• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    من آداب المجالس (خطبة)
    الشيخ عبدالله بن محمد البصري
  •  
    خطر الميثاق
    السيد مراد سلامة
  •  
    أعظم فتنة: الدجال (خطبة)
    د. محمد بن مجدوع الشهري
  •  
    فضل معاوية والرد على الروافض
    الدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري
  •  
    ما جاء في فصل الشتاء
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الرحمن، ...
    فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
  •  
    تفسير: (فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    تخريج حديث: إذا استنجى بالماء ثم فرغ، استحب له ...
    الشيخ محمد طه شعبان
  •  
    الخنساء قبل الإسلام وبعده
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    اختر لنفسك
    د. حسام العيسوي سنيد
  •  
    فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون (خطبة) - باللغة ...
    حسام بن عبدالعزيز الجبرين
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أحكام شهر ذي القعدة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / روافد
علامة باركود

عرض للخلاف بين المدارس الفقهيَّة

الأستاذ محي الدين عبدالسلام البلتاجي

المصدر: كتاب "موقف الإمام الشافعي من مدرسة العراق الفقهية"
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 15/11/2008 ميلادي - 16/11/1429 هجري

الزيارات: 18997

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

عرض للخلاف بين المدارس الفقهيَّة

 

إن الخلافَ الذي يَعْرِض له الإمامُ الشافعي في مواضعَ عدةٍ في كتابه "الأم"، والذي قام بين الرُّوَّاد الأُوَّلِ مِن فُقهاء الصَّحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، والذي انتقل إلى الفُقهاء مِن بعدهم، حتى غدا للفقه مدارس، لكلٍّ منها طابَعٌ مُمَيَّزٌ، واتجاه مخالِفٌ للاتجاه الذي تسير عليه المدرسة الأخرى في كثيرٍ منَ المسائل، وظهور تلك الاتجاهات المذهبيَّة، التي تعددتْ في المدرسة الواحدة، حتى أصبح في كلِّ مدرسة أكثر مِنَ اتجاه، هذا الخلافُ الذي عقد له الإمام عدَّة فصول في "الأم"، منها:

كتاب: "ما اختلف فيه أبو حنيفة، وابن أبي لَيْلى عن أبي يوسف"، وكتاب: "اختلاف علي وعبدالله بن مسعود"، وكتاب: "اختلاف مالك والشافعي"، وباب: "خلاف ابن عباس في البُيُوع"، وباب: "خلاف زيد بن ثابت في الطلاق"، وباب: "خلاف عمر بن عبدالعزيز في عُشُور أهل الذِّمَّة"، وباب: "خلاف سعيد وأبي بكر في الإيلاء"، وكتاب: "الرد على محمد بن الحسن"، وكتاب: "سِيَر الأوزاعي"، إلى غير ذلك منَ الكُتُب والأبواب التي وردت في "الأم"، إنما يرجع إلى أسباب عدة تمتد إلى عصر الصحابة، وتلك الأسباب التي قام عليها الخلاف عَرَضَ لها القدامى والمُحدَثون منَ الدارسين والباحثين بالبحث، إلاَّ أنهم لم يأتوا فيها على الغاية، ولم يوفّوها حقَّها، أو بعبارة أخرى: غابَتْ عنهم بعضُ المواضع، التي كانتْ منَ الأسباب الأساسيَّة في الخِلاف، وليس معنى ذلك أنَّنا نُقَلِّل منَ الجهد الذي بُذل في هذا الميدان على أيدي العامِلينَ فيه منَ القدامى والمحدثين على السَّواء، وإنما نقول هذا؛ لأنَّنا وَجَدْنا بعض أشياء قد غابت عنهم، أو لأنهم عَلَّلوها بطريقٍ غير صحيحة؛ ولذا سنحاول هنا أن نعرضَ لهذه الأمور بالتحليل، ونحاول أن نرجعَها إلى الأسباب الحقيقيَّة التي أوجدتها، والتي عملت على إثارتها، كما سنُحاوِل أن نردَّها إلى العوامل الحقيقيَّة في تكوينها.

ولكنَّنا قبل أن نبدأَ هذا، سنتناول ما عرضوا له، مُبيّنين وجه الحق فيه، خلال هذا العرض السريع لما ثار من خلاف بين المدارس الفقهيَّة المختلفة، وإنَّا لَنَجِد ابن حزم يرجع هذا الخلاف إلى تفرُّق الصحابة للجهاد، وطَلَب المعاش، وعدم جلوسهم إلى النبي - صلوات الله وسلامه عليه - بصفةٍ دائِمةٍ، ثم تَفَرُّقهم على عهد أبي بكر إلى حُرُوب الخارجينَ والمتنبِّئة والمُرتدِّين عن الإسلام، يقول: "فكانتِ الحكومة تنزل في المدينة أو غيرها منَ البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَثَرٌ حُكِمَ به، وإلاَّ اجْتَهَدَ أمير تلك المدينة في ذلك، وقد يكون في تلك القضيَّة حُكْمٌ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - موجودٌ عن صاحب آخر في بلدٍ آخر، وقد حضر المَدَنِي ما لم يحضرِ المصري، وحَضَرَ المصري ما لم يحضرِ الشامي، وحَضَرَ الشامي ما لم يحضرِ البصري، وحَضَر البصري ما لم يحضرِ الكوفي، وحضر الكوفي ما لم يحضرِ البصري، كلُّ هذا موجودٌ في الآثار، وفي ضرورة العلم بما قَدَّمْنا مِن تغيُّب بعضهم عن مَجْلسِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأوقات، وحُضُور غيره، ثم تغيُّب الذي حَضَر أمس، وحضور الذي غاب، فيدرس كلُّ واحد منهما ما حضر، ويفوته ما غلب عنه، هذا معلوم ببدهيَّة العقل[1].

والواقع أن هذا الذي أشار له ابن حزم كان من أسباب الخلاف المُهمَّة، فنحن نعلم يقينًا أنَّ الصحابة لم يَتَفَرَّغوا للجُلُوس عند الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان منهم المجاهد، وكان منهم التاجِر، وكان منهم المُشْتغل بزراعته، وأنَّ القلة القليلة التي دأبتْ على حضور مَجْلِسه مِن أمثال أبي هريرةَ - رضيَ الله عنه - وغيره قضوا معظم حياتهم بالمدينة لم يبرحوها، وأن الذين خرجوا للجهاد من صحابته كانوا هم المرجعَ للأجناد في الحكم في المسائل التي تَجِدُّ؛ باعتبارهم أول المتلقِّين عنه، وأن منهم مَنِ استقرَّ في بيئات تبعد عن مقام الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - واستقلَّ بالإفتاء فيها على مبلغ علمه، وأنَّ الكثير منَ الآثار التي حَكَم فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان متغيبًا عنه؛ لبُعده عن هذه الأحداث؛ ولانشغاله بما هو فيه من جهاد، وإن بقيَ من هؤلاء الصحابة في المدينة، وشَغَلَهُ الاتجار والمُزَارعة عن تَتَبُّع أحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يَجِدُّ من مسائل - كان الآخر على غير إِلمامٍ بها ككلٍّ، وإنما كان يجتمع لأحَدهم الحُكْم والحُكْمان والثلاثة، ويكثر أو يقل محصولُه مِن هذه الآثار؛ تبعًا لقُربهِ مِن مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو بُعده عنه، وهذا الأمر قد تَرَتَّب عليه أنِ انفرَدَ بعضهم بأحكامٍ دون بعض، وأنَّ مَن كان منهم يوفد إلى بيئة، كان يُفتِي بما عنده مِن أحكام؛ حتى إذا عرض له أمر ليس فيه لديه حكمٌ، اجْتَهَدَ فيه رأيَه، مُتَأَسِّيًا بما وَجَّه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى اليمن، مِن طَلَب الأحكام في كتاب الله، فإن لم يكنْ ففي سنة نبيه، فإن لم يكنْ فاجتهاد بالرأي، مع مُسايرة روح الشريعة التي أشْربَتْها نفوس الصحابة الأُوَل بين يدي الوحي والمُوحَى إليه.

وقد تَأَيَّدَ لدينا الآن - بعد ذلك التحليل المُوجز - لما ذهب إليه ابن حزم، مِن أن تفرُّق الصحابة في الجهاد والمتاجرة والمُزارعة - كان ذا أَثَر في اختلاف ما اجتمع لهم مِن أحكام في المسائل، قلة وكثرة، وقد عاود ابن حزم الإشارة إليه بقوله: "وقد كان عِلم التَّيَمُّم عند عَمَّار وغيره، وجَهِلَهُ عمَر وابن مسعود، فقالا: لا يَتَيَمَّم الجُنُب، ولو لم يجدِ الماء شهرين، وكان حكم المَسْح عند علي وحُذيفة - رضي الله عنهما - وغيرهما، وجَهِلَتْه عائشة، وابن عمر، وأبو هريرة، وهم مَدَنِيُّون، وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود، وجَهِله أبو موسى، وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى، وعند أبي سعيد، وأُبَي، وجَهِله عمر، وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوفَ عند ابن عباس، وأم سُليم، وجَهِله عمر، وزيد بن ثابت، وكان حكم تحريم المُتعة والحُمُر الأهليَّة عند علي وغيره، وجَهِلَه ابن عباس، وكان حكم الصَّرف عند عمر، وأبي سعيد، وغيرهما، وجَهِلَه طلحة، وابن عباس، وابن عمر، وكان حُكم إجلاء أهل الذِّمَّة من بلاد العرب عند ابن عباس وعمر، فنَسِيه عمر سنين، فتركهم حتى ذُكِّر فَذَكَر فأجْلاهم، وكان عِلم الكلالة عند بعضهم، ولم يعلمه عمر، وكان النَّهي عن بيع الحُمُر عند عمر، وجَهِله سَمُرة، وكان حُكم الجَدَّة عند المُغيرة، ومحمد بن مسلمة، وَجَهِله أبو بكر وعمر، وكان حكم أَخْذ الجِزية منَ المجوس، وألا يقدم على بلد فيه طاعون عند عبدالرحمن بن عوف، وجَهِله عمَر وأبو عبيدة وجمهور الصَّحابة - رضوان الله عليهم - وكان حُكم ميراث الجَد عند معقل بن سنان، وجَهِله عمر، ومثل هذا كثير[2].

وَتَفَرَّقَ هؤلاءِ الصَّحابة في البُلدان؛ يُفَقِّهون الناس، كلٌّ يُفْتي بما اجتمع له، ويختص كل منهم ببيئة مُعَينة، فاختص ابن عباس بمكة، وابن عمر بالمدينة، وابن مسعود بالكوفة، ومعاذ باليَمَن، وهكذا، وأَخَذَ الناس عنهم هذا الذي اجتمع لهم، إلى جانب ما أفتَوا فيه بآرائهم فيما كان يجِدُّ مِن أحداث، دون أن يحفظوا له أَثَرًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يعلموا له نصَّ حُكْمٍ منَ الكتاب، فأصبحتِ الآثار وآراؤهم تُكَوِّن مجموعة الآثار التي يرجع إليها في البيئة، التي نزل إليها كلُّ صحابي، فأخذت طابعه إلى جانب محفوظِه، وطريقته في التَّصَوُّر الفقهي، وعلى الجُملة أصبح فقهه مدارًا للفِقه عمومًا فيها مفضلاً عند أهلها على غيره، مما أُثِر عن غيرهم ممن عاشوا في البيئات الأخرى، وفي ذلك يقول الدهلوي، نقلاً عن ابن الحاجِب: "أنه إذا اختلفَ الصحابة والتابعون في مسألة، فالمُختار عند كل عالِم مذهبُ أهْلِ بَلَدِه وشيوخه؛ لأنه أعرف بصحيح أقوالهم وتَبَحُّرهم، فذهب عمر، وعثمان، وابن عمر، وعائشة، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وأصحابهم مثل سعيد بن المسيَّب؛ فإنه كان أحفظ لقضايا عمر، وحديث أبي هريرة، ومثل عروة، وسالم، وعطاء بن يسار، وقاسم، وعبيدالله بن عبدالله، والزُّهري، ويحيى بن سعيد، وزيد بن أسلم، وربيعة أحقُّ بالأَخْذ من غيره عند أهل المدينة؛ لما بَيَّنَه النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضائل المدينة؛ ولأنَّها مأوى الفقهاء، ومجمع العلماء في كل عصر؛ ولذلك نرى مالكًا يُلازِم محجتهم، ومذهب عبدالله بن مسعود وأصحابه وقضايا علي، وشريح، والشَّعبي، وفتاوى إبراهيم أحقُّ بالأخذ عند أهل الكوفة من غيرهم[3].

وواضِحٌ من هذا أنَّ كلَّ بيئة كانت تُفَضِّل الأخذ عمَّنِ استَقَرَّ بها منَ الصحابة وتُفَضِّله، دون النَّظَر إلى ما في البيئات الأخرى، أو دون محاولة دَرْسِه - في ذلك العصر على الأقل - وإنما كانتْ تكتفي بما عندها، وقد تَفَضَّل رأي مَن بها منَ الصحابة والتابعين على آثار عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعيش في بيئة أخرى؛ للأسباب التي أَوْرَدَها الدَّهلوي، وهي العلمُ بآثار مَن فيها، وأحكامهم، وطُرُقِهم في الاستدلالات، ويقول في ذلك ابن حزم: "ثم خلف بعدهم - بعد الصحابة - التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقة منَ التابعين في البلاد التي ذكرنا، فإنَّما تَفَقَّهوا على مَن كان عندهم منَ الصحابة، وكانوا لا يَتَعَدُّون فتاواهم، لا تقليدًا لهم؛ ولكن لأنهم إنما أخذوا وَرَوَوْا عنهمُ اليسير مما بلغهم عن غير مَن كان في بلادهم منَ الصحابة - رضي الله عنهم - كاتِّباع أهل المدينة - في الأكثر - فتاوى ابن عمر، واتِّباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن مسعود، واتِّباع أهل مكة في الأكثر فتاوى ابن عباس"[4].

وظَلَّ ذلك هو المعمول به إلى أَمَدٍ غير قصير، رغم اتِّصال هذه البيئات ببعضها، ورغم عِلم مَن فيها بما في البيئات الأخرى؛ إِذْ إنَّنا نرى ذلك سائدًا بعد عصر التابعين وتابعيهم؛ بل هو مُمتدٌّ إلى عصر الفُقَهاء، وهذا واضِح في قول ابن حزم: ثمَّ أتى بعد التابعين فقهاء الأمصار: كأبي حذيفة، وسفيان، وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جُرَيج بمكة، ومالك، وابن الماجِشُون بالمدينة، وعثمان السبتي وسوار بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجروا على تلك الطريقة مِن أَخْذ كلِّ واحدٍ منهم عنِ التابعين من أهل بلدة فيما كان عندهم، واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم، وهو موجود عند غيرهم[5], ومِن خلال ما عَرَضْنا له، نكون قد وَضَعْنا أيدينا على سَبَبَيْن هامَّينِ من أسباب الخلاف:
أولهما: هو عدم تساوي الصحابة في العلم بكل ما جاء عنِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أحكام في المسائل، وأن هذا راجع لأسبابٍ أَشَرْنا لها من قبلُ، وثانيهما: أنَّ علماء كلِّ بيئة كانوا يُفَضِّلون ما أُثِر عمن سبقوهم من أهل بيئتهم على غيرهم، مما كان مأثورًا عند غيرهم في البيئات الأخرى، ولكن هل هذه هي كلُّ الأسباب التي قام عليها الخِلاف الفقهي خلال القَرْنينِ الأولينِ منَ الهجرة؟

الواقِع يقول غير هذا؛ إذ إنَّ هناك أسبابًا أخرى، لها منَ الأهمية ما لما ذكرنا من أسبابٍ:
أولها: اختلاف النَّظَر الفقهي للأصل عند استنباط الحكم منه، وهذا وَقَع لكثيرٍ منَ الصحابة، وقد أشار إلى ذلك ابنُ حزم في قوله: "وقد يبلغ الرجل مما ذكرنا حديثان، ظاهِرُهما التعارُض، فيَمِيل إلى أحدهما دون الثاني؛ بِضَرْبٍ من الترجيحات التي صححنا أو أبطلنا قبل هذا في هذا الباب، ويَمِيل غيره إلى الحديثِ الذي ترك هذا؛ بِضَرْب من تلك الترجيحات؛ كما رُوِيَ عن عثمان في الجمع بين الأُختَيْن، حَرَّمتهما آية، وأَحَلَّتْهما آية، وكما مال ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جُملةً بقوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾ [البقرة: 221]، وكما جعل ابن عباس عِدَّة الحامِل آخر الأجلَيْنِ من وَضْع الحمل، أو إتمام أربعة أشهر وعشرة، وكما تَأَوَّلَ بعض الصحابة في الحُمُر الأهليَّة أنها إنما حرمتْ؛ لأنها لم تخمس، وتَأَوَّلَ آخر منهم أنها حرمت؛ لأنها حمولة الناس، وتأول آخر أنها حُرِّمَتْ؛ لأنها تأكل العَذْرة، وقال بعضهم: بل حُرِّمَتْ لعينها، وكما تَأَوَّلَ قُدَامَة في شُرْب الخمر قول الله - تعالى -: ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ﴾ [المائدة: 93]، فعلى هذه الوُجُوه تَرَكَ مالِك ومَن كان قبله ما تركوا منَ الحديث والآيات، وعلى هذه الوُجُوه خالَفَهم نُظَراؤهم، فأخَذَ هؤلاءِ ما ترك أولئك[6].

ومِن ذلك نَتَبَيَّن أنَّ الاختلاف في النَّظَر الفِقهي يرجع إلى عهد الصحابة، وأنه تبعًا لتفضيل كل بيئة لمأثورات مَن كان بها منَ الصحابة، أصبح بها منَ المسائل التي تخالف ما في البيئات الأخرى تبعًا لذلك، إلى عهد الفقهاء وتَكَوُّن المدارس الفقهيَّة، ونورد هنا ملاحَظَةً أخرى تختص بهذا السَّبب، وهي أن ذلك كان يقع في المدرسة الواحدة؛ لأنه اختلاف عامٌّ وَقَع للتابعي كما وقع للصحابي، ووَقَعَ لتابِع التابعي كما وقع للتابعي، ووقع للفقيه كما وقع لتابع التابعي، فهو أمرٌ عام يَطَّرِدُ الوقوع فيه عند كلِّ مَن تَعَرَّضَ للإفتاء، ابتداءً منَ الصحابي إلى الفقيه، الذي ليست له صحبة أو تباعة؛ ولذا فقد كان تأثيره لا بين البيئات المختلفة فحسب؛ بل في البيئة الواحدة أيضًا.

وسببٌ آخر من أسباب الخلاف المهمة أيضًا، ذلك هو وجود أعرافٍ مستقرَّة في البيئات التي انتشر فيها الإسلام، اخْتَصَّتْ بها من دون البيئات الأخرى، وأَثَّرَتْ في الفقه من خلال تأثير البيئة على مَن عاش منَ الصحابة، والتابعين، والفقهاء، وأعراف أخرى استَقَرَّتْ في البيئة بعد الإسلام؛ لاخْتِلاف في النُّظُم التي عاناها الصحابة في بيئة المدينة، فأَفْتَوا فيها بآرائهم، فأصبحتْ تستمد قوتها مِن استقرارها وجريان العمل بها في هذه البيئات، وبدأَتْ تَتَسَرَّب إلى الفقه الإسلامي، وتُؤَثِّر فيه، وتأخذ مكانها إلى جانب الأحكام المستمَدَّة من أصول إسلاميَّة بَحْتة، وهذا يرجع في أغلبِه إلى وجودِ قوانين وضعيَّة في بيئاتٍ عانَتْ منَ التشريع الوضعي قبل حُلُول الإسلام بها؛ كبِيئتَي العراق والشام، وجاء الإسلام فأَقَرَّ بعضها، ونبذ بعضها، وهذا الذي أقَرَّهُ الإسلام منها يختص بجانبِ المعاملات: كالمساقاة، والمتاجرة، والمزارعة، والنُّظُم الضَّريبيَّة العامَّة، دون العبادات التي استقلَّتْ بنظام خاصٍ جاء به الإسلام، يختلف عما كان في هذه البيئات قبله.

ومن أسباب الخلاف المهمَّة: اختلاف التَّصَوُّر الفقهي للأصل عند الاستدلال، واستخراج العلَّة، فنحن نجد أنَّ الأحناف يتَصَوَّرُون الزكاة على أنها أموال، وهذا التَّصَوُّر هو الذي حدا بأبي حنيفة أن يجملَ في الرياحين زكاة، مُخالفًا بذلك الأصلَ الثابِتَ عنِ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - بينما تَصَوَّرَها الشافعي على أنها قوت، واستند أبو حنيفة فيما ذَهَبَ إليه إلى قوله - تعالى -: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ [التوبة: 103]، واعْتَبَرَ الرياحين ضمن الأموال، واستند الشافعي إلى عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في فَرْضِه الزكاة فيما يؤكل مِن قمح وشعير وتمر، وإبل وبَقَر.

وقد ذَهَبَ ابن حزم إلى إرجاع الخلاف إلى عشرة أسباب، يقول: "هي وجوه عشرة كما ذكرنا، أحدها: ألا يبلغ العالم الخبر فيقضي فيه بنصٍّ آخر بلغه، كما قال عمر في خبر الاستئذان: "خَفِيَ علَّي هذا مِنْ أمْرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَلْهَاني عنه الصَّفْقُ بالأسواق، وثانيها: أن يقعَ في نفس الراوي أن راوي الخبر لم يحفَظْه وأنه وَهِمَ؛ كفِعْل عمر في خبر فاطمَة بِنْت قيس، وكَفِعل عائشة في خبر الميت يُضْرَب بِبُكاء أهله، وهذا ظَنٌّ لا مَعنى له، إن أطلق بطلتِ الأخبار كلها، وإن خُصَّ بها مكان دون مكان، كان تحكُّمًا بالباطل، وثالثها: أن يقع في نفسه أنه منسوخ، كما ظن ابن عمر في آية نكاح الكتابيَّات، ورابعها: أن يُغَلِّبَ نصًّا على نصٍّ بأنَّه أحوط، وهذا لا معنى له؛ إذ لم يُوجِبه قرآنٌ ولا سُنَّة، خامسها: أن يُغَلِّبَ نصًّا على نصٍّ؛ لكثرةِ العاملين به أوْ لِجلالتهم، وهذا لا معنى له؛ لما قد أَفْسَدْناه قبل ترجيح الأخبار، وسادسها: أن يُغَلِّبَ نصًّا لم يصحَّ على نَصٍّ صحيح، وهو لا يعلم بفساد الذي غَلَّب، وسابعها: أن يُخَصِّصَ عمومًا يظنه، ثامنها: أن يأخُذ بعمومٍ لم يجب الأخذ به، ويترك الذي ثَبَتَ تَخْصِيصه، تاسعها: أن يتناولَ في الخبر عَنْ ظاهره بِغَيْر برهان؛ لعلَّة ظنها بغير برهان، وعاشرها: أن يتركَ نصًّا صحيحًا بقول صحابي بلغه، ويظن أنه لم يترك ذلك النَّص إلاَّ لِعِلْم كان عنده، هذه ظُنُون توجب الاختلاف الذي سبق في علم الله - عَزَّ وجل - أنه سيكون"[7].

الواقع أنَّ ما أَوْرَدَه ابن حزم مِن أسباب الخلاف له نصيبٌ كبيرٌ منَ الصِّحَّة؛ ولكن هل كانتْ أسباب الخلاف قاصِرة على ما ذكره، وما سبق أن أشرنا إليه؟ الذي لا شك فيه أن هناك أسبابًا كثيرةً للخلاف غير ما عَرَض له، وما عرضنا له نحن، وإننا إذا رَجَعْنا إلى الأبواب السابقة التي أشرنا إليها في صدر هذا البحث، والتي جاءتْ في كتاب "الأم"، لنلتمس أسبابًا أخرى للخلاف، لها نَفْسُ الأهمية والأَثَر، فإننا لا شك واجدون أسبابًا أخرى عديدة، فإن الاستقصاء الدَّقيق والتَّتَبُّع المقترن بالبحث في هذه الأبواب - سيَضَعُ أيدينا على الكثير منها، ويوصِّلنا إلى ما نبتغي، ويُعطينا إلى جانب هذه الأمثلةَ الحقيقية لمثار هذا الخلاف ومَوَاطنه منذ نشأ وتَرَعْرَعَ، وأصبح يشغل حَيِّزًا كبيرًا، ويضع حدودًا فاصِلةً بين المدارس بعامة وبين الاتجاهات المذهبيَّة، التي ثارت بداخلها بخاصة، منَ الدِّقَّة بحيث قد تخفى على بعضهم صورة مكتمِلة لأسباب ذلك الخلاف، إذًا فَلْنَتَنَاولها بابًا بابًا، وكتابًا كتابًا، كما جاءتْ في "الأم" بالبحث والتنقيب؛ لنصل إلى مبتغانا.

ولكن قبل أن نستَطْرِدَ في تَتَبُّع أبواب الخلاف التي أوردها الأمام في كتابه "الأم"، مستهدفين استخلاص أسباب الخلاف، مرتبطة بالنصوص التي ظهرت في الفروع بين أعلامٍ هم في حقيقة الأمر يمثلون الاتجاهات المختلفة لذلك العصر، وليس كما يبدو من عناوين تلك الأبواب أنهم كانوا يمثلون دولتهم، أو بعبارةٍ أخرى: أن الخلاف لم يكن خلافًا بين فرد وفرد، لكلٍّ وجهة ونَظْرة خاصة، وإنما كان خلافًا بين مُمَثِّلين للاتجاهات المتخالِفة؛ ولذا كان لِزَامًا علينا قبل معالَجة هذا الموضوع أن نقفَ قليلاً في محاولةٍ لِوَضْع خطوطٍ نلتزم بها في ذلك البحث؛ أعني: بحث أسباب الخلاف، مُقتدين بالإمام نفسِه حين وَضَعَ قواعد عامَّة، عرض عليها مجموعات الاجتهاد الفقهي التي شاعت في عصره، وتلك بلا شك خطوةٌ تنظيميَّةٌ يحتاجها البحث، والذي لا شك فيه أنَّ الاجتهاد الفقهي ظاهرةٌ مِن ظواهر النشاط الفكري للجماعة الإسلامية، ونحن إذا نَظَرْنا إلى أيِّ نوعٍ من أنواع النشاط الفكري لأيَّة مجموعة إنسانيَّة، نجد أنه يرتبط أساسًا بأمرين:
الأول: البيئة العامَّة وتشمل:
1 - البيئة الجُغرافيَّة:
وهي تَتَحَكَّم في توجيه نشاط الجماعة الإنسانيَّة، التي تحيا فيها بما تفرضه عليها من طُرُق معيشة مُعَيَّنة، وبالتالي فهي تطبع كل ما يشرع لتنظيم الحياة المعيشيَّة لتلك الجماعة بطابَعِها، رغم أنها تبدو بعيدةً كل البُعد عنِ التأثير في توجيه الحياة الفكريَّة بأوجه نشاطها المختلفة - والتقنين أحدها - غير أن التَّتَبُّع الدقيق يثبت بما لا يَدَع مجالاً للشَّكِّ ما لها من بعيد أَثَر على تلك الأَوْجُه مجتمعة.
2 - البيئة الزَّمَنيَّة:
وهي تَتَحَكَّم في توجيه النشاط الفكري للجماعة الإنسانية، من خلال ماضٍ يحمل تُراثًا حضاريًّا يُمَثِّل مجموعة المعارف المُتَلَقَّاة عنِ الأجيال السابقة عليها، وحاضرٍ يُمَثِّل النتاج الفكري لزَمَنِها، ومستقبلٍ يُمَثِّل المقدمات الفكريَّة للأجيال اللاَّحِقة، ذلك أن الحياة الفكريَّة في عصرها، ما هي إلاَّ حلقةٌ تَقَع بين حلقتينِ في سلسلة الحياة الفكريَّة العامَّة لتلك الجماعة، فتُمَثِّل التي يسبقها الماضي الفكري للجماعة، وهو عبارة عن مَوْرُوثها منَ المعارف، أمَّا هي فتُمَثِّل الحاضر الفكري للجماعة، وهو عبارة عن نِتاجِها الخاص، مرتبطًا بذلك الماضي، وتُمَثِّل التي تليها المقدمات الفكرية لِمُستقبلها الفكري، فالحياةُ الفكريَّة سلسلة مُتَّصلة الحلقات يرتبط فيها الماضي بالحاضر بالمستقبل.
3- البيئة الخاصَّة:
وهي تَتَكَوَّن منَ الأسرة والمدرسة والأقران، وتلك في مجموعها تُمَثِّل الدائرة القريبة المحيطة بكل فرد من أفراد الجماعة - والفرد وحدتُها - فتعمل في تكوينه الذاتي، وتشكل مزاجه الخاص، وتُحَدِّد اتجاهه الأخلاقي، وعلى الجملة هي الأساس الأول في بناء شخصيته.

الثاني: النشاط الفكري العام:
وإذا ما أَرَدْنا أن نضعَ تعريفًا له، نجد أنه: عبارة عنْ مجموعات النشاط الفكري، التي تستغرق جوانب الحياة الفكريَّة لعصر ما، في بيئات مختلفة، لِجماعات إنسانيَّة متباينة، تربطها وسائل للاتصال متعددة، تسهل انتقال ضروب ذلك النشاط بينها، مُمَثلة تراث المعارف الإنسانيَّة في حقبة زَمَنيَّة.
ومِن خلال هذا النَّشاط الفكري العام، يُحدد النشاط الفكري لكل مجموعة إنسانيَّة في بيئة أو بيئات مُشتركة على حِدة، ثم تَتَحَدَّد أنواع هذا النشاط الفكري وتبرز جوانبه، ثم تَتَحَدَّد بعد ذلك العوامل الموجبة له والمؤثِّرة فيه، ثم تَتَحَدَّد بعد ذلك الاتجاهات المؤلّفة لكلِّ نوع على حدة، ثم يَتَحَدَّد موقع الفرد مِن خلال الاتجاه الذي يعتنقه.

وتأسيسًا على ما سبق، يُمكن القول بأنَّ من أسباب الخِلاف: التغايُرَ الواضح في البيئة العامَّة، بين البيئتينِ اللَّتينِ نشأ فيهما أسْبَق اتجاهينِ مُتعارِضينِ في حياة التفكير الفقهي الإسلامي، فالأول نشأ في الحجاز، والحجاز له بيئته الجغرافية الخاصة، التي تقترب به منَ الجبل الوعر، والصحراء القاحِلة، إلاَّ في مواضع قليلة؛ كالطائف، ويثرب، وتبتعد به عنِ السهل المنبسط والوادي الخصيب، ويعتمد في رَيِّه على الغيث المتوقع، ويفتقر إلى النهر الجاري المنتظم الفيض، وعلى ضوء مِن هذا تَشَكَّلَتْ معالِم حياته، فهي تقوم على الرعي، تطلب إليه مواطن الكلأ، حيث تسخو السماء بالغيث في رحلةٍ دائمةٍ في طلب مواطن العيش، ومنابع الحياة، إلاَّ في القليل مِمَّا أَشَرْنا إليه، وتلك هي البادية تعانِق دوحات الحجاز مِن كلِّ صوبٍ، ومنها ينقل إلى تلك الدوحات قليل مما تنتج من نبت، وكثير مما تُنْتِج مِن حيوان، فإذا ما انْتَقَلْنا إلى تلك الدوحات وجدنا ضروب الحياة المعيشيَّة بها تختلف بعض الشيء عنها في البادية، فهي تعتمد في اقتصاديَّاتها بالمكان الأول على التجارة في رحلتين؛ إحداهما: إلى الشمال صائفة، والأخرى: إلى الجنوب شاتية، يُساندها موسم الحج وما يَتَأَدَّى فيه مِن تبادُل، إذًا هي حياة تَتَمَيَّز بالبساطة في التركيب الاقتصادي، والبناء الاجتماعي زراعة تعتمد على الأمطار، ولا تعقيد في تنظيمها مزارعة، أو مساقاة، وتجارة لا تجاوز قوافل لا يجمعها في العام سوى رحلتين، لا تتجاوز الروابط المنظمة لها سوى توفير الحراسة، وتحديد بداية الرِّحلة، والاتفاق على طريقها، ولا تخضع لتنظيم سلعي، أو ما شَاكَلَ ذلك من تعقيدات التجارة المُنَظمة؛ وإنما تغزوها رؤوس أموال فرديَّة، أو في حدود المشاركة الضَّيِّقة، والبناء الاجتماعي بدائي، فمنه القبيلة، وساقه الفخذ، وقد تجمع بين القبائل أحلاف مؤقتة ولا مزيد، وللقبيلة رأس، ومنها وجوهٌ هم أصحاب الرأي، وأهل المشورة، ولا ولاء إلا للقبيلة، ولا حكومة إلا لرؤوسها، تزداد منعتها بكثرة أفرادها وقوتهم في العدوان على الغَيْر، وتَقِل بِقِلَّتِهم، وبَطْش الغَيْر بهم، ولا تتجاوز تقاليدهم ومعارفهم بساطة ما هم فيه من عيش، فإن تجاوزت فمنقول معارف مُتَلَقَّاة من مورثات اليهوديَّة والمسيحيَّة، إلى جانب خبرات مكتسَبَة من واقع التجارب، فالبيئة الزَّمنيَّة لا تتجاوَز بهم القرن السابع الميلادي، ومعارفُه المنقولة إلى الحجاز لا تعدو تلك الموروثات، وقليل من صور حضارة الروم واليونان والفرس والهند على أيدي قلَّة من أفراد هذه الأمم، قذفت بهمُ الحياة لسبب أو لآخر إلى ذلك الجزء منَ الأرض الذي تقسو فيه الحياة أحيانًا، حتى لنقصر طاقات المتحضر عن تحملها في أيسر أماكنها، وما تلك البيئة الزَّمنيَّة بالشيء الكثير، إذا ما قُورِنَتْ بما تَلاَها، وما نقل منها إلى الحجاز يَسِير.

وقد تَوَلَّدَ في تلك البيئة نشاطٌ فكري، مِن احتكاكٍ بين تلك المعارف القليلة المنقولة، وبين تلك الخبرات المكتسبَة وليدة تجربة الجماعة الإنسانية في تلك البيئة بما يُمَيِّزها مِن بساطة، وما يكتنفها من يُسر، ثم جاء الإسلام بثورةِ التوحيد، فبَدَّلَ من قيم الجماعة، وقَوَّضَ أركان نظامها الاقتصادي والاجتماعي، ووضع لها نُظُمًا جديدة، وأَقَرَّ بعض ما وجد فيه صلاح الجماعة وغيرها، ونبذ ما وَجَدَ فيه شَرّها وفسادها، واستتبع ذلك ظهور ثورةٍ فكريةٍ في إطار تلك البيئة وبساطتها وبداءتها، وشرع لها ما يلائمها ويوائمها، مراعيًا ما كانتْ عليه حال الجماعة من حياة هي أقرب إلى الفطرة منها إلى التعقيد الحضاري، وواكب التشريع تَطَوُّرها، فتدرج في تنظيم حياتها خطوةً خطوةً، تلك كانت حال الحجاز فواءمها أن تركنَ إلى مأثور تعاليم الإسلام، لا تخرج بها إلى مواطن التعقيد، وأنَّى لها أن تخرجَ والحياةُ فيها أبعد ما تكون عنه، والتطور نحوه يسير وئيدًا، لا يلابسُه شيء منَ السرعة، رتيبًا لا يشوبه ضرب منَ التَّغْيير؟ حياة على الفطرة، ودين هو دين فطرة، فما أسرع ما أشربَتْه النفوس، واكتفتْ به البيئة، لا يحتاج من فيها إلى التفريع عليه، إلا في القليل مِن أمرهم، والرَّسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم، كلَّما عَنَّ جديد أوجَدَ لهم من مأثورٍ يساعفه الوحي بما يحتوي الحياة في البيئة كلها، فلا يغادر كبيرةً أو صغيرة إلا ويأتيه الحكم فيها، ولا يكاد يعرو البيئة من بعده إلا الطفيف من التَّغَيُّر، وحتى هذا تلاحقه فتاوى الصحابة ومن بعدهم التابعين، مما أثرى البيئة بمأثور دفع عنها الحاجة إلى الاجتهاد المعقَّد، الذي نراه في غيرها منَ البيئات الأخرى.

فإذا ما انْتَقَلْنا إلى بيئةِ العراق، طَالَعَتْنا حياة تختلفُ عن حياة الحجاز في كل شيءٍ، فالبيئة الجغرافيَّة توفِّر لساكنيها لونًا منَ المعيشة المُسَتقِرة، تقوم على الزراعة المنَظَّمَة، فالسهول ممتدة وافرة الري، يُغَذِّيها رافدان على مدار العام، يمتدان من أعالي جبال تركيا، وينتهيان عند الخليج العربي، في رحلةٍ تجتاز أرضها طولاً ومن حولهما تنهل الوديان الممتدة ما شاء لها طلعها دون مشقة أو عناء، والحاجة تدعو الجماعة إلى إقامة الجسور، وشق القنوات، وتنظيم توزيع مياه النهر، ووضع نظام لدورة زراعيَّة؛ مهما كانت بساطته، ومع استقرار الحياة في البيئة، تستقِرُّ بها بعض أعراف بتوالي حضارات عاشَتْ على تلك الضِّفاف، فتصبح من مَوْرُوثات البيئة والجماعة معًا، وعلى نظام الزراعة الدَّائم تقوم تجارةٌ أغلبُ سِلَعُها نتاج ذلك الحرث، وأنواع منَ الصناعة البدائيَّة من قبل ما كان يضيع في تلك البيئة الزَّمنيَّة، وبذلك نجد أنَّ البيئة الجغرافيَّة قد شَكَّلَتْ حياة العراق، وأَكْسَبَتْها ألوانًا تغايِرُ تلك التي اصطبَغت بها بيئة الحجاز، فخلَقَتْ بها مجتمعًا زراعيًّا تجاريًّا صناعيًّا، إذا ما نظرنا إليه بعين تلك البيئة الزَّمنيَّة التي كانت تحياها الجماعة الإنسانيَّة عامة، ومبلغ ما توافر مِن محدود المعارف آنذاك.

والعراق يعانِقُ الدولة الفارسيَّة، وبينه وبينها علائق وصلات، وتلك تفرض عليه أن يحتَكَّ بالحضارة القائمة بها احتكاكًا مباشرًا، وتبعًا لذلك تتسَرَّب إليه مظاهر تلك الحضارة، بِشِقَّيْها المادي والمعنوي، فتثريه بألوان منَ النشاطين، ولمظاهر النشاط المادي ما ينظمها مِن مظاهر النشاط المعنوي، أقلها ابتداع النُّظُم التي تكفل لها السَّير والنَّماء فيما نُسَمِّيه نحن الآن بـ"التَّقنين لأوجه نشاط الجماعة المادي".
والبيئة العراقية - كما سَبَقَ أنْ أَشَرْنا - مستَقَرٌّ لحضاراتٍ بادَت، غير أنها خلفت فيما خلفت آثارًا قانونية، فهي عانتِ التشريع الوضعي في بيئات زمنيَّة تعاقَبَتْ على مَسار الحياة، فانْدَثَرَ فيها ما انْدَثَر، وبقي دليلاً على ما كان.

بعد تلك الإِلْمامة القصيرة بمظاهر الحياة في كل بيئةٍ منَ البيئتينِ على حِدَةٍ، مع الالتزام بمفهوم البيئة العامَّة، والنشاط الفكري العام، يظهر لنا بِجَلاء الاختلافُ البيِّنُ في أساليب الحياة في كلٍّ، فالبيئة الحجازيَّة تسير فيها الحياة قلِقَة شاقَّة قاحِلة، ومنذ ذلك تبعد عنِ التعقيد الحضاري، وتتَّسِم ببساطة البداوة، وتتحدد فيها حاجات الجماعة، والبيئة العراقية تسير فيها الحياة سهلة ميَسَّرة مستَقِرَّة، ومع ذلك تقترب منَ التعقيد الحضاري، وتصطبغ بالتركيب المدني، وتكاد مطالب الجماعة فيها أن تكونَ بِغَيْر حُدُودٍ.

وقد أَثَّرَ ذلك بلا شك في التَّكوين العقلي لأهل كلِّ بيئة تأثيره في سَيْر الحياة نَفْسها، ذلك أنَّ الناس بعضُ بيئتهم، فكان ذلك التفاوُت في التفكير، وكانتْ أهم مظاهره ذلك الخلاف الفِقهي الواسع، وشاغل الحياة الأول في البِيئتينِ آنذاك هو النشاط الديني، في الأخْذِ والمُعالَجة، والاستنباط منَ الأُصُول الإسلاميَّة، وكان الخِلافُ في التَّصَوُّر الفقهي للأصل عند استنباط الحكم، وتَلَمُّس العلَّة، والبحث عنِ الدلالة لكلِّ أسلوبه وطريقته، وإلى جانب هذا التفاوُت في التفكير، كانتْ حاجة البيئة التي جعلتْ جماعة تكتفي بالمنقول المأثور، ترى فيه غناء يستغرق جوانب حياتها، فلا تلجِئها ضرورة لإجهاد عقلي تُحَتِّمه حوادث مُتَجَدِّدة، تُطالعها بها حياة عَقَّدَتْها الحضارة، وشَعَّبَت سُبُلها، وعددتْ مظاهر نشاطها، وجعلتْ جماعة تَتَوَسَّع في القياس، وتَجْهد في محاولات للتَّفريع على الأصول، فالمأثور لا يستغرق حياتها المتجددة الأحداث دوامًا، إلاَّ إذا واكَبَهُ تفريع يُلاحق ذلك التَّجَدُّد، فالحياة التي يَحْيَوْنها تلهث مِن حولهم وتعد السير، وهم مُطالَبون بِمُلاحقتها، وإلاَّ جُمدوا، وأُشِيع عن دعوتهم أنها لا تستطيع مُسايَرة موكِب الحياة، وهم على يقينٍ مِن قُدْرتها على ذلك، ما اختلفَ زمان ومكان.

ونخرج مِن كلِّ ما عَرَضْنا له بأنَّ أسباب الخلاف من وِجْهة نَظَر الأقْدَمينَ تنحَصِر في النِّقاط الآتية:
أولاً: اختلاف نصيب الصَّحابة منَ الإحاطة بجميع الآثار؛ إمَّا بسبب انشغالهم في الجهاد، أو في طَلَب الرِّزق، وما تَرَتَّبَ على ذلك مِن تفاوُت في محصولِهم، فكان له أَثَره في تعاليمهم، وأثره فيمَن تعلَّموا منهم؛ باعتبارهم رُسُل صاحب الدَّعوة في تفقيه الناس بِدينهم، فأصبَح كلٌّ يغذو البيئة التي يَفِد إليها بِحصيلتِه فقط، فأوجد ذلك التفاوت في العلم بالمأثور كله اختلافًا، كان يمكن تجنُّبه فيما لو اجتمعتِ الآثار جملةً لكل معلِّم في بيئته.

ثانيًا: اعتزاز كلِّ بيئة بما خلف فيها مَن نَزَلها مِن الصحابة مِن آثارٍ روَوها، وفتاوى أصدروها، وثِقتهم المطلقة فيها ثقةً جعلتْهم يُفَضِّلونها على غيرها، مما يشيع في البيئات الأخرى، بل وَذَهَبَتْ بهم إلى حدِّ التَّشَكُّك في كل ما يَفِد إليهم منَ البيئات الأخرى، ومدافعته بشِدَّة في تلك البيئة الزَّمنيَّة بالذات دون فحص، أو وضعه موضع الدراسة المنظمة إلاَّ في القليل، حتى جاء الشافعيُّ فبدأ ذلك.

ثالثًا: ما أَوْرَدَهُ ابن حزم في كتابه "الإحكام"، وأرجع فيه الخلاف إلى أسباب عشرة، هي:
1 - عدم الإلمام بالأخبار جملةً.
2 - الشك في راوي الخبر.
3 - الظن بنسخ الخبر.
4 - تغليب نصٍّ على آخر بدافع الحيطة.
5 - تغليب نصٍّ على آخر لشيوعه وكثرة العمل والعاملين به.
6 - تغليب نص على آخر؛ لتَوَهُّم أنَّ أحدهما أكثر منَ الآخر صحة.
7 - تخصيص عموم استنادٍ لمجرد الظَّن.
8 - الأخْذ بعموم ظاهر، وترك ما يخصصه.
9 - تأوُّل الخبر على غير ظاهره لسبب أو لآخر يعتقده المتأوِّل.
10 - ترك الخبر لقول صحابي.

هذه المجموعة منَ الأسباب تعتبر أسبابًا أساسيَّة للخِلاف عند مجموعة من أعلام الأصوليين والفقهاء، هم: ابن حزم، وابن الحاجب، والآمدي، والدهلوي، وتَقَدمهم في هذا الاعتبار الإمامُ الشافعي - رضي الله عنه - وتابَعهم عليه جمهرة المُحدثينَ، فما زادوا عليها غير الشرح والإبانة والتفصيل، ونضيف إلى هذه الأسباب مجموعةً أخرى لا محيص من إضافتها؛ فهي أيضًا أسباب أساسية في هذا الباب، وهي:
رابعًا: الأعراف المستقِرَّة في كل بيئة، وأثرها في توجيه التفكير الفقهي للأصل عند كل فقيه حين الاستنباط، والْتِماس العلَّة، والبحث عنِ الدلالة.
خامسا: اختلاف التصور الفقهي للأصل عند كل فقيه، حين الاستنباط، والتماس العلَّة، والبحث عن الدلالة.
سادسًا: البيئة جغرافيَّة وزمنيَّة، وخاصة، وأثرها على توجيه التَّفكير الفقهي.
سابعًا: النَّشاط الفكري الخاص للبيئة، وأثره في توجيه الحياة الفقهيَّة، وفي تحديد الاتجاهات المُكَوِّنة لها.

[1] الإحكام في أصول الأحكام - لابن حزم ج2 ص 126.
[2] "الإحكام في أصول الأحكام"؛ لابن حزم جـ2 ص 239.
[3] "حجة الله البالغة"؛ للدهلوي جـ 1 ص 144.
[4] "الإحكام في أصول الأحكام"؛ لابن حزم جـ 2 ص 127.
[5] "الإحكام في أصول الأحكام"؛ لابن حزم جـ 2 ص 128.
[6] "الإحكام في أصول الأحكام" جـ 2 ص 240.
[7] "الإحكام في أصول الأحكام"؛ لابن حزم جـ 2 ص 28/ 129.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الموقف في المملكة من المذاهب الأربعة
  • عناية الفقهاء بالمعايير
  • تحرير محل النزاع.. حتى نضيق هوة الخلاف
  • أعلم الناس بما لم يكن!!
  • علم فقه الحديث
  • اتباع الحجة في الفقه
  • المدارس الإسلامية بين التبعية والذاتية

مختارات من الشبكة

  • استنْباط الأحكام الفقهيَّة من تراجم أبواب البخاري(استشارة - الاستشارات)
  • التقطيع بين العروض والأصوات وبين القرائية(مقالة - حضارة الكلمة)
  • تطبيق التكامل بين طريقتي المحاضرة والعروض العملية(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • عرض كتاب: الإسلام بين الشرق والغرب (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الحسد بين الحديث النبوي والعلم الحديث (عرض تقديمي)(كتاب - موقع د. حسني حمدان الدسوقي حمامة)
  • الثورة البيولوجية بين حكمة الشرع وجنوح العلم (عرض تقديمي)(كتاب - موقع د. حسني حمدان الدسوقي حمامة)
  • عرض كتاب: على الجسر بين الحياة والموت(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • البصمة بين الإعجاز والتحدي (عرض تقديمي)(كتاب - موقع د. محمد السقا عيد)
  • عرض كتاب : السلاح النووي بين الردع والخطر(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • قانون العرض والطلب بين ألفرد ماريشال وابن تيمية (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب