أقدم الروايات حول مصحف كتب للمشرق الإسلامي

أقدم الروايات حول مصحف كتب للمشرق الإسلامي

إن أقدم رواية متوفرة حول مصحف كامل كتب لأهل المشرق الإسلامي من عرب الفتح وعجَمهم الذين أسلموا هي رواية أبي عبيدٍ القاسم بن سلَّام الهروي المتوفى سنة (224 هجري)، وقد أوردها في كتابه المشتهر بـ (فضائل القرآن)، الذي روى فيه صورة الرسم القرآني لكثير من الكلمات في الآيات الكريمة في المصحف الإمام، كما روى اختلاف الحروف في مصاحف الأمصار.

والرواية التي يذكرها أبو عبيد عن أقدم مصحف كتب لأهل المشرق كتبها وهو يبين صورة رسم النص الحكيم لقوله تعالى في الآيات (85 و87 و89 من سورة المؤمنون): ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ وذلك بالقول: (وقرأت أنا في مصحف بالثغر قديم بُعث به إليهم فيما أخبروني قبل خلافة عمر بن عبدالعزيز، فإذا كلهن بغير ألف، (وقد أورد هذه الرواية الإمام أبو عمرو الداني المتوفى سنة 444 هجري في كتابه (المقنع في رسوم مصاحف الأمصار مع كتاب النقط) وهو رحمه الله يتابع ويحقق ويتثبت في رسوم مصاحف الأمصار، والإمام أبو عمرو من دانية بالأندلس أقصى بلدان المغرب الإسلامي، ويعد كتابه المذكور من المصادر الأساسية المعتمدة في هجاء ورسم القرآن، وقد اطلع على العديد من مصاحف الأمصار القديمة والحديثة في عهده في مصر والشام والحجاز، وذلك في رحلته العلمية إلى هذه البلدان، فضلًا عن حج بيت الله الحرام.

والتأمل في رواية أبي عبيد يستلزم منا أن نقول: إن أبا عبيد القاسم بن سلَّام رحمه الله، وهو صاحب مصنفات شهيرة، أبرزها كتاب (فضائل القرآن) الذي أورد فيه حكاية المصحف القديم، قد أتيح له كذلك وتمكن من رؤية ومشاهدة المصحف الإمام، مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، أخرج له من خزائن أحد الأمراء، وقرأ فيه، ونقل عنه ما رواه لنا في عصر التدوين وازدهاره عن الرسم القرآني في المصحف العثماني الإمام ومصاحف الأمصار، إن أبا عبيد لم يذكر مكان الثغر الذي قرأ فيه في المصحف القديم، ومعلوم أن الثغور ارتبطت بزمن حروب الفتح الإسلامي في بلاد فارس وبلاد ما وراء النهر في عهد الخلفاء الراشدين وعهد خلفاء الدولة الأموية، فهَمْدان مثلاً كانت أحد الثغور الشرقية في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه، وأردبيل كانت قاعدة أذربيجان التي عيَّن الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأشعث بن قيس واليًا عليها، وثغر السند في بلاد الهند عقد الحَجَّاج له القائد محمد بن القاسم الثقفي، حتى أمر الخليفة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله (99-101) بوقف حركة الفتح في عهده، وهناك ثغور أخرى يمكن أن نتعرَّف عليها في كل تاريخ الفتوحات الإسلامية في المشرق، وحيث إن أبا عبيد يقول: إن المصحف القديم الذي نحن بصدده قد بعث لأهل الثغر قبل عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز، ما يجعلنا نرجح أن يكون هذا المصحف هو أحد المصاحف المنقولة عن المصاحف التي نُسخت وكتبت من المصحف الإمام البصري أو الكوفي، إن لم يكن عن أحد هذين المصحفين الإمامين مباشرة، وقد يكون من جملة المصاحف التي كتبها الحَجَّاج وبعث بها إلى عدد من الأمصار والولايات كمصر مثلاً، ومهما يكن من أمر، هذا أو ذاك، فإن هذا المصحف الذي يصنِّفه أبو عبيد على أنه مصحف قديم قد صار قديمًا بحدود نهاية القرن الثاني الهجري، أو أوائل القرن الثالث، وهي فترة حياة أبي عبيد (154-224) هجري، قد كان وعلى ما يبدو مرجعًا أساسيًّا في كتابة واستنساخ المصاحف في البلاد والأقاليم المشرقية المفتوحة، التي ارتبطت إداريًّا بالبصرة أو الكوفة، بالخليفة تارة أو بقادة الفتح تارة أخرى، أو بولاة مباشرة، إضافة إلى مرجعية حفظة وقراء القرآن من صحابة وتابعين خرجوا من شبه الجزيرة العربية والعراق، وساهموا في حروب الفتح ورُبُطِه.

وتتحدث مجلة الخفجي التي تصدر في الكويت في عددها الصادر في شباط-فبراير -1990 في مقال عن الترجمات الشرقية للقرآن، نشرته لأحد الكتَّاب، يقول المقال: إن اللغة الفارسية هي أول ما ترجم إليها القرآن الكريم من اللغات، وإن الفقيه الكبير شمس الأئمة السرخْسي ذكر في كتابه المبسوط: أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله روى أن الفُرْس كتبوا إلى مواطنهم سَلْمان رضي الله عنه أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية، فكانوا يقرؤون ذلك في الصلاة حتى لانت ألسنتهم العربية، وبذلك تكون هذه الترجمة أقدم ما عُرف على الإطلاق من ترجمات معاني القرآن الكريم، وأن موسى بك سيار الأسواري كان يدرس تفسير القرآن الكريم بالفارسية.

وجدير بنا أن نذكر أن الجاحظَ قال في موسى: إنه من أعاجيب الدنيا، وكانت فصاحتُه بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور فيقعد العرب عن يمينه والفُرْس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله فيفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفُرْس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يُدرى بأي لسان هو أبين.

ويضيف مقال مجلة الخفجي القول: كما وصل إلينا ترجمة معاني القرآن الكريم على أيدي علماء ما وراء النهر سنة (345 هجري) للملك منصور بن نوح الساماني، وأضافوا إلى الترجمةِ تفسير الطبري المتوفى سنة (310 هجري).