الحركة العلمية القرآنية في حلب في العصر الأيوبي

الحركة العلمية القرآنية في حلب في العصر الأيوبي[1]

استقبلت حلب العهدَ الأيوبي شاكية، وودعته باكية، وما بين الاستقبال الشاكي والتوديع الباكي كان زمنٌ مليء بالأحداث والإنجازات، ومنها الحركة العلمية التي أتناول الحديث عن جانبها القرآني.

قام البحثُ على مقدمة وتوطئة ومبحثين:

تم في المقدمة ما يأتي:

أولاً: بيان حدود البحث وهي الدراسات القرآنية في الحركة العلمية التي شهدتها حلب في العصر الأيوبي.

ثانياً: تحديد هذا العصر الذي بدأ في صفر سنة 579هـ وانتهى في صفر سنة 658هـ أي لم يدم سوى 79 سنة.

ثالثاً: بيان مصادر البحث، وأنها موزعة على تواريخ حلب، وطبقات المفسِّرين والقراء ومعاجمهم، وكتب التاريخ الكلي والجزئي، والمحلي والإقليمي، والتراجم الخاصة والعامة، وفهارس الكتب والمخطوطات، مع الإشارة إلى شيء من مشكلات هذه المصادر.

رابعاً: خطة البحث وبيان أنه قام على مقدمة وتوطئة ومبحثين.

كانت التوطئة للكلام على السلطان صلاح الدين، وكيف كان رجل قرآنياً، و قلت فيها: إن موقع القرآن في نفوس أسرة بني أيوب، وأثره في أعمالهم وسلوكهم بحاجة إلى تتبع وبيان، وقد رأينا مَنْ تَتَبع شيئاً من علاقتهم بالسُّنة كالإمام الزبيدي في (ترويح القلوب بذكر ملوك بني أيوب)، ولم نرَ منْ تتبع الجانب القرآني.

أما المبحث الأول من البحث فكان عن التفسير وعلوم القرآن، وقد عرّفتُ فيه بما استطعتُ الوصول إليه من علماء التفسير والمشتغلين به وبعلوم القرآن الذين أدركوا هذا العصر، أو عاشوا فيه، وهم اثنا عشر عالماً، أربعة من أهلها وثمانية من الواردين، وهم ما بين غزوني، وسُهروردي، ومازندراني، وسنجاري، ورملي، وبغدادي، وموصلي.

وهؤلاء المفسرون تسعة منهم من أهل السُّنة، وثلاثة من الإمامية، وقد ترك ثمانيةٌ منهم إنتاجاً علمياً في هذا الشأن أحصيتُه فكان اثني عشر كتاباً، منها تفسيران كاملان، وبعض هذا الإنتاج أُلِّف قبل بدء العصر الأيوبي، وربما ألف بعضه الآخر بعده، لامتداد حياة بعضهم إلى ما بعد هذا العصر، كما إننا لا نستطيع القول بأنّ كل هذه الكتب ألف داخل حلب، وهذا ينسحب على العلماء الواردين، وعلى الحلبيين الذين غادروها بعد السقوط.

وقد بيّن البحثُ أن الموجود من الاثني عشر كتاباً نصفها، وما تزال خمسة منها مخطوطة، ولم يُطبع سوى كتاب واحد، طُبع في أوروبا قبل قرنين ونصف فهو في حكم المخطوط، وقد سعيتُ للحصول على صور منها وتأخر وصولها. ولهذا لم أتمكن من دراستها والتعريف بها تعريفاً داخلياً، لكني حاولتُ وصفها بما قاله عنها العلماء والمؤرخون.

ولا بُدّ من الاعتراف بأن هذا العصر وما قرب منه شهد في العالم الإسلامي ظهور تفاسير ما زال لها دويُّها وأهميتها إلى اليوم كـ (زاد المسير) لابن الجوزي، و(مفاتيح الغيب) للرازي، و(الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي، و(أنوار التنزيل) للبيضاوي، مما لا نجد له مثيلاً في حلب.

ولا شك أنَّ سقوط حلب بيد التتار كان كارثة على العلم والعلماء الذين أمسوا ما بين قتيلٍ بسيوفهم، أو ميت مِنْ غم احتلالهم، ومعوقٍ، وراحلٍ إلى الآفاق، وبذلك أُجهض المشروع النهضوي الذي كان... والذي خُطط له بإنشاء أكثر من ثلاثين مدرسة.. وأُجِّل إلى حين، وللزمن دورةٌ لا بد أن تأخذ مداها.

وأرجع فأقول:

لعل الكتب التي سبق ذكرُها لو حالفها الحظُّ بالإحياء والنشر لأخذتْ موقعها ولفتت الأنظارَ إليها... ونرجو أن يهتم أهلُها بها، ويولوها العناية اللازمة: بحثاً عن نسخها وتحقيقها ودراستها ونشرها.

والتذكيرُ بها هدفٌ مِنْ أهداف هذا البحث...

وقد تناول هذا المبحثُ الأول أيضاً تتمات مهمة وهي ما يأتي:

أولاً: التعريف بأربعة مفسرين من أهل حرّان، وقد ذكرتُهم في الحاشية لأخذ صورة عن التفسير في الأطراف، وإلا فهم غير داخلين في نطاق هذا البحث. وقد أدخل الشيخُ محمد راغب الطباخ تراجم أهل حران في (تاريخه).

ثانياً: أمرُ السلطة الأيوبية في دمشق بمنع الاشتغال بالمنطق وعلوم الأوائل، والبحث عن شمول حلب بهذا الأمر.

ثالثاً: محاولة رصد الكتب التفسيرية التي كانت موجودة ومتداولة في حلب في ذلك العصر، وقد تم التوصلُ إلى ستة تفاسير:

أقدمها للسمرقندي المتوفى سنة 373هـ.

وأحدثها تفسير الكواشي.

ومنها تفسير ابن برجان الأندلسي المتوفى سنة 536هـ قبل فتح حلب بثلاث وأربعين سنة، ولهذا التفسير قصة طويلة فهو الذي تحدث عن فتح بيت المقدس في سنة 583هـ، في تفسير سورة الروم، و قد رأى هذا فيه بعضُ علماء حلب، وحاول إيصال المعلومة إلى السلطان فتاقت نفسُه إلى هذا... وقد أثارت هذه المعلومة العلماء فتطلبوا هذا التفسير، منهم ابن خلكان، ومنهم ابنه موسى الذي وقع على نسخ منه في القاهرة ودمشق.

وقد وصل هذا التفسير إلى حلب مبكراً.

إن هذا الموضوع هو الوحيد الذي استطعنا الوصول إليه عن المباحثات القرآنية التي كانت تُثار في حلب.

أما الدروس التفسيرية فتسكت المصادرَ التي استنطقتها - وأحسبني أطلت الاستنطاق- عن بيان تلك الدروس التي كانت تُلقى مع أن هناك أكثر من أربعين مدرسة كانت قائمة آنذاك...

رابعاً: ولإتمام صورة الحركة القرآنية في حلب في ذلك العصر كان لا بد من رصد العلماء المفسرين الذين زاروا حلب، وقد عرفت منهم أربعة هم:

عمر السهروردي.

ومحمد المرسي.

ويوسف ابن الجوزي.

والكواشي.

ولكل منهم تفسير، وهي مابين مخطوطة ومفقودة، وتحتفظ حلب بنسخة تامة ممتازة من تفسير عمرالسهروردى مكتوبة في حياته.

ونأتي إلى المبحث الثاني وهو معقود لبيان حالة القراء والقراءات القرآنية.

وقد بين المبحث أنه إلى جانب الاشتغال بالتفسير وعلوم القرآن كان هناك اشتغال بالإقراء والقراءات، ومما يدل على هذا أتم دلالة قولُ ابن العديم: "ختمت القرآن ولي تسع سنين، وقرأت بالعشر ولي عشر سنين". وكان هذا سنة ثمان وتسعين وخمس مئة.

وقد رصد البحثُ أحد عشر عالماً مقرئاً، ثلاثة منهم مرّوا في المفسرين.

وهؤلاء: سبعة منهم من الواردين، وأربعة من أهلها - وأصول هؤلاء الذين من أهلها أيضاّ من رأس عين الخابور وتاذف وجبرين -.

أما الواردون فهم من العراق والأندلس والمغرب.

وقد عرفنا لهؤلاء القراء أربعة مؤلفات، وصل إلينا منها ثلاثة: اثنان منها في غاية الأهمية:

الأول: (اللآلئ الفريدة في شرح القصيدة) - أي قصيدة الشاطبي- للفاسي شيخ القراء في حلب.

والثاني: (القصيدة المالكية في القراءات) لابن مالك الذي تصدر للتدريس في حلب مُدّة.

وحصلتُ على صورةٍ من قصيدة ابن مالك، وعليها إجازتان للمقرئ الحلبي محمد بن منصور الحاضري إذ قرأها عليه بعد سقوط حلب بسبع سنوات، هذا نصُّ إحداهما:

(قرأ عليّ جميع هذه القصيدة الموسومة بالمالكية الفقيهُ النبيهُ الفاضلُ المقرئُ النحويُّ المتقنُ المحققُ شمس الدين أبو عبدالله محمد بن منصور بن موسى بن محمد الحلبي الشافعي، نفعه الله بالعلم والعمل، وبلغه منهما السؤل والأمل، فأجزت له أن يرويها عني مقبولاً منه، مرضيا عنه، فأهليته بينة، والشهادة له متعينة.

وكتب محمد بن عبدالله بن عبدالله بن مالك الطائي الجياني في الخامس والعشرين من رمضان، سنة خمس وستين وست مئة، والحمد لله وصلواته على محمد وآله وسلامه).

أما الكتاب الأول (اللآلئ الفريدة في شرح القصيدة) فقد ألف سنة (654هـ)، وله أكثر من عشرين نسخة في المشرق والمغرب.

منها نسخة كاملة كانت في المدرسة الأحمدية بحلب، كتبت سنة (697هـ) بدمشق، عن نسخة كتبت عن أصل المصنف، وقرئت على تلميذه بدر الدين التاذفي الحلبي.

كما يوجد نصف الكتاب في الخزانة الطلسية في حلب.

وهذا الكتاب وصفه الذهبي بأنه مفيد في غاية الحسن.

هذا، وقد تناول هذا المبحثُ بيان أماكن تدريس القراءات كـ: المدرسة الظاهرية البرّانية، والفردوس، والجامع الكبير.

و تناول بيان كتب القراءات المتداولة في حلب، وقد أفادنا القفطي فائدة جميلة بقوله: (رأيت كتاباً في القراءات معللاً ليس بالكبير، لأحمد بن مطرف الطائي، يدل على فضل وتضلع من العربية، شاهدته في حلب يباع في مجلدين متوسطين).

كما تم التطرق إلى كتّاب المصاحف، وبعض عادات أهل حلب في قراءة القرآن في ترب الراحلين، ولهذا ارتباط فقهي...

ويبدو لي أن هذا الجانب كان أميز من الجانب الأول والعناية به أكثر، وإذا طُبع ما وصل إلينا من كتب في هذا الشأن – ولم يطبع منها شيء بعد أيضاً - ستكون الصورة عندئذ أجلى.

ولا بد أن أشير إلى شيء مهم تمَّ الكشف عنه في هذا المبحث، وهو رصد الأخطاء التي وقع فيها المؤرخون والمفهرسون، ومن ذلك:

ترجمة مقرئ حلب ابن الجبراني ثلاث مرات دون الانتباه إلى أنه شخص واحد!

ومنها الكشف عن تحريف لحق نسبة شيخ القراء في حلب الفاسي الذي تحول إلى القاسمي وإلى الفارسي!!

توصيتي في ختام كلمتي:

1- أن تتولى جامعةُ حلب حسب كلياتها ومعاهدها إظهارَ هذه الكتب إلى الوجود.

2- أنْ تُنشأ مكتبة تحت اسم: (مكتبة حلب) تشتمل على كل ما ألف في هذه المدينة، وألف عنها، وقد بيع إلى مكتبة الإسكندرية في القرن الماضي أكثر من ألف مخطوط من حلب فيها الكثيرُ من هذه الكتب.