• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    واجب ولي المرأة
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (9)
    د. عبدالسلام حمود غالب
  •  
    علامات الساعة (1)
    تركي بن إبراهيم الخنيزان
  •  
    تفسير: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان ...
    تفسير القرآن الكريم
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / أخلاق ودعوة
علامة باركود

مشروعية النقد

مشروعية النقد
د. بليل عبدالكريم

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 28/3/2012 ميلادي - 5/5/1433 هجري

الزيارات: 11247

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

مشروعية النقد

 

من الخَصائص الجِبِلِّيَّة في الفرد البشري النقدُ، فبوَصفِه متمدِّنًا بالطبع، والتوحُّش دَأْب السباع، يتعايَشُ وسط تجمُّع لأفراد، ومقتضى القِيام بتحصيل حاجاته توافر العون.

 

وذاك أنَّه لما لم يكن مكتفيًا بنفسه في مَعاشِه ومُقِيماته، لم يكن له بدٌّ من أنْ يسترفدَ المعاونة من غيرِه؛ لذا اتَّخَذ المدنَ ليجتمع مع جِنسه ويتعاونوا.

 

وتمدُّنه بالطبع اقتضاه توزُّعُ الصَّنائع، فانْقَسَمَت الحِرَف على الخَلْق، فتفاوتت المهارات والملكات المكتسبة.

 

وكونُ الإنسان يملكُ مَلكاتٍ ذهنيَّةً تمكِّنه من التمييز والقبول والرد، وبجنب تلك: ميوله ونزوعه نحو رغباته، وسعيه للظَّفر بمبتغاه المعنوي والحسي، فهو يمتلكُ قُدرات على الدِّفاع عن مُبتغاه، والهجوم على مُنغِّصات مراده، والرد على العوارض بالكلام أو الكُلام، بقَذائف اللسان، أو صولات الحسام.

 

وذا جزءٌ فطري من فُروض كيانه، بتلقائيَّةٍ تبرزُ ذاتيَّه الوجوديَّة الفرديَّة ضِمن نسق جماعي، فكان جبلَّةً ميالاً للخِصام، وأكثر شيء خلَقَه الله جدلاً، فيبرع في انتزاع الدلائل ونظم الحجج، واختلاق الشُّبَهِ، وإيجاد المغالطات، وتوفير التبريرات.

 

ودواعي الهوى فيه تُحرِّكُ نزعات التمرُّد على الهدى، وتلبيس الحقِّ بالباطل، والتدليس بين الخير والشر، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.

 

فيُوجد طرفان بين الواقف على ما بلَغ من الهدى والخير، المتمسِّك بالمعروف، والمنفلت من رِبقة ذلك، والتمسُّك هنا درجاتٌ، والتفلُّت دَركات، فسُبُل السلام مُتفاضلةٌ، وطرقات الضلال متشابكة.

 

ونزعة الإنسان الجبليَّة للدفاع عن كيانه الفكري والمادي، تجعلُه ينقدُ ما يَراه مخالفًا لما هو عليه؛ جلبًا للمنفعة، ودرءًا للمضرَّة.

 

فيقوم الجدال والنقد بين الأفراد؛ لاختلاف النَّزعات والأهواء، فتتقارَبُ طائفة، وتبتعد أخرى.

 

ونزعة الذاتيَّة الفرديَّة تركب الذاتيَّة الجماعيَّة؛ للدِّفاع عن الوحدة القائمة، واستِمرار الكينونة الجماعيَّة للطائفة أو الأمَّة ببناء هويَّة تَجمعُ الفُرادى في جماعةٍ.

 

هنا يتطلَّب بيان صلاحيَّة مقومات الجماعة وأحقيَّتها وصلاحيَّاتها، والرد على الخُصوم، أو نقد غيرها إن لم يكونوا معها؛ إذ الحقُّ واحدٌ، ودلائل الأحقيَّة والمصداقيَّة وحدةٌ حاملةٌ للحقِّ، لا تفرقه بين الخصوم.

 

والطمأنينة النفسيَّة الفرديَّة والجماعيَّة تفرضُ وضع قواعد تمكن من التشبُّث والاعتقاد الراسخ بصدقيَّة المعتقد ومصداقيَّة التوجُّهات؛ لتوفير الرَّغبة المعنويَّة الروحيَّة الضروريَّة بصلاحيَّة العقيدة والمذهب والتوجُّه والفكر، وإلا وقَع اضطراب نفسي، وخواءٌ روحي، وفراغ معنوي، يُنتج صِداماتٍ وآفات اجتماعيَّةً تُفكِّك الجماعة، وتخلُّ بقواعد الاجتماع؛ فتنهار المنظومة الموحدة، وتذهب ريحُ الجماعة؛ لكثرة النِّزاع.

 

فتوسُّعُ المسلمين في الأوطان، ومخالطتهم لأهلِ الملل والأديان، ممَّا اقتضى دعوةَ الغير وتحصين الأتْباع من زيغ القول والمعتقد، ترتَّب على ذاك مُطالعة معتقدات الفرق والطوائف والرد عليها، وابتُلِي المسلمون بِمَن خلط بعقائد الإسلام ما ليس منه، ومَن ألبس الشريعة غير ردائها، وطائفة بَغَتْ على عقيدة المسلمين.

 

ولهذا وذاك وطَبائع الناس في الاختِلاف والخِلاف؛ كثُرت الأقوال، وتكاثَرت الآراء، فتشعَّبت الفرق، وطلعت قُرونُ النِّحَلِ داخل الملَّة الإسلاميَّة، وطفَا على السَّطح مقالاتُ الإسلاميين، فقام العُلَماء على المخالفين، يَدفَعُون عن مَعِين الإسلامِ الزيفَ، ويَكشِفون الدَّخل، ويُبيِّنون الدخن.

 

وتجادَلَ النُّظَّار، وردَّ الفقهاء، وتناظَر العلماء، كلٌّ يدفع رأي غيره ويدافع عن قوله، ديدنهم حماية حمى الإسلام، وإن كان في بعضهم من يحمي نزعاته من البدع والأهواء، وآخرون يحمون طائفتهم، إلا أن أهل الخير وإن قارفوا باطلاً، كان عقدهم على طلب الحقيقة، والذود عن حياض عقيدة الأمة.

 

قال أحمد بن حنبل: الحمد لله الذي جعَل في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون مَن ضَلَّ إلى الهدى، ويُبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍّ تائه قد هدَوه! فلله ما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم[1].

 

من أجل ذلك؛ كتَب الله على عُلَماء الإسلام النَّفيرَ خِفافًا وثقالاً؛ لنثل السهام من كنانة التوحيد الخالص للردِّ على ملل الكفر ونحل الباطل، فكان دأبهم رصدَ حِراك الشبه، وحِراسة الشريعة من توغُّل البدع، وتغوُّل رُؤوس الهوى، فقادوا نحوَهم حملات لسانيَّة؛ لنقض شُبَهِهم، وكشف فتونهم، وتعريتهم عيوبهم.

 

وحماية العقيدة وتحصين مَعاقِل التوحيد هو من حقِّ الله على عباده، وحقِّ المسلمين على عُلَمائِهم، في ردِّ كلِّ مخالف ومخالفته، ومضلٍّ وضلالته، ومخطئٍ وخطئه؛ حتى لا تتداعى الأهواء بفكر الأمَّة فُرادى وجماعات؛ تعثوا فسادًا في فِطَرِهم، وتقصم وحدتهم، وتؤول بهم لدِينٍ مبدَّل، وشرعٍ محرَّف، وركامِ نحل، وبَقايا ملل.

 

وهذا سيرًا على أصل الاعتقاد، ووصلاً لسُبُلِ السلف الجهاديَّة الدفاعيَّة، واتِّصالاً بها، باللسانين: القلم واللسان، في تاريخهم الزاخر بقصص وروايات، ومُناظرات ومُؤلَّفات.

 

ومَن حوى جُمَلاً من التاريخ درَى من خبرِ مَن مضى عِبَرًا، وأحاطَ بذاك خُبرًا، وأفاد اعتبارًا.

 

ومنها: مَصارِع أهل السُّوء على يد أهل السُّنَّة، وقرأ عن أهل العلم مُكاسرتهم لصُنوف الأعداء من الصابئة والملاحدة، والباطنيَّة والقرامطة، والاتِّحادية والرافضة، واليهود والنصارى والمجوس.

 

ردًّا لما يُلقُونه ويُلقِّنونه بصَرِيف الأقلام، وقَذائف الكلام، من كُفر وضَلال وهوى غالب، وانحلال مُتَكالب، وما يُثيرونه من أدواء الشُّبهات، وما يَنثرونه من أمراض الشهوات، فتنازعوا سُبُلَ الضَّلال.

 

وسيم النَّقد لدى جمهرة العلم، تلمُّس الهدى، وتبيُّن الصواب، وتدبُّر الأقوال، والتبصُّر في الآراء.

 

قال ابن القيم: عادتنا في مسائل الدِّين كلِّها، دقِّها وجلِّها، أنْ نقول بموجبها، ولا نضرب بعضَها ببعضٍ، ولا نتعصَّب لطائفةٍ على طائفة.

 

بل نوافق كلَّ طائفة على ما معها من الحقِّ، ونخالفها فيما معها من خِلاف الحق، لا نستثني من ذلك طائفةً ولا مقالةً.

 

ونرجو من الله أنْ نحيا على ذلك، ونموتَ عليه، ونلقى الله به، ولا قوَّة إلا بالله[2].

 

وداعي الخِلاف يقتضي تقصِّي الحقِّ وتتبُّع الحقيقة؛ لذا دأبُ العلماءِ الردُّ على المخالف، ونقدُ المعارض، ومناظرةُ المحاور، ومجادلةُ الخصم.

 

و"معرفة هذا العلم لا يستغني عنها ناظرٌ، ولا يتمشى بدونها مناظرٌ؛ لأنَّ به تتبين صحَّة الدليل من فساده تحريرًا وتقريرًا، وتتَّضح الأسئلة الواردة من المردودة إجمالاً وتفصيلاً.

 

ولولاه لاشتبه التحقيق في المناظرة بالمكابرة.

 

ولو خُلِّيَ كلُّ مُدَّعٍ ومُدَّعَى ما يرومه على الوجه الذي يختار، ولو مكن كلُّ مانع من ممانعة ما يسمعه متى شاء، لأدَّى إلى الخبط وعدم الضبط.

 

وإنما المراسم الجدليَّة تفصلُ بين الحقِّ والباطل، وبين المستقيم من السقيم، فمَن لم يحطْ بها علمًا كان في مناظرته كحاطبِ ليلٍ"[3].

 

فكان مقصد ذاك أن "عُنِي العلماء في الإسلام بالجدل والمناظرة عنايةً شديدة، من يوم أنْ نشب الخلاف الفكري بين العلماء ورجال الفكر في هذه الأمَّة، وانتهَتْ عنايتهم بوضع قواعدَ لتنظيم الجدل والمناظرة؛ لكي يكونا في دائرة المنطق والفكر المستقيم، أسموْها علمَ الجدل، أو علم أدب البحث والمناظرة"[4].

 

فهذه جادَّةٌ مطروقة لحِراسة جميع العلوم، والدَّفع عنها من كلِّ صارفٍ لها عن وجهها، فالرصد لكلِّ مخالفٍ يجري في وادٍ واحدٍ لجميع العلوم والمعارف، وسُوق قامَتْ عليه ساحاتُ المناظرة والجدل، قال ابن خلدون: وأمَّا الجدل، فهو معرفةُ آدابِ المناظرة، التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية وغيرهم، فإنَّه لما كان بابُ المناظرة في الرد والقبول متسعًا، وكلُّ واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسلُ عنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صوابًا، ومنه ما يكون خطأ، فاحتاج الأئمَّة إلى أنْ يضعوا آدابًا وأحكامًا يقف المتناظران عند حُدودها في الردِّ والقبول.

 

وكيف يكون مخصومًا منقطعًا، ومحل اعتراضه أو معارضته، وأين يجبُ عليه السكوت، ولخصمه الكلام والاستدلال؛ ولذلك قيل فيه: إنَّه معرفةٌ بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال، التي يُتَوصَّل بها إلى حفظ الرأي أو هدمه.

 

وأوَّل مَن كتب فيه البزدوي والعميدي، ثم كثُر التأليف فيه من بعدهما"[5].

 

بل قبل بروز الخِلاف بين المسلمين، كان النقد والرد والجدل والمناظرة في القُرآن للمشركين وأهل الكتاب، ومنه استَنبَط الصحابة الأصولَ للرَّدِّ على شُبَهِ مشركي قريش، ومناظرة أهل الكتاب، ونقد عَقائد اليهود والنصارى، ومحاججة المنافقين والمكذبين؛ قال - تعالى - آمرًا نبيَّه: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ * وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 64 - 77].

 

فنقْدُ العقائد، وتتبُّعُ مقالات الفرق والطوائف، ودحضُ شُبَهِ أتباع النحل والملل - منشَؤُه القُرآن الكريم، في ردِّه على أقوال أهل الكتاب والمشركين، وعرض معتقداتهم ومقالاتهم ودحضها.

 

وأمَرَ الله تعالى بدعوتهم وجدالهم بالتي هي أحسن، وجهادهم باللسان والسنان؛ ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [العنكبوت: 46]، ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [الأنبياء: 18].

 

وكتاب الله جاء بنقْد العقائد السائدة وانحِرافها، ونقْد مظاهر التحلُّل الاجتِماعي، ومناقشة إنكار البعث.

 

فمَنهَجَ لعمليَّة الإصلاح بالبدءِ بالتخلية والتصفية للباطل وشَوائبه، ثم التحلية والتربية ببناء مفاهيم جديدة في الألوهيَّة والأسماء والصفات، وتشريع نُظُمٍ إسلاميَّة في سياسة الرعيَّة، وتعامُلات الأفراد وسلوكيَّاتهم فيما بينهم ومع غيرهم، فبيَّن الكتاب المبين آدابَ الأسرة، ونُظُمَ الدولة، وهُويَّة الأمَّة.

 

فنقَدَ آلهتَهم، وبيَّن عُيُوبَ ما يَزعُمون ألوهيَّتَه، وكشف النواقص التي تَنفِي عنها التألُّه؛ ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ * قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 38، 39].

 

﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ [النجم: 19 - 23].

 

ونقَدَ اليهودَ في زَعْمِهم يهوديَّةَ إبراهيم عليه السلام واتباعهم له؛ ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ * وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ [آل عمران: 65 - 70].

 

ونقَدَ النَّصارى في مواضعَ عدَّةٍ، منها: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [المائدة: 75، 76].

 

والنقد يستمدُّ مشروعيَّته من أمورٍ؛ هي:

مشروعيَّة النصيحة لله ورسوله وسائر المسلمين.

 

مشروعيَّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذا أصلٌ في الإسلام، وسيمة في هويَّة الأمَّة الإسلاميَّة وفضلها على الأمم.

 

مشروعيَّة محاسبة النفس، ومُراجعة الأفعال والقَرارات، والمحاسبةُ تكونُ من الفرد وبين الجماعة.

 

ومباحث نقد العقائد والردود "من ضنائن العلم وغواليه؛ لأنها تحملُ إعلانَ الصوت الإسلامي عاليًا، والقلم له راقمًا، بإظهار شعار من شعائر عُلَماء الأمَّة الإسلاميَّة، وبيان وظيفةٍ من وظائفهم الملِّيَّة، وتقرير أصلٍ من أصولها التعبُّديَّة، وهو: "مشروعيَّة الرد على كلِّ مخالفٍ بمخالفته"، وأخذه بذنبِه، وإدانته بجريرته، "ولا يجني جانٍ إلا على نفسِه"؛ كل هذا "لحراسة الدِّين"، وحمايته من العاديات عليه وعلى أهله، من خِلال هذه "الوظيفة الجهاديَّة"، التي دأبها: الحنين إلى الدِّين، والرحمة بالإنسانيَّة؛ لتعيش تحت مظلَّته: تكفُّ العدوان، وتصدُّ المعتدين، وتقيمُ سوق الأمِر بالمعروف، ورأسه "التوحيد"، والنهي عن المنكر، وأصله "الشرك"، وتحافظ على وحدة الصَّفِّ، وجمع الكلمة، ومد بشاشة الإيمان، وسُقيا ترقرق ماء الحياء، وتقيمُ طول الإسلام، وقوته، وظُهوره على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون، وتحطم الأهواء ولو كره المبتدعون"[6].

 

ومن دَوافِع قيام علم الكلام، نقدُ العقائد المخالفة للإسلام، ودرء فتن المقالات والشُّبَهِ؛ قال ابن خلدون في تعريفه لعلم الكلام: "هو علمٌ يتضمَّنُ الحجاج عن العقائد الإيمانيَّة، بالأدلة العقليَّة، والرد على المُبتَدِعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السُّنَّة، وسر هذه العقائد الإيمانيَّة هو التوحيد"[7].

 

فحِصن المسلمين التوحيد الخالص، ورأس مالهم الدِّين القيِّم، والهوى باعث البدعة، والجهل منبع الشبه، والبدع حبائل الكفر؛ لذا "اشتدَّ نَكِير السلف والأئمَّة لها، وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض، وحذروا فتنتَهم أشدَّ التحذير، وبالَغوا في ذلك، ما لم يُبالغوا مثله في إنكار الفواحش، والظلم، والعدوان؛ إذ مَضَرَّةُ البدع، وهدمهما للدِّين، ومُنافاتها له: أشد"[8].

 

وكان قيامهم بمهامِّ حِراسة الشريعة الغَرَّاء، وترصد حراك البِدَعِ، وتتبُّع مراصد الأهواء، والتنبُّه لزلات الآراء، والتنبيه على الأخطاء - فرضًا يلتزمون به، أنْ كتب الله عليهم ليُبيِّنُنَّ للناس دينَ الله الحق.

 

ومن جُملة بَيان الحق، كشفُ الباطل؛ ألا يلتبس، وإسكات أهل الباطل ألا ينطق الرُّوَيبضة، فما سكت عالِمٌ إلا تصدَّرَ جاهلٌ، والبدعةُ ساقطةٌ، وستجد لها لاقطة، "فالمرصدون للعلم، عليهم للأمَّة حفظ الدِّين وتبليغه.

 

فإذا لم يبلغوهم علمَ الدِّين، أو ضيَّعوا حِفظَه، كان ذلك من أعظم الظُّلم للمسلمين؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].

 

فإنَّ ضرَرَ كِتمانهم تعدَّى إلى البَهائِم وغيرها، فلعنَهُم اللاعنون حتى البهائمُ"[9].

 

وقرَّر ابن تيميَّة مشروعيَّة المناظرة وأهميَّتها، فقال: "وأمَّا جِنس المناظرة بالحقِّ، فقد تكون واجبةً تارةً، ومستحبَّةً أخرى...

 

وحَضَّ الله على المناظرة والمشاورة؛ لاستخراج الصواب في الدُّنيا والآخِرة؛ حيث يقول لمن رَضِي دِينهم: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38].

 

ما أمرهم بالمجادلة والمقاتلة، لِمَن عدَل عن السبيل العادلة؛ حيث يقول آمرًا وناهيًا لنبيِّه والمؤمنين؛ لبيان ما يرضاه منه ومنهم: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ [العنكبوت: 46]..."[10].

 

وجِنسُ المناظرة محمودٌ في مجمله، غير أنها قد تصبحُ مكابرةً أو معاندةً، فيلحقها النهي؛ لما يترتَّب عليها من المِراء، وبطَر الحق، وكتم الصواب، وإثارة الشَّحناء، وتأجيج البَغضاء، فتقودُ إلى التعصُّب، وتجلبُ الخصم إلى التمسُّك بباطله، واستِنجاده بالشُّبَهِ والمغالطات لتثبيت دَعائِمه.

"والمناظرة المحمودة نوعان، والمذمومة نوعان.

 

وذلك لأنَّ المناظر إمَّا أنْ يكون عالمًا بالحق، وإمَّا أنْ يكون طالبًا له، وإمَّا ألا يكون عالمًا به ولا طالبًا له، فهذا الثالث هو المذموم بلا ريب.

 

وأمَّا الأوَّلان: فمَن كان عالمًا بالحق، فمناظرته المحمودة أنْ يُبيِّن لغيره الحجَّةَ التي تهديه إنْ كان مسترشدًا طالبًا للحق إذا تبيَّن له، أو يقطعَه ويكفَّ عَداوتَه إن كان معاندًا غيرَ متبعٍ للحق إذا تبيَّن له.

 

ويُوقِفه ويسلكه ويبعثه على الناظر في أدلَّة الحقِّ إنْ كان يظنُّ أنَّه حقٌّ وقصده الحقُّ.

 

وذلك لأنَّ المخاطب بالمناظرة إذا ناظَرَه العالِمُ المبين للحجة، فإمَّا أنْ يكون ممَّن يفهمُ الحقَّ ويقبله، فهذا إذا بُيِّنَ له الحق فهِمَه وقَبِله، وإمَّا أن يكون ممَّن لا يقبله إذا فهمه، أو ليس له غرضٌ في فهمه، بل قصْده مجرَّد الردِّ له، فهذا إذا نُوظِرَ بالحجة، انقطع وانكفَّ شرُّه عن الناس وعداوته.

 

وهذا هو المقصود الذي ذكَرَه أبو حامدٍ وغيرُه، وهو دفعُ أعداء السُّنَّة المجادلين بالباطل عنها.

 

وإمَّا أنْ يكون الحقُّ قد التَبَسَ عليه، وأصلُ قصدِه الحق، لكنْ يَصعُب عليه معرفته؛ لضعف علمه بأدلَّةِ الحق، مثل مَن يكون قليلَ العلم بالآثار النبويَّة الدالَّة على ما أخبَرَ به من الحق، أو لضعف عقله؛ لكونه لا يمكنه أنْ يفهم دقيقَ العلم، أو لا يفهمه إلا بعد عُسر، أو قد سمع من حجج الباطل ما اعتقَدَ موجبه، وظنَّ أنَّه لا جواب عنه، فهذا إذا نُوظِر بالحجَّة، أفاده ذلك: إمَّا معرفة الحق، وإمَّا شكًّا وتوقُّفًا في اعتقاد الباطل، أو في اعتقاد صحَّة الدليل الذي استدلَّ به عليه، وبعث همَّته على النظر في الحقِّ وطلبه، إنْ كان له رغبةٌ في ذلك، فإنْ صار من أهل العصبيَّة الذين يتَّبعون الظن وما تهوى النفس، أُلحِقَ بقسم المعاندين، كما تقدَّم.

 

وأمَّا المناظرة المذمومة من العالم بالحق؛ فأنْ يكون قصده مجرَّد الظلم والعدوان لِمَن يُناظره، ومجرَّد إظهار عِلمه وبيانه؛ لإرادة العلوِّ في الأرض، فإذا أراد علوًّا في الأرض أو فسادًا، كان مذمومًا على إرادته، ثم قد يكونُ من الفجَّار الذين يُؤيِّدُ الله بهم الدِّين كما قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ الله يُؤيِّدُ هذا الدِّينَ بالرجل الفاجر))، فكما قد يجاهدُ الكفارَ فاجرٌ فينتفعُ المسلمون بجهاده، فقد يجادلُهم فاجرٌ فينتفع المسلمون بجِداله، لكنَّ هذا يضرُّ نفسه بسوء قصدِه، وربما أوقَعَه ذلك في أنواعٍ من الكذب والبدعة والظُّلم؛ فيجره إلى أمورٍ أخرى...

 

وأمَّا إنْ كان المناظر غيرَ عالِمٍ بالحقِّ بألا يعرفَ الحق في نفس المسألة، أو يعرف الحق لكن لا يعرف بعض الحجج، أو الجواب عن بعض المعارضات، أو الجمع بين دليلين مُتَعارضين، وأمثال ذلك، فهذا إذا ناظَر طالبًا لمعرفة الحق وأدلته والجواب عمَّا يعارضها، والجمع بين الأدلَّة الصحيحة، كان محمودًا، وإنْ ناظر بلا علمٍ فتكلَّمَ بما لا يعرف من القضايا والمقدمات، كان مذمومًا"[11].

 

وأقسام المناظرة المحمودة ممَّا امتازَ به الصحابة، ومَن تبع نهجهم في مجادلة أهل الشِّرك ومناظرة أهل البدع، فكانت مناظراتهم لأولئك من القسم الأوَّل، فهم عالمون بالحقِّ مرشدون له، يردُّون على أهل الكفر شُبَهَهم، ويُبيِّنون الحقَّ الذي معهم.

 

أمَّا مُناظَرة السلف فيما بينهم في مسائل الأحكام والتفسير، فإمَّا بعرض مَن بلغه شيء من العلم في ذاك لِمَن فاتَه فيرشده للصواب، وإمَّا حوار ومُباحَثة؛ بأنْ يعرض كلٌّ ما عندَه، ليتعاونوا على بلوغ الصَّواب، فيسترشد كلٌّ بما معه من السنن، وما فهم من الحكم؛ كيما تُجمَع النُّصوص، فتُستَنبط الأحكام، وذا من القسم الثاني، وهي المشاورة التي مدَحَهم الله عليها بقوله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38].

 

وقد ذَمَّ الله - تعالى - في القُرآن ثلاثةَ أنواع من المجادلة:

♦ المِراء: ﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾ [الكهف: 56]، ﴿ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾ [غافر: 5].

 

♦ المكابرة: ﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ ﴾ [الأنفال: 6].

 

♦ المعاندة: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [آل عمران: 66]، ﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ [غافر: 35].

 

"والذي ذمَّه السلفُ والأئمَّة من المجادلة والكلام هو من هذا الباب؛ فإنَّ أصل ذمِّهم الكلامُ المخالف للكتاب والسُّنَّة، وهذا لا يكون في نفس الأمر إلا باطلاً، فمَن جادَلَ به جادَلَ بالباطل، وإنْ كان ذلك الباطل لا يظهر لكثيرٍ من الناس أنَّه باطلٌ؛ لما فيه من الشبهة، فإنَّ الباطل المحض الذي يظهر بطلانه لكلِّ أحد لا يكون قولاً ومذهبًا لطائفة تذبُّ عنه، وإنما يكون باطلاً مشوبًا بحقٍّ؛ كما قال - تعالى -: ﴿ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 71].

 

أو تكون فيه شبهةٌ لأهل الباطل، وإن كانت باطلةً، وبطلانها يتبيَّن عند النظر الصحيح؛ كالذين قالوا: إنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - شاعرٌ وكاهن ومجنون، قالوا: إنَّه شاعر؛ لأن الشعر كلام موزون مُقَفًّى، فشبَّهوا القُرآن به من هذا الوجه، والكاهن يخبر أحيانًا بواحدةٍ تصدق، فشبَّهوا الرسول به من هذا الوجه، والمجنون يقولُ ويفعلُ خِلاف ما في عقول ذوي العقول، فلمَّا زعموا أنَّ ما يأتي به الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يخالفُ ما يأتي به العُقَلاء، نسَبُوه إلى ذلك"[12].

 

ومن أدلَّة الدِّفاع عن دِين الإسلام وشَرائعه، وُجوبُ جِهاد الكفَّار، قتالُهم بالسيف يلزمُ أولويَّة قتالهم باللسان، ولا مُنافاةَ في حقهم بين الجدال المأمور به، وبين القتال المأمور به.

 

و"مجاهدة الكفار باللسان ما زال مشروعًا من أوَّلِ الأمر إلى آخِره، فإنَّه إذا شرع جِهادهم باليد، فباللسان أَوْلَى؛ وقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((جاهِدُوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم))[13].

 

وكان ينصبُ لحسَّان منبرًا في مسجدِه، يجاهدُ فيه المشركين بلسانه جهادَ هجوٍ، وهذا كان بعدَ نزول آيات القتال.

 

وأين منفعة الهجوِ من منفعة إقامة الدَّلائل والبراهين على حجَّة الإسلام، وإبطال حُجَجِ الكفار من المشركين وأهل الكتاب؟"[14].

 

"والّذين يلوون ألسنتَهم باستنكارِ نقْدِ الباطل، وإنْ كان في بعضهم صَلاحٌ وخيرٌ، ولكنَّه الوهن وضعف العزائم حينًا، وضعف إدراك مَدارك الحقِّ والصَّواب أحيانًا.

 

بل في حقيقته من التَّولِّي يوم الزَّحف عن مواقع الحراسة لدِين الله والذَّبِّ عنه.

وحينئذٍ يكون السَّاكت عن كلمة الحقِّ كالنَّاطق بالباطل في الإثم...

 

وأضعفُ الإيمان أنْ يُقال لهؤلاء: هل سكَت المبطلون لنسكُت، أو أنَّهم يُهاجمون الاعتقاد على مَرأى ومَسمع، ويطلب منا السُّكوت؟

 

اللهمَّ لا، ونعيذُ بالله كلَّ مسلم مِن تسرُّب حجَّةِ اليهود؛ فهم مختلفون على الكتاب، مخالفون للكتاب.

 

ومع هذا يُظهِرون الوحدة والاجتماع، وقد كذَّبَهم الله تعالى فقال سبحانه: ﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ [الحشر: 14].

 

وكان من أسباب لعنَتِهم ما ذكره الله بقوله: ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ [المائدة: 79]"[15].



[1] "الرد على الزنادقة والجهمية"؛ أحمد بن حنبل الشيباني أبو عبدالله؛ تح: محمد حسن راشد، المطبعة السلفية: القاهرة، ط(1)، 1393، ص6.

[2] "طريق الهجرتين وباب السعادتين"؛ محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي أبو عبدالله؛ تح: عمر بن محمود أبو عمر، دار ابن القيم: الدمام، ط(2)، 1994، ص582.

[3] "شرح الكوكب المنير": ج4، ص361.

[4] "تاريخ الجدل"؛ أبو زهرة، ص6.

[5] "المقدمة"؛ ابن خلدون، ص117.

[6] "الردود"؛ بكر أبو زيد، دار العاصمة: الرياض، ط (1)، 1414، ص (7-8).

[7] "المقدمة"؛ ابن خلدون، ص264.

[8] "مدارج السالكين"؛ ابن قيم الجوزية، ج1، ص372.

[9] "مجموع الفتاوى"؛ ابن تيمية، ج28، ص187.

[10] "درء التعارض"؛ ابن تيمية، ج4، ص187.

[11] المصدر السابق: ج4، ص (181-183).

[12] المصدر السابق: ج4، ص183.

[13] أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد رقم 2504، وصحَّح النووي إسناده في "رياض الصالحين" ح (1349).

[14] "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"؛ أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني أبو العباس؛ تح: علي حسن ناصر، عبدالعزيز إبراهيم العسكر، حمدان محمد، دار العاصمة: الرياض، ط (1)، 1414، ج1، ص283.

[15] "الردود"؛ بكر أبو زيد، ص (75-76).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • ثمرات النقد
  • مضار السكوت عن النقد
  • إذا استفزك مقالي فانقده
  • بين النصيحة والنقد
  • قضية الحس والذهن في النقد

مختارات من الشبكة

  • الأدلة على مشروعية التعزير، والحكمة في مشروعيته(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حكم صرف النقود وأدلة مشروعيته(مقالة - آفاق الشريعة)
  • صلاة الركعتين بعد الوتر وما يقرأ فيهما(مقالة - موقع الشيخ أحمد بن عبدالرحمن الزومان)
  • أدلة مشروعية الزواج(مقالة - موقع أ. د. علي أبو البصل)
  • مشروعية الخلع والحكمة من تشريعه (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • رؤية الفقه الإسلامي لمدى مشروعية إجراء التجارب الطبية على الإنسان (PDF)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • الغضب أضراره وعلاجه ومشروعيته (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مشروعية استخدام السدر لتنظيف الشعر(مقالة - موقع د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر)
  • مشروعية التوسط في مدة خطبة الجمعة بلا تقصير مخل ولا تطويل ممل(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مشروعية إطالة الركعة الأولى والحكمة منه وما يقاس عليه(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب