مستشارًا لها]، فإنَّه في المواقف الجدِّية سرعان ما يخونُه التظاهر ليعودَ إلى حقيقته، ففي شهر شباط 1946م مثلاً، وقَف ليُدلِي بشهادته أمام لجنة التحقيق الإنكلو أمريكية بشأن فلسطين، وإذا به يقول أمامها: "ليس هناك شيء اسمه فلسطين في التاريخ مطلقًا:

There nothing as Palestine History not absoluty [1]


ولَمَّا ذهبت اللجنةُ إلى القدس، واجتمعت بالأمين العامِّ للوكالة اليهودية يومَها "دافيد بن غوريون"، لم يزد على أن قال:

"في الشهادة التي تقدَّم بها أمامكم الدكتور فيليب حتى في الولايات المتحدة: (إنه لم يكن في التاريخ شيء يسمى فلسطين)، وأنا دافيد بن غوريون أقول لكم: إني أوافق الدكتور فيليب على قوله".

 

صانعو التاريخ العربي:

دراسة وضعها فيليب حتى بالإنكليزية عام 1968م، بجامعة برنستون، وتُرجِمت إلى العربية، ونشرتها في بيروت "دار الثقافة"، وقد خصَّصها لدراسة شخصيات مسلمة، بدأها برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الشخصيات: (عمر - معاوية - الغزالي - ابن سينا - ابن خلدون).

 

صدَّرها بمقدمة جاء فيها قوله: "إن المادة التي اعتمدناها في هذه الدراسة مستمدَّة من المصادر الأوَّلية بعد مقابلتها بنتائج الأبحاث العلمية التي قام بها علماء الشرق والغرب..." (ص: 7).

 

وأول شخصية بدأ الحديث عنها كانت: "النبي العربي محمدًا، صاحب وحي ورسالة، وباني أمة ومؤسس دولة..." (ص: 13)، وقد استوعب عشرين صفحة من صفحات الكتاب المذكور (ص: 13 إلى 23)، وسنتخذ من هذه الصفحات العشرين أنموذجًا لبيان العبث بالتاريخ الإسلامي، ومحاولات تزييف الحقائق، للدلالة على منهج هؤلاء العلمي في دراسة حقائق التاريخ الإسلامي.

 

أثر النصرانية في الإسلام:

في الصفحة (16) من الكتاب المذكور، يقول مؤلِّفه:

"... وعندما خرج الفتى محمدٌ صلى الله عليه وسلم وهو بعدُ في الثانية عشرة من عمره، مع عمه أبي طالب إلى الشام، نظر راهبٌ مسيحي اسمه بَحيرا إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفَيْه، هذه الأساطير الإسلامية والمسيحية التي حِيكَتْ حول بَحيرا تعكسُ لنا شيئًا عن العَلاقات القديمة بين الديانتين، وعن أثر المسيحية".

 

وكان قد مهَّد للوصول إلى هذه النتيجة بوصفِه الفترةَ من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم التي سبقت زواجَه من خديجةَ رضي الله عنها بالغموض؛ (ص: 14)، وليؤكِّد بعد ذلك في الصفحة (18) أنه عليه الصلاة والسلام كان قارئًا كاتبًا، حتى إذا ذكر أثر المسيحية على الإسلام بينهما، كان لكلامه الأثر في قلب قارئه وعقله؛ لذا كان تحريفُه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَدْء الوحي؛ حيث يقول: "وذات ليلة من أخريات ليالي رمضان، بينما كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم يُفكِّر في المشكلات التي كانت تُقلِق بالَه[2]، سمِع فجأةً صوتًا يقول له: اقرَأ، فكأنه سأل: ماذا أقرَأ؟ ولكن الصوت أتاه ثانية يقول: اقرَأْ وربك الأكرم...، ولَربَّما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتفعُ بالقراءة والكتابة في تصريف شؤونه، ولكن يبدو أنه لم يكن متأكدًا من أنه يستطيع أن يكتب أمورًا في الدين..."؛ (ص: 18).

 

بينما أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وَعَتْه كتب المحدِّثين والمؤرِّخين على سواء: ((ما أنا بقارئ))، و((لستُ بقارئ))، وما ورد في سورة العنكبوت: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48]، على الضد مما ذهب إليه.

 

أما قضية أثر المسيحية، فقد سبق مشركو العرب المستشرِقين وأسلافَهم من رجال عصر النهضة الأوروبية في افترائها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأن "عدَّاسًا" الغلام النصراني لابنَيْ شيبة، الذي آمن بالإسلام، ودخل في دين الله عز وجل عندما التقى بمحمد عليه الصلاة والسلام في حائط (بستان) لهما، دخله صلى الله عليه وسلم ليستريح مما عاناه وغلامُه زيد بن حارثة رضي الله عنه على أيدي سفهاء أهل الطائف وطُغاتِهم وغلمانهم... - هو الذي كان يُعلِّمه...، ونزل قوله تعالى في سورة النحل: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103]، وكذلك قوله تعالى في سورة الفرقان: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الفرقان: 4 - 6].

 

وما كان الكثيرون من أركان عصر النهضة - من أمثال "بوليدور فيرجيل" - الذين زعموا أن الإسلام "نسيج مشوَّه، مستقًى من مصادر مسيحية"؛ (المستشرقون والإسلام: 16)، وما زعمه في العصر الحديث من أمثال جولد تسيهر في كتابه: (العقيدة والشريعة: 13)، وبروكلمان في كتابه: (تاريخ الشعوب الإسلامية: 1/42)، وبرنارد لويس في كتابه: (العرب في التاريخ: 50)، وغيرهم من المستشرقين - إلا مردِّدين لمزاعم وافتراءات مشركي العرب ومَن عاصرهم من الكفار يومها.

 

هذا ومَن نظَر في كتاب الله عز وجل، كفاه لمعرفةِ زيف هذا الكلام الذي زعموا له "المنهج العلمي من عودة إلى المصادر ومناقشة الروايات"؛ فالقرآن الكريم يُنَزِّه الله عز وجل عن كل مشابهة لأي من مخلوقاته تنزيهًا كاملاً، ويرفض أبوَّته للمسيح عليه السلام ولغيره من البشر أيًّا كان:

• ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 – 4].

• ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ﴾ [المائدة: 73].

• ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 116].

 

والإسلام يرفض لعنةَ الخطيئة وعقيدةَ الفداء والكفَّارة، وهي الأساس الذي تقوم عليه عقيدة النصارى، ويُرتِّب مسؤولية كلِّ فرد عن عمله، وألاَّ تزر وازرةٌ وزرَ أخرى، وفي هذا كلِّه مباينةٌ كاملة للمسيحية، إضافة إلى شمول الإسلام لنواحي الحياة كلها، وتدخُّله لتنظيمها وتوجيهها، في حين اقتصر أثر المسيحية على الكنيسة وبداخلها فقط.

 

وهل يُعقَل لفتًى لم يتجاوَزِ الثانية عشرة من عمره، وفي لقاءٍ عابرٍ مع الراهب بَحيرا أن يأخُذَ عنه ويتلقَّى منه ما يمكن لمؤرِّخ يدَّعي العِلمية أن يرتب عليه أثرَ المسيحية في الإسلام"؟!

 

ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تلقَّى عن بَحيرا وغيره من أهل الكتاب شيئًا مما يدعو الناس إليه، فالمفروض أن يُضفِي على مَن أخذ عنهم صفاتِ الأصالة والحق والكمال، وأن ينزِّل ما أخذ منزلةَ السداد والصحة والتجرد، أما أن نرى العكس من هذا كله، فهم ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ [النساء: 46]، و﴿ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ [النساء: 50]، ويَلبِسون الحقَّ بالباطل، ويكتُمون الحق وهم يعلمون، فهذا مخالف لبدائِهِ العقول، ولِمَا تعارف عليه الناس؛ لأنه لو تلقَّى عنهم لَمَا ضمِن - وهو يُسفِّه عقائدَهم ويهتِكُ أستارهم - سكوتَهم عنه، وعدم تكذيبهم إياه، وفضحهم له فيما أخذ عنهم، وبيان ما تلقَّنه على أيديهم!

 

وكلُّ هذا لم يحدث، ولم يُسجِّل التاريخُ حادثةً واحدة وقف فيها هؤلاءِ موقفَ الرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الافتراء، بل إن القرآن الكريم وكتبَ التاريخ والسيرة وَعَت ما دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم ووفد نصارى نجران، وكيف أنهم رفَضوا الملاعنةَ التي عرَضها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكروا كلمةً واحدة تُشعِر - ولو من بعيدٍ - بأنه عليه الصلاة والسلام أخذ عن ديانتَهم أو تلقَّى عن كتبهم، ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 59 - 61].

 

التشابه النسبي:

إن التشابه النسبي الضئيل الذي يمكن أن نلحَظه بين الإسلام والكتاب المقدَّس (التوراة والإنجيل) في بعض الأمور، يُفَسَّرُ بوحدة النبع الإلهي الذي صدرت عنه هذه الكتب السماوية في أصلها، خاصةً وأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليُرسِي قواعدَ التوحيد والتسليم المطلق لله عز وجل، وهي الأصول الكبرى للشرائع السماوية، ولم يأتِ لنقضِها، كما جاء ليؤكد وحدةَ الدين الذي أوحى به الله عز وجل إلى أنبيائه ورسله:

﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13]، و﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الأحقاف: 9].

 

ويؤكد ما ذهبنا إليه أيضًا ما رواه الواحدي في "أسباب النزول": (عندما سمِع نجاشي الحبشة آياتٍ من القرآن الكريم، تلاها على مسمعِه جعفرُ بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: "إن هذا والذي جاء به عيسى لَيخرجُ من مشكاةٍ واحدة، واللهِ ما زاد المسيح على ما تقولون..."، وكانت القُسس والرهبان كلما سمِعوا آية يتلوها جعفر رضي الله عنه انحدَرَت دموعُهم، مِمَّا عرَفوا من الحق، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى).

 

كما أن القرآن الكريم جاء بقصص لأقوام بادَت لم يَرِدْ لها ذكرٌ في الكتاب المقدس؛ مثل: قصة عاد، وثمود، وأصحاب الأيكة، وقوم تُبَّع، وأصحاب الرَّسِّ، ولقمان، وذي القرنين، إلى جانب المغايرة التي تكاد تكون تامَّةً بين قصص القرآن والقصص التي ورَد ذِكرُها في أسفار العهد القديم؛ مثل: قصة آدم عليه السلام، وسجود الملائكة، وتمرد إبليس وطرده من الجنة ولعنته، وتوبة آدم عليه السلام، وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه... إلخ.

 

اليأس في حياة محمد صلى الله عليه وسلم:

يُقرِّر الكاتب في الصفحة الثالثة والعشرين أن (الهجرة كانت نقطةَ تحوُّل في حياة محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ استحال اليأسُ والقنوط إلى أمل وثقة وتوكيد للذات)، ولم يذكر حادثة واحدة تدل على اليأس أو القنوط في حياته عليه الصلاة والسلام، ولم يأتِ بأي دليل يعضدُ ما ذهب إليه حتى ولو إشارة، ولا ندري كيف يكون يائسًا وقانطًا من تحمُّل الشدة، وصبر على اللأواء، ويُصِرُّ على متابعة الطريق رغم مشقته ووعورته، ورغم المُغرِيات التي عُرِضت عليه للتخلي عنه؟ ألم تحفظ كتب التاريخ وتروِ كتبُ السيرة كيف كان عليه الصلاة والسلام يعرِضُ نفسه على القبائل متنقلاً من واحدة لأخرى علَّه يجدُ مَن ينصره ويقف معه ليبلغ دعوة الله عز وجل؟ ويصر على تحمل الأمر.

 

تفسير مادي ونظرة كنسية:

في الصفحة السادسة والعشرين يقول: (ولكن بعد انقضاء سنتين وجدت المدينة المضيفةُ نفسَها على حافَةِ الانهيار، أولاً: لسوء حالتها الاقتصادية، وثانيًا: لأن موارد المدينة كانت محدودة.

 

ثم يتابع قائلاً:

كانت القوافلُ المكية إغراءً لم يتمكن أهل المدينة من مقاومته، وذات يوم من أيام رمضان، وفي أثناء الشهر الحرام، وقعت غزوة بدر، وإذا كان السيد المسيح برَّر عمل تلاميذه يوم السبت على أساس أن السبت وُجِد للإنسان، لا الإنسان للسبت، فلماذا لا يبرر النبي صلى الله عليه وسلم غزوته هذه في الأشهر الحرم؟).

 

قبل بيان الأخطاء التاريخية التي وقع فيها، وخطلِ التفسير الذي ذهب إليه، نقول: إن الله عز وجل أباح للمسلمين بعد هجرتِهم إلى المدينة المنورة وقيامِ دولتهم هناك أن يستعملوا القوَّة المادية لدفع أذى المشركين، وكان هذا في قوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ [الحج: 39، 40].

 

بل إن بعض العلماء يرى أن هذا الإذنَ بالقتال كان في أواخر العهد المكي، وأن الهجرة جاءت بعد نزولِ هذه الآيات لتُمهِّد للجماعة المسلمة السبيلَ لتنفيذ ذلك الإذن؛ (زاد المعاد: 2/ 58، ابن هشام: 2/ 76).

 

ويرى الشافعي رحمه الله أن المسلمين في مكَّة ظلُّوا في أول البعثة مستضعَفين، ثم أُذِن لهم بالهجرة، فهاجَرت طائفةٌ إلى الحبشة، ثم أذِن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، ثم كانت إباحة القتال للدفاع؛ (أحكام القرآن: 2/ 11 - 18).

 

وعلى هذا لم تكن غزوةُ بدر الكبرى أولَ مواجهةٍ مسلَّحة بين المسلمين والمشركين، ولكنها سُبِقت بغزوات وسرايا عديدة، بدأت بعد اثنَي عشر شهرًا من مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ المنورة بغزوة وَدَّان، وسَريَّة عُبَيدة بن الحارث، وسرية حمزة إلى سِيف البحر، وغزوة بُواط، وغزوة العَشِيرة، وسريَّة سعد بن أبي وقاص، وغزوة بدر الأولى، وسرية عبدالله بن جحش، وهي التي وقعت في الشهر الحرام (رجب)، لا غزوة بدر الكبرى التي وقعت في رمضان، ورمضان ليس من الأشهر الحرم، التي هي: (ذو القعدة، وذو الحجَّة، والمحرَّم، ورجَب)، ولم يُبرِّر الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابِه قتالَهم في الشهر الحرام، بل قال لهم: ((ما أمرتُكم بقتالٍ في الشهر الحرام))، وأُسقِط في أيدِيهم، وعنَّفهم إخوانُهم على ما صنعوا، واستغلَّت قريشٌ الأمر، وبدأت حملةَ تشهيرٍ ضد المسلمين، وكان مما قالَتْه: "قد استحلَّ محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه الشهرَ الحرام، وسفكوا الدم فيه، وأخذوا الأموال، وأسروا الرجال..."، وجاءت آيات القرآن الكريم: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 217]، تُقرِّر الخطأ الذي وقع فيه عبدالله بن جحش وأصحابه عندما أقدَموا على القتال في الشهر الحرام، وتُقرِّر أيضًا أن ما قامت به قريشٌ من صدٍّ عن سبيل الله وكفرٍ به، وإخراجٍ للمهاجرين من بيوتهم، أكبرُ وأعظمُ مما وقع فيه بعض المسلمين، ﴿ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 217]؛ فالقرآن الكريم لم يُبرِّر الخطأ، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعَلْه، بل لم يكن من طبيعتِه صلى الله عليه وسلم إلا الجهرُ بالحق، وتقويم الاعوجاج، والسيرة ملأى بالشواهد على ذلك.

 

ولم تكن هذه السرايا والغزوات إلا امتثالاً لأمر الله عز وجل، الذي أذِن لهم بالدفاع عن أنفسهم، والاقتصاص ممَّن ظلمهم وانتقص حقوقَهم، ألا يكفي ما فعلَتْه قريش من اضطهاد وتعذيب المستضعَفين من المسلمين، وما ارتكبَتْه بحقِّهم من تهجيرٍ وطرد، ومصادرة أموال وممتلكات، ومنع الولد والزوجة، ألا يكفي كل هذا ليكون مسوغًا للمستضعفين أن يثوروا في وجه الطاغية؟ أفإذا ثارُوا في وجهِه وأخذوا بشيء من ثأرهم ومما لهم، قالوا: "إن القوافل المكية إغراءٌ لم يتمكن أهل المدينة من مقاومته"؟! أهذا هو المنهج العلمي والإنصاف، وضرورة تحري وجه الحق عند تمحيص الروايات وتقليب المصادر؟!

 

ويظهر أثرُ الثقافة الكنسية على الكاتب فيما ذكره في تفسير كلمة "الدين" في الصفحة التاسعة عشرة: (نعم، إن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يقول عن نفسه: إنه نبي، ولكن تعاليمه الجديدة تتضمَّن أمورًا اقتصادية واجتماعية وسياسية...)، فهذه الأمور ليست من الدين إذًا، بل هي تزيُّد من النبي صلى الله عليه وسلم!

 

ويقع المؤلف في تناقضٍ صارخ؛ حيث يقول في الصفحة نفسها (التاسعة عشرة): (إن أهل مكة لم يرضَوا عن هذا الإله الجديد "الله"؛ وذلك لطبيعته المنَزَّهة عن كل شرك)، ثم يقول في الصفحة الحادية والثلاثين.

 

(إن اعتراف محمدٍ صلى الله عليه وسلم بالكعبة، والحجَر الأسود، وبئر زمزم، وهي من بقايا الجاهلية العربية، جعل الإسلام يبتعِدُ عن الديانتينِ التوحيديتين: اليهودية والنصرانية)؛ فالديانة التي نزَّهت الله عن كل شرك ديانةٌ وثنية، أما التي قالت: "المسيح ابن الله"، والتي قالت: "عُزَير ابن الله"، والتي اعتبرت الله "ثالث ثلاثة"، فهي ديانة توحيدية!

 

روايات شعبية:

وفي الصفحة الخامسة عشرة يقول:

(إذا كان الواقع، وإذا كان التاريخ قد حرَما محمدًا صلى الله عليه وسلم الفتى الثروةَ والسعادةَ، فإن إيمان الناس ورواياتهم الشعبية أغنَت حياتَه وزيَّنتها بالعجائب التي تُذكِّرنا ما أحاط به النصارى حياة المسيح، والبوذيون حياة بوذا من عجائبَ وخوارق)، ويجعل من هذه الروايات الشعبية: ما شعرت به حليمة السَّعْدية مرضعة الرسول صلى الله عليه وسلم بالحليب يملأُ ثديَيْها الجافَّينِ ساعةَ وضعَتْه في حجرها، وكذلك ما رآه ابنها من شقِّ صدرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخراج قلبه وغسله، بعد نزع العَلَقة السوداء منه، ولم يرَ الكاتب بأسًا في أن يقول بعد ذلك: (وفي القرآن الكريم يخاطب الله تعالى نبيَّه قائلاً: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 1 - 4]، فهو هنا لم يكتفِ بوصفِ ما جاءت به الأحاديث النبوية، بالروايات الشعبية التي أحاطت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعجائب، ولكنه يصِمُ القرآن الكريم بذلك أيضًا!

 

وفي الصفحة التاسعة عشرة يصفُ نزولَ الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم باللاوعي: (وفي هذه الحالة النفسية من الانفعال الشديد أسرع إلى بيته، وطلب إلى زوجته أن تُدثِّره، وهو في حالة اللاوعي سمع الصوت يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2].

 

مزاعم الكثيرين من أركان عصر النهضة الأوروبية، وادعاءات معظم المستشرقين في العصر الحديث، عبارة عن ترديد لافتراءات مشركي العرب ومَن عاصَرهم من أعداء الإسلام...

 

جملة مغالطات:

وفي الصفحة الثامنة والعشرين، يقول: (... ولكن ما إن لبِث النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة حتى شعَر بأنه كان على خطأ فيما ظنه بهم؛ فإن اليهود كانوا يعتبرون أنفسَهم شعبَ الله المختار...، ونشِبت حربٌ باردةٌ بينه وبين اليهود، عند بَدْء السنة الثانية في المدينة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تُحوَّل القِبْلة عن بيت المقدس إلى مكة، وصار المؤذِّن يدعو إلى الصلاة بعد أن كانوا يستعملون الناقوس، واتَّهم أهل الكتاب بأنهم أفسدوا الدين الصحيح، وأخفوُا الوحي وحوَّروا فيه...).

 

يُثِير الكاتب في هذه السطور القضايا التالية:

• تحويل القِبلة إلى مكة.

• اللجوء إلى الأذان للدعوة إلى الصلاة بدلاً من استعمالهم الناقوس.

• اتِّهام أهل الكتاب بالإفساد والتحوير في الدين.

 

حادث تحويل القبلة:

كان العرب في جاهليتهم يُعظِّمون الكعبة، ويعتبرون البيت الحرام عُنوانَ مجدِهم، وحتى تخلُصَ نفوس الذين آمَنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم لله عز وجل، كان أمرُ الله لهم بالتوجُّه أثناء الصلاة إلى المسجد الأقصى؛ ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية، ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ﴾ - أي: بيت المقدس - ﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾ [البقرة: 143].

 

واستجاب المسلمون للأمر، واستمرُّوا على ذلك ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا من الهجرة، واتَّخذ اليهودُ هذا ذريعةً للاستكبارِ عن الدخول في دين الله عز وجل، وقالوا: إن قِبْلتَهم هي القِبْلة، فأولى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ومَن معه أن يَفِيئوا إلى دينِهم، لا أن يدعوهم إلى الدخول إلى الإسلام[3]، فكان نزول الآية السابقة لبيان الغاية التي من أجلِها أمر الله عز وجل المسلمين بالتوجُّه إلى بيت المقدس...، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأثناء يُقلِّب وجهَه في السماء متجهًا إلى الله عز وجل، فنزل قولُه تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144].

 

استعمال الناقوس للدعوة إلى الصلاة:

روى الإمام أحمد والبخاري عن نافع أن ابن عمر كان يقول:

"كان المسلمون يجتمعون، فيتحيَّنون - يُقدِّرون أحيانَها ليأتوا إليها - الصلاةَ، وليس يُنادِي بها أحدٌ، فتكلَّموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتَّخِذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل قرنًا مثل قرن اليهود - بُوقًا للنفخ - فقال عمر رضي الله عنه: أَوَلا تبعَثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بلال، قم فنادِ بالصلاة)).

 

وقد شُرع الأذان في السنة الأولى للهجرة، وتحويل القِبلة كان في آخر السنة الثانية للهجرة، ولا صلة مطلقًا بين تحويل القبلة والأذان!

 

إفساد أهل الكتاب وتحويرهم:

لو عدنا إلى الآيات المكية، التي نزلت في مكة قبل الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، لوجدناها ملأى بالآيات التي تُبيِّن إفساد أهل الكتاب (يهودًا ونصارى)، وتحريفهم للكتب السماوية، ويمكن أن نذكر أمثلةً على ذلك:

ما جاء في سورة النمل: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النمل: 76 - 77].

 

وما جاء في سورة الشورى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾ [الشورى: 14، 15].

 

وما جاء في سورة الجاثية (الآيات: 16 - 18) من فضحِ اختلاف بني إسرائيل وانحرافهم، وتنتهي بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم باتِّباع شريعته، ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الجاثية: 18].

 

وكذلك ما جاء في سورة الأعراف (الآيات: 157 - 158) وسورة النحل (الآيات: 63 - 64)، وهذه كلها نزلت في العهد المكي، تُحذِّر الرسول صلى الله عليه وسلم من يهودَ، وتُبيِّن انحرافهم.

 

أخطاء تاريخية صارخة:

قال الكاتب في الصفحة الحادية والعشرين:

"... فأُرغِم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه على الهجرة أولاً إلى الحبشة النصرانية..."، والثابت تاريخيًّا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُهاجِر أصلاً إلا إلى المدينة المنورة.

 

وفي الصفحة الثانية والعشرين:

"... أما هو - أي محمد صلى الله عليه وسلم لم يهاجر أصلاً إلا إلى المدينة المنورة - يُرافِقه أبو بكر وعلي رضي الله عنهما في الرابع والعشرين من شهر أيلول سنة 622م".

 

والصحيح أن الذي كان يُرافِقُ الرسول صلى الله عليه وسلم في هجرتِه هو الصِّدِّيق رضي الله عنه، صاحبه في الغار، أما علي رضي الله عنه فهو الذي بقي في مكة يَبِيت في فراشِ الرسول صلى الله عليه وسلم ليعمي على قريش، إضافةً لمهمة إعادة الأمانات التي كانت لدى الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابها في مكة.

 

وفي الصفحة السابعة والعشرين:

"... واستُشهِد - في غزوة بدر - من المسلمين ثمانون رجلاً...".

والصحيح أن قتلى المشركين سبعون، وأَسْراهم سبعون، وكان جميع مَن استُشهِد من المسلمين في تلك الغزوة أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.

 

وبعد:

فهذا حصاد ما يقرب من عشرين صفحة فقط من تلك الدراسة (صانعو التاريخ العربي)، يمكن أن تكون أنموذجًا يُدلِّل على مدى الأمانة العلمية وتحرِّي الصِّدق في الرِّوايات التاريخية لدى هؤلاء.



[1] انظر كتاب: "الوسيط في رسالة المسجد العسكرية"، للواء الركن محمود شيت خطاب، ص: 24.

[2] يُحدِّد "حتى" المشكلات التي كانت تشغَلُ بالَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتلهب نفسه بأمرين:

الأول: ما كان يُعانيه مجتمعه من بؤس وشقاء.

والثاني: أنه كان لليهود والمسيحيين كتاب، وأنهم كانوا أكثر تقدمًا، وأحسن مستوى مما كان عليه قومه؛ (ص: 17)، يريد بذلك أن يُدلِّل على الصلة الوثيقة للرسول صلى الله عليه وسلم قبل نبوته باليهود والمسيحيين، مسوغًا ما ذهب إليه من أثر المسيحية في الإسلام!

[3] انظر في ظلال القرآن: 1/ 125 وما بعدها.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الدراسات الاستشراقية في خدمة القرآن الكريم
  • من مجالات الدراسات الاستشراقية .. النبي محمد - صلى الله عليه وسلم
  • أهداف الدراسات الاستشراقية
  • خصائص الدراسات الاستشراقية ووسائلها
  • موقف المسلمين من النشاطات الاستشراقية والتنصيرية

مختارات من الشبكة

  • مدلول المنهج والتواصل والحوار اللغوي والاصطلاحي(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أولويات التربية "عقيدة التوحيد"(مقالة - موقع أ. د. فؤاد محمد موسى)
  • سيد المناهج (المنهج الوصفي)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • لا إله إلا الله: منهج حياة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أصالة المنهج الإسلامي منهج التكامل الجامع(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الوجيز في مناهج المحدثين للكتابة والتدوين (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • ما هو منهج الفصحى؟(مقالة - حضارة الكلمة)
  • شرح كتاب المنهج التأصيلي لدراسة التفسير التحليلي (المحاضرة العاشرة: أضواء على المنهج العقدي في وصايا لقمان)(مادة مرئية - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • شرح كتاب المنهج التأصيلي لدراسة التفسير التحليلي (المحاضرة السادسة: تابع منهج الإمام الطبري في التفسير)(مادة مرئية - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • شرح كتاب المنهج التأصيلي لدراسة التفسير التحليلي (المحاضرة الثانية: التعريف بالمنهج التأصيلي لدراسة التفسير التحليلي)(مادة مرئية - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب