التأمين والإسلام

التأمين والإسلام

اطَّلعنا على بحثٍ للدكتور محمد محمود الكاشف بعنوان: (التأمين والإسلام)، والبحث له قيمته من حيث ما عرض له من تحليل لعمليات التأمين في خطوطها الرئيسية، والهيئات التي تُمارِس هذه العمليات من هيئات حكومية وهيئات تعاونية وشركات تأمين مساهِمة.

ولقد انتهى الأستاذ الباحث إلى إجازة التأمين الذي تباشِرُه تلك الهيئات جميعًا من حيث أحكام الشريعة الإسلامية، وقصر التحريم - من وجهة نظره - على الحالات التي يتعمَّد فيها إحداث الضرر المؤمَّن ضده، أما فيما عدا ذلك، ففي رأيه أن التأمين حلال.

وفي الواقع، لقد جاء حكم الباحث بشرعيَّة التأمين في كافَّة أحواله فيما عدا الحالة المشار إليها، أقول: إنه جاء متعجلاً.

فالتأمين إذا كان على الأشخاص، فإنه يقومُ على أساس انعدامِ الصفة التعويضية في مبلغ التأمين المتفق عليه، الذي تتضمنُه وثيقة التأمين.

هذا هو المبدأ الرئيسي في التأمين على الأشخاص، وتتفرَّع عنه مبادئ هامة تسودُ هذا النوع من التأمين؛ وهي:

أ- التزام المؤمن بأي مبلغٍ للتأمين يذكر في الوثيقة باتفاق المؤمن والمستأمن.

ب- جواز تعدُّد عقود التأمين من خطر واحد، والجمع بين مبالغ التأمين الواجبة بهذه العقود.

ج- الجمع بين مبلغ التأمين والتعويض الذي قد يكون مستحقًّا للمستأمن.

د- عدم حلول المؤمن محل المستأمن في الرجوع على المسؤول.

أليس من الواضح في إطار هذه القواعد التي تحكم التأمين من الأشخاص أن أساس حساب هذه العملية لدى الشركات أو الهيئات الوسيطة، هو الإحصائيات والاحتمالات من جهة، ومن جهة أخرى استثمار حصيلة أقساط المستأمنين استثمارًا ربويًّا بالفوائد؟

وما ذُكِر في البحث في شأنِ الفتوى المنسوبة إلى الإمام محمد عبده لا شأن له بموضوع التأمين إطلاقًا؛ إذ إن الأمر عرض من قِبَل السيد هورسيل، وهو مدير شركة تأمين فعلاً، وكأن السؤال ينصبُّ على عناصر شركة المضاربة المجازة شرعًا؛ ولذلك جاء رد الإمام رحمه الله على العناصر التي يتضمَّنها السؤال، ولم يكن الرد متعلقًا إطلاقًا بعمليات التأمين، ولكن السائلَ استغلَّ هذه الفتوى استغلالاً سيئًا قاصدًا التمويه والتضليل، من أن الأمر يتعلَّق بعمليات التأمين، ولكن الواقع والحقيقة غيرُ ذلك كليةً.

يقول أستاذي الشيخ محمد أبو زهرة - رحمه الله -:

إن التأمين مغامرة، وأكل لمال الناس بالباطل وبغير حق، وإن كان عنصر المقامرة - في رأيه - ثابتًا بلا ريب في التأمين على الحياة؛ لأن فيه عنصر المخاطرة والمقامرة والجهالة، وعدم التقارب فيه بين المكسب والخسارة، والكسب بين العاقدينِ ليس بسبب عمل أو مخاطرة".

ثم يضيف - رحمه الله -:

"والمشابهة بين القمار والتأمين على الحياة تستمدُّ من حقيقتِهما؛ فحقيقتُهما واحدة؛ إذ لا يتعيَّن فيها ما يُؤخَذ، والتناسب بين ما قُدِّم وما يؤخذ ليس كاملاً ولا مقابلاً لِمَا يُؤخَذ، وفوق ذلك فيه ربًا"؛ (راجع بحثه في التطبيق الفقهي لأحكام مذهب أبي حنيفة على عقد التأمين ونظامه - لجنة البحوث الفقهية - مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر - ص 3 وما بعدها).

تأتي بعد ذلك إلى التأمين من الأضرار، وهو التأمين الذي يكون فيه الخطرُ المؤمَّنُ منه أمرًا يتعلَّق بمال المؤمِّن له لا بشخصه، وذلك بخلاف التأمين على الأشخاص الذي يكون فيه الخطر المؤمَّن منه أمرًا يتعلق بشخص المؤمِّن له لا بماله.

ويحكم التأمينَ من الأضرار مبدآن جوهريَّان:

(أ) المصلحة عنصر من عناصر التأمين من الأضرار، (وهي ليست بعنصرٍ في التأمين على الأشخاص).

(ب) صفة التعويض، فالتأمين من الأضرار له صفة التعويض، بخلاف التأمين على الأشخاص، وعلى ذلك، ففي التطبيق الوضعي لا بدَّ من وجود مصلحة اقتصادية في التأمين من الأضرار، والمقصود بالمصلحة هو أن يكون للمؤمَّن له أو للمستفيد مصلحةٌ في عدم وقوع الخطر المؤمَّن منه، ومن أجل هذه المصلحة أمن هذه الخطر.

كما يجبُ أن تكونَ هذه المصلحة اقتصاديةً؛ أي: ذات قيمة مالية؛ لأن المؤمَّنَ عليه في التأمين من الأضرار هو المال، كما يجب أن تكون هذه المصلحة غير مخالفة للنظام العام أو الآداب، وإذا لم تكن للمؤمن له مصلحةٌ في ألا يتحقق خطر معيَّن، فإنما يكون مقامرًا.

وفي موضوع شرعية الضمان الذي هو محلُّ التأمين كثُر الجدل واشتهر بين الفقهاء، ومن الناحية الشرعية هناك سؤال يطرح نفسه في هذا المقام، وهو: هل يجوز للإنسان شرعًا أن يدفعَ جزءًا من مالِه نظيرَ ضمانٍ أو تحمُّل تبعةٍ لِمَا قد ينزل به من خطر؟

وبعبارة أخرى: هل التعاقد على هذا تعاقدٌ شرعي ملزِم؟

ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الضمان لا يجوز أن يقابل بعِوَض يدفع إلى الضامن؛ (فتح القدير على الهداية، ومنتهى الإرادات ص 167، وكشاف القناع جزء 3 ص 182، وفي المستصفى للغزالي ج 2 ص 75).

وما انتهى إليه رأي الكثيرين هو أنه لا يتعيَّن التأمين على الأشياء بالصورة التي تجري عليها الشركات الوسيطة التي تتَّخِذ من التأمين وسيلةً لكسب، حتى ولو قلَّ الربح الذي تَجْنِيه؛ ذلك أن الله تعالى لم يُضيِّق الأسباب حتى لا نجد إلا الحرام طريقًا، فدفع الحاجة يمكن بإيجاد جماعات تعاونية تتعاون فيما بينها على دفع الأضرار ومجابَهة الحوادث.

ومن ثَمَّ، فالتأمين غير التعاوني لا يحكم به كأمر ضرورة أو خاص، إلا بغرضِ أنه لا يمكن أن يوجد تأمينٌ سواه؛ إذ الضرورة أو الحاجة لا تكون إلا حيث تستغلق الأمور ويتعين المحرم سبيلاً للإنقاذ؛ إذ يجب أن تخضع إرادتنا لحكم الإسلام، لا أن نجعل الإسلام طيِّعًا لما نحبُّ ونبغي.

والثابت أن التأمين على الأساس التعاوني الصحيح (أو ما يسميه البعض: التأمين التبادلي) ممكنٌ، وهو يجري بدون وساطة شركات تبتغي الربحَ من إعطائها الضمان؛ حيث يتم في الصورة التي يكون المؤمِّنون هم في ذات الوقت المستأمنين.

وما يفيض في نهاية السنة المالية يُعادُ توزيعُه على ذاتِ المؤمنين كعائدٍ لهم من أصل الاشتراك الذي دفعوه مقابلَ قيام الهيئة التعاونية بتغطيةِ المخاطر التي يرغبون التأمينَ فيها.

في هذه الصورة - وفي هذه الصورة وحدها - يكون التأمين تعاونًا حقيقيًّا، ونتفق مع الباحث بأنه يُعَدُّ جائزًا شرعًا؛ لعدم وجود هدف تحقيق ربح فيه لصالح جهاز وسيط، وإنما هو اقتصاد وتوفير في تكاليف ما يضطر الأفراد إلى التأمين عليه مما يمتلكونه من أشياء، حتى إذا ما وقع الخطر المؤمَّن منه سارع الجميع إلى المعاونةِ في تحمُّل أضرار الكارثة بتوزيع قيمة الضرر عليهم، فتخف وطأته، ويستأنف المنكوب عمله ونشاطه والانتفاع بأمواله.