تحقيق حديث: أحج عن أبي؟

تحقيق حديث:
"أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله! أحج عن أبي؟
فقال: "نعم؛ إن لم تزده خيراً؛ لم تزده شراً"

الحديث خرجه الإمام الألباني -رحمه لله- في "الضعيفة" رقم (5967):

قال الإمام الألباني -رحمه الله- (12/938):"منكر.

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (12/245): حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل: ثنا أبي: أنا عبد الرزاق: أنا سفيان الثوري عن الشيباني عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أحج عن أبي؟ فقال: "نعم؛ إن لم تزده خيراً؛ لم تزده شراً":

قلت -أي الألباني-: وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات؛ لكن المتن منكر، أو على الأقل شاذ؛ لمخالفته كل الطرق المروية عن ابن عباس رضي الله عنهما في السؤال المذكور... أقول: ومع ذلك - ليس في شيء منها هذه الزيادة: "إن لم تزده خيراً؛ لم تزده شراً". فدل ذلك على نكارتها أو شذوذها.

فإن قيل: فممن العلة؟

قلت: قد بينها الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-  في كتابه القيم "التمهيد" (9/129):"أما هذا الحديث فقد حملوا فيه على عبد الرزاق؛ لانفراده به عن الثوري من بين سائر أصحابه، وقالوا: هذا حديث لا يوجد في الدنيا عند أحد بهذا الإسناد؛ إلا في كتاب عبـد الرزاق، أو في كتاب من أخرجه من كتاب عبد الرزاق، ولم يروه أحد عن الثوري غيره وقد خطأوه فيه، وهو عندهم خطأ، فقالوا: هذا لفظ منكر لا تشبهه ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر بما لا يدري هل ينفع أم لا ينفع ؟".ثم روى بإسناده عن عبيد بن محمد الكشوري أنه قال: "لم يرو حديث الشيباني عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس أحد غير عبد الرزاق عن الثوري ولم يروه عن الثوري لا كوفي ولا بصري ولا أحد". والحديث؛ لم أره في " مصنف عبد الرزاق " المطبوع، وفيه خرم كبير في بعض كتبه مثل "المناسك"، و"الطهارة". وليس في "مسند أحمد"؛ فالظاهر أنه رواه في بعض كتبه الأخرى، ولا هو في " مجمع الزوائد " مع أنه على شرطه! فلعله لم يورده؛ لأن الجملة الأولى منه في " الصحيحين " كما تقدم. والله أعلم. ثم رأيت الحديث قد عزاه الحافظ في "الفتح" (4/70) لعبد الرزاق، ثم ضعفه بقوله:
"جزم الحفاظ بأنها رواية شاذة "". انتهى كلامه رحمه الله.

قال مقيده عفا الله عنه: لي مع كلام الإمام الألباني -رحمه الله- وقفات:

الوقفة الأولى: أن الإمام فاته أن الحديث أخرجه ابن ماجة في "سننه" (2904) قال: حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ثنا عبد الرزاق أنبأنا سفيان الثوري عن سليمان الشيباني عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس مرفوعاَ به:

ثم إن الإمام صححه في تحقيقه على "سنن ابن ماجة" حيث قال: "صحيح الإسناد" [1].

فجرى على ظاهر الإسناد، ولم يلتفت إلى نكارة أو شذوذ المتن، ثم غفل في "الضعيفة" عن صنيعه في "سنن ابن ماجة"!  فجلّ من لا يسهو ولا ينسى.

والحديث من زوائد ابن ماجة؛ ولذا أورده البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/10) وقال: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات وسليمان هو ابن فيروز أبو إسحاق...". فجرى هو الآخر على ظاهر الإسناد فصححه!

وتابع الأستاذ نبيل سعد الدين جرار في تحقيق  "المخلصيات" (2737) الإمام الألباني على التصحيح حيث قال: "أخرجه ابن ماجه (2904)، والطبراني (13009)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 100) من طريق عبد الرزاق به. وصححه الألباني".

وعليه فالحديث ليس على شرط الهيثمي في "مجمع الزوائد"؛ لإخراج ابن ماجة له، لا كما قال الإمام:" ولا هو في "مجمع الزوائد" مع أنه على شرطه! فلعله لم يورده؛ لأن الجملة الأولى منه في "الصحيحين"".

والحديث أخرجه أيضاً الفاكهي في "أخبار مكة" (826)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/100)، وأبو طاهر المخلص في "المخلصيات" -الجزء الحادي عشر انتقاء ابن أبي الفوارس- رقم (2736)، وابن حزم في "حجة الوداع" (534)، من طرق عن عبد الرزاق بهذا الإسناد.

الوقفة الثانية: أن كلام ابن عبد البر في "التمهيد"، ذكره أيضاً في "الاستذكار" (4/166).

الوقفة الثالثة: أن مفاد كلام الحافظ ابن عبد البر وغيره أن الحديث تفرد به عبد الرزاق عن الثوري، وأنه أخطأ فيه، ولذا قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (4/ 166):"لما لم يوجد عند من هو أعرف بالثوري من عبد الرزاق مثل: القطان وابن مهدي ووكيع وأبي نعيم وابن المبارك والفريابي والأشجعي وغيرهم علم أن عبد الرزاق قد وهم فيه لفظاً وأشبه عليه". وقال أيضاً في "التمهيد" (9/130):"ولكنه حديث لا يوجد عند أصحاب الثوري الذين هم أعلم بالثوري من عبد الرزاق مثل: القطان وابن مهدي وابن المبارك ووكيع وأبي نعيم وهؤلاء جلة أصحاب الثوري في الحديث".

ولكن غيرهم نظر إلى تفرد الثوري عن الشيباني، فقد قال أبو نعيم عقب إخراج الحديث: "غريب من حديث يزيد تفرد به الثوري، عن الشيباني وهو أبو إسحاق واسمه سليمان بن فيروز تابعي من أهل الكوفة". وقال ابن القطان في "بيان الوهم" (5/458):"وممن قال بهذا البزار، قال: لا نعلم رواه إلا الثوري، ولا عن الثوري إلا عبد الرزاق، فجعل المنفرد به الثوري".

والذي ظهر لي أن الحديث مداره على الشيباني وقد اختلف عليه فيه:

فرواه عبد الرزاق عن الثوري عن الشيباني عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس مرفوعاً.

ورواه علي بن مسهر ويحيى بن المهلب عن الشيباني عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس به موقوفاً.

كما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" كتاب الحج: في الحج يموت ولم يحج، أيُحَجُ عنه؟ (15331): حدثنا علي بن مسهر عن الشيباني عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال سأله رجل: إن أبي مات ولم يحج قط أفأحج عنه؟ قال: "نعم؛ فإنك أن لم تزده خيراً لم تزده شراً".

وعلي بن مسهر ثقة روى له الجماعة. وثقه ابن معين، وأبو زرعة، والعجلي، والنسائي، وابن سعد، وقال ابن حبان: من متقني أهل الكوفة، وقال الإمام أحمد: صالح الحديث أثبت من أبى معاوية الضرير في الحديث. وقال في رواية: حديثه حديث أهل الصدق. وقال أيضاً: صالح الحديث صدوق. وقال أيضاً: يشبه حديثه حديث أصحاب الحديث [2].

وقد تابع علي بن مسهر، يحيى بن المهلب، عند محمد بن الحسن في "الحجة" (2/235) قال: أخبرنا أبو كدينة يحيى بن المهلب البجلي عن أبي إسحاق الشيباني عن يزيد بن الأصم قال كنت جالساً عند ابن عباس إذ جاء رجل فقال: إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه؟ قال: نعم فإنك إن لم تزده خيراً لم تزده شراً.

ويحيى هذا وثقه أحمد، وابن معين، وأبو داود، والعجلي، وابن سعد، ويعقوب بن شيبة، والنسائي، وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: "ربما أخطأ". وقال الدار قطني في "سؤالات البرقاني": "يعتبر به، وقال في "سؤالات الحاكم: "ضعيف". وحكم بالوهم على أبي كدينة في حديث حيث قال في "العلل" (5/236):"وهذا القول وهم من أبي كدينة". والذي يظهر لي أن وجود توثيق من وثقه يمنع أن يحكم عليه بالضعف، ولكن لا يمنع التوثيق من وقوعه في الخطأ والوهم، فيقال عنه: "ثقة ربما أخطأ". ولعل ما قيل فيه جعل الحافظ يقول في "الفتح" (7/152): "وهو كوفي موثق". وقال في "التقريب": "صدوق". وقد روى له البخاري، والترمذي، والنسائي. وقال الحافظ  في "الفتح" (7/152):"ماله في البخاري سوى هذا الموضع"[3].

فمن الطرق السابقة: نجد أن الرواية المرفوعة رواها عبد الرزاق، وقيل: تفرد عن الثوري برواية هذا الحديث، فلم يروه عن الثوري عن الشيباني غيره، وقد رفعه، ولهذا قالوا بخطأ عبد الرزاق في هذا الحديث.

ولكن وجدنا أن الشيباني رواه عنه علي بن مسهر، ويحيى بن المهلب، فأوقفاه.

فظهر من ذلك وجه من يقول: إن المتفرد به مرفوعاً هو الثوري، عن الشيباني. كما هو ظاهر قول: البزار، وأبي نعيم.

فقد يقال: إن الثوري هو الذي أخطأ في رفعه، لا عبد الرزاق. ولكن خطأ عبد الرزاق هو الأقرب، فتعصيب الخطأ به أولى من الثوري.

وسواء كان الخطأ في الرفع من عبد الرزاق أم من الثوري، فإن برواية الوقف تبين خطأ الرفع،  وعليه فإن رواية الوقف هذه أشبه بالصواب. والله أعلم.

ثم بعد كتابة هذا بزمن وقفت على ما كتبه الشيخ الفاضل محمد حاج عيسى الجزائري -حفظه الله- في "أحاديث ضعيفة في كتاب الحج" باب: "النيابة في الحج والحج عن الميت"، فقد كتب بنحو ما كتبت، مختصراً، وأنا أذكر ذلك، لما أشترطه على نفسي في كتابي: "النكت الدواني على مصنفات الإمام الألباني" [لم يطبع بعد]، أن أذكر من نبه قبلي على خطأ الإمام أو رجوعه عن الخطأ؛ ولا يعكر ما كتبه الشيخ الفاضل على ما سطرته؛ لأن ما ذكرته هو مناقشة ما ذهب إليه الإمام الألباني -رحمه الله- بتوسع، على خلاف الشيخ محمد حاج -حفظه الله- الذي اكتفى بالإشارة إلى ذلك ولم يفصل.

وسوف أذكر ما قاله الشيخ محمد ليتضح المراد فقد قال: "الحديث التاسع: عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحج عن أبي قال: نعم حج عن أبيك فإن لم تزده خيراً لم تزده شراً.

أخرجه ابن ماجة (2904) الطبراني (12/245) أبو نعيم (4/100) من طرق عن عبد الرزاق أنبأنا سفيان الثوري عن سليمان الشيباني عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس مرفوعاً.

وهذا سند ظاهره الصحة لكنه معلول بالوقف انفرد عبد الرزاق برفعه، وقد رواه علي بن مسهر عن الشيباني عند ابن أبي شيبة (15117) ويحيى بن المهلب عند الشيباني في الحجة (2/236) عن سليمان الشيباني عن يزيد عن ابن عباس قال: سأله رجل فقال إن أبي مات ولم يحج قط أفأحج عنه قال نعم فإنك إن لم تزده خيرا لم تزده شراً.

قال ابن عبد البر في الاستذكار (4/166):"هذا الحديث قد أنكروه على عبد الرزاق وخطؤوه فيه؛ لأنه حديث لم يروه أحد عن الثوري غيره فلا يوجد في غير كتاب عبد الرزاق، وقالوا: هذا حديث منكر لا يشبه ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم ومحال أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يدري أينفع أم لا". وقال نحوه في التمهيد (9/129).

تنبيه:
قد ورد هذا الحديث في صحيح ابن ماجة للألباني وقال فيه: صحيح الإسناد، لكنه قد تراجع عن ذلك في ما يظهر في السلسلة الضعيفة رقم (5967)". انتهى كلامه.

ما كتبته نقلاً من كتابي: "النكت الدواني على مصنفات الإمام الألباني".