بعض أحكام الاستعاذة

بعض أحكام الاستعاذة

قال شيخنا عثمان سليمان مراد - رحمه الله - في السلسبيل الشافي: "باب الاستعاذة"، والباب لغةً: ما يكون منه الدخول والخروج، وشبَّه الناظم - رحمه الله - هنا الدخول إلى الخوض في مسائل مخصوصة من أحكام التجويد بالدخول في الأماكن المحسوسة، ثم أثبت لها الباب.

والاستعاذة مصدر الفعل استعاذ؛ أي: طلب العوذ والعياذ، وهو اللجء والتحصن، والاعتصام والامتناع، يقال: عاذ به يعوذ عوذًا؛ يعني: التجأ إليه وتحصن به، فإذا قلت: أعوذ بالله، فكأنك تقول: ألجأ إلى الله، وأتحصن به، وأعتصم به.

والاستعاذة من العبادات القولية التي ينبغي أن يُفرَد الله - تعالى - بها كغيرها من العبادات، وجملة القول فيها: أنه لا يستعاذ إلا بالله وحدَه، فمن استعاذ بغيره - تعالى - فقد أشرك، والكلام عن الاستعاذة - وغيرها من العبادات - مفصل في بحثي الثالث: توحيد الألوهية، من سلسلة بحوث: عون الرحمن في شرح أركان الإيمان، تحت عنوان: كيف نحقق توحيد الألوهية؟

وصيغة الاستعاذة ما جاء به التنزيل: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وهذا هو المختار والمشهور عند جميع القراء، وهذا هو الذي عليه عامة الفقهاء أيضًا، غير أنه قد جاءت بعض الصيغ - التي فيها زيادة على الصيغة المذكورة أو نقص - عن أئمة القراءة وأهل الأداء، ومن هذه الصيغ:

1- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

2- أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم.

3- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم.

4- أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم.

إلى غير ذلك مما ورد في الزيادة، أما النقص، فلم يرد فيه إلا صيغة واحدة؛ وهي: أعوذ بالله من الشيطان.

والاستعاذة لها مجموعة أحكام، أتناول في بدايتها: حكمها من حيث الوجوب والاستحباب.

قال الله - تعالى - في سورة النحل: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98]، واتفق العلماء على أن الاستعاذة مطلوبة من مريدي القراءة، ولكنهم اختلفوا في حكمها؛ فالجمهور على أنها مطلوبة على سبيل الاستحباب، وقالوا: إن الأمر الوارد في الآية للندب، وعليه فلا يأثم تاركها، وقال غير الجمهور: إنها مطلوبة على سبيل الوجوب؛ إذ الأمر الوارد في الآية للوجوب، ولا صارف له إلى الندب، وعلى هذا القول يأثم تاركها.

ويبدو - والله أعلم - أن الدليل في جانب غير الجمهور؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب، ما لم توجد قرينة تصرفه عنه، ولا قرينة هنا، فبقي على الأصل.

وأما عن موضع الاستعاذة، فهي تكون قبل القراءة، ويكون معنى الآية: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98]؛ أي: إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، ومثال ذلك قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ... ﴾ [المائدة: 6]؛ أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا.. فيكون الغسل قبل الصلاة، وليس بعدها، وكذلك الاستعاذة تكون قبل القراءة لا بعدها.

ثانيًا: حكم الاستعاذة من حيث الجهر والإخفاء:

لا خلاف بين أهل الأداء في الجهر بالاستعاذة عند افتتاح القراءة، وعند الابتداء برؤوس الأحزاب إذا كانت القراءة جهرًا بحضور من يسمع، أما إذا كانت القراءة سرًّا، فإنه يُسرُّ بها، وإذا قرأ خاليًا جهرًا أو سرًّا، فإنه يسر بها، وقراءتها في الصلاة السرية أو الجهرية تكون سرًّا، وإلى ذلك أشار صاحب إتحاف البرية بقوله:

إذا ما أردتَ الدَّهرَ تقرأ فاستعذْ وبالجهرِ عند الكلِّ في الكلِّ مُسجَلا بِشَرطِ استماعٍ وابتداءِ دراسةٍ ولا مخفيًا أو في الصلاةِ ففصِّلا

أما إذا كانت القراءة في جمع بالدَّور، فيجهر المبتدئ، ويُسر سواه، والله أعلم.

أحكام اقتران الاستعاذة بأول السورة:

قال شيخنا - رحمه الله -:

6 - يجوزُ إن شرعتَ في القراءةِ أربعُ أوجهٍ للاستعاذةِ 7 - قطعُ الجميعِ ثم وصلُ الثاني ووصلُ أولٍ ووصلُ اثنانِ

فإذا شرعت في القراءة بأول السورة، فباستثناء سورة براءة، يجوز لك أربعة أوجه:

1- قطع الجميع؛ أي: الوقوف على الاستعاذة، ثم على البسملة، ثم الابتداء بأول السورة؛ مثال ذلك: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم * بسم الله الرحمن الرحيم * قل هو الله أحد) وشاهده قوله - رحمه الله -: "قطع الجميع".

2- قطع الأول ووصل الثاني بالثالث؛ أي: الوقوف على الاستعاذة، ووصل البسملة بأول السورة، فتقرأ: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم * بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد)، وشاهده: "وصل الثاني"؛ أي: وصل الموضع الثاني، الذي هو ما بين البسملة وأول السورة.

3- وصل الأول بالثاني وقطع الثالث؛ أي: وصل الاستعاذة بالبسملة، ثم الوقوف، ثم الابتداء بأول السورة، فتقرأ: (أعوذ بالله من الشيطان الرحيم بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾)، وشاهده: "ووصل أول"؛ أي: وصل الموضع الأول، الذي هو ما بين الاستعاذة والبسملة.

4- وصل الجميع؛ أي: وصل الاستعاذة بالبسملة بأول السورة، فتقرأ: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾)، وشاهده: "ووصل اثنان"؛ أي: وصل الموضعين اللذين هما ما بين الاستعاذة والبسملة، وما بين البسملة وأول السورة.

وكلمة "اثنان" قرأتها هكذا على شيخنا عبدالفتاح مدكور - حفظه الله - وهكذا سمعتها: "اثنان" بألف ونون، وهي كذلك في المخطوطة والمطبوعة، وكان الأَولى أن يقول: اثنين مجرورًا بالياء على اللغة المشهورة؛ حيث إن المثنى وملحقاته يرفع بالألف، وينصب ويجر بالياء، وهو أشهر المذاهب الصحيحة وأقواها، إلا أن هناك لغةً أخرى صحيحة ومشتهرة تلزم المثنى وملحقاته عدا (كلا - كلتا) الألف في جميع أحواله، مع إعرابه بحركات مقدَّرة عليها، وبعدها النون مكسورة غير منوَّنة، كما أوضح ذلك الأستاذ/عباس حسن في النحو الوافي، فتقول: عندي كتابان نافعان، واشتريت كتابان نافعان، وقرأت في كتابان نافعان، وهذه مسألة نَحْوية مهمة جدًّا، فانتبه إليها.

وأما سورة براءة، فيجوز فيها وجهان، وهما قطع الجميع؛ أي: الوقوف على الاستعاذة، ثم الابتداء بأول السورة من غير بسملة، والوجه الثاني: الوصل؛ أي: وصل الاستعاذة بأول السورة في نَفَس واحد.

أحكام اقتران الاستعاذة بغير أول السورة:

إذا ابتدأ القارئ من أثناء السورة، فهو مخيَّر بين الإتيان بالبسملة بعد الاستعاذة وبين تركها؛ لأن شيخنا الناظم - رحمه الله - وضع نظمه في رواية حفص من طريق الشاطبية عن عبيد بن الصباح عن حفص، لكن مَن يقرأ مثلاً من طريق الطيبة بطريق الفيل عن عمرو بن الصباح عن حفص، أو زرعان عن عمرو بن الصباح عن حفص، فالبسملة عندهما في وسط السورة واجبة للتبرك، ولعلي - إن شاء الله - أشير إلى بعض الطرق الأخرى لحفص فيما بعدُ تعليمًا ونشرًا بين الطلاب، وتنبيهًا على مسألة الخلط بين الطرق، والله المستعان.

فإن أتى القارئ بالبسملة، جاز له الوجوه الأربعة السابقة التي في أول السورة، وإن لم يأتِ بالبسملة جاز له وجهان فقط، وهما قطع الجميع؛ أي: الوقوف على الاستعاذة، ثم الابتداء بأول الآية، فتقول مثلاً: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾).

والوجه الثاني: وصل الجميع؛ أي: وصل الاستعاذة بأول الآية، فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾).

ووجه القطع أولى، خاصة إذا كان أول الآية لفظ الجلالة، أو كلمة رب، أو ضمير يعود عليه؛ لما في وصله بالاستعاذة من البشاعة، وإيهام رجوع الضمير إلى الشيطان، أو إيهام كونه صفة للشيطان؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ﴾ [فصلت: 47]، وقوله: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ﴾ [الأنعام: 59]، وقوله: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، وقوله: ﴿ وَهُوَ الَّذِي ﴾ [الأنعام: 60] أينما وجدت.

وقد أكَّد بعض العلماء ذكر البسملة بعد الاستعاذة - من طريق الشاطبية - في مثل هذه الحال في قوله: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [البقرة: 255].

كذلك يُمنع وصل الاستعاذة بأول الآية إذا كان المبتدأ به اسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في قوله - تعالى -: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﴾ [الفتح: 29]؛ لِمَا فيه من البشاعة أيضًا.

ويمنع أيضًا وصل البسملة في قوله - تعالى -: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ﴾ [البقرة: 268]، وقوله: ﴿ لَعَنَهُ اللَّهُ ﴾ [النساء: 118]، ونحوهما؛ لما فيه من البشاعة أيضًا، وإيهام الصفة.

وسورة براءة يخيَّر القارئ عند الابتداء من أثنائها بين أن يأتي بالبسملة أو لا، كغيرها من السور، ولك ذلك من طريق الشاطبية، وأما عن وجه عدم كتابة البسملة في أولها، فثَمَّة اختلاف، والأكثرون على أنه لسبب نزولها بالسيف، وذهب البعض إلى احتمال كونها من الأنفال، والأول أشهر لروايته عن عبدالله بن عباس وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة.

س: ما الذي يترتب على القارئ إذا قطع قراءته ثم عاد إليها؟

ج: إذا عرض للقارئ أمر ضروري؛ كسعال، أو عطاس، أو تثاؤب، أو كلام له صلة بالقراءة، فإنه لا يعيد الاستعاذة، أما إن كان العارض أجنبيًّا؛ كأكل، أو شرب، أو رد سلام، ونحوها، أعاد الاستعاذة، وكذلك لو قطع القراءة منتهيًا ثم عاد إليها.

س: ما الذي يلزم الجماعة إذا قرؤوا آية واحدة؟

ج: الاستعاذة تكون حينئذٍ مطلوبة من كل واحد منهم؛ لأن المقصود اعتصام القارئ بالله من الشيطان الرجيم، والواجب هنا عيني لا كفائي، فلا يكون واحد كافيًا عن آخر، وهذا بخلاف القراءة بالدور، والله تعالى أعلى وأعلم.