• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    التلاحم والتنظيم في صفوف القتال في سبيل الله...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أسس التفكير العقدي: مقاربة بين الوحي والعقل
    الشيخ حذيفة بن حسين القحطاني
  •  
    ابتلاء مبين وذبح عظيم (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    فضل من يسر على معسر أو أنظره
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    حديث: لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد
  •  
    كونوا أنصار الله: دعوة خالدة للتمكين والنصرة
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    لا تعير من عيرك
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    من مائدة التفسير: سورة النصر
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    أربع هي نجاة الإنسان في الدنيا والآخرة (خطبة)
    د. أحمد بن حمد البوعلي
  •  
    وحدة المسلمين (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    المسارعة إلى الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    فوائد وأحكام من قوله تعالى: { إذ قال الله يا عيسى ...
    الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
  •  
    نعمة الماء (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    تدبر خواتيم سورة البقرة
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا (خطبة)
    حسان أحمد العماري
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

في رحاب سورة الأنعام: الإعراض عن الحق إقبال على الباطل

في رحاب سورة الأنعام: الإعراض عن الحق إقبال على الباطل
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 12/11/2014 ميلادي - 19/1/1436 هجري

الزيارات: 49945

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

في رحاب سورة الأنعام

الإعراض عن الحق إقبال على الباطل


قال الله تعالى: ﴿ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الأنعام: 4 - 7].

 

التوازن النفسي المؤسَّس على التعقل الهادئ المستنير:

قليلاً ما يتصف به أصحاب الديانات الموروثة عن جهل، أو العادات والتقاليد المألوفة عن تعصب؛ لذلك يكون استقبالهم لكل جديدٍ مخالفٍ لما لديهم من أوضاع قائمة، أو مصالح آنية، أو مكاسب مرتقبة - مزاجيًّا وعنفوانيًّا وعدوانيًّا؛ لعجزهم عن مغالبة الشهوات الطاغية المهيمنة، وهجر المشاعر الرديئة، والطباع السقيمة، إلى النيات الرشيدة، والأعمال السليمة القويمة.

 

هذه أخطر معضلة واجهت دعوات التغيير النفسي والاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي عبر التاريخ، ما يأتيهم مِن مُصلِح أو داعية لخير إلا نبذوه، أو أعرضوا عنه، أو سَخِروا منه، فإنْ أصرَّ على دعوته، ولم يُقلع عنها، أخرَجوه أو قتَلوه، هذه المواقف منهم تتدرج شدة وبطشًا بتدرج قوة داعية الخير نماءً وانتشارًا، فهي تَجاهُلٌ له، واستهانة بأمره، وإعراض عنه، إن رأوا منه ضعفًا أو هوانًا، ثم محاولةُ تكذيب، ومجادلة له بالباطل، وتسفيه لرأيه، إن لم يَلِنْ ولم يستكِنْ، ثم سخريةٌ منه، واستهزاء به؛ لعزله عن مجتمعه، والتشكيك في توازنه، وصوابِ ما يدعو إليه، ثم عدوانيةٌ مادية عليه بالإخراج، أو المحاربة، أو القتل.

 

كل أنبياء الله تعالى ورسله عليهم السلام واجَهَهم هذا المسلسل العدواني، وذاقوا مرارته وظلمه؛ إبراهيم عليه السلام قيل له عن الأصنام المنصوبة للعبادة: ﴿ وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 53]، وقيل له: ﴿ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 46]، ثم قالوا عنه: ﴿ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ﴾ [العنكبوت: 24]، ثم قالوا: ﴿ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68]، ولوط عليه السلام قيل له: ﴿ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [العنكبوت: 29]، ثم قيل عنه: ﴿ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [النمل: 56]، ورسول الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم ذاق مرارة كل أصناف الإعراض، والتكذيب، والاستهزاء، ومحاولات العدوان بالإيذاء المادي والمعنوي، تهديدًا بالقتل وشروعًا فيه، فكان القدوة النِّيِّرة، والأسوة الحسنة، في الصبر والثبات والاحتساب، منذ قالت له قريش إذ نزلت سورة الفاتحة: "رضَّ الله فاك"، وقالت له عشيرته إذ دعاها للإسلام: "تبًّا لك، ألهذا دعوتنا جميعًا؟!"، ومنذ أغرى به أهل الطائف سفهاءهم، فلاحقوه ورمَوْه بالحجارة، حتى دميت قدماه الشريفتان، وسالت منهما على نعليه الدماء‏، ومنذ قال لأبي طالب: ((يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله، أو أَهلِك فيه، ما تركتُه))، ثم استعبَرَ عليه الصلاة والسلام، فبكى، ثم قام، إلى أن حاولت قريش قتله غِيلةً في فراشه، فأُمر بالهجرة إلى المدينة، وقد كان رب العزة تعالى يُنزل عليه في كل حين من الآيات القرآنية الكريمة، ويريه من الآيات الكونية الباهرة، ما يخفف به عنه وَعْثاء الاعتراض، ومشقة محن التكذيب، ويُبيِّن به - تثبيتًا له، وتقوية لعزيمته - طبيعة دعوة الأنبياء والرسل قبله، وما تُواجَه به عقيدةُ التوحيد في كل زمان ومكان، من محاربة وعدوان؛ لذلك بعد أن بيَّن الحقُّ سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم في أول سورة الأنعام موجبات الحمد، وشواهد التوحيد، ومسار المبدأ والمعاد، قرَّر له طبيعة خصوم دعوته، وما قد يواجهونه به من اعتراض وجحود وإنكار، فقال عز وجل: ﴿ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾ [الأنعام: 4]، والمراد بضمائر الغيبة في هذه الآية الكريمة هم المشركون، وذلك بعد أن عبَّر الوحي عنهم في الآيات السابقة بضمائر الخطاب، كما في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 2، 3]، والتحول في الحديث عن المشركين من صيغة المخاطَب إلى صيغة الغائب التفاتٌ بلاغي دقيق، يفيد تحقيرهم، والتنقيص من شأنهم، والتنديد بغباء تفكيرهم، وحُسنُ توجُّه بالمعنى إلى المؤمنين؛ تحذيرًا، وتنبيهًا، وترشيدًا.

 

أما "الإتيان" في قوله تعالى: ﴿ تَأْتِيهِمْ ﴾، فهو بالنسبة لآيات الوحي: نزولُها وبلوغها إليهم، وبالنسبة للآيات الكونية معجزاتٍ وظواهرَ طبيعيةً خارقةً: تجلِّيها وظهورُها لهم، وكان التعبير عن الإتيان بالفعل المضارع ﴿ تَأْتِيهِمْ ﴾؛ للدلالة على تجدد ظهور آيات الله الكونية في كل عصر، وبقاء آيات القرآن الكريم المنزَّلة محفوظة ومتلوة، لا ينالها تغيير أو تحريف أو اندثار إلى يوم القيامة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

 

أما حرف "ما" في أول الآية، وحرف "مِنْ" في قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ﴾؛ فلعموم النفي واستغراقه كلَّ ما يأتيهم من الآيات التي يكفرون بها؛ أي: لا تبلغهم آية من القرآن الكريم، أو تبدو لهم معجزة نبوية باهرة، تَحُضُّهم على الإيمان والتوحيد، إلا جحدوها، ولا يرون آية كونية دالة على الخالق سبحانه، وعلى تفرده بالألوهية والربوبية والعبادة، إلا وَلَّوْهَا ظهورهم، وأعرضوا عنها.

 

ولفظ "الإعراض" في قوله تعالى: ﴿ مُعْرِضِينَ ﴾ من فعل "أعرض" عن الشيء إذا صَدَّ عنه، وصرف وجهه عن النظر إليه، أو الاهتمام به، ومنه قولهم: "أعرض عنه بوجهه"؛ أي: ولاَّه قفاه، أما وصفه تعالى للمشركين بقوله عز وجل: ﴿ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾؛ فيفيد اقترانُ الإعراض فيه بالفعلِ الماضي ﴿ كَانُوا ﴾ الدالِّ على الاستمرار والدوام - أن إعراضهم عن الإيمان صفة فيهم ثابتة متجددة، لا يتخلَّوْن عنها، وهو في هذه الآية يشمل معناه الحقيقي، الذي هو صرف النظر عن المعجزات الكونية المُبْصَرة التي أظهرها الله تعالى تأييدًا لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ كانشقاق القمر ونحوه، ويشمل معناه المجازي، الذي هو الكفر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ورَفْض دعوته، وعدم الاستماع إلى ما نَزَل عليه من الوحي، والإصرار على تجاهله، والمكابرة في الاعتراف بإعجازه، ومنه قوله عز وجل: ﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ﴾ [طه: 100]، وقوله سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124]، وقوله عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ﴾ [السجدة: 22]، وقوله سبحانه: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48]، وقوله عز وجل: ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا ﴾ [الإسراء: 83].

 

وهذه الآية الكريمة: ﴿ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾ [الأنعام: 4] معطوفة على الآيات الثلاث الأولى في سورة الأنعام، متممة لمعانيها، ومتكاملة مع أختها في سورة الشعراء، وهي قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ﴾ [الشعراء: 5]، ذلك أن هؤلاء المشركين لم ينتفعوا بما ذُكر في تلك الآيات، من دلائل توحيد الله تعالى في خلقه السموات والأرض، وخلقه أنفسهم، وتقديره آجالهم، وعلمه سِرَّهم وجهرهم، وما يَكسِبون ويكتسبون، ولم يهتدوا إلى الحق من الآيات الكونية، والمعجزات البيِّنة التي أظهرها الله لهم، إذ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر دليلاً على صدق رسالته، فلما انشقَّ القمر شقين - وهم ينظرون - أعرَضوا عنه، وقالوا: هذا سحر مبين، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾ [الأنعام: 4].

 

لقد واجَهوا دعوة الإسلام - وحيًا ونبوة وعقيدة، ومعجزاتٍ وآياتٍ كونية - بإعراضِ سفيه، ونزقِ طائش، وعنادِ مستكبر، وإصرارِ جاهل، وازدراءِ سفيه، وحين يكون الإعراض عن الحق مقصودًا ومتعمَّدًا، يكون الإقبال على الباطل؛ من اللهو، واللعب، والعبث - بديلاً، كما قال تعالى: ﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنبياء: 2]، فيمنع صاحبه التدبرَ المتزن، والتفكير السليم، ويطمس لديه معالم الرشد، ويصرفه عن فَهم آيات الوحي المنزلة، ورؤية آيات الكون في النفس والآفاق بعين البصيرة، ويَحرِمه فضيلة الإذعان للحق وقَبوله والإيمان به، كما هو حال أصحاب الحِجْر في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾ [الحجر: 80، 81]؛ ولذلك عقب عز وجل بقوله:

﴿ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ﴾، والحق في هذه الآية هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: "كفروا بما جاءهم به الصادق الأمين"؛ أي: إن كان المشركون قد أعرضوا في مبدأ أمرهم عن آيات الله عز وجل، واستمعوها لاهيةً قلوبهم عما جاءهم من الحق وهم يلعبون، فإنهم قد تجاوَزوا هذا الموقف إلى ما هو أشد منه وأنكى وأفظع؛ تجاوَزوه إلى التكذيب بالحق نفسه، إنكارًا للألوهية والربوبية، والبعث والنشور، وحساب يوم الدين: ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [الجاثية: 24].

 

إن إعراضهم عن تدبر آيات الله المسطورة في الكتاب، وعزوفَهم عن النظر في آياته المنشورة في الكون، وعن دلائل التوحيد، وموجبات العبادة في خلق الله وبديعِ صنعه، وإتقانِ ما ذرأ وفطر، وحكمةِ ما قدَّر ودبَّر - أدى بهم إلى التكذيب بالحق؛ وحيًا ونبوة، وعقيدة وشريعة، من غير أن يتدبروه أو يتأملوه، أو يفكروا فيه برشيد الاستدلال، وتمام التجرد والاستقلال، وهم بذلك قد كذَّبوا ما جهلوا، ونبذوا ما لم يتبيَّنوا، وتلك عادة المكذبين بالحق عن جهل به في كل زمان ومكان، كما قال تعالى: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 39]، هذا ديدن المعرضين عن الحق مِن المُؤْثِرين للكفر على الإيمان، والمعصية على الطاعة في كل زمان؛ ولذلك خاطب عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم في الآية 184 من سورة آل عمران بقوله مثبِّتًا له: ﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾ [آل عمران: 184]، وتوعَّد المكذبين بشرِّ أصناف العذاب بقوله في الآيتين 40-41 من سورة الأعراف:﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 40، 41].

 

إن الإعراض عن الحق بنزق واستهتار، وتكذيبه بتعالٍ واستكبار، من غير تفكير فيه، أو تمحيص له، أو تدبر فيه - ليس له من معنى إلا ازدراؤه، والاستخفاف بقدره، والاستهزاء به، والسخرية من المبعوث به، وذلك منتهى الوقاحة والجراءة وسوء الأدب مع الله تعالى ورسله عليهم السلام؛ لذلك عقب الوحي الكريم على موقفهم هذا بما ينتظرهم حين بلَغَ تكذيبُهم درجةَ الاستهانة والاستهزاء بالرسالة وصاحبها عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى:

﴿ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾، والاستهزاء لغة هو التهكم بالشيء والسخرية منه بغير سبب مثير للاستهزاء أو السخرية، وهو من أشد مراتب العدوان على الحق، بعد الإعراض والتكذيب؛ لأن المشرك يكون به قد بلغ الدرجة القصوى في الجراءة على الله، وسوء الأدب مع رسوله.

 

لقد أخذ المشركون يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم ودعْوتِه، بعد أن فشِلوا في محاولة تثبيطه وصرفه عنها بالإعراض ثم بالتكذيب، من غير حسابٍ لما قد يكتبه الله تعالى له من نصر، ولدينه من تمكين، ولما قد يؤول إليه أمرهم من خَسار وبوار في الدنيا، وعذابٍ أليم في الآخرة؛ لذلك عقب الوحي الكريم معرِّضًا بما يؤول إليه أمر فسطاطَي الإيمان والكفر، في تهديد مبطن بأن يأتي المشركين في الدنيا ما يشق عليهم سماعُهُ من أنباء انتصار الحق وجنده، واندحار الشرك وأهله، وبما هو مُعَدٌّ في الآخرة من نعيم للمؤمنين، وجحيم للمشركين، وذلك بقوله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾؛ أي: سوف يعلمون قداسة ما استهزؤوا به من الوحي، ويتبين لهم أنه ليس موضع استهزاء وسخرية، عندما تأتيهم أخبار انتصار الحق تملأ الدنيا إيمانًا ورحمة وعدلاً، وأنباء انكسار الباطل تملأ قلوبهم نكدًا وغمًّا وحسرة وندمًا، والآية بمحتواها التهديدي المتوعد بخزي الدنيا والآخرة للمكذِّبين، الواعد بالنصر والتمكين للدين - قريبةٌ من قوله تعالى من قبلُ في نفس الفترة المكية: ﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴾ [ص: 88]، وقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في الآية 41 من سورة الأنبياء: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأنبياء: 41]، وقوله عز وجل عن نوح إذ يصنع الفلك وقومُه يَسْخَرون منه: ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [هود: 38، 39].

 

ثم عَقِبَ هذا التهديد المبطن للمشركين لَفَتَ الوحيُ انتباههم إلى ما حل بأقوام عرَفوهم، وسمعوا عنهم، ورأوا ما بقي من آثارهم، وبلَغَهم ما حل بهم من عذاب؛ كي يتعظوا بذلك وينتصحوا، فقال تعالى:

﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ... ﴾ والقَرْن لغة: الجيل من الناس، والقرن: القوم المقترنون في زمان من الدهر، والقَرْن: نِدُّ المرءِ ومثلُه فِي السِّنِّ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم...))[1]، والقرن في سياق هذه الآية معناه الأمَّة من الناس، أما الرؤية في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا ﴾، فتعني: الرؤية العِلمية سمعًا أو بصرًا؛ أي: ألم يعلموا بخبر مَن كان قبلهم من الأمم الذين ﴿ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ﴾؛ بسطنا لهم الدنيا، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم، ووطَّأنا لهم من السلطان ما لم نوطِّئ لكم، وتمكنوا من ناصية معاشهم قوةً ونفوذًا وعلوًّا في الأرض، بما لم تبلغوه قوةً أو قدرة أو نفوذًا أو علوًّا، حتى قالوا: ﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ [فصلت: 15].

 

ثم بيَّن الحق سبحانه بعض سننه في أسباب القوة والتمكين، فقال: ﴿ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا ﴾، ولفظ "أرسلنا" مجاز بمعنى: أنزلنا، والسماء مجازًا هي المطر، تقول العرب: "ما زلنا في سماء"؛ أي: في مطر، وتقول: "ما زلنا نطأ السماء"؛ أي: في أثر المطر، ولفظ ﴿ مِدْرَارًا ﴾ بناء تكثير يعني كثرة نزول المطر، مثل "مذكار"؛ أي: مكثار من إنجاب الذكور، ومئناث عكسه؛ أي: إن الله تعالى أنزل عليهم من السماء المطر المدرار الغزير النافع متتابعًا كلما احتاجوا إليه، والآية ظاهرها تعديد للنعم، وإن كان سياقها يحتمل العذاب والنقمة، باعتبار ما يؤول إليه أمرهم، ﴿ وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ ﴾ بأمرنا جرت الأنهار في أرضهم بما يحتاجه النماء والخِصب، إلا أنهم لم يقابلوا هذه النعم بالإيمان والشكر، بل بطروا معيشتهم، وكفروا ربهم، وارتكسوا في الذنوب والآثام، ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ فكان عاقبتهم أن أهلكهم الله وعذَّبهم بما كذبوه من الحق، وما ارتكبوه من الآثام، والهلاكُ بسبب الذنوب له مظهران كما هي سنته تعالى في الحياة: أولهما: أن تشيع الفاحشة والفساد في المجتمع، فيكون الهلاك انهيارًا ذاتيًّا في الأمة بالتدريج، ينحل به مجتمعها، وتذهب به ريحها، كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]، وثانيهما: أن يعجل الله لهم الهلاك بأوزارهم غضبًا منه عليهم، كما في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 55]، ثم عقَّب عز وجل بذكر سنته في استمرار الحياة وتجديدها، فقال: ﴿ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾، والْإِنْشَاء لغة هو: الخلق والإحداث؛ أي: وخلق الله من بعد هلاكهم قومًا آخرين غيرهم، تلك سنة الله تعالى في عمارة الأرض بإهلاك المفسدين، واستخلاف الصالحين، كلما أهلك أمَّة أنشأ من بعدها أخرى؛ دليلاً على كمال قدرته، وسعة ملكه، وإحاطة علمه، ونفاذ إرادته، فسَدَتْ أمَّة موسى عليه السلام من بعده، فاستخلف الحق سبحانه أمَّة عيسى عليه السلام، ثم بعد فسادها استخلف أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنذرها عاقبة الفساد بقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38].

 

إن عرب الجاهلية لم تكن غائبةً عنهم أخبارُ هذه الأمم الكافرة التي قصم الله ظهرها، واستبدل بها خيرًا منها، وكانت أصداء إهلاك أصحاب الفيل على باب الطائف قبل البعثة النبوية بحوالي أربعين سنة، وكانوا يمرون في رحلتي الشتاء والصيف بآثار عاد قوم هود، وبقايا ثمود قوم صالح، ومَدْين قوم شعيب، وقد قال عنهم الحق سبحانه: ﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 38]، وقال: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ﴾ [الشعراء: 128 - 136]، وقالت مدين لرسولها شعيب عليه السلام: ﴿ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ [هود: 91]، ثم بعد أن لَجُّوا في الضلال والعناد والطغيان أهلَكَ الحق سبحانه عادًا بالريح الصرصر، وثمود بالرجفة، ومدين بالصيحة، قال عز وجل عن عاد: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [فصلت: 15، 16]، وقال عن ثمود: ﴿ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [الأعراف: 77، 78]، وقال عن مدين: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ [هود: 94، 95].

 

لقد بلغ أسماعَ المشركين في مكة أخبارُ هلاك عاد وثمود وغيرهم، ورأوا قوة أبرهة الذي غزاهم في عُقْر دارهم، فلم ينقذهم منه إلا ما سلطه الله عليه من طير الأبابيل، وكانوا أضعف من هؤلاء الأقوام شوكةً وحضارةً، وأقلَّ منهم مالاً وعددًا وسلاحًا وجندًا، فلم يُغْنِهم ذلك من الله شيئًا، وباؤوا بالهلاك والبوار، قال تعالى: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 58]، وقال: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾ [الفجر: 6 - 13].

 

إن كفار قريش لم يكن ينقصهم الدليل على أن ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق؛ فالآيات بيِّنة، والمعجزات متواترة، والأدلة قاطعة، وتجارِب الأمم قبلهم متوافرة، تقرع ذاكرتهم وأسماعهم، وآثارها باقية وماثلة أمام أعينهم في رحلتَيْهم بالشتاء والصيف، ولكن تنقصهم إرادة الفهم، وقابلية الاستماع والاقتناع، وهم بموقفهم المتعنت هذا يرفضون ما نزل من الحق جملة وتفصيلاً، مهما قويت أدلته، واتضحت حججه، من غير أن يفكروا فيه أو يستوعبوه، والحق سبحانه عندما يبين لرسوله صلى الله عليه وسلم تعنتهم وتجبرهم، فإنما ليخفف عنه ألم الإعراض، ومرارة التكذيب، فلا يبتئس أو يحزن أو ييئس، وليبين له أنْ ليس عليه إلا البلاغ، وأن أمر الكفر والإيمان، والهداية والضلالة، بيده سبحانه، ومَن قضى لهم بالشقاء لن يهتدوا، ولن تزيدهم الأدلة القاطعة، والحجج البينة، إلا تماديًا في الجهل والغي والنفور، لا سيما وقد تمادى المشركون في التعنت والتحدي، وأخذوا يشنون حملات التشكيك في جوهر دعوته، والتيئيس من نجاحها، وقال له النضر بن الحارث، وعبدالله بن أبي أمية، ونوفل بن خويلد: "يا محمد، لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة، يشهدون عليه أنه من عند الله، وأنك رسوله"، فأنزل الله عز وجل قوله: ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾، والقرطاس لغة هو: الصحيفة المكتوبة، فإن لم تكن مكتوبة فهي الطِّرْس، والقرطاس - أيضًا - كل ما يُنصَب غرضًا للرماية بالسهام أو غيرها، وكانت العرب تتخذه من الأديم أو ورق البردي، فيقال: رمى فقَرْطَسَ؛ أي: أصاب الغرض، ورمى فجَرْمَزَ؛ أي: أخطأ الهدف، والتعبير القرآني بلفظ "القرطاس" في غاية الدقة والتحدي، إذ كتاب الله لو أنزل إليهم - تلبية لما سألوه - في قرطاس، ملموسًا ومرئيًّا، فَقَوَّتْ حاسةُ اللمس لديهم حاسةَ البصر، وبلغ من ظهوره لهم مبلغًا يستحيل معه الرد والمجادلة، لاتخذوه هدفًا لسهام التشكيك في مبناه ومعناه ووجوده، وقالوا - إذ لم يجدوا علة لرفضه والاعتراض عليه -: ﴿ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾، وهذا منهم منتهى العناد والتعنت، والجهل والمجادلة بالباطل، قال أبو جعفر الطبري: "وهذا إخبارٌ من الله - تعالى ذِكرُه - نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، عن هؤلاء القوم الذين يعدلون بربِّهم الأوثانَ والآلهة والأصنام، يقول تعالى ذكره: وكيف يتفقهون الآيات؟! أم كيف يستدِلُّون على بُطْلان ما هم عليه مُقِيمون من الكفر بالله وجحودِ نبوتك، بحجج الله وآياته وأدلته؟! وهم - لعنادهم الحقَّ، وبُعدِهم من الرشد - لو أنزلتُ عليك - يا محمد - الوحيَ الذي أنزلته عليك مع رسولي، في قِرْطاس يعاينونه ويمسُّونه بأيديهم، وينظرون إليه ويقرؤونه منه، معلَّقًا بين السماء والأرض، بحقيقة ما تدعوهم إليه، وصحَّةِ ما تأتيهم به من توحيدي وتنزيلي، لقال الذين يَعدِلُون بي غيري، فيشركون في توحيدِي سواي: ﴿ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾؛ أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سِحر سحرتَ به أعيننا، ليست له حقيقة ولا صحة، ﴿ مُبِينٌ ﴾، يقول: مبين لمن تدبّره وتأمَّله أنه سحر لا حقيقة له".

 

وهذه الآية امتداد من حيث المبنى والمعنى والسياق لجميع الآيات السابقة في سورة الأنعام؛ إذ الله تعالى الذي تجلت شواهد توحيده، وموجِبات حمده في خلق السموات والأرض، والظلمات والنور، وتجلى بديع صنعه وعظمة إنشائه بخلق الإنسان من طين في أحسن تقويم، والذي قدر الآجال؛ ما استأثر بعلمه منها، وما علمه الناس، والذي لا يخفى عليه سر الخلائق وجهرها وكسبها - يعلم مدى تعنت المشركين وعنادهم، وإصرارهم على الكفر، وإعراضِهم عن الحق، واستهزائِهم بالرسالة والرسول، ويعلم عدمَ اعتبارهم بما حل بأقوام قبلهم بَلَغَتْهم أخبارُ هلاكهم بذنوبهم، وأنهم لو أُنزل إليهم كتابٌ في قرطاس يلمسونه بأيديهم، ويرونه بأعينهم، لقالوا: ﴿ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾.

 

لقد سأل المشركون إنزال كتاب من السماء؛ مماراةً ومعاندةً وإغاظةً للرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يستجب الله تعالى؛ لما سبق في علمه أنهم لن يؤمنوا ولو نزل إليهم الكتاب، وقد سألوه مِن قبلُ أكبرَ من ذلك، سألوا انشقاق القمر، فرأوه فلقتين؛ إحداهما على الصفا، والثانية على المروة، وقالوا: سحر مستمر، ومن العبث مجاراة أهوائهم التي لا تنقطع، ولا تؤدي بهم إلى الإيمان، أو مسايرة رغباتهم المزاجية المنبعثة عن كراهيةٍ للحق، وحسدٍ لمن أُرسِل به، وسخط وغيظٍ من أتباعه المؤمنين؛ لأن في ذلك مخالفة لما جُبِلَ عليه الكون من نظام حكيم، ولو جرت الأمور على مشيئتهم الضالة، وأهوائهم الفاسدة، وأمزجتهم المريضة، لسارت إلى الفساد، وخرجت عن سبيل الحق الذي جُبِلَ عليه نظامها، قال تعالى: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [المؤمنون: 71]، وحسْبُهم من دعوة الإسلام أنها ميَّزت لهم الحق من الباطل، ودعَتْهم إلى الإيمان، بما لا تخفى صحته على ذوي الفِطَر السليمة، والعقول السويَّة، وأقامت عليهم الحجة بأوضح بيان وأعظم ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال: 23]، وسيبقى أهل الباطل على موقفهم هذا في محاربة دعوات الحق، ما عجزوا عن كَبْحِ جِماح أهوائهم الضالة، ومشاعرهم الرديئة، وطغيانهم الأهوج، يسير الجيل اللاحق منهم على سيرة سابقيه، قال تعالى: ﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذاريات: 53].



[1] حديث صحيح، وتمامه: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • سيل الحق وزبد الباطل
  • وقل جاء الحق وزهق الباطل
  • الصراع بين الحق والباطل
  • في رحاب القرآن الكريم
  • من سورة الأنعام: غبش الشرك على الفطرة بين البأساء والنعماء
  • من سورة الأنعام: منهج القرآن في إحياء الأمة وتنشئة أجيال الرواد
  • تأملات في سورة الأنعام (خطبة)
  • في رحاب سورة (والليل)

مختارات من الشبكة

  • وتواصوا بالحق: في رحاب سورة العصر (5) (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • وقفات مع سورة العصر: في رحاب سورة العصر (1) (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • في رحاب فضائل السور(مقالة - آفاق الشريعة)
  • وتواصوا بالصبر: في رحاب سورة العصر (4) (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • النجاة من الخسران المبين بالإيمان والعمل: في رحاب سورة العصر (3) (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • في رحاب سورة الشورى(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الخسران المبين: في رحاب سورة العصر (2) (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • في رحاب سورة الإسراء(مقالة - آفاق الشريعة)
  • في رحاب سورة الأحزاب (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • تأملات إيمانية في رحاب خواتيم سورة القصص(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 14/11/1446هـ - الساعة: 17:59
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب