• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    خطر الظلمات الثلاث
    السيد مراد سلامة
  •  
    تذكير الأنام بفرضية الحج في الإسلام (خطبة)
    جمال علي يوسف فياض
  •  
    حجوا قبل ألا تحجوا (خطبة)
    الشيخ عبدالله بن محمد البصري
  •  
    تعظيم المشاعر (خطبة)
    الشيخ محمد بن إبراهيم السبر
  •  
    من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الرفيق، ...
    فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (10)
    د. عبدالسلام حمود غالب
  •  
    القلق والأمراض النفسية: أرقام مخيفة (خطبة)
    د. محمد بن مجدوع الشهري
  •  
    آفة الغيبة.. بلاء ومصيبة (خطبة)
    رمضان صالح العجرمي
  •  
    تخريج حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى ...
    الشيخ محمد طه شعبان
  •  
    الإسلام هو السبيل الوحيد لِإنقاذ وخلاص البشرية
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    خطبة: فاعبد الله مخلصا له الدين (باللغة
    حسام بن عبدالعزيز الجبرين
  •  
    المحافظة على صحة السمع في السنة النبوية (PDF)
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    اختيارات ابن أبي العز الحنفي وترجيحاته الفقهية في ...
    عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد التويجري
  •  
    القيم الأخلاقية في الإسلام: أسس بناء مجتمعات ...
    محمد أبو عطية
  •  
    فوائد من حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ...
    محفوظ أحمد السلهتي
  •  
    لم تعد البلاغة زينة لفظية "التلبية وبلاغة التواصل ...
    د. أيمن أبو مصطفى
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / نوازل وشبهات / نوازل فقهية
علامة باركود

الشرط الجزائي

هيئة كبار العلماء

المصدر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد 2، ص59-144
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 4/2/2007 ميلادي - 16/1/1428 هجري

الزيارات: 107110

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الشرط الجزائي


المراد بالشرط الجزائي والداعي إليه:

الشرط الجزائي لم يكن معروفاً بهذا الاسم لدى فقهائنا الأقدمين، وإنما جاء ذكره في صور مسائل فقهية، ولعل أول وجود له في الفقه الإسلامي ما روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لكريه: أدخل ركابك، فإن لم أرحل معك يوم كذا أو كذا فلك مائة درهم فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه، وقال أيوب، عن ابن سيرين: أن رجلاً باع طعاماً وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع فلم يجيء فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه. اهـ.


أما الفقهاء المعاصرون فقد تعرضوا لبحثه في كتبهم بهذا الاسم وبينوا العوامل التي أدت إلى التوسع في الأخذ به فقال الأستاذ مصطفى الزرقاء[1].

 

في أواخر العهد العثماني اتسعت في الدولة التجارة الخارجية مع أوربا وتطورت أساليب التجارة الداخلية والصنائع وتولدت في العصر الحديث أنواع من الحقوق لم تكن معهودة كامتياز المؤلف والمخترع وكل ذي أثر فني جديد في استثمار مؤلفاته، أو مخترعاته، أو آثاره الفنية مما سمى بالملكية الأدبية والصناعية، واحتاج أصحاب هذه الحقوق والامتيازات إلى بيعها والتنازل عنها لغيرهم من القادرين على استثمارها - إلى أن قال: واتسع مجال عقود الاستصناع في التعامل بطريق الإيصاء على المصنوعات مع المعامل والمصانع الأجنبية وكذا عقود المتعهد بتقديم اللوازم والأرزاق والمواد الأوليه إلى الدوائر الحكومية والشركات والمعامل والمدارس مما سمى ((عقود التوريد)) وكل ذلك يعتمد على المشارطات في شتى صورها. وقد ازدادت أيضاً قيمة الزمن في الحركة الاقتصادية فأصبح تأخر أحد المتعاقدين أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضراً بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما قبل. فلو أن متعهداً بتقديم المواد الصناعية إلى صاحب معمل تأخر عن تسليمها إليه في الموعد المضروب لتَعَطّل العمل وعماله. ولو أن بائع بضاعة لتاجر تأخر في تسليمها حتى هبط سعرها لتضرر التاجر المشتري بخسارة قد تكون فادحه. وكذا تأخر الصانع عن القيام بعمله في وقته. وكل متعاقد إذا تأخر أو امتنع عن تنفيذ عقده في موعده.

 

ولا يعوض هذا الضرر القضاء على الملتزم بتنفيذ التزامه الأصلي لأن هذا القضاء إنما يضمن أصل الحق لصاحبه وليس فيه جبر لضرر التعطل أو الخسارة، ذلك الضرر الذي يلحقه من جراء تأخر خصمه عن وفاء الالتزام في حينه تهاوناً منه أو امتناعاً، وهذا قد ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه، ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح الفقه الأجنبي الشرط الجزائي. اهـ.


وذكر الدكتور عبدالرزاق السنهوري تعريف الشرط الجزائي وسبب تسميته بذلك فقال[2]: ((يحدث كثيراً أن الدائن والمدين لا يتركان تقدير التعويض إلى القاضي كما هو الأصل بل يعمدان إلى الاتفاق مقدماً على تقدير هذا التعويض، فيتفقان على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم يقم المدين بالتزامه وهذا هو التعويض عن عدم التنفيذ أو على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه وهذا هو التعويض عن التأخير. هذا الاتفاق مقدماً على التعويض يسمى بالشرط الجزائي. وسمى بالشرط الجزائي لأنه يوضع عادة كشرط ضِمْنَ شروط العقد الأصلي الذي يستحق التعويض على أساسه)). اهـ.

 

وفي الموسوعة العربية الميسرة ما نصه: ((شرط جزائي)): اتفاق يقدر فيه المتعاقدان سلفاً التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم ينفذ المدين التزامه أو إذا تأخر في تنفيذه. اهـ.


2- ما للشرط الجزائي من صور مختلفة:

الشرط الجزائي وإن كان يعني اشتراط التعويض عن الضرر اللاحق في طريقة تنفيذ العقد - إلا أن له صوراً مختلفة باختلاف العقود والالتزامات، وقد أشار الدكتور عبدالرزاق السنهوري إلى شيء من هذه الصور فقال[3]: ((والأمثلة على الشرط الجزائي كثيرة ومتنوعة: فشروط المقاوله قد تتضمن شرطاً جزائياً يلزم المقاول بدفع مبلغ معين عن كل يوم أو عن كل أسبوع أو عن كل مدة أخرى من الزمن يتأخر فيها المقاول عن تسليم العمل المعهود إليه إنجازه. ولائحة المصنع قد تتضمن شروطاً جزائية تقتضي بخصم مبالغ معينة من أجرة العامل جزاء له على الإخلال بالتزاماته المختلفة. وتعريفة مصلحة السكك الحديدية أو مصلحة البريد قد تتضمن تحديد مبلغ معين هو الذي تدفعه المصلحة للمتعاقد معها في حالة فقد طرد أو فقد رسالة واشتراط حلول جميع أقساط الدين إذا تأخر المدين في دفع قسط منها هو أيضاً شرط جزائي ولكن من نوع مختلف، إذ هو هنا ليس مقداراً معيناً من النقود قدر به التعويض، بل هو تعجيل أقساط مؤجله)). اهـ.


وقال في الحاشية في الصفحة نفسها ما نصه: ((هذا والأصل في الشرط الجزائي هو أن يكون تقديراً مقدماً للتعويض كما أسلفنا، ولكن قد يستعمله المتعاقدان لأغراض أخرى: من ذلك أن يتفقا على مبلغ كبير يزيد كثيراً على الضرر الذي يتوقعانه فيكون الشرط الجزائي بمثابة تهديد مالي. وقد يتفقان على مبلغ صغير يقل كثيراً عن الضرر المتوقع فيكون الشرط الجزائي بمثابة إعفاء أو تخفيف من المسئولية... وقد يكون الغرض من الشرط الجزائي تأكيد التزام المتعهد عن الغير بتحديد مبلغ التعويض الذي يكون مسئولاً عنه إذا لم يقم بحمل الغير على التعهد. وقد يوضع شرط جزائي في الاشتراط لمصلحة الغير لتقدير التعويض المستحق للمشترط في حالة إخلال المتعهد بالتزامه نحو المنتفع، فيمثل الشرط الجزائي في هذه الحالة المصلحة المادية للمشترط في اشتراطه لمصلحة الغير)). اهـ.


وجاء في نظام المناقصات والمزايدات السعودي ما نصه: ((إذا تأخر المقاول عن إتمام العمل وتسليمه كاملاً في المواعيد المحددة ولم تر اللجنة صاحبة المقاولة داعياً لسحب العمل منه توقع عليه غرامة عن المدة التي يتأخر فيها إكمال العمل بعد الميعاد المحدد للتسليم إلى أن يتم الاستلام المؤقت دون حاجة إلى أي تنبيه للمقاول ويكون توقيع الغرامة على المقاول كما يلي: 1% عن الأسبوع الأول 1.5% عن الأسبوع الثاني 2% عن الأسبوع الثالث 2.5% عما زاد عن ثلاثة أسابيع 3% عن أية مدة تزيد على أربعة أسابيع))[4]. اهـ.


3- ما يندرج تحته الشرط الجزائي من أنواع الشروط التي تشترط في عقود المعاملات أو إجارة أو نحو ذلك مع بيان وجه الاندراج:

نستعرض فيما تحت هذا العنوان ما ورد من الأحاديث والآثار في الشروط المقترنة بالعقود من حيث الجملة وما ذكره بعض العلماء في تفسيرها وما بنوه عليها من تقسيم الشروط إلى قسمين: شروط صحيحة وشروط فاسدة، وما وضعوه من الضوابط لكل منهما، ليتسنى معرفة ما يندرج تحته الشرط الجزائي من هذه الضوابط، وما يلتحق به من المسائل التي يشبهها وأدرجوها تحتها أو جعلوها أمثلة شارحة لها.

 

روى البخاري في صحيحه تحت باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطاً ليس في كتاب الله: عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءتْ تَسْتَفْتِيهَا في كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئاً. فَقَالَتْ لها عَائشَةُ: ارْجِعِي إلىَ أَهْلِكِ فَإنْ أَحبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاَؤكِ لي فَعَلتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأهْلِهَا فَأبَوا وَقَالُوا: إنْ شَاءتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونُ وَلاؤُكِ لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لهَا رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ابْتَاعي فَأعْتِقي فَإنّما الولاء لمنْ أَعْتَق))، قال: ثُمَّ قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ في كِتَابِ الله، مَنْ اشْتَرطَ شَرْطاً لَيسَ في كِتَابِ الله فَلَيْسَ لَهُ وإنْ شَرَطَ مائَةَ شَرْط شَرْطُ اللهِ أَحَقُ وَأَوْثَق))- وَفِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عَنْهَا أَنْ تَشْتَرِي جَارِيَةً لتُعْتِقَهَا فَقَالَ أَهْلُهَا عَلىَ أَنَّ وَلاَءهَا لَنَا، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَمْنَعُكِ ذَلِكَ فَإنّما الوَلاَء لِمَنْ أَعْتَق)).


قال ابن حجر في الفتح قوله باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطاً ليس في كتاب الله، جمع في هذه الترجمة بين حكمين وكأنه فسر الأول بالثاني، وأن ضابط الجواز ما كان في كتاب الله، وسيأتي في كتاب الشروط أن المراد بما ليس في كتاب الله، ما خالف كتاب الله. وقال ابن بطال: المراد بكتاب الله هنا حكمه: من كتابه أو سنة رسوله أو إجماع الأمة. وقال ابن خزيمة ليس في كتاب الله أي ليس في كتاب الله جوازه أو وجوبه، لا أن كل من شرط شرطاً لم ينطق به الكتاب يبطل؛ لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط ويشترط في الثمن شروطاً من أوصافه أو من نجومه ونحو ذلك، فلا يبطل. قال النووي: قال العلماء: الشروط في البيع أقسام:

أحدهما: يقتضيه إطلاق العقد كشرط تسليمه.

 

الثاني: شرط فيه مصلحة كالرهن وهما جائزان اتفاقاً.

 

والثالث: اشتراط العتق في العبد، وهو جائز عند الجمهور، لحديث عائشة وقصة بريرة.

 

الرابع: ما يزيد على مقتضى العقد ولا مصلحة فيه للمشتري، كاستثناء منفعته فهو باطل.

 

وقال القرطبي: ((قوله ليس في كتاب الله، أي ليس مشروعاً في كتاب الله تأصيلاً ولا تفصيلاً ومعنى هذا أن من الأحكام ما يؤخذ تفصيله من كتاب الله، كالوضوء ومنها ما يؤخذ تأصيله دون تفصيله، كالصلاة ومنها ما أصل أصله كدلالة الكتاب على أصلية السنة والإجماع، وكذلك القياس الصحيح فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلاً فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلاً - إلى أن قال - وقال القرطبي: قوله ولو كان مائة شرط، يعني أن الشروط الغير مشروعة باطله ولو كثرت)). اهـ[5].


وقال البخاري في صحيحه (باب الشروط التي لا تحل في الحدود):

عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بنِ خَالِدِ الجُهَنيِّ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أَنّهُمَا قَالا: إِنَّ رَجُلاً مِنَ الأعْرَابِ أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْشُدُكَ الله إلاَّ قَضَيْتَ لي بِكِتَابِ الله.

 

فَقَالَ الخصْمُ الآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ: نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ الله، وائْذَنْ لي، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: قُلْ، قَالَ: إنَّ ابْني كَانَ عَسِيفاً عَلىَ هَذَا، فَزَنى باِمْرَأَتِهِ، وإني أُخْبرْتُ أَنَّ عَلىَ ابْني الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمائَةِ شَاةٍ وَوَلِيده، فَسَألْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَأخْبَرُوني: أَنَّ مَا عَلى ابْني جَلْدُ مائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَام، وأَنَّ عَلى امْرأةِ هَذَا الرَّجْم، فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((والّذِي نَفْسي بِيّدِهِ لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، الوَلِيدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ، وَعَلىَ ابْنِكَ جَلْدُ مائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَام، أُغْدُ يَا أُنَيْسٍ إلى امْرَأَةِ هَذَا، فإنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا)). قَالَ: فَغَدا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ، فَأمَرَ بها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فرجمت.

 

قال ابن حجر في الفتح وقد ترجم له في الصلح إذا اصطلحوا على جور فهو مردود. ويستفاد من الحديث أن كل شرط وقع في رفع حد من حدود الله فهو باطل، وكل صلح وقع فيه فهو مردود. اهـ[6].


وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.

 

قال ابن حجر: وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه من اخترع مالا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه، قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك، وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع: لأن الدليل يتركب من مقدمتين والمطلوب بالدليل، إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه، لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل نافٍ لحكم. مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود. فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث وإنما يقع النزاع في الأول، ومفهومه أن من عمل عملاً عليه أمر الشرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث والأولى فيها النزاع فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع، لكن هذا الثاني لا يوجد فإذاً حديث الباب نصف أدلة الشرع. ((والله أعلم)).

 

وقوله: ( رد ) معناه مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول مثل: خلق ومخلوق، ونسخ ومنسوخ، وكأنه قال: فهو باطل غير معتد به. واللفظ الثاني وهو قوله: من عمل، أعم من اللفظ الأول وهو قوله: من أحدث، فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفيه رد المحدثات، وأن النهي يقتضي الفساد لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها، ويستفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر لقوله: ليس عليه أمرنا، والمراد به أمر الدين وفيه أن الصلح الفاسد منتقض والمأخوذ عليه مستحق الرد ا.هـ[7].


وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة في العقود والشروط منها، فقال[8].

 

القاعدة الثالثة: في العقود والشروط فيها، فيما يحل منها ويحرم، وما يصح منها ويفسد. ومسائل هذه القاعدة كثيرة جداً.

 

والذي يمكن ضبطه فيها قولان، أحدهما: أن يقال: الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك: الحظر، إلا ما ورد الشرع بإجازته. فهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا وكثير من أصول الشافعي وطائفة من أصول أصحاب مالك وأحمد. فإن أحمد قد يعلل أحياناً بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس. كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه. وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون: ما خالف مقتضى العقد فهو باطل. أما أهل الظاهر فلم يصححوا لا عقداً ولا شرطاً إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع. وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذي قبله، وطردوا ذلك طرداً جارياً. لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم.

 

• وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه يصحح في العقود شروطاً يخالف مقتضاها في المطلق. وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه. ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار، ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال. ولهذا منع بين العين المؤجرة. وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته. وإنما جوز الإجارة المؤخرة، لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة، أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع به، أو أن يشترط المشتري بقاء الثمر على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره. ولم يصحح في النكاح شرطاً أصلاً، لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ. ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار أو نحوهما. ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقاً. وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر، وهو عنده موضع استحسان.


والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص. فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث، ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع، حتى منع الإجارة المؤخرة، لأن موجبها - وهو القبض - لا يلي العقد ولا يجوز أيضاً ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق، لما فيه من السنة والمعنى، ولكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع، كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه، كبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء ونحو ذلك. ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض، ولا يجوِّز اشتراطها دارها أو بلدها، ولا أن يتزوج عليها ولا يتسرى، ويُجوِّز اشتراط حريتها وإسلامها. وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه، كالجمال ونحوه. وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار، وانفساخه بالشروط التي تنافيه، كاشتراط الأجل والطلاق ونكاح الشغار. بخلاف فساد المهر ونحوه.

 

وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي، كالخيار أكثر من ثلاث، وكاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها ولا يزاحمها بغيرها، ونحو ذلك من المصالح. فيقولون: كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل. إلا إذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين.

 

وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه يجوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي. فقد يوافقونه في الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض.


هؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم، لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر. وعمدة هؤلاء: قصة بريرة المشهورة. وهو ما خرجاه في الصحيحين عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيْرَةُ فَقَالَتْ كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِ عَامٍ أُوقِيّة فَأَعِيْنِينيِ فَقُلْتُ إنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُون وَلاَؤُكِ ليِ فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيْرَةُ إلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ فَأَبَوا عَليْهَا فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَقَالَتْ إِنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوا إلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُم الْوَلاَء فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُم الوَلاَءَ فإنّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَفَعَلتْ عَائِشَة ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في النّاسِ فَحَمِدَ الله وأَثْنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ((أَمّا بَعْدُ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ الله؟؟ مَا كَانَ مِن شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُو بَاطِلٌ وَإنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإنّمَا الْوَلاَءُ لِمنْ أَعْتَقَ))وَفِي رِوَايةٍ لِلْبُخَارِي ((اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَلْيَشْتَرِطُوا مَا شَاءُوا))فَاشْتَرَتْهَا فَأَعْتَقَتْها وَاشْتَرط أَهْلُهَا وَلاَءَها فَقَالَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الْوَلاَءُ لِمنْ أَعْتَق وَإنِ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْط))- وَفِي لَفْظٍ ((شَرْطُ اللهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ))وَفِي الصَّحِيحَيْنِ ((عن عَبْدِاللهِ بنِ عُمر، أَنَّ عَائِشَةَ أمَّ المؤْمِنِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَري جَارِيَةً لِتُعْتِقَهَا فَقَالَ أَهْلُهَا نَبِيعُكِهَا عَلَى أَنَّ وَلاَءَهَا لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ((لاَ يَمْنَعَنّكِ ذَلِكَ فَإنّما الوَلاَءُ لِمنْ اَعْتَقَ)). وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَريَ جَارِيَةً فَتُعْتِقَها فأبى أَهْلُهَا إلا أَنْ يكُونَ لَهُمُ الْوَلاء فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: ((لاَ يَمْنَعَنّكِ ذَلِكَ فَإنّمَا الْوَلاءُ لِمنْ أَعْتَقَ)).


ولهم من هذا الحديث حجتان:

إحداهما قوله: ((ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل))فكل شرط ليس في القرآن، ولا في الحديث، ولا في الإجماع: فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة، أو في الإجماع. فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع.

 

ومن قال بالقياس - وهم الجمهور - قالوا: إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة، أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله: فهو في كتاب الله.

 

الحجة الثانية: أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء، لأن العلة فيه: كونه مخالفا لمقتضى العقد. وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع فيعتبر تغييرها تغييراً لما أوجبه الشرع، بمنزلة تغيير العبادات. وهذا نكتة القاعدة. وهي أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع. ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي - في أحد القولين - لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطاً يخالف مقتضاها. فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر، ومتابعة لعبدالله بن عمر، حيث كان ينكر الاشتراط في الحج. ويقول: ((أليس حسبكم سنة نبيكم؟)) وقد استدلوا على هذا الأصل بقوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3]. وقوله: ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229].

 

قالوا: فالشروط والعقود التي لم تشرع تعدٍ لحدود الله، وزيادة في الدين.


وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا: ذلك منسوخ. كما قاله بعضهم في شروط النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين عام الحديبية. أو قالوا: هذا عام أو مطلق. فيخص بالشرط الذي في كتاب الله.

 

واحتجوا أيضاً بحديث يروي في حكاية عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهىَ عَنْ بَيْعٍ وَشرْطٍ)) وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء. وذكروا أنه لا يعرف أن الأحاديث الصحيحة تعارضه. وأجمع الفقهاء المعروفون - من غير خلاف أعلمه عن غيرهم - أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه، كاشتراط كون العبد كاتباً أو صانعاً، أو اشتراط طول الثوب، أو قدر الأرض، ونحو ذلك: شرط صحيح.

 

القول الثاني: أن الأصل في العقود والشروط: الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله، نصاً أو قياساً، وعند من يقول به. وأصول أحمد المنصوصة عنه، أكثرها يجيء على هذا القول. ومالك قريب منه، ولكن أحمد أكثر تصحيحاً للشروط. فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحاً للشروط منه.


وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يشتبه بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعاً من الصحة، ولا يعارض ذلك بكونه شرطاً يخالف مقتضى العقد، أو لم يرد به نص. وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة مالا تجده عند غيره من الأئمة. فقال بذلك وبما في معناه قياساً عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص، فقد يضعفه أو يضعف دلالته. وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة التي سنذكرها في تصحيح الشروط. كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقاً، فمالك يجوزه بقدر الحاجه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، يجوز شرط الخيار في النكاح أيضاً. ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان ونحوه. ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق، فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط. والنقص منه بالشرط مالم يتضمن مخالفة الشرع. كما سأذكره إن شاء الله.

 

فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك، وإذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير، اتباعاً لحديث جابر، لما باع النبي صلى الله عليه وسلم جمله واستثنى ظهره إلى المدينة.

 

• ويجوز أيضاً للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما، اتباعاً لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة، واشترطت عليه خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش.

 

• ويجوز - على عامة أقواله -: أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها. كما في حديث صفية. وكما فعله أنس بن مالك وغيره، وإن لم ترض المرأة، كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع، لكنه استثناها بالنكاح، إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز، بخلاف منفعة الخدمة.


واستمر رحمه الله في ذكر الأمثلة إلى أن قال:

• وجماع ذلك: أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة. فكلما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع يجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه، وجوز أيضاً استثناء بعض التصرفات.

 

وعلى هذا فمن قال: هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، قيل له: أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقاً؟ فإن أراد الأول: فكل شرط كذلك. وإن أراد الثاني: لم يسلم له، وإنما المحذور: أن ينافي مقصود العقد، كاشتراط الطلاق في النكاح، أو اشتراط الفسخ في العقد، فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده. هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي.

 

• أما الكتاب: فقال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1] والعقود هي العهود. وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ﴾ [الأنعام: 152] وقال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 34] فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود، وهذا عام، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله، وبالعهد وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه، بدليل قوله: ﴿ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ﴾ [الأحزاب: 15] فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود، وهذا عام، وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله، وبالعهد وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه، بدليل قوله: ﴿ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الأحزاب: 15] فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه، وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد، كالنذر والبيع، إنما أمر بالوفاء به.

 

• ولهذا قرنه بالصدق في قوله: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ﴾ [الأنعام: 152] لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر، والوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل، كما قال تعالى:﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 75 - 77].


واستمر رحمه الله في ذكر آيات في الحث على الوفاء بالعهود والتحذير من نقضها إلى أن قال:

• والأحاديث في هذا كثيرة، مثل ما في الصحيحين عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَان مُنَافِقَاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاق حَتّى يَدَعَهَا: إذَاَ حَدَّثَ كَذَب، وَإذَ وَعَدَ أَخْلَف، وَإذَا عَاهَدَ غَدر وَإذَا خَاصَمَ فَجَر))وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يُنْصَبُ لِكُلِ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَة))وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبي سَعِيدٍ عَنِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالْ: ((لِكُلِ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اِسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة))وفِي رِوَايةٍ ((لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ أَلاَ وَلاَ غَادِرَ أَعْظَمُ غَدَرةً مِنْ أَمِيرِ عَامّة))وَفِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ بنِ الحَصِيْبِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمّر أَمِيراً عَلى جَيْشٍ أَوْ سَرِيّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقَوى اللهِ وفِيمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمينَ خَيْراً ثُمَّ قَالَ: أُغْزُوا بِاسْمِ اللهِ وفِي سَبِيلِ اللهِ وَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللهِ أُغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلا تَغْدُرُوا وَلاَ تُمَثِّلُوا وَلاَ تقْتُلُوا وَلِيداً وَإذَا لَقِيتَ عدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ فادْعُهُمْ إلى ثلاَثِ خِصَالٍ أَوْ خِلاَلٍ فأَيّتُهُنَّ ما أَجابُوكَ فاقْبلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عنْهُمْ))- الحديث. فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول.

 

• وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل يغدر؟ فقال: لا يغدر، ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئاً إلا هذه الكلمة. وقال هرقل في جوابه: سألتك: هل يغدر؟ فذكرت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر))فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين.

 

• وَفِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: ((إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوْج))فدل على استحقاق الشروط بالوفاء، أن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها.

 

• وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ الله تَعَالى: ((ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَه: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَر وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اِسْتَأجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أجْرَه))فذم الغادر. وكل من شرط شرطاً ثم نقضه فقد غدر.

 

فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك.


ولو كان الأصل فيها الحظر والفساد، إلا ما أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقاً ويذم من نقضها وغدر مطلقاً، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه، لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح، بخلاف ما كان جنسه واجباً، كالصلاة والزكاة، فإنه يؤمر به مطلقاً. وإن كان لذلك شروط وموانع. فينهى عن الصلاة بغير طهارة، وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك. كذلك الصدق في الحديث مأمور به وإن كان قد يحرم الصدق أحياناً لعارض، ويجب السكوت أو التعريض.

 

وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأموراً به: علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده. ومقصود العقد: هو الوفاء به فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة.

 

وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سلمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((الصُّلْحُ جائز بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلاَّ صُلْحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً، وَالمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ))وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية: هو ثقة. وضعفه في رواية أخرى.


وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: ((الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمينَ إلاَّ صُلْحَاً حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَاماً))قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وروى ابن ماجه منه الفصل الأول، لكن كثير ابن عمرو ضعفه الجماعة. وضرب أحمد على حديثه في المسند، فلم يحدث به. فلعل تصحيح الترمذي له بروايته من وجوه. وقد روى أبو بكر البزار أيضاً عن محمد بن عبدالرحمن السلماني عن أبيه عن ابن عمر قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((النّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقَ الْحَقّ))- وهذه الأسانيد - وإن كان الواحد منها ضعيفاً - فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضاً.

 

وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب، فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله. فإن شرطه حينئذ يكون مبطلاً لحكم الله وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله، وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط مالم يكن واجباً بدونه، فمقصود الشروط وجوب مالم يكن واجباً ولا حراماً، وعدم الإيجاب ليس نفياً بالإيجاب حتى يكون المشترط مناقضاً للشرع، وكل شرط صحيح فلابد أن يفيد وجوب مالم يكن واجباً، فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الأقباض مالم يكن واجباً، ويباح أيضاً لكل منهما ما لم يكن مباحاً، ويحرم على كل منهما مالم يكن حراماً. وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين. وكذلك إذا اشترط صفة في البيع، أو رهناً، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها، فإنه يجب، ويحرم ويباح بهذا الشرط مالم يكن كذلك.


- وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط، قال: لأنها إما أن تبيح حراماً، أو تحرم حلالاً، أو توجب ساقطاً، أو تسقط واجباً، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض، وليس كذلك، بل كل ما كان حراماً بدون الشرط: فالشرط لا يبيحه، كالربا وكالوطء في ملك الغير، وكثبوت الولاء لغير المعتق فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح، أو ملك يمين، فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز، وكذلك الولاء، فقد ((نَهَى النّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْوَلاَءِ وَعَنْ هِبَتِهِ)) وجعل الله الولاء كالنسب، يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد.

 

• وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنِ ادَّعَى إلى غيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَليْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِين، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفَاً وَلاَ عَدْلا))وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره، وانتساب المعتق إلى غير مولاه. فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط، فلا يبيح الشرط منه ما كان حراماً، وأما ما كان مباحاً بدون الشرط: فالشرط يوجبه، كالزيادة في المهر والثمن والرهن، وتأخير الاستيفاء. فإن الرجل له أن يعطي المرأة، وله أن يتبرع بالرهن وبالأنظار، ونحو ذلك، فإذا شرطه صار واجباً، وإذا وجب فقد حرَّم المطالبة التي كانت حلالاً بدونه، لأن المطالبة لم تكن حلالاً مع عدم الشرط فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقاً فما كان حلالاً وحراماً مطلقاً فالشرط لا يغيره.

 

وأما ما أباحه الله في حال مخصوصية ولم يبحه مطلقاً، فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله، كذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة، ولم يحرمه مطلقاً، لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب.

 

فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك، كما قال عمر رضي الله عنه ((مقطع الحقوق عند الشروط)).


وأما الاعتبار فمن وجوه. أحدها: أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية. والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم، كما أن الأعيان: فيها عدم التحريم. وقوله: ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 119] عام في الأعيان والأفعال، الأصل وإذا لم يكن حراماً لم تكن فاسدة، وكانت صحيحة.

 

وأيضاً فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط، إلا ما ثبت حله بعينه، وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة، وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالاً وإما عفواً، كالأعيان التي لم تحرم.


وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة، والاستصحاب العقلي، وانتفاء الحكم لانتفاء دليله، فإنه يستدل به على عدم تحريم العقود والشروط فيها، سواء سمي ذلك حلالاً أو عفواً على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم، فإن ما ذكره الله في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع: منه ما سببه تحريم الأعيان، ومنه ما سببه تحريم الأفعال. كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أحمسياً ويأمرونه بالتعري، إلا أن يعيره أحمسي ثوبه، ويحرمون عليه الدخول تحت سقف، كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل إمرأته في فرجها إذا كانت مجنبة، ويحرمون الطواف بالصفا والمروة، وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع. فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم.


فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة، وإن لم يثبت حلها بشرع خاص، كالعهود التي عقدها في الجاهلية وأمر بالوفاء بها، وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا ما حرمه الله لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين مالم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه الله. فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي، كنا محرمين ما لم يحرمه الله. بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله. فإن الله حرم أن يشرع من الدين مالم يأذن به. فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر. فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع. كالعتق والصدقة.

 

فإن قيل: العقود تغير ما كان مشروعاً، لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتاً على حال فعقد عقداً أزاله عن تلك الحال: فقد غير ما كان مشروعاً، بخلاف الأعيان التي لم تحرم، فإنه لا يعتبر في إباحتها.

 

فيقال: لا فرق بينهما. وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكاً لشخص أو لا تكون. فإن كانت ملكاً فانتقالها بالبيع إلى غيره لا يغيرها، وهو من باب العقود. وإن لم تكن ملكاً فملكها بالاستيلاء ونحوه: هو فعل من الأفعال مغير لحكمها، بمنزلة العقود.

 

وأيضاً فإنها قبل الزكاة محرمة. فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال. فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة: الأصل فيه الحل، وإن غير حكم العين. فكذلك أفعالنا في الأملاك في العقود ونحوها: الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك.


وسبب ذلك: أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام، والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا، لم يثبته ابتداء، كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة، فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم، ولم يحرم الشارع علينا رفعه: لم يَحْرُم علينا رفعه. فمن اشترى عيناً فالشارع أحلها له وحرمها على غيره، لإثباته سبب ذلك. وهو الملك الثابت بالبيع. وما لم يحرم الشارع عليه رفع ذلك، فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب، مالم يحرمه الشارع عليه. كمن أعطى رجلاً مالاً: فالأصل أن لا يحرم عليه التصرف فيه. وإن كان مزيلاً للملك الذي أثبته المعطي مالم يمنع مانع. وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها، وهو أن الأحكام الجزئية - من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو - لم يشرعها الشارع شرعاً جزئياً، وإنما شرعها شرعاً كلياً، مثل قوله: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275] وقوله: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ [النساء: 24] وقوله: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ [النساء: 3] وهذا الحكم الكلي ثابت، سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد. فإذا وجد بيع معين أثبت ملكاً معيناً. فهذا المعين سببه فعل العبد. فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته الله من الحكم الجزئي، إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط، لأن الشارع أثبته ابتداء.


وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام. وليس كذلك فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته الشارع. وأما هذا المعين فإنما ثبت؛ لأن العبد أدخله في المطلق، فإدخاله في المطلق إليه، فكذلك إخراجه. إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبداً، مثل أن يقول: هذا الثوب بعه أو لا تبعه، أو هبه أو لا تهبه، وإنما حكمه على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين حكم على المعين.

 

فتدبر هذا، وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد. وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع، فإنما وجب الوفاء بها لايجاب الشارع الوفاء بها مطلقاً، إلا ما خصه الدليل، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل، بل والعقلاء جميعهم وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي، ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع، والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذن، ولايجاب العقل أيضاً.


وأيضاً فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد، لأن الله قال في كتابه العزيز: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾[النساء: 29]. وقال: ﴿ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴾ [النساء: 4] فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه فدل على أنه سبب له، وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم. وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق فكذلك سائر التبرعات، قياساً عليه بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن. وكذلك قوله: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29] لم يشترط في التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة. وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرع: ثبت حله بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله، كالتجارة في الخمر ونحو ذلك.


وأيضاً فإن العقد له حالان: حال إطلاق، وحال تقييد. ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود، فإذا قيل هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فإن أريد به ينافي العقد المطلق. فكذلك كل شرط زائد. وهذا لا يضره، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد: احتاج إلى دليل على ذلك، وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد. فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود. فقد جمع بين المتناقضين: بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء. ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق، بل هو مبطل العقد عندنا.


تعاد الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصود الملك، والعتق قد يكون مقصوداً للعقد. فإن اشتراءَ العبد لعتقه يقصد كثيراً. فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقْ))فإذا كان الشرط منافياً لمقصود العقد كان العقد لغواً. وإذا كان منافياً لمقصود الشارع كان مخالفاً الله ورسوله. فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما، فلم يكن لغواً، ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله، فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله، لأنه عمل مقصود الناس يحتاجون إليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه، ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج.

 

وأيضاً فإن العقود والشروط لا تخلو، إما أن يقال لا يحل ولا يصح، إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص، من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور. كما ذكرناه من القول الأول، أو يقال: لا تحل وتصح حتى يدل على حلها دليل سمعي، وإن كان عاماً، أو يقال: تصح ولا تحرم إلا أن يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام.


والقول الأول: باطل، لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر، وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم. فقال سبحانه في آية الربا: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278] فأمرهم بترك ما بقي لهم من الربا في الذمم، ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا، بل مفهوم الآية - الذي اتفق العمل عليه - يوجب أنه غير منهي عنه. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم، ولم يأمرهم برد المقبوض. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّمَا قَسْمٍ قُسِمَ فِي الجَاهِليّةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُسِمْ وَأَيُّمَا قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الإِسْلاَمُ فَهُو عَلى قَسْمِ الإسْلاَم))وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية، ولم يستفصل: هل عقد به في عدة أو غير عدة؟ بولي أو بغير ولي؟ بشهود أو بغير شهود؟ ولم يأمر أحداً بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته، إلا أن يكون السبب المحرم موجوداً حين الإسلام.. كَمَا أَمَرَ غَيْلاَنَ بنِ سَلَمَةَ الثّقَفِيِ الّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ أَنْ يُمْسِكَ أَرَبَعاً وَيُفَارِقَ سَائِرَهُنَّ وَكَما أَمَرَ فَيْرُوزاً الدَّيْلَمِيَّ الَّذِي أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ أَنْ يَخْتَارَ إحْدَاهُمَا وَيُفَارِقَ في الأُخْرَى، وَكَمَا أَمَرَ الصَّحَابَة مَنْ أَسْلَمَ مِنَ المْجُوس أَنْ يُفَارِقَ ذَوَاتِ المَحَارِم)) ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين، وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع. ولو كانت العقود عندهم كالعبادات، لا تصح إلا بشرع، لحكموا بفسادها، أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع.

 

• فإن قيل: فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام، ثم أسلموا بعد زواله: مضت، ولم يؤمروا باستئنافها، لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، فليس ما عقدوه بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع، وكلاهما عندكم سواء.

 

• قلنا: ليس كذلك، بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به التقابض، وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ بخلاف ما عقدوه بغير شرع فإنه لا يفسخ، لا قبل القبض ولا بعده، ولم أر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض، بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده، لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاماً بنفسه، وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة ونحوها. كما أن نفس الوطء يوجب أحكاماً، وإن كان بغير نكاح. فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصوداً في نفسه - ولن يقترن بالآخر - أقرهم الشارع على ذلك. بخلاف الأموال، فإن المقصود بعقودها هو التقابض فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها، فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود.

 

فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم لأنه لا يصححه إلا بتحليل.

 

• وأيضاً فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقوداً ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها، فإن الفقهاء جميعهم - فيما أعلمه - يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد. ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله. فلو كان إذن الشارع الخاص شرطاً في صحة العقود: لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد، فإنه آثم، وإن كان قد صادف الحق.

 

وأما إن قيل: لابد من دليل شرعي يدل على حلها، سواء كان عاماً أو خاصاً، فعنه جوابان.

 

أحدهما: المنع كما تقدم.

 

والثاني: أن نقول: قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة، إلا ما استثناه الشارع. وما عارضوا به سنتكلم عليه إن شاء الله، فلم يبق إلا القول الثالث وهو المقصود.

 

• وَأمّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((أَيّما شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإنْ كَانَ مِائَةَ شَرْط كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقْ))فالشرط يراد به المصدر تارة، والمفعول أخرى. وكذلك الوعد والخلف. ومنه قولهم: درهم ضرب الأمير، والمراد به هنا - والله أعلم - المشروط لا نفس التكلم. ولهذا قال: ((وإنْ كَانَ مائَةَ شرْط))أي: وإن كان قد شرط مائة شرط، وليس المراد تعديد التكلم بالشرط وإنما المراد تعديد الشرط. والدليل على ذلك قوله: ((كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق))أي: كتاب الله أحق من هذا الشرط، وشرط الله أوثق منه. وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه، بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى.

 

• وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله، فلم يخالف كتاب الله وشرطه، حتى يقال: ((كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق))فيكون المعنى: من اشترط أمراً ليس في حكم الله ولا في كتابه، بواسطة وبغير واسطة: فهو باطل، لأنه لابد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط، حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط، ولما لم يكن في كتاب الله: أن الولاء لغير المعتق أبداً كان هذا المشروط - وهو ثبوت الولاء لغير المعتق - شرطاً ليس في كتاب الله. فانظر إلى المشروط إن كان أصلاً أو حكماً. فإن كان الله قد أباحه: جاز اشتراطه ووجب. وإن كان الله لم يبحه: لم يجز اشتراطه. فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته. فهذا المشروط في كتاب الله، لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها. فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطاً مباحاً في كتاب الله.


فمضمون الحديث: أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة، أو يقال: ليس في كتاب الله. أي: ليس في كتاب الله ففيه، كما قال: ((سَيَكُونُ أَقْوَامٌ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَعْرِفُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤكُمْ))أي: بما تعرفون خلافه. وإلا فما لا يعرف كثير.

 

ثم نقول إذا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة، بمعنى أنه لا يلزم بها شيء، لا إيجاب ولا تحريم، فإن هذا خلاف الكتاب والسنة، بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه، وسماه ﴿ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ﴾ [المجادلة: 2] ثم إنه أوجب به على من عاد: الكفارة، ومن لم يعد: جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد. وكذا النذر. فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، كما ثبت ذلك عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر فقال: ((إِنّهُ لا يأتي بِخْير))ثم أوجب الوفاء به، إذا كان طاعة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلاَ يَعْصِه)).


فالعقد المحرم قد يكون سبباً لإيجاب أو تحريم. نعم لا يكون سبباً لإباحة، كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر. وعن عقد الربا. وعن نكاح ذوات المحارم. ونحو ذلك لم يستفد المنهي بفعله، لما نهى عنه الاستباحة لأن المنهي عنه معصية. والأصل في المعاصي: أنها لا تكون سبباً لنعمة الله ورحمته، والإباحة من نعمة الله ورحمته، وإن كانت قد تكون سبباً لعقوبة الله والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة كما قَالَ تَعالَى: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ [النساء: 160] وإن كان قد يكون رحمة أيضاً، كما جاءت شريعتنا الحنيفة.

 

والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص: فهو عقد حرام، وكل عقد حرام فوجوده كعدمه، وكلا المقدمتين ممنوعة، كما تقدم.


وقد يجاب على هذه الحجة بطريقة ثانية، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد الشروط التي لم يبحها، وإن كان لم يحرمها باطلة. فنقول:

قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموماً، وإن المقصود هو وجوب الوفاء بها. وعلى هذا التقدير. فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة. فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة، وإذا لم تكن باطلة كانت مباحه. وذلك لأن قوله: ((ليس في كتاب الله))إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه إنما ما دل كتاب الله على إباحته بعمومه. فإنه في كتاب الله، لأن قولنا: هذا في كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم. وعلى هذا معنى قوله تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 89] وقوله: ﴿ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [يونس: 37]. وقوله: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38] على قول من جعل الكتاب هو القرآن. وأما على قول من جعله اللوح المحفوظ: فلا يجيء ههنا.

 

يدل على ذلك: أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع: صحيح بالاتفاق فيجب أن يكون في كتاب الله. وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه. ولكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين. فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار، لأن جامع الجامع جامع، ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار.

 

• يبقى أن يقال على هذا الجواب: فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموماً، فشرط الولاء داخل في العموم.

 

فيقال: العموم إنما يكون دالاً إذا لم ينفه دليل خاص. فإن الخاص يفسر العام. وهذا المشروط قد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته. وقوله: ((مَن ادَّعَى إلى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِين))ودل الكتاب على ذلك بقوله تعالى: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ﴾ [الأحزاب: 4، 5]. فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده، دون من تبناه. وحرم التبني، ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعى أخاه في الدين ومولاه، كما قَالَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدِ ابنِ حَارِثَه ((أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلاَنَا))وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((إخْوَانُكُمْ خَوَلُكَمْ جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحَتَ يَدِهِ فَليُطْعِمْهُ مِمّا يَأكُلْ وَلْيَكْسِهِ مِمّا يَلْبَسْ)).


• فجعل سبحانه الولاء نظير النسب، وبين سبب الولاء في قوله: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ﴾ [الأحزاب: 37] فبين أن سبب الولاء: هو الإنعام بالإعتاق، كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاء. فإذا كان قد حرم الانتقال عن المنعم بالايلاد. فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالاعتاق لأنه في معناه، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره، فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره.

 

وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ((إنّما الْوَلاَءُ لِمنْ أَعْتَق)).


• وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه: لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها، لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه، مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يرد إلا المعنى الأول، وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله والتقدير: من اشترط شيئاً لم يبحه الله. فيكون المشروط قد حرمه، لأن كتاب الله قد أباح عموماً ولم يحرمه، أو من اشترط ما ينافي كتاب الله، بدليل قوله: ((كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقْ))فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلين: الأدلة الشرعية العامة، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب، وانتفاء المحرم. فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة: هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا؟

 

• أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفيَ الدليل الشرعي: فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام: أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك. فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله، مفسر لهذا الاستصحاب. فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذاك؛ وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة: فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضاً لا يجوز التمسك به، إلا بعد البحث عن تلك المسألة: هل هي من المستخرج، أو من المستبقي؟ وهذا أيضاً لا خلاف فيه، وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه، أو علم تخصيص صور معينه فيه: هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له. فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما. وذكروا عن أحمد فيه روايتين، وأكثر نصوصه: على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة، وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم. وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره. فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه. فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه. وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض، سواء جعل عدم المعارض جزءاً من الدليل، فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة - كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم، أو يجعل المعارض من باب المانع للدليل فيكون الدليل هو الظاهر، لكن القرينة مانعة لدلالته، كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم، وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي، أو إطلاق لفظي، أو اصطلاح جدلي، لا يرتفع إلى أمر علمي أو فقهي.

 

فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها: مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط، فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع، فهي بأصول الفقه - التي هي الأدلة العامة - أشبه منها بقواعد الفقه، التي هي الأحكام العامة.

 

نعم من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة. فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة.

 

فمن ذلك: ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عيناً من ملكه بمعاوضة، كالبيع والخلع أو تبرع كالوقف والعتق - أن يستثني بعض منافعها. فإن كان مما لا يصلح فيه القربة - كالبيع - فلابد أن يكون المستثني معلوماً. لما روى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عَنْ جَابرٍ قَالَ: بِعْتُهُ - يَعْني بَعِيرَهُ - مِنَ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَرطْتُ حِمْلاَنَهُ إلى أَهْلِي)) وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف، فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده، أو عاش فلان، ويستثني غلة الوقف ما عاش الواقف.

 

ومن ذلك: أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد: صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لحديث بريرة، وإن كان عنهما قول بخلافه.

 

• ثم وهل يصير العتق واجباً على المشتري، كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في البيع؟ على وجهين في مذهبهما. ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجاً عن القياس، لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق، وذلك مخالف لمقتضى العقد فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقاً.

 

• قالوا: وإنما جوزته السنة؛ لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره، ولذلك أوجب فيه السراية، مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسرايه والنفوذ في ملك الغير لم يل…حق به غيره. فلا يجوز اشتراط غيره.

 

• وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح، وإن كان فيه منع من غيره. قال ابن القاسم: قيل لأحمد: الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها؟ فأجازه. فقيل له: فإن هؤلاء - يعني أصحاب أبي حنيفة - يقولون: لا يجوز البيع على هذا الشرط. قال: لم لا يجوز؟ قد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة، واشترت عائشة بريرة على أن تعتقها، فلم لا يجوز هذا؟ قال: وإنما هذا شرط واحد. والنهي إنما هو على شرطين قيل له: فإن شرط شرطين أيجوز؟ قال: لا يجوز.

 

• فقد نازع من منع منه، واستدل على جوازه باشتراط النبي صلى الله عليه وسلم ظهر بعير جابر، وبحديث بريرة، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شرطين في بيع، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع. وهو نقض لموجب العقد المطلق، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق.

 

• فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك، واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره، ولا استدل عليه بما يشمله وغيره.

 

• وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان: سألت أبا عبدالله عمن اشترى مملوكاً واشترط هو حر بعد موتي؟ قال: هذا مدبر، فجوز اشتراط التدبير كالعتق. ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف. صحح الرافعي أنه لا يصح.

 

• وكذلك جوز اشتراط التسري: فقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها، تكون نفيسة، يحب أهلها أن يتسرى بها، ولا تكون للخدمة؟ قال: لا بأس به فلو كان التسري للبائع وللجارية فيه مقصود صحيح جوزه.

 

• وكذلك جوز أن يشترط البائع الجارية ونحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع، وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول. كما رووه عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب.

 

• وجماع ذلك: أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُها لِلْبَائِعِ إلاَّ أَن يَشْتَرِطَ المُبْتَاع))فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع. ويملكان اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق، وهو جائز بالإجماع. ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كَمَا ((نَهَى النّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الثّنايا إلاَّ أَنْ تُعْلَمْ)) فدل على جوازها إذا علمت. وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة.

 

• وقد أجمع المسلمون فيما أعلمه على جواز استثناء الجزء الشائع. مثل أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها، واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر. مثل أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها، أو الثياب إلا العبيد، أو الماشية التي قد رأياها، إلا شيئاً منها قد عيناه.

 

• واختلفوا في استثناء بعض المنفعة، كسكنى الدار شهراً، أو استخدام العبد شهراً، أو ركوب الدابة مدة معينة، أو إلى بلد بعينه، مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة: على أن ذلك قد يقع. كما إذا اشترى أمة مزوجة. فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد، كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجه. لكن هي اشترتها بشرط العتق، فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق والعتق لا ينافي نكاحها. فلذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما وهو ممن روى حديث بريرة - يرى أن بيع الأمة طلاقها، مع طائفة من الصحابة تأويلاً لقوله تعالى: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [النساء: 24] قالوا: فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه. فتباح له. ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج. واحتج بعض الفقهاء على ذلك: بحديث بريرة.

 

• فلم يرض أحمد هذه الحجة لأن ابن عباس رواه وخالفه. وذلك - والله أعلم - لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكاً مطلقاً.

 

• ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها - ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك. وكان مالكها معصوم الملك - لم يزل عنها ملك الزوج، وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع.

 

• ومن حجتهم: أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه، ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من ملك البائع، والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه، بخلاف المسبيه، فإن فيها خلافاً ليس هذا موضعه، لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم. وكذلك ما ملكوا من الأبضاع.

 

• وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجراً قد بدا ثمره - كالنخل المؤبر - فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه، فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح. وكذلك بيع العين المؤجرة - كالدار والعبد - عامتهم يجوزه، ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر.

 

• ففقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض العقد، كما في صور الوفاق. كاستثناء بعض أجزائه معيناً ومشاعاً، كذلك يجوزون استثناء بعض أجزائه معيناً، إذا كانت العادة جارية بفصله، كبيع الشاة واستثناء بعضها، سواء قطعها من الرأس والجلد والأكارع. وكذلك الإجارة. فإن العقد المطلق يقتضي نوعاً من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان، كما لو استأجر أرضاً للزرع، أو حانوتاً لتجارة فيه، أو صناعة أو أجيراً لخياطة، أو بناء ونحو ذلك. فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق، أو نقص عنه: فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح، فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتى شاء، فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر، إلا ما استثناه من الاستمتاع المحرم الذي هو مهر المثل، وملكها للاستمتاع في الجملة، فإنه لو كان مجبوباً أو عنيناً ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء والمشاهير ولو آلى منها ثبت لها فراقه إذا لم يفيء بالكتاب والإجماع، وإن كان من الفقهاء من يوجب عليه الوطء، وقسم الابتداء، بل يكتفي بالباعث الطبيعي، كمذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد. فإن الصحيح من وجوه كثيرة أنه يجب عليه الوطء والقسم كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار. وقيل: يتقدر الوطء الواجب بمرة في كل أربعة أشهر، اعتباراً بالإيلاء ويجب أن يطأها بالمعروف. كما ينفق عليها بالمعروف، فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره.

 

• والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد، وعليه أكثر السلف: أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر، كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة، وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدار، بل المرجع في ذلك إلى العرف، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228] والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوف))وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم باجتهاده. كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة، ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق، فهو كتقدير الشافعي النفقة، إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد. وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء، بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار. والشافعي إنما قدره طرداً للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود، قياساً على المنع من بيع الغرر، فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة: طرداً لذلك. وقد تقدم التنبيه على هذا الأصل.

 

• وكذلك يوجب العقد المطلق: سلامة الزوج من الجب والعنّة عند عامة الفقهاء وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من العيوب التي تمنع كماله، كخروج النجاسات منه أو منها أو نحو ذلك في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره، دون الجمال ونحو ذلك. وموجبه كفاءة الرجل أيضاً دون ما زاد على ذلك.

 

• ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة، كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك. صح ذلك، وملك المشترط الفسخ عند فواته، في أصح الروايتين عند أحمد، وأصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك. والرواية الأخرى: لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين. وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان، سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل، أو الرجل في المرأة. بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم. وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك: لا أصل له.

 

• وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد، مثل أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين، أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة، صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء. فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع، كما ذكرته لك. فإن مذهب أبي حنيفة: أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح. وأما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص جاز بالاتفاق.

 

• كذلك يجوز أكثر السلف - أو كثير منهم - وفقهاء الحديث ومالك - في إحدى الروايتين - أن ينقص ملك الزوج، فتشترط عليه أن لا ينقلها من بلدها أو من دارها، وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق صرفوا عليها نفسه[9] فلا يتزوج عليها ولا يتسرى، وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى: لا يصح هذا الشرط، لكنه له عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر.

 

• والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز مالم يمنع من الشرع. فإذا كانت الزيادة في العين، أو المنفعة المعقود عليها، والنقص من ذلك على ما ذكرت. فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك. فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد، أو يقف العين على البائع أو غيره، أو أن يقضي بالعين ديناً عليه لمعين أو غير معين، أو أن يصل به رحمه ونحو ذلك. فهو اشتراط تصرف مقصود. ومثله التبرع المفروض والتطوع.

 

• وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع فضعيف فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه. فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل منه، كما نص عليه أحمد. فإن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أعتقت جارية لها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ تَرَكْتِيهَا لأَخْوَالِكِ لَكَانَ خيْراً لَكِ))ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق. وما أعلم في هذا خلافاً، إنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم. فإن فيه عن أحمد روايتين:

إحداهما: تجب. كقول طائفة من السلف والخلف.

 

والثانية: لا يجب. كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم. ولو وصى لغيرهم دونهم: فهل تسرى تلك الوصية على أقاربه دون الموصي له، أو يعطي ثلثها للموصي له وثلثاها لأقاربه، كما تقسم التركه بين الورثة والموصي له؟ على روايتين عن أحمد. وإن كان المشهور عند أكثر أصحابه: هو القول بنفوذ الوصية. فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضلية.

 

• وأيضاً فقد يكون المشروط على المشتري أفضل، كما لو كان عليه دين لله من زكاة أو كفارة أو نذر أو دين لآدمي، فاشترط عليه وفاء دينه من ذلك المبيع، أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك. فهذا أوكد من اشتراط العتق.

 

• وأما السراية فإنما كانت لتكميل الحرية. وقد شرع مثل ذلك في الأموال، وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتكميل الملك للمشتري، لما في الشركة من الضرار. ونحن نقول: شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة. فإن أمكن قسمة العين، وإلا قسمتا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك. فتكميل العتق نوع من ذلك، إذ الشركة تزول بالقسمة تارة، وبالتكميل أخرى.

 

• وأصل ذلك: أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف، بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعاً. كما يثبت ذلك حساً. ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعاً، كما أن القدرة تتنوع أنواعاً فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة، ويورث عنه. ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك، ثم قد يملك الأمة المجوسية، أو المحرمات عليه بالرضاع، فلا يملك منهن الاستمتاع، ويملك المعاوضة عليه بالتزويج، بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلاً، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين. ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم. وكذلك تملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد.

 

• ويملك المرهون ويجب عليه مؤونته، ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا بيع وهبه. وفي العتق خلاف مشهور.

 

• والعبد المنذور عتقه. والهدي، والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة، قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا؟ وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق. فمن قال: لم يزل ملكه عنه - كما قد يقوله أكثر أصحابنا - فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق، أو النسك، أو الصدقة. وهو نظير العبد المشتري بشرط العتق، أو الصدقة. أو الصلة، أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم. ومن قال: زال ملكه عنه، فإنه يقول: هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به. وهو أيضاً خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع.

 

• وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين: هل يصير الموقوف ملكاً لله، أو ينتقل إلى الموقوف عليه، أو يكون باقياً على ملك الواقف؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره.

 

• وعلى كل تقدير: فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع أو الهبة، وكذلك ملك الموهوب له، حيث يجوز للواهب الرجوع، كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث، كالشافعي وأحمد: نوع مخالف لغيره، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده.

 

• ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه، كالمبيع بشرط عند من يقول: انتقل إلى المشتري كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما، كالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز. وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة، عند جميع المسلمين. فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه، وجنس الملك يجمعها. وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذي اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة.

 

• وطوائف من السلف يقولون: هو مباح للأب مملوك للإبن، بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء، وملك الإبن ثابت عليه، بحيث يتصرف فيه تصرفاً مطلقاً.

 

• فإذا كان الملك يتنوع أنواعاً، وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه: لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضاً إلى الإنسان، يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات مالا مصلحة له فيه. والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض. فإذا لم يكن فيه فساد، أو كان فساده مغموراً بالمصلحة لم يحظره أبداً. اهـ.

 

وقال ابن حزم: مسألة - وكل شرط وقع في بيع منهما أو من أحدهما يرضى الآخر فإنهما إن عقداه قبل عقد البيع أو بعد تمام البيع بالتفرق بالأبدان. أو بالتخيير. أو في أحد الوقتين - يعني قبل العقد أو بعده - ولم يذكراه في حين عقد البيع فالبيع صحيح تام والشرط باطل لا يلزم[10]، فإن ذكرا ذلك الشرط في حال عقد البيع[11] فالبيع باطل مفسوخ والشرط باطل أي شرط كان لا تحاش شيئاً إلا سبعة شروط فقط فإنها لازمة والبيع صحيح إن شرطت في البيع وهي اشتراط الرهن فيما تبايعاه إلى أجل مسمى. واشتراط تأخير الثمن إن كان دنانير أو دراهم إلى أجل مسمى، واشتراط أداء الثمن إلى الميسرة وإن لم يذكر أجلاً، واشتراط صفات المبيع التي يتراضيانها معاً ويتبايعان ذلك الشيء على أنه بتلك الصفة، واشتراط أن لا خلابة وبيع العبد والأمة فيشترط المشتري مالهما أو بعضه مسمى معيناً أو جزءاً منسوباً مشاعاً في جميعه سواء كان مالهما مجهولاً كله أو معلوماً كله أو معاً وما بعضه مجهولاً بعضه، أو بيع أصول نخل فيه ثمرة قد أبرت قبل الطيب أو بعده. فيشترط المشتري الثمرة لنفسه أو جزءاً معيناً منها أو مسمى مشاعاً في جميعها. فهذه ولا مزيد وسائرها باطل كما قدمنا، كمن باع مملوكاً بشرط العتق أو أمة بشرط الإيلاد، أو دابة واشترط ركوبها مدة مسماة قلت أو كثرت أو إلى مكان مسمى قريب أو بعيد، أو داراً واشترط سكناها ساعة، فما فوقها أو غير ذلك من الشروط كلها.

 

• برهان ذلك ما رويناه من طريق مسلم بن حجاج نا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني لا أبو أسامة - هو حماد بن أسامة - لا هشام بن عروة عن أبيه قال: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أُمّ المُؤْمِنِينَ فَذَكَرَتْ حَدِيثاً قَالَتْ فِيهِ: ((إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النّاسَ فَحَمَدَ الله وَأثْنَى عَلَيْهِ ((بِمَا هُوَ أَهْلُهُ))[12] ثُمَّ قَالَ: ((أَمّا بَعْدُ فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُون شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ مَا مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَل فَهوَ بَاطِلٌ وَإنْ كَانَ مِائَةَ شَرْط كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ)) )) وذكر باقي الخبر ومن طريق أبي داود حدثنا القعنبي. وقتيبة بن سعيد قالا جميعاً: نا الليث - هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير قال: أن عائشة أم المؤمنين أخبرته ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَقَالَ: ((مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطَاً لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَلَيْسَ لَهُ وإنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ شَرْطُ اللهِ أَحَقُّ وأَوْثَق)) ))[13] فهذا الأثر كالشمس صحة وبياناً يرفع الإشكال كله: فلما كانت الشروط كلها باطلة غير ما ذكرنا كان كل عقد من بيع أو غيره عقد على شرط باطل باطلاً. ولابد لأنه عقد على أنه لا يصح[14] إلا بصحة الشرط والشرط لا صحة له فلا صحة لما عقد بأن لا صحة له إلا بصحة مالا يصح.

 

• قال أبو محمد: وأما تصحيحنا الشروط السبعة التي ذكرنا فإنها منصوص على صحتها، وكل ما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم[15] فهو في كتاب الله عز وجل قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾  [النحل: 44] وقال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4] وقال تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80] فأما[16] اشتراط الرهن في البيع إلى أجل مسمى فلقوله تعالى: ﴿ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾ [البقرة: 283] وأما اشتراط الثمن إلى أجل مسمى فلقوله تعالى: ﴿ إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ [البقرة: 282] وأما اشتراط أن لا خلابة فقد ذكرنا الخبر في ذلك قبل هذا المكان بنحو أربع مسائل[17] وأما اشتراط الصفات التي يتبايعان عليها من السلامة: أو من أن لا خديعة ومن صناعة العبد، أو الأمة. أو سائر صفات المبيع فلقول الله تعالى: ﴿ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29] فنص تعالى على التراضي منهما والتراضي لا يكون إلا على صفات المبيع، وصفات الثمن ضرورة. أما اشتراط الثمن إلى الميسرة فلقول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280] وروينا من طريق شعبة أخبرني عمارة ابن أبي حفصة عن عكرمة ((عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إلى يَهُودِيٍ قَدِمَتْ عَلَيْهِ ثِيَابُ ابْعَثْ إليَّ بِثَوْبَيْنِ إلى الْمَيْسَرَه وَذَكَرَ بَاقِي الْخَبَرْ)). وأما مال العبد. أو الأمة واشتراطه. واشتراط ثمر النخل المؤبر فلما روينا من طريق عبدالرزاق نا معمر عن الزهري عن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ بَاعَ عَبْداً وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبائِعِ إلاَّ إنِ اشْتَرَطَهُ المُبْتَاعُ وَمَنْ بَاعَ نَخْلاً قَد أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُها لِلْبَائِعِ إلاَّ أَنْ يَشْترِطَ الْمبْتَاع)).

 

• قال أبو محمد: ولو وجدنا خبراً يصح في غير هذه الشروط باقياً غير منسوخ لقلنا به ولم نخالفه، وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم هذين الشرطين إذ قد ذكرنا غيرهما والحمد لله رب العالمين، وقد ذكرنا رواية عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: كل بيع فيه شرط فليس بيعاً.

 

• قال علي: فإن احتج معارض لنا بقول الله تعالى: ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1] وقوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ﴾ [النحل: 91] وبما روى: ((المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ))قلنا وبالله تعالى التوفيق[18]: أما أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود لا يختلف اثنان في أنه ليس على عمومه ولا على ظاهره، وقد جاء القرآن بأن تجتنب نواهي الله تعالى ومعاصيه فمن عقد على معصية حرم عليه الوفاء بها فإذا لاشك في هذا فقد صح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل والباطل محرم فكل محرم فلا يحل الوفاء به، وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ﴾ [النحل: 91].

 

• فلا يعلم ما هو عهد الله إلا بنص وارد فيه وقد علمنا أن كل عهد نهى الله عنه فليس هو عهد الله تعالى بل هو عهد الشيطان فلا يحل الوفاء به، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل والباطل لا يحل الوفاء به.

 

• وأما الأثر في ذلك فإننا رويناه من طريق ابن وهب حدثني سليمان بن بلال نا كثير ابن زيد عن الوليد ابن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ))ورويناه أيضاً من طريق عبدالملك بن حبيب الأندلسي حدثني الحزامي عن محمد ابن عمر عن عبدالرحمن بن محمد ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبدالعزيز قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ))ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن الحجاج بن أرطاة عن خالد بن محمد عن شيخ من بني كنانة سمعت عمر يقول: المسلم عند شرطه. ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن عيينه عن يزيد بن يزيد بن جابر عن اسماعيل بن عبيدالله عن عبدالرحمن بن غنم قال عمر بن الخطاب: ((إن مقاطع الحقوق عند الشروط)) ومن طريق ابن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال: المسلمون عند شروطهم.

 

• قال أبو محمد: كثير بن زيد هو كثير بن عبدالله بن عمر[19] بن زيد هالك متروك باتفاق، والوليد ابن رباح مجهول، والآخر عبدالملك بن حبيب هالك، ومحمد بن عمر هو الواقدي مذكور بالكذب، وعبدالرحمن بن محمد مجهول لا يعرف. ومرسل أيضاً، والثالث مرسل أيضاً، والذي من طريق عمر فيه الحجاج بن أرطاة وهو هالك، وخالد بن محمد مجهول وشيخ من بني كنانة، والآخر فيه اسماعيل بن عبيدالله ولا أعرفه، وخبر علي مرسل، ثم لو صح كل ما ذكرنا لكان حجة لنا وغير مخالف لقولنا لأن شروط المسلمين هي الشروط التي أباحها الله لهم لا التي نهاهم عنها وأما التي نهوا عنها فليست شروط المسلمين، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط أو اشترط مائة مرة وأنه لا يصح لمن اشترطه، فصح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فباطل فليس هو من شروط المسلمين، فصح قولنا بيقين ثم أن الحنفيين. والمالكيين. والشافعيين أشد الناس اضطراباً وتناقضاً في ذلك لأنهم يجيزون شروطاً ويمنعون شروطاً كلها سواء في أنها باطلة ليست في كتاب الله عز وجل ويجيزون شروطاً ويمنعون شروطاً كلها سواء حق لأنها في كتاب الله تعالى، فالحنيفيون. والشافعيون يمنعون اشتراط المبتاع مال العبد. وثمر النخل المؤبر ولا يجيزون له ذلك البته إلا بالشراء على حكم البيوع. والمالكيون. والحنيفيون. والشافعيون لا يجيزون البيع إلا الميسرة ولا شرط قول: لا خلابة عند البيع وكلاهما في كتاب الله عز وجل لأمر النبي[20]صلى الله عليه وسلم بهما وينسون هاهنا[21]: ((المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهم))وكلهم يجيز بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها بشرط القطع وهو شرط ليس في كتاب الله تعالى بل قد صح النهي عن هذا البيع جملة، ومثل هذا كثير.

 

قال أبو محمد: ولا يخلو كل شرط اشترط في بيع أو غيره من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما إباحة مال لم يجب في العقد. وأما إيجاب عمل. وإما المنع من عمل والعمل يكون بالبشرة أو بالمال فقط وكل ذلك حرام بالنص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَام))وأما المنع من العمل فإن الله تعالى يقول: ﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ [التحريم: 1] فصح بطلان كل شرط جملة إلا شرطاً جاء النص من القرآن أو السنة بإباحته، وهاهنا أخبار نذكرها ونبينها إن شاء الله تعالى لئلا يعترض بها جاهل أو مشغب.

 

حدثني محمد بن اسماعيل العذري القاضي بسرقسطة نا محمد بن علي الرازي المطوعي نا محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري نا جعفر بن محمد الخلدي نا عبدالله بن أيوب بن زاذان الضرير نا محمد بن سليمان الذهلي نا عبدالوارث - هو ابن سعيد التنوري - قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة. وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عمن باع بيعاً واشترط شرطاً؟ فقال البيع باطل والشرط باطل، ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك؟ فقال البيع جائز والشرط باطل، ثم سألت ابن شبرمة عن ذلك؟ فقال: البيع جائز والشرط جائز فرجعت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا - حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْط، الْبَيْعُ بَاطِلٌ والشّرْطُ بَاطِلْ، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا: فقال لا أدري ما قالا - حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إشْتَرِي بَرِيرَة وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَء الْبَيْعُ جَائِز والشّرْطُ بَاطِلٌ)) ))، فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا نا مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبدالله ((أنه باع من رسول الله صلى الله عليه وسلم جملاً واشترط ظهره إلى المدينة)) البيع جائز والشرط جائز، وهاهنا خبر رابع رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا زياد بن أيوب نا ابن علية نا أيوب السختياني نا عمرو بن شعيب حدثني أبي عن أبيه عن أبيه[22] حتى ذكر عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلاَ شَرْطَانِ فِي بَيْع وَلاَ رِبْحُ مَالَمْ يُضْمَنْ))، وبه أخذ أحمد بن حنبل فيبطل البيع إذا كان فيه شرطان ويجيزه إذا كان فيه شرط واحد، وذهب أبو ثور إلى الأخذ بهذه الأحاديث كلها فقال: إن اشترط البائع بعض ملكه كسكنى الدار مدة مسماة أو دهره كله أو خدمة العبد كذلك. أو ركوب الدابة كذلك أو لباس الثوب كذلك جاز البيع والشرط لأن الأصل له والمنافع له فباع ما شاء وأمسك ما شاء، وكل بيع اشترط فيه ما يحدث في ملك المشتري فالبيع جائز والشرط باطل كالولاء ونحوه، وكل بيع اشترط فيه عمل أو مال على البائع أو عمل المشتري فالبيع والشرط باطلان معاً.

 

قال أبو محمد: هذا خطأ من أبي ثور لأن منافع ما باع البائع من دار أو عبد. أو دابة أو ثوب أو غير ذلك فإنما هي له ما دام كل ذلك في ملكه فإذا خرج عن ملكه فمن الباطل والمحال أن يملك مالم يخلقه الله تعالى بعد من منافع ما باع، فإذا أحدثها الله تعالى فإنما أحدثها الله تعالى في ملك غيره فهي ملك لمن حدثت (عنده)[23] في ملكه فبطل توجيه أبي ثور، وكذلك باقي تقسيمه لأنه دعوى بلا برهان.

 

وأما قول أحمد فخطأ أيضاً لأن تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرطين[24] في بيع ليس مبيحاً لشرط واحد ولا محرماً له لكنه مسكوت عنه في هذا الخبر فوجب طلب حكمه في غيره فوجدنا قوله صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ شَرطٍ ليْسَ فِي كِتَابِ الله فَهُوَ بَاطِل))فبطل الشرط الواحد وكل مالم يعقد إلا به وبالله تعالى التوفيق، وبقى حديث بريرة. وجابر في الجمل فنقول وبالله تعالى التوفيق: إننا روينا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات نا محمد بن أحمد بن مفرج نا عبدالله بن جعفر ابن الورد نا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف نا يحيى بن بكير نا الليث بن سعد عن هشام بن عروة عن عائشة قالت: ((جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ كَاتَبْتُ أَهْلِي عَليَ تِسْع أَوَاق كُلُّ عَامٍ أُوْقِيّه فَأَعِينِيني فَقَالَتْ عَائِشَة إنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ[25] أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَه وَيَكُونَ ليِ وَلاَؤُكِ فَعَلْتُ فَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِمْ فَأَبَوا إلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُمْ[26] فَسَمعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فَسَأَلَها فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ ((خُذِيهَا، واَشْتَرِطِي لَهُم الْوَلاَء فَإنّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ))فَفَعَلَتْ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيّةً فِي النّاسِ فَحَمِدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَالَ: ((مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَل مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإنْ كَانَ مِائَةَ شَرْط قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَق))وذكر باقي الخبر.

 

وأما طريق البخاري نا أبو نعيم نا عبدالواحد بن أيمن نا أبي قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها[27] فقالت: دَخَلَتْ بَرِيرَةُ - وَهِيَ مُكَاتَبَه - وقَالَتْ إشْتَرِينِي وَأَعْتِقِينِي. قَالَتْ نَعَمْ قَالَتْ لاَ يَبِيعُونِي حَتّى يَشْتَرِطُوا وَلاَئِي، فَقَالَتْ عَائِشَة لاَ حَاجَةَ ليِ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اشْتَرِيهَا وَاَعْتِقِيهَا وَدَعِيهِمْ يَشْتَرِطُونَ مَا شَاءُوا فَاشْتَرَتْهَا عَائِشَةُ فَأَعْتَقَتْهَا وَاشْتَرَطَ أَهْلُها الْوَلاَءَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الْولاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وإنْ كَانَ مِائَةَ شَرْط.

 

قال أبو محمد: فالقول في هذا الخبر هو على ظاهره دون تزيد ولا ظن كاذب مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحريف اللفظ وهو أن اشترط الولاء على المشتري في المبيع للعتق كان لا يضر البيع شيئاً وكان البيع على هذا الشرط جائزاً حسناً مباحاً وإن كان الولاء مع ذلك للمعتق، وكان اشتراط البائع الولاء لنفسه مباحاً غير منهي عنه ثم نسخ الله عز وجل ذلك وأبطله إذ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما ذكرنا فحينئذ حرم أن يشترط هذا الشرط أو غيره جملة إلا شرطاً في كتاب الله تعالى لا قبل ذلك أصلاً، وقد قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36] وقال تعالى:﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 6].

 

برهان ذلك أنه عليه السلام قد أباح ذلك وهو عليه السلام لا يبيح الباطل ولا يغر أحداً ولا يخدعه، فإن قيل: فهلا أجزتم البيع بشرط العتق في هذا الحديث؟ قلنا ليس فيه اشتراطهم عتقها أصلاً[28] ولو كان لقلنا به، وقد يمكن أنهم اشترطوا ولاءها إن أعتقت يوماً ما أو أن أعتقها إذ إنما في الحديث أنهم اشترطوا ولاءها لأنفسهم فقط ولا يحل أن يزاد في الأخبار شيء لا لفظ ولا معنى فيكون من فعل ذلك كاذباً إلا أننا نقطع ونبت أن البيع بشرط العتق لو كان جائزاً لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه، فإذا لم يفعل فهو شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولا فرق بين البيع بشرط العتق وبين بيعه بشرط الصدقه. أو بشرط الهبه. أو بشرط التدبير وكل ذلك لا يجوز.

 

ومن حديث جابر فإننا رويناه من طريق البخاري نا أبو نعيم نا زكريا سمعت عامراً الشعبي يقول: حَدَّثَنِي جَابِرُ بنُ عَبْدِاللهِ أنّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعيَا فَمَرَّ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَضَرَبَهُ فَدَعَا لَهُ فَسَارَ سَيْراً[29] لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَهُ ثُمَّ قَالَ: ((بِعْنِيهِ بأوْقيّة))قُلْتُ لا ثُمَّ قَالَ: ((بِعْنِيهِ بأوُقِيّه))فَبِعْتُهُ وَاسْتَثْنَيْتُ حِمْلاَنَهُ إلىَ أهْلي فَلَمّا قَدِمْنَا أَتَيْتُهُ بِالجَمَلِ وَنَقَدَني ثَمَنَهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَأرْسَلَ عَلى أثَرِي فَقَالَ: ((مَا كُنْتُ لآخُذَ جَمَلَكَ فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ فَهُو مَالُك))ومن طريق مسلم نا ابن نمير نا أبي زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن عامر الشعبي حدثني جابر بن عبدالله فذكر هذا الخبر وفيه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: ((بِعْنِيِهِ فَبِعْتُهُ بِأُوْقِيّه وَاسْتَثْنَيْتُ عَلَيْهِ حِمْلاَنَهُ إلَى أَهْلِي فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالجَمَلِ فَنَقَدَنِي ثَمنَهُ ثُمَّ رَجَعْتُ[30] فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَقَالَ أَتُرَاَنِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلكَ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَك))ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن العلاء نا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبدالله فذكر هذا الخبر وفيه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: ((مَا فَعَلَ الْجَمَلُ بِعْنِيهِ))قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بَلْ هُو لَك[31] قَالَ: ((لاَ بَلْ بِعْنِيهِ))قُلْتُ: لا بَلْ هُو لَكَ قَالَ: ))(لاَ بَل)[32] بِعْنِيهِ قَدْ أَخَذْتُهُ بِأوقيّة ارْكَبْهُ فَإذَا قَدِمْتَ الْمدِينَةَ فأتِنَا بِهِ فَلَمّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ جِئْتُهُ بِهِ فَقَالَ لِبِلاَلٍ (يَا بِلاَلُ)[33] زِنْ لَهُ أُوقِيّة وَزِدْهُ قِيرَاطاً))هَكَذَا رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَطاء عَنْ جَابِرٍ.

 

• قال أبو محمد: روى هذا أن ركوب جابر لجمل كان تطوعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف فيه على الشعبي. وأبي الزبير فروى عنهما عن جابر أنه كان شرطاً من جابر، وروى عنهما أنه كان تطوعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نسلم لهم أنه كان شرطاً ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق: إنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد أخذته بأوقية، وصح عنه عليه السلام أنه قال: أتراني ماكستك لآخذ جملك ما كنت لآخذ جملك ذلك فهو مالك كما أوردنا آنفاً، فصح يقيناً أنهما أخذان، أحدهما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر لم يفعله بل انتفى منه ومن جعل كل ذلك أخذاً واحداً فقد كذَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلامه وهذا كفر محض فإذاً لابد من أنهما أخذان لأن الأخذ الذي أخبر به عليه السلام عن نفسه هو بلاشك غير الأخذ الذي انتفى عنه البته، فلا سبيل[34] إلى غير ما يُحمل عليه ظاهر الخبر وهو أنه عليه السلام أخذه وابتاعه ثم تخير قبل التفرق ترك[35] أخذه، وصح أن في حال المماكسة كان ذلك أيضاً في نفسه عليه السلام لأنه عليه السلام أخبره أنه لم يماكسه ليأخذ جمله، فصح أن البيع لم يتم فيه قط فإنما اشترط جابر ركوب جمل نفسه فقط وهذا، هو مقتضى لفظ الأخبار إذا جمعت ألفاظها، فإذ قد صح أن ذلك البيع لم يتم ولم يوجد في شيء من ألفاظ ذلك الخبر أصلاً أن البيع تم بذلك الشرط فقد بطل أن يكون في هذا الخبر حجة في جواز بيع الدابه واستثناء ركوبها أصلاً وبالله تعالى التوفيق.

• فأما الحنيفيون، والشافعيون فلا يقولون بجواز هذا الشرط أصلاً، فإنما الكلام بيننا وبين المالكيين فيه فقط، وليس في هذا الخبر تحديد يوم ولا مسافة قليلة من كثيرة ومن ادعى ذلك فقد كذب، فمن أين خرج لهم تحديد مقدار دون مقدار؟ ويلزمهم إذ لم يجيزوا بيع الدابة على شرط ركوبها شهراً ولا عشرة أيام، وأبطلوا هذا الشرط وأجازوا بيعها واشتراط ركوبها مسافة يسيرة أن يحدوا المقدار الذي يحرم به ما حرموه من ذلك المقدار الذي حللوه هذا فرض عليهم وإلا فقد تركوا من اتبعهم في سخنة عينه وفي مالا يدري لعله يأتي حراماً[36] أو يمنع حلالاً، وهذا ضلال مبين فإن حدوا في ذلك مقداراً ما سئلوا عن البرهان في ذلك إن كانوا صادقين. فلاح فساد هذا القول بيقين لاشك فيه، ومن الباطل المتيقن أن يحرم الله تعالى علينا ما لا يفصله لنا من أوله لآخره لنجتنبه ونأتي ما سواه، إذا كان تعالى يكلفنا ما ليس في وسعنا من أن نعلم الغيب وقد أمننا الله تعالى من ذلك (فإن قالوا): إن في بعض ألفاظ الخبران ذلك كان حين دنوا من المدينة قلنا: الدنو يختلف ولا يكون إلا بالاضافة فمن أتي من تبوك فكان من المدينه على ست مراحل أو خمس فقد دنا منها، ويكون الدنو أيضاً على ربع ميل وأقل أو أكثر فالسؤال باق عليكم بحسبه، وأيضاً فإن هذه اللفظة إنما هي في رواية سالم بن أبي الجعد وهو إنما روى أن ركوب جابر كان تطوعاً من النبي صلى الله عليه وسلم وشرطاً[37] وفي رواية المغيرة عن الشعبي عن جابر دليل على أن ذلك كان في مسيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزاة، وأيضاً فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من ذلك الشرط إلا في مثل تلك المسافة فإذ لم يقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات فلا تقيسوا على تلك الطريق سائر الطرق[38] ولا تقيسوا على اشتراط ذلك في ركوب جمل سائر الدواب، وإلا فأنتم متناقضون متحكمون بالباطل، وإذا قستم على تلك الطريق سائر الطرق، وعلى الجمل سائر الدواب، فقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات، كما فعلتم في صلاته عليه السلام راكباً متوجهاً إلى خيبر إلى غير القبلة فقسم على تلك المسافة سائر المسافات فلاح أنهم لا متعلق لهم في هذا الخبر أصلاً وبالله تعالى التوفيق.

 

وقد جاءت عن الصحابة رضي الله عنهم آثار في الشروط في البيع خالفوها، فمن ذلك ما روينا من طريق عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا لو أن عثمان بن عفان. وعبدالرحمن بن عوف قد تبايعا حتى ننظر[39] أيهما أعظم جَدًّا في التجارة فاشترى عبدالرحمن بن عوف من عثمان فرساً بأرض أخرى بأربعين ألفاً أو نحوها إن أدركتها الصفقة وهي سالمة ثم أجاز قليلاً ثم رجع فقال: أزيدك ستة آلاف إن وجدها رسولي سالمة قال: نعم فوجدها رسول عبدالرحمن قد هلكت وخرج منها بالشرط الآخر، قيل للزهري: فإن لم يشترط قال: فهي من البائع، فهذا عمل عثمان، وعبدالرحمن بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وعلمهم، لا مخالف لهم يعرف منهم ولم ينكر ذلك سعيد وصوبه الزهري فخالف الحنيفيون والمالكيون. والشافعيون كل هذا وقالوا: لعل الرسول يخطئ أو يبطئ أو يعرضه عارض فلا يدري متى يصل وهم يشنعون مثل هذا إذا خالف تقليدهم.

 

ومن طريق وكيع نا محمد بن قيس الأسدي عن عون بن عبدالله عن عتبه بن مسعود قال: إن تميماً الداري باع داره واشترط سكناها[40] حياته وقال: إنما مثلي مثل أم موسى رد عليها ولدها وأعطيت أجر رضاعها، ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن مرة ابن شراحيل قال: باع صهيب داره من عثمان واشترط سكناها، وبه يأخذ أبو ثور فخالفوه ولا مخالف لذلك من الصحابة ممن يجيز الشرط في البيع، وقد ذكرنا قبل إبتياع نافع بن عبد الحرث داراً بمكة للسجن من صفوان بأربعة آلاف على إن رضي عمر فالبيع تام، فإن لم يرض فلصفوان أربعمائة فخالفوهم كلهم، ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيدالله بن عمر أخبرني نافع عن ابن عمر أنه اشترى بعيراً بأربعة أبعرة على أن يوفوه إياها بالربذة وليس فيه وقت ذكر الإيفاء فخالفوه، ومن طريق حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن النعمان بن حميد قال: أصاب عمار بن ياسر مغنماً فقسم بعضه وكتب إلى عمر يشاوره فتبايع الناس إلى قدوم الراكب، وهذا عمل عمار والناس بحضرته فخالفوه وأما نحن فلا حجة عندنا في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق، وحكم علي بشرط الخلاص. وللحنيفيين والمالكيين. والشافعيين تناقض عظيم بما أجازوه من الشروط في البيع وما منعوا منه فيها قد ذكرنا بعضه ونذكر في مكان آخر إن شاء الله تعالى ما يسر الله تعالى بذكره، لأن الأمر أكثر من ذلك وبالله تعالى التوفيق. اهـ[41].


ضوابط الشروط المقترنة بالعقد:

هذا وقد نقل الدكتور عبدالرزاق السنهوري عن فقهاء الإسلام ضوابط للشروط المقترنة بالعقد صحيحها وفاسدها وذكر عنهم كثيراً من المسائل وأمثله للقسمين وقارن بين ما نقله عنهم فاستحسنت اللجنة نقله مع حذف ما يغني عنه غيره مما ذكره.

 

قال الدكتور عبدالرزاق ما نصه[42]:

1- الشرط الصحيح

متى يكون الشرط صحيحاً:

يتبين مما قدمناه أن الشرط المقترن بالعقد يكون صحيحاً، فيصح معه العقد، إذا كان:

(أ) شرطاً يقتضيه العقد.

(ب) أو شرطاً يلائم العقد.

(جـ) أو شرطاً جرى به التعامل بين الناس.


(أ) الشرط الذي يقتضيه العقد.

النصوص في البدائع (جزء 5 ص171): ((وأما الشرط الذي يقتضيه العقد فلا يوجب فساده، كما إذا اشترط أن يتملك المبيع، أو باع بشرط أن يتملك الثمن، أو باع بشرط أن يحبس المبيع حتى يقبض الثمن، أو اشترى على أن يسلم المبيع، أو اشترى جارية على أن تخدمه، أو دابة على أن يركبها، أو ثوباً على أن يلبسه، أو حنطة في سنبلها وشرط الحصاد على البائع، ونحو ذلك، فالبيع جائز، لأن البيع يقتضي هذه المذكورات من غير شرط، فكان ذكرها في معرض الشرط تقريراً لمقتضى العقد، فلا توجب فساد العقد. اهـ.

 

وجاء في الخرشي (جزء 5 ص80): ((وبقى شرط يقتضيه العقد، وهو واضح الصحة، كشرط تسليم المبيع والقيام بالعيب ورد العوض عند انتقاض البيع. وهو لازم دون شرط، فشرطه تأكيد)). اهـ.

 

وجاء في المهذب (جزء أول ص268): ((إذا شرط في البيع شرطاً نظرت، فإن كان شرطاً يقتضيه البيع. كالتسليم والرد بالعيب وما أشبههما، لم يبطل العقد، لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد، فلم يبطله)). اهـ.

 

وجاء في المغني (جزء 4 ص285): ((والشروط تنقسم إلى أربعة أقسام (أحدها) ماهو من مقتضى العقد، كاشتراط التسليم وخيار المجلس والتقابض في الحال، فهذا وجوده كعدمه لا يفيد حكماً ولا يؤثر في العقد)). اهـ.

 

صحة الشرط الذي يقتضيه العقد أمر بديهي:

ويتبين من النصوص المتقدمة الذكر أن الشرط الذي يقتضيه العقد لا خلاف في صحته، بل إن صحته أمرٌ بديهي، إذ هو محض تقرير لمقتضى العقد، ومقتضى العقد لازم دون شرط، فشرطه تأكيد وبيان.


الشرط الذي يلائم العقد:

النصوص:

جاء في البدائع (جزء 5 ص171): ((وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد، لكنه ملائم للعقد لا يوجب فساد العقد أيضاً، لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى مؤكد إياه على ما نذكر إن شاء الله تعالى، فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد. وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهناً أو كفيلاً، والرهن معلوم، والكفيل حاضر فقبل. وجملة الكلام في البيع بشرط إعطاء الرهن أن الرهن لا يخلو إما أن يكون معلوماً أو مجهولاً. فإن كان معلوماً فالبيع جائزٌ استحساناً، والقياس ألا يجوز، لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسداً، إلا أنا استحسنا الجواز، لأن هذا الشرط لو كان مخالفاً مقتضى العقد صورة فهو موافق له معنى، لأن الرهن بالثمن شرع توثيقاً للثمن وكذا الكفالة فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقرراً لمقتضى العقد معنىً، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن وأنه لا يوجب فساد العقد، فكذا هذا. ولو قبل المشتري المبيع على هذا الشرط ثم امتنع من تسليم الرهن، لا يجبر على التسليم عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر يجبر عليه. وجه قوله أن الرهن إذا شرط في البيع فقد صار حقاً من حقوقه، والجبر على التسليم من حقوق البيع فيجبر عليه. ولنا أن الرهن عقد تبرع في الأصل، واشتراطه في البيع لا يخرجه عن أن يكون تبرعاً، والجبر على التبرع ليس بمشروع، فلا يجبر عليه، ولكن يقال له إما أن تدفع الرهن أو قيمته أو تؤدي الثمن أو يفسخ البائع البيع. لأن البائع لم يرض بزوال البيع عن ملكه إلا بوثيقة الرهن أو بقيمته لأن قيمته تقوم مقامه، ولأن الدين يستوفي من مالية الرهن وهي قيمته، وإذا أدى الثمن فقد حصل المقصود فلا معنى للفسخ، ولو امتنع المشتري من هذه الوجوه فللبائع أن يفسخ البيع لفوات الشرط والغرض. وإن كان الرهن مجهولاً فالبيع فاسد. لأن جواز هذا الشرط، مع أن القياس يأباه، لكونه ملائماً للعقد، مقرراً لمقتضاه معنى، لحصول معنى التوثق والتأكد للثمن، ولا يحصل ذلك إلا بالتسليم وأنه لا يتحقق في المجهول. ولو اتفقا على تعيين رهن في المجلس جاز البيع، لأن المانع هو جهالة الرهن وقد زال، فكأنه كان معلوماً معيناً من الابتداء، لأن المجلس له حكم حالة واحدة، وإن افترقا عن المجلس تقرر الفساد. وكذا إذا لم يتفقا على تعيين الرهن ولكن المشتري فقد الثمن، جاز البيع أيضاً، لأن المقصود من الرهن هو الوصول إلى الثمن وقد حصل فيسقط اعتبار الوثيقة. وكذلك البيع بشرط إعطاء الكفيل لأن الكفيل إن كان حاضراً في المجلس وقبل جاز البيع استحساناً، وإن كان غائباً فالبيع فاسد، وكذا إذا كان حاضراً ولم يقبل. لأن الجواز على مخالفة القياس ثبت لمعنى التوثيق وتوكيد الثمن، لما فيه من تقرير موجب العقد على ما بينا، فإذا كان الكفيل غائباً أو حاضراً ولم يقبل، لم تصح الكفالة، فلم يحصل معنى التوثيق، فبقى الحكم على ما يقتضيه القياس. وكذا إذا كان الكفيل مجهولاً فالبيع فاسد، لأن كفالة المجهول لا تصح. ولو كان الكفيل معيناً وهو غائب. ثم حضر وقبل الكفالة في المجلس. جاز البيع، لأنه جازت الكفالة بالقبول في المجلس، وإذا حضر بعد الافتراق تأكد الفساد. ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه، أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع، فالبيع فاسد. لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد وتأكيده. والحوالة إبراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائماً للعقد، بخلاف الكفالة والرهن. اهـ.


• وجاء في الحطاب (جزء 4 ص375- 376): ((قال في البيوع الفاسدة: منها وإن بعته على حميل لم تسمياه ورهن لم تصفاه جاز، وعليه الثقة ورهن وحميل. وإن سميتما الرهن أجبر على أن يدفعه إليه إن امتنع. وليس هذا من الرهن الذي لم يقبض. وكذلك إن تكفلت به على أن يعطيك عبده رهناً فإن امتنع من دفعه إليك أجبراه. قال اللخمي في كتاب الرهن: البيع على رهن غير معين جائز، وعلى الغريم أن يعطيك الصنف المعتاد. والعادة في الخواص أن ترهن ما يغاب عليه كالثياب والحلى ومالا يغاب عليه كالدور وما أشبهها، وليس العادة للعبيد والدواب وليس على المرتهن قبول ذلك وإن كان مصدقاً في تلفه لأن في حفظه مشقة وكلفة. وقال ابن الحاجب في باب الرهن: ويجبر البائع وشبهه في غير معين في التوضيح، يعني من باع سلعة بثمن مؤجل على شرط أن يأخذ منه رهناً به، فإن كان الرهن المشترط غير معين، وأبى المشتري دفعه. خير البائع وشبهه من وارث وموهوب له في فسخ البيع وإمضائه. وهكذا قال ابن الجلاب مقتصراً عليه. والذي نقله ابن المواز عن أشهب ونقله اللخمي وابن راشد أنه يجبر على دفع رهن يكون فيه الثقة باعتبار ذلك الدين: ابن عبدالسلام وهو المذهب)). اهـ.


• وجاء في شرح المنهاج للرملي (جزء 3 ص436- ص438): ((والرهن للحاجة إليه، لاسيما في معاملة من لا يعرف حاله. وشرطه العلم به. إما بالمشاهدة أو الوصف بصفات السلم. ثم الكلام هنا في وصف لم يرد على عين معينه. فهو مساو لما مر من أن الوصف لا يجزي عن الرؤية لأنه في معين لا موصوف في الذمة خلافاً لمن وهم فيه، وأن يكون غير البيع فلو شرط برهنه إياه ولو بعد قبضه فسد، لأنه لا يملكه إلا بعد البيع، فهو بمنزلة استثناء منفعة في البيع. فلو رهنه بعد قبضه بلا شرط مفسد صح والكفيل للحاجة إليه أيضاً، وشرطه العلم به بالمشاهدة.. أو باسمه ونسبه ولا يكفي وصفه بموسر ثقة، إذ الاحرار لا يمكن التزامهم في الذمة لانتفاء القدرة عليهم، بخلاف المرهون فإنه يثبت في الذمة. فإن لم يرهن المشتري ما شرط عليه رهنه وإن أتي برهن غير المعين ولو أعلى قيمة منه، أو لم يتكفل المعين بأن امتنع أو مات قبله وإن أقام المشتري ضامناً غيره ثقة، فللبائع الخيار. ولا يجبر من شرط عليه ذلك على القيام بالمشروط لزوال الضرر بالفسخ ويتخير أيضاً فيما إذا لم يقبضه الرهن لهلاكه أو غيره. اهـ.


وجاء في الشرح الكبير للمقنع (جزء 4 ص48): ((الثاني شرط من مصلحة العقد. كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله أو الرهن أو الضمين أو الشهادة. أو صفة في المبيع مقصودة نحو كون العبد كاتباً أو خطيباً أو صانعاً أو مسلماً أو الأمة بكراً أو الدابة هملاجة أو الفهد صيوداً، فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به. فإن لم يف به فللمشتري الفسخ والرجوع بالثمن)). اهـ.


ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد:

الأمثلة التي وردت في النصوص المتقدمة عن الشرط الذي يلائم العقد هي: (1) شرط أخذ الرهن بالثمن (2) شرط أخذ الكفيل بالثمن (3) شرط الحوالة بالثمن. وكلها شروط تلائم العقد، فهي وإن كان العقد لا يقتضيها، إلا أنها لا تتعارض معه ولا تتنافى مع أحكامه، بل هي من مصلحة العقد، وتتعلق بها مصلحة العاقدين. والمذهب الحنفي يقتصر كما رأينا على القول بأن الشرط يلائم العقد، أما المذاهب الأخرى فالتعبير فيها أقل تحفظاً. تقول المالكية: الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا ينافيه وهو من مصلحته. وتقول أيضاً: لأن ذلك كله مما يعود على البيع بمصلحة ولا معارض له من جهة الشرع. وتقول الشافعية: شرط لا يقتضيه العقد ولكن فيه مصلحة وتدعو الحاجة إليه. وتقول الحنابلة: شرط من مصلحة العقد وتتعلق به مصلحة العاقدين.

 

على أن هذه المذاهب تختلف عندما تقرر ما يجب لصحة الشرط الذي يلائم العقد، فأضيقها في ذلك هو المذهب الحنفي، وأوسعها هو المذهب المالكي.

 

ففي المذهب الحنفي إذا كان الرهن الذي يتوثق الثمن به مجهولاً، أو كان الكفيل مجهولاً، أو كان غير حاضر في المجلس، أو كان حاضراً ولم يقبل الكفالة، فإن الشرط يكون فاسداً ويفسد معه البيع. أما في الرهن فلأن جواز هذا الشرط مع أن القياس يأباه. لكونه ملائماً للعقد، مقرراً لمقتضاه معني لحصول معنى التوثق والتأكد للثمن. ولا يحصل ذلك إلا بالتسليم وأنه لا يتحقق في المجهول. وأما في الكفيل فلأن الجواز على مخالفة القياس ثبت لمعنى التوثيق وتوكيد الثمن لما فيه من تقرير موجب العقد.

 

فإذا كان الكفيل غائباً أو حاضراً ولم يقبل، لم تصح الكفالة، فلم يحصل معنى التوثيق، فبقى الحكم على ما يقتضيه القياس. وكذا إذا كان الكفيل مجهولاً فالبيع فاسد لأن كفالة المجهول لا تصح، فلابد إذن لصحة الشرط الملائم للعقد أن يكون تاماً نافذ الأثر وقت العقد، فيقبل الكفالة بالثمن، ويسلم المشتري الرهن للبائع، وذلك كله قبل انفضاض مجلس العقد. على أنه يجوز أن يكون الرهن - لا الكفيل - غائباً عن المجلس ما دام معلوماً إذا كان عيناً معينة، أو ما دام يمكن ضبطه بالوصف إذا كان شيئاً غير معين إلا بالنوع، ففي هذه الحالة يصح شرط الرهن ويصح معه العقد، ويجب على المشتري تسليم الرهن أو قيمته إلى البائع بعد العقد، وإلا كان البائع بالخيار، إذا لم ينقد الثمن بين فسخ العقد أو إبقائه. ولكن لا يجبر المشتري على تسليم الرهن، خلافاً لقول زفر إذ يذهب إلى أن الرهن إذا شرط في العقد فقد صار حقاً من حقوقه ويجبر المشتري على تنفيذه، والفرق بين الكفالة والرهن في هذا الصدد، إذ يشترط حضور الكفيل وقبوله الكفالة ولا يشترط حضور الرهن على ما بينا ويوضحه صاحب فتح القدير إذ يقول: ((لأن وجوب الثمن في ذمة الكفيل يضاف إلى البيع فيصير الكفيل كالمشتري، فلابد من حضور العقد بخلاف الرهن لا تشترط حضرته، لكن مالم يسلم للبائع لا يثبت فيه حكم الرهن وإن انعقد عقد الرهن بذلك الكلام، فإن سلم معنى العقد على ما عقدا، وإن امتنع عن تسليمه لا يجبر عندنا، بل يؤمر بدفع الثمن، فإن لم يدفع الرهن ولا الثمن خير البائع في الفسخ)).

 

• والظاهر من النصوص أن الشافعيه والحنابلة كالحنفية في وجوب تعيين المرهون وتعيين الكفيل بالذات، فلا يكفي وصف الكفيل بموسر ثقة. ولكن يبدو أن الشافعية والحنابلة لا يتشددون تشدد الحنفيه في وجوب أن يكون الكفيل حاضراً في مجلس العقد، وأن يقبل الكفالة قبل انفضاض المجلس فيكفي أن يكون كل من الرهن والكفيل معيناً معلوماً على الوجه الذي قدمناه، فإن لم يسلم المشتري الرهن للبائع قبل العقد، أو لم يقبل الكفيل الكفالة أو مات قبل القبول. خير البائع إذا لم ينقذه المشتري الثمن. ويقول الرملي في هذا الصدد: فإن لم يرهن المشتري ما شرط عليه رهنه وإن أتي برهن غير معين ولو أعلى قيمة منه. أو لم يتكفل المعين بأن امتنع أو مات قبله وإن أقام المشتري ضامناً غيره ثقة، فللبائع الخيار... ولا يجبر من شرط عليه ذاك على القيام بالمشروط لزوال الضرر بالفسخ. ويتخير أيضاً فيما إذا لم يقبضه الرهن لهلاكه أو غيره.

 

• أما المذهب المالكي فهو كما قدمنا، أوسع المذاهب في هذه المسألة. فعنده يصح الشرط حتى لو لم يكن الرهن أو الكفيل معيناً. ويقول الحطاب: ((وإن بعته على حميل لم تسمياه ورهن لم تصفاه، جاز)). ليس هذا فحسب، بل أيضاً إذا عين الرهن بعد العقد وامتنع المشتري عن تسليمه، أجبر على ذلك، ولا يقتصر الأمر على إعطاء البائع حق الفسخ إذا لم ينقد الثمن. وإذا لم يعين الرهن أجبر المشتري على أن يعطي الصنف المعتاد: ثياباً أو حلياً أو داراً أو نحو ذلك، ولا يجبر البائع على قبول ما في حفظه مشقة وكلفة، كالعبيد والدواب. ويقول الحطاب أيضاً في ذلك: ((وإن سميتما الرهن أجبر على أن يدفعه إليك إن امتنع، وليس هذا من الرهن الذي لم يقبض... والبيع على رهن غير معين جائز، وعلى الغريم أن يعطيك الصنف المعتاد. والعادة في الخواص أن ترهن ما يغاب عليه كالثياب والحلي ومالا يغاب عليه كالدور وما أشبهها. وليس العادة العبيد والدواب وليس على المرتهن قبول ذلك وإن كان مصدقاً في تلفه لأن في حفظه مشقة وكلفة.. والذي نقله ابن المواز عن أشهب ونقله اللخمي وابن راشد أنه يجبر على دفع رهن يكون فيه الثقة باعتبار ذلك الدين.. وهو المذهب.)).

 

ونرى من ذلك أن المذهب الحنفي لا يكتفي في صحة الشرط بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل. بل يجب أن يكون عقد الرهن أو عقد الكفالة قد انعقد مع انعقاد البيع. وتكتفي الشافعية والحنابلة بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل على أن يكون الرهن أو الكفيل معيناً وقت العقد. أما المالكية فيكتفون هم أيضاً بمجرد التزام المشتري بتقديم رهن أو كفيل... ويزيدون على ذلك أنهم لا يشترطون أن يكون الرهن أو الكفيل معيناً وقت العقد، ثم إنهم في الرهن يجبرون المشتري على تسليمه إذا كان معيناً، أو على تسليم الصنف المعتاد إذا كان غير معين.

 

بقى شرط الحوالة، ونلاحظ أن كتب الحنفية قد تضاربت في صحة هذا الشرط. فقد جاء في البدائع كما رأينا. ((ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه. أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع، فالبيع فاسد، لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد وتأكيده، والحوالة ابراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائماً للعقد بخلاف الكفالة والرهن)). والفرض أن يرد الشرط في عقد البيع قاضياً بحوالة الثمن الذي في ذمة المشتري حوالة دين إلى ذمة شخص آخر قد يكون مديناً للمشتري (غريماً من غرمائه) فيصبح هذا المدين وقد تحمل الدين بالثمن نحو البائع وتبرأ ذمة المشتري من الثمن. هذا الشرط لا يقتضيه العقد. ثم هو يلائم العقد، لأن الحوالة إبراء لذمة المشتري من الثمن كما يقول صاحب البدائع. ولكن إذا كانت الحوالة إبراء عن الثمن وإسقاطاً له من وجه، فهي من وجه آخر تقرير لوجوب الثمن وتأكيد له، فإن الإبراء لا يكون إلا عن شيء واجب. هذا إلى أن الحوالة ليست إبراء فحسب، إذ هي إبراء لذمة المحيل - إبراء غير كامل - وشغل لذمة المحال عليه، وفي هذا أيضاً تقرير لوجوب الثمن وتأكيد له. ولا يختلف الأمر إذا ضمن المشتري الثمن لغريم من غرماء البائع أي لدائن من دائنيه ولو كان ذلك عن طريق حوالة الدين الذي في ذمة البائع لدائنه إلى ذمة المشتري. فإن المشتري بقبوله هذه الحوالة إنما تؤكد وجوب الثمن في ذمته وبدلاً من أن يدفعه للبائع يكون واجباً عليه أن يدفعه لدائن البائع. فالشرط كما نرى ملائم لمقتضى عقد البيع كل الملاءمة، ويعدل في ذلك شرط الرهن وشرط الكفالة. من أجل ذلك نرجح الأخذ بما جاء في فتح القدير من أن ((شرط الحوالة كالكفالة)) وبما جاء في المبسوط من أن ((شرط الحوالة في هذا كشرط الكفالة، لأنه لا ينافي وجود أصل الثمن في ذمة المشتري، فإن الحوالة تحويل ولا يكون ذلك إلا بعد وجود الثمن في ذمة المشتري، بخلاف ما لو شرط وجوب الثمن ابتداء على غير المشتري بالعقد فإن ذلك ينافي موجب العقد فكان مفسداً للعقد)).


الشرط الذي يلائم العقد يصح استثناؤه على سبيل الاستحسان عند الحنفية ويصح أصلاً في المذاهب الأخرى

لم تجز الحنفية الشرط الذي يلائم العقد إلا استثناء على سبيل الاستحسان، ملحقين إياه في المعنى بالشرط الذي يقتضيه العقد. وإلا فإن الشرط، ولو لاءم العقد ما دام العقد لا يقتضيه لا يجوز على مقتضى القياس عند الحنفية، فإن فيه زيادة منفعة لا يقتضيها العقد فيكون عقداً في عقد وهذا لا يجوز وإنما صح هذا الشرط على سبيل الاستحسان كما قدمنا، لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى، مؤكد إياه، فاشتراط الرهن أو الكفالة بالثمن يؤكد وجوب استيفاء الثمن، واستيفاء الثمن ملائم للعقد، ومثل هذا الاشتراط يكون بمثابة اشتراط صفة الجودة في الثمن.

 

جاء في المبسوط (جزء 13 ص19): وإن شرط أن يرهنه المبتاع هذا بعينه، ففي القياس العقد. فاسد لما بينا أنه شرط عقد في عقد. وفي الاستحسان يجوز هذا العقد، لأن المقصود بالرهن الاستيفاء، فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء، وشرط استيفاء الثمن ملائم للعقد ثم الرهن بالثمن للتوثق، فاشتراط ما يتوثق به كاشتراط صفة الجودة في الثمن. وقد رأينا صاحب البدائع يقول في هذا المعنى: ((وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد، لكنه ملائم للعقد)) لا يوجب فساد العقد أيضاً، لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى مؤكد إياه.. فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد، وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهناً فإن كان معلوماً فالبيع جائز استحساناً، والقياس ألا يجوز لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسداً، إلا أننا استحسنا الجواز لأن هذا الشرط لو كان مخالفاً مقتضى العقد صورة فهو موافق له معنى، لأن الرهن بالثمن شرع توثيقاً للثمن وكذا الكفالة فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة، فكان كل واحد منهما مقرراً لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة في الثمن وأنه لا يوجب فساد العقد، فكذا هذا.

 

أما في المذهب الشافعي، فالظاهر أن الشرط الذي يلائم العقد يصح أصلاً لا استثناء، بخلاف المذهب الحنفي فالشرط فيه لا يصح إلا على سبيل الاستثناء كما قدمنا.

 

وأما المذهبان المالكي والحنبلي فيبدو أنهما يجيزان الشرط الملائم للعقد على اعتبار أن هذا الشرط إذا كان العقد لا يقتضيه فإنه لا ينافي مقتضى العقد وهو من مصلحته، وما لا ينافي مقتضى العقد وإن كان العقد لا يقتضيه فهو جائز مادامت فيه مصلحة للعقد وللمتعاقدين. ويظهر أن الفرق بين المذهب الحنفي وهذين المذهبين في هذا الصدد أن الحنفية يوجبون لصحة الشرط في الأصل أن يكون العقد يقتضيه، ثم هم يجيزون استثناء - على سبيل الاستحسان لا على سبيل القياس - الشرط الذي يلائم العقد، لأنه يشبه في المعنى الشرط الذي يقتضيه العقد، فيلحق به. أما المذهبان الآخران فعندهما أنه ليس من الضروري لصحة الشرط أن يكون العقد يقتضيه. بل يكفي أن يكون الشرط لا ينافي مقتضى العقد، فيصح الشرط الذي يقتضيه العقد، كما يصح الشرط الذي يلائم العقد لأنه لا ينافي ما يقتضيه، والصحة في هذا الشرط وفي ذاك إنما ترد على سبيل الأصل لا على سبيل الاستثناء. وقد رأينا الخرشي في المذهب المالكي يقول في هذا المعنى: ((ولما أنهى الكلام على الشرط المناقض، وترك المؤلف ذكر ما لا يقتضيه العقد لوضوحه، أخذ يذكر مالا يقتضيه ولا ينافيه وهو من مصلحته، بقوله مشبهاً له بالحكم قبله، وهو الصحة كشرط رهن وحميل وأجل، يعني أن البيع يصح مع اشتراط هذه الأمور. وليس في ذلك فساد ولا كراهيه، لأن ذلك كله مما يعود على البيع بمصلحته، ولا معارض له من جهة الشرع)). ثم رأينا ابن قدامة المقدسي في المذهب الحنبلي يقول في الشرح الكبير: ((الثاني شرط من مصلحة العقد.. فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به)).


الشرط الذي يجري به التعامل

النصوص

جاء في المبسوط (جزء 13 ص14): ((وإن كان شرطاً لا يقتضيه العقد وفيه عرف ظاهر، فذلك جائز أيضاً، كما لو اشترى نعلاً وشراكاً بشرط أن يحذوه البائع، لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة حرجاً بيناً)).

 

وجاء في البدائع (جزء 5 ص172): ((كذلك إن كان مما لا يقتضيه العقد ولا يلائم العقد أيضاً، لكن للناس فيه تعامل، فالبيع جائز، كما إذا اشترى نعلاً على أن يحذوه البائع أو جراباً على أن يخرزه له خفاً، أو ينعل خفه والقياس ألا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله. وجه القياس أن هذا الشرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد العاقدين وأنه مفسد، كما إذا اشترى ثوباً بشرط أن يخيطه البائع له قميصاً ونحو ذلك. ولنا أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع فسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع)).

 

ولا يزال الشرط الذي يجري به التعامل إنما تثبت له الصحة في المذهب الحنفي على سبيل الاستحسان. أما في القياس فهو لا يجوز، لأن فيه زيادة منفعة لا يقتضيها العقد فيكون عقداً في عقد. وقد رأينا صاحب البدائع يقول: ((والقياس ألا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله. وجه القياس أن هذا شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد العاقدين وأنه مفسد، كما إذا اشترى ثوباً بشرط أن يخيطه البائع له قميصاً ونحو ذلك. ولنا أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع، فسقط القياس بتعامل الناس، كما سقط في الاستصناع)).


الشرط الفاسد

المذهب الحنفي والمذاهب الثلاثة الأخرى:

ولما كان المذهب الحنفي هو أضيق المذاهب في إباحة الشروط المقترنة بالعقد كما قدمنا، ومن ثم كان الشرط الفاسد في هذا المذهب واسع المدى، لذلك نبدأ ببحث المذهب الحنفي وحده، ثم نعقب بتأصيل هذا المذهب وتطور الفقه الإسلامي في المذاهب الثلاثة الأخرى وفي المذهب الحنفي نفسه، فهناك اتصال وثيق بين هاتين المسألتين.


أولاً - المذهب الحنفي

- التمييز بين حالتين:

يجب التمييز في المذهب الحنفي بين حالتين:

(أ) حالة فيها الشرط الفاسد يفسد العقد.

(ب) وحالة فيها الشرط الفاسد يلغو دون أن يفسد العقد، فيسقط الشرط ويبقى العقد.


1- شرط فاسد يفسد العقد

النصوص

جاء في المبسوط (جزء 13 ص15- ص18): ((وإن كان شرطاً لا يقتضيه العقد وليس فيه عرف ظاهر، فإن كان فيه منفعة لأحد المتعاقدين فالبيع فاسد، لأن الشرط باطل في نفسه والمنتفع به غير راض بدونه، فتمكن المطالبة بينهما بهذا الشرط. فلهذا فسد به البيع. وكذلك إن كان فيه منفعة للمعقود عليه، وذلك نحو ما بينا أنه إذا اشترى عبداً على أنه لا يبيعه، فإن العبد يعجبه ألا تتناوله الأيدي، وتمام العقد بالمعقود عليه حتى لو زعم أنه حر كان البيع باطلاً، فاشتراط منفعته كاشتراط منفعة أحد المتعاقدين... قال إذا اشترى عبداً على أنه يعتقه فالبيع فاسد، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن البيع جائز بهذا الشرط، وهو قول الشافعي، لحديث بريرة رضي الله عنها فإنها جاءت إلى عائشة رضي الله عنها تستعينها في المكاتبة. قالت إن شئت عددتها لأهلك وأعتقك، فرضيت بذلك، فاشترتها وأعتقتها، وإنما اشترتها بشرط العتق وقد أجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.. ولأن العتق في المبيع قبض.. والقبض من أحكام العقد فاشتراطه في العقد يلائم العقد ولا يفسده. وحجتنا في ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، ولأن في هذا الشرط منفعة للمعقود عليه والعقد لا يقتضيه فيفسد به العقد كما لو شرط ألا يبيع. يوضحه أنه لو شرط في الجارية أن يستولدها أو في العبد أن يدبره كان العقد فاسداً فإذا كان اشتراط حق العتق لها يفسد البيع فاشتراط حقيقة العتق أولى، ودعواه أن هذا الشرط يلائم العقد لا معنى له فإن البيع موجب للملك والعتق مبطل له فكيف يكون بينهما ملاءمة، ثم هذا الشرط يمنع استدامة الملك فيكون ضد ما هو المقصود بالعقد. وبيع العبد نسمة لا يكون بشرط العتق، بل يكون ذلك وعداً من المشتري ثم البيع بعقد مطلقاً وهو تأويل حديث عائشة رضي الله عنها فإنها اشترت بريرة رضي الله عنها مطلقاً ووعدت لها أن تعتقها لترضى هي بذلك فإن بيع المكاتبة لا يجوز بغير رضاها...

 

• وإذا اشتراه على أن يقرض له قرضاً أو يهب له هبه أو يتصدق عليه صدقة أو على أن يبيعه بكذا وكذا من الثمن، فالبيع في جميع ذلك فاسد، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة.. وإن اشترى شيئاً وشرط على البائع أن يحمله إلى منزله أو يطحن الحنطة أو يخيط الثوب فهو فاسد، لأن فيه منفعة لأحد المتعاقدين والعقد لا يقتضيه، لأنه إن كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط عليه فهو إجارة مشروطة في العقد، وإن لم يكن بمقابلته شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد، وكذلك لو اشترى داراً على أن يسكنها البائع شهراً، فهذه إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد، أو هذا شرط أجل في العين والعين لا تقبل الأجل)).

 

• وجاء في البدائع (جزء 5 ص169- ص173): ((ومنها شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع أو للمشتري أو للمبيع إن كان من بني آدم كالرقيق، وليس بملائم للعقد، ولا مما جرى به التعامل بين الناس، ونحو ما إذا باع داراً على أن يسكنها البائع شهراً ثم يسلمها إليه، أو أرضاً على أن يزرعها سنة، أو دابة على أن يركبها شهراً، أو ثوباً على أن يلبسه أسبوعاً أو على أن يقرضه المشتري قرضاً. أو على أن يهب له هبة، أو يزوج ابنته منه، أو يبيع منه بكذا، ونحو ذلك، أو اشترى ثوباً على أن يخيطه البائع قميصاً، أو حنطة على أن يطحنها، أو ثمرة على أن يجذها، أو ربطة قائمة على الأرض على أن يجذها، أو شيئاً له حمل ومؤونة على أن يحمله البائع إلى منزله، ونحو ذلك. فالبيع في هذا كله فاسد، لأنه زيادة منفعة مشروطة في البيع تكون رباً، لأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع وهو تفسير الربا، والبيع الذي فيه الربا فاسد؛ أو فيه شبهة الربا، وأنها مفسدة للبيع كحقيقة الربا وكذا لو باع جارية على أن يدبرها المشتري أو على أن يستولدها، فالبيع فاسد، لأنه شرط فيه منفعة للمبيع وأنه مفسد وكذا لو باعها بشرط أن يعتقها المشتري، فالبيع فاسد في ظاهر الرواية عن أصحابنا وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه جائز، وبه أخذ الشافعي رحمه الله.. وكذا لو باع عبداً أو جارية بشرط ألا يبيعه وألا يهبه وألا يخرجه من ملكه، فالبيع فاسد، لأن هذا شرط ينتفع به العبد والجارية بالصيانة عن تداول الأيدي فيكون مفسداً للبيع... ولو اشترى شيئاً بشرط أن يوفيه في منزله، فهذا لا يخلو إما أن يكون المشتري والبائع بمنزلهما في المصر وإما أن يكون أحدهما في المصر والآخر خارج المصر، فإن كان كلاهما في المصر، فالبيع بهذا الشرط جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحساناً، إلا إذا كان في تصحيح الشرط تحقيق الربا، كما إذا تبايعا حنطة بحنطة وشرط أحدهما على صاحبه الإيفاء في منزله. وعند محمد البيع بهذا الشرط فاسد وهو القياس، لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للمشتري فأشبه ما إذا اشترى بشرط الحمل إلى منزله أو بشرط الإيفاء في منزله وأحدهما في المصر والآخر خارج المصر. ولهما أن الناس تعاملوا البيع بهذا الشرط إذا كان المشتري في المصر، فتركنا القياس لتعامل الناس ولا تعامل فيما إذا لم يكونا في المصر، ولا في شرط الحمل إلى المنزل فعملنا بالقياس فيه... وأما بيع الثمر على الشجر بعد ظهوره وبيع الزرع في الأرض.. إن اشترى بشرط الترك فالعقد فاسد بالإجماع، لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا يلائم العقد ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع لما ذكرنا، لأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجرة والأرض وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطاً الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة وأنه منهي عنه.

 

ونستعرض استخلاصاً من النصوص المتقدمة، مسائل ثلاثاً:

(1) الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد.

(2) الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور.

(3) العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسداً العقد.


الصور المختلفة للشرط الفاسد الذي يفسد العقد

يمكن القول بوجه عام أن الشرط الفاسد الذي يفسد العقد هو الذي فيه منفعة لها صاحب يطالب بها. وهذه المنفعة إما أن تكون للمبيع إذا كان رقيقاً، أو للبائع، أو للمشتري، أو لأجنبي غير المتعاقدين.

 

فمثل المنفعة التي تكون للمبيع إذا كان رقيقاً: أن يشتري عبداً على ألا يبيعه أو يهبه أو يخرجه من ملكه بحال، أو على أن يبيعه من فلان دون غيره، أو على ألا يخرجه من بلد معين أو على أن يدبره أو يكاتبه، أو على أن يعتقه على خلاف بين المذاهب، أو يشتري أمة على أن يستولدها. ففي هذه الأمثله نرى الرقيق المبيع قد صارت له منفعة بعقد البيع يستوفيها من المشتري. فمن مصلحة الرقيق ألا يباع أو يخرج من ملك المشتري حتى لا تتداوله الأيدي أو في القليل ألا يباع إلا إلى شخص بالذات فيتحدد بذلك مجال التعامل فيه، أو أن يبقى في بلد معين له في الاستقرار فيه مصلحة ومن مصلحته أن يدبر أو يكاتب، أو يستولد إذا كان أمة، فهذا هو طريقه إلى العتق. ومن مصلحته بالأولى أن يشترط البائع عتقه.

 

والمنفعة التي تكون للبائع إما أن تكون منفعة تتعلق بالمبيع ذاته أو منفعة مستقلة عن المبيع فمثل المنفعة التي تتعلق بالمبيع أن يبيع عبداً ويشترط على المشتري أن يبقي في خدمته وقتاً من الزمن. أو يبيع داراً ويشترط أن يسكنها شهراً، أو يبيع أرضاً ويشترط أن يزرعها سنة، أو يبيع دابة ويشترط أن يركبها إلى مكان معين، أو يبيع ثوباً ويشترط أن يلبسه أسبوعاً. ونرى في هذه الأمثلة أن البيع يتضمن إجارة أو إعارة، فيتضمن إجارة إن كان للشرط مقابل من الثمن فإن لم يكن له مقابل فالبيع يتضمن إعارة. ومثل المنفعة المستقلة عن المبيع أن يشترط البائع على المشتري أن يقرضه قرضاً، أو أن يهب له هبة، أو أن يتصدق عليه بصدقة، أو أن يشتري منه شيئاً آخر، أو أن يبيع له كما اشترى منه، أو أن يزوج منه ابنته، ونرى في هذه الأمثلة أن عقد البيع قد تضمن عقداً آخر: قرضاً أو هبة أو صدقة أو بيعاً أو زواجاً.

 

• والمنفعة التي تكون للمشتري تكون هي أيضاً إما منفعة تتعلق بالبيع ذاته أو منفعة مستقلة عن المبيع. فمثل المنفعة التي تتعلق بالمبيع أن يشتري حنطة ويشترط على البائع أن يطحنها أو ثوباً ويشترط على البائع أن يخيطه، أو محصولاً ويشترط على البائع أن يحصده، أو يشترط أن يتركه في الأرض حتى ينضج، أو ربطة قائمة على الأرض ويشترط على البائع أن يجذها، أو يشتري ما له حمل ومؤونه ويشترط على البائع أن يحمل المبيع إلى منزله. وفي هذه الأمثلة نرى البيع قد اقترن بعقد آخر، هو في أغلبها إجارة عمل البائع. وهو إعارة الأرض أو إجارتها في شرط ترك المحصول في الأرض حتى ينضج. ومثل المنفعة المستقلة عن المبيع أن يشترط المشتري على البائع أن يقرضه قرضاً، أو يهب له هبة، أو أن يتصدق عليه بصدقة، أو أن يبيع له شيئاً آخر، أو أن يشتري منه كما باع له، أو أن يتزوج ابنته. وهذه هي نفس الأمثلة التي أوردناها في منفعة البائع المستقلة عن المبيع، وإنما جعلناها هنا لمصلحة المشتري لا لمصلحة البائع.

 

وقد تكون المنفعة لأجنبي غير المتعاقدين، كما إذا باع ساحة على أن يبني المشتري فيها مسجداً، أو باع طعاماً على أن يتصدق به المشتري، أو باع داراً واشترط على المشتري أن يهبها لفلان أو يبيعها منه بكذا من الثمن ويلاحظ أن هذه الصورة في الفقه الإسلامي تعدل في الفقه الغربي صورة الاشتراط لمصلحة الغير، ولما كان الشرط فاسداً في هذه الحالة فقد أقفل باب الاشتراط لمصلحة الغير في الفقه الحنفي.


الأسباب التي دعت المذهب إلى القول بفساد الشرط والعقد في هذه الصور

وقد رأينا النصوص الفقهية المتقدمة تعلل فساد الشرط والعقد في هذه الصور بعلتين مختلفتين:

العلة الأولى: أن الشرط، يتضمن منفعة تجوز المطالبة بها، يكون زيادة منفعة مشروطة في عقد البيع، وهي زيادة لا يقابلها عوض، فهي رباً أو فيها شبهة الربا، والمبيع الذي فيه الربا أو شبهة الربا فاسد.

 

العلة الثانية: أن الشرط لا يقتضيه العقد حتى يصح قياساً، ولا هو ملائم للعقد أو يجري به التعامل حتى يصح استحساناً، وقد تضمن منفعة تجوز المطالبة بها، فصار في ذاته عقداً آخر - إجارة أو إعارة أو بيعاً أو قرضاً أو هبة أو غير ذلك - تضمنه عقد البيع. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، وعن بيع وسلف، وعن بيعتين في بيعة واحدة، وعن صفقتين في صفقة واحدة.. ومهما يكن من شأن صحة بعض هذه الأحاديث، فقد أخذ بها المذهب الحنفي. وقد رأينا صاحب المبسوط يقول في هذا المعنى إن الشرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين والعقد لا يقتضيه، لأنه إن كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط عليه فهو إجارة مشروطه في العقد، وإن لم يكن بمقابلته شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع، وهو مفسد للعقد.. لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف وعن بيعتين في بيعة، ورأينا صاحب البدائع يقول: ((إن اشترى بشرط الترك فالعقد فاسد بالإجماع. لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا يلائم العقد ولا جرى به التعامل بين الناس، ومثل هذا الشرط مفسد للبيع لما ذكرنا، ولأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجرة والأرض وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطاً الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة وأنه منهي عنه)). ورأينا صاحب فتح القدير يقول: ((وكذلك لو باع عبداً على أن يستخدمه البائع شهراً أو داراً على أن يسكنها، أو على أن يقرضه المشتري دراهم، فهو فاسد، لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين وقد ورد في عين بعضها نهي خاص وهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف أي قرض، ثم خص شرطي الاستخدام والسكنى بوجه معنوي، فقال: ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن بأن يعتبر المسمى ثمناً بإزاء المبيع وبإزاء أجرة الخدمة والسكنى يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)).


العقود التي يكون فيها الشرط الفاسد مفسداً للعقد

والظاهر من نصوص فتح القدير التي قدمناها أن الشرط الفاسد لا يفسد العقد إلا إذا كان مبادلة مال بمال، كالبيع والإجارة والقسمة والصلح عن دعوى المال[43] وقد ورد في المادة 333 من مرشد الحيران: ((كل ما كان مبادلة مال بمال، كالبيع والشراء والإيجار والاستئجار والمزارعة والمساقاة والقسمة والصلح عن مال، لا يصح اقترانه بالشرط الفاسد ولا تعليقه به، بل تفسد إذا اقترنت أو علقت به.. ومثل ذلك إجازة هذه العقود فإنها تفسد باقترانها بالشرط الفاسد وبتعليقها به)).

 

أما ما كان مبادلة مال بغير مال كالنكاح والخلع على مال، أو كان من التبرعات كالهبة والقرض، أو من التقييدات كعزل الوكيل والحجر على الصبي من التجارة، أو من الاسقاطات المحضة كالطلاق والعتاق وتسليم الشفعة بعد وجوبها، أو من الإطلاقات كالإذن للصبي بالتجارة وكذلك الإقالة والرهن والكفالة والحوالة والوكالة والإيصاء والوصية، ففي هذه التصرفات كلها إذا اقترن العقد بالشرط الفاسد، صح العقد ولغى الشرط (أنظر المواد 324- 326 من مرشد الحيران)..

 

ويتضح مما تقدم أن الشرط الفاسد إذا اقترن بعقد هو مبادلة مال بمال تغلغل في صلبه فأفسده معه. والسبب في ذلك أن الشرط لما كان فاسداً فقد سقط، ولما كان العاقد قد رضى بمبادلة مال بمال المتعاقد الآخر على هذا الشرط. وقد فات عليه، فيكون غير راض بالمبادلة، فيفسد العقد. وفي هذا يقول صاحب المبسوط: ((لأن الشرط باطل في نفسه. والمنتفع به غير راض بدونه)). وهذا السبب لا يقوم في التصرفات الأخرى ومن ثم يسقط الشرط لأنه فاسد، ولكن يبقى العقد على صحته.


شرط فاسد يسقط ويبقى العقد

النصوص

جاء في البدائع (جزء 5 ص170): ((إذا باع ثوباً على ألا يبيعه المشتري أو لا يهبه أو دابة على ألا يبيعها أو يهبها، أو طعاماً على ألا يأكله ولا يبيعه، ذكر في المزارعة ما يدل على جواز البيع، فإنه قال: لو شرط أحد المزارعين في الزراعة على ألا يبيع الآخر نصيبه ولا يهبه فالمزارعة جائزة والشرط باطل، وهكذا روى الحسن في المجرد عن أبي حنيفة رحمه الله. وفي الإملاء عن أبي يوسف أن البيع بهذا الشرط فاسد. ووجهه أنه شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا جرى به التعارف بين الناس، فيكون مفسداً كما في سائر الشرائط المفسدة. والصحيح ما ذكر في المزارعة لأن هذا شرط لا منفعة فيه لأحد فلا يوجبه الفساد، وهذا لأن فساد البيع في مثل هذه الشروط لتضمنها الربا وذلك بزيادة منفعة مشروطه في العقد لا يقابلها عوض. ولم يوجد في هذا الشرط لأنه لا منفعة فيه لأحد، إلا أنه شرط فاسد في نفسه لكنه لا يؤثر في العقد، فالعقد جائز والشرط باطل. ولو باع ثوباً على أنه يحرقه المشتري، أو داراً على أن يخربها، فالبيع جائز والشرط باطل لأن شرط المضرة لا يؤثر في البيع على ما ذكرنا.

 

وجاء في فتح القدير (جزء 5 ص215- ص216): ((أما لو كان المبيع ثوباً أو حيواناً غير آدمي، فقد خرج الجواز مما ذكرنا في المزارعة من أن أحد المزارعين إذا شرط في المزارعة ألا يبيع الآخر نصيبه أو يهبه أن المزارعة جائزة والشرط باطل: لأنه ليس لأحد العاملين فيه منفعة.. وكذا ذكر الحسن في المجرد، قال المصنف وهو الظاهر من المذهب، لأنه إذا لم يكن من أهل الاستحقاق انعدمت المطالبة والمنازعة، فلا يؤدي إلى الربا، وما أبطل الشرط الذي فيه المنفعة للبيع إلا لأنه يؤدي إليه، لأنه زيادة عارية عن العوض في عقد البيع وهو معنى الربا.


شرط لا منفعة فيه لأحد وهو شرط فاسد فيسقط

يتبين مما قدمناه من النصوص أن هناك شرطاً لا يقتضيه العقد ولا هو يلائم مقتضى العقد ولم يجربه التعامل، وهو مع ذلك لا منفعة فيه لأحد. ومن الأمثلة على هذا الشرط التي وردت في النصوص: يبيع ثوباً أو دابة أو حيواناً غير الرقيق ويشترط على المشتري ألا يبيع أو لا يهب ما اشتراه - يشترط أحد المزارعين على المزارع الآخر ألا يبيع أو لا يهب نصيبه من المزارعة - يبيع طعاماً ويشترط على المشتري ألا يأكله ولا يبيعه - يبيع ثوباً ويشترط على المشتري أن يحرقه - يبيع داراً ويشترط المشتري أن يخربها.

 

ففي هذه الأمثلة يذهب الفقه الحنفي إلى أن الشرط المقترن بعقد البيع لا منفعة فيه لأحد ولما كان هذا الشرط لا يقتضيه العقد، ولا هو يلائم مقتضى العقد، ولم يجر به التعامل، فليس ثمة ما يبرر تصحيحه، ومن ثم كان فاسداً فيسقط... ولكن العقد يبقى صحيحاً.

 

على أن هذا الشرط الفاسد الذي لا منفعة فيه لأحد، لما لم يكن له مطالب لانعدام منفعته والمطالبة إنما تتوجه بالمنفعة، فهو شرط لم يتمكن في صلب العقد حتى يسري فساده إلى العقد، ومن ثم يبقى العقد صحيحاً بالرغم من سقوط الشرط، فالشرط من حيث أنه فاسد يسقط ومن حيث أنه لا منفعة فيه لأحد يستبقى العقد صحيحاً. وهذا هو الظاهر في المذهب الحنفي.

 

ويذكر المذهب لهذا الحكم علتين:

العلة الأولى: أن الشرط الذي يفسد العقد إنما أفسده لأن فيه زيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض إذ هو شرط فيه منفعة على النحو الذي بيناه، فكان في ذلك رباً أو شبهة الربا. والربا وشبهته يفسدان العقود. أما الشرط الذي نحن بصدده فليس فيه منفعة لأحد ولا مطالب له، فلم يوجد فيه معنى الزيادة التي يقابلها عوض، فانعدمت فيه شبهة الربا، فلم يعد هناك مبرر لفساد العقد، فيبقى العقد صحيحاً، مع سقوط الشرط لفساده.

 

العلة الثانية: أن الشرط الذي يفسد العقد إنما أفسده، من جهة أخرى، لأن فيه منفعة لها مطالب، فكان صفقة في صفقة أو عقداً تضمنه عقد آخر، وهذا لا يجوز. أما الشرط الذي لا منفعة فيه لأحد وليس له مطالب، فهو ليس بصفقة أو عقد، فلم يتضمن البيع باقترانه به صفقة أو صفقة أو عقداً في عقد، فارتفع سبب الفساد عن البيع، فبقى على صحته، مع سقوط الشرط لفساده...


ثانياً - تأصيل المذهب الحنفي وتطور الفقه الإسلامي

أ - سبب فساد العقد في المذهب الحنفي.

ب - السبب الحقيقي في فساد العقد إذا اقترن بالشرط.

جـ - علتان تنتهيان إلى علة واحدة - تعدد الصفقة.

 

رأينا أن الفقه الحنفي يعلل كيف يفسد الشرط الفاسد العقد بعلتين: علة الربا وعلة تعدد الصفقة. وتكاد العلتان تتعادلان في كتب الفقهاء، بل لعل علة الربا هي التي ترجح كفتها.

 

ولكن المتأمل فيما يورد الفقهاء عادة من أمثلة للشروط الفاسدة يرى أن فكرة الربا إنما اتخذت تكثة لتعزيز فكرة تعدد الصفقة، وإن فكرة تعدد الصفقة هي التي يجب أن تقف عندها. ولكن لما كانت هذه الفكرة إنما تمت إلى محض الصناعة الفقهية. فإن تعليل فساد العقد بها يكاد يكون خفياً. وهو على كل حال لا يبلغ من الوضوح ما يبلغه التعليل بفكرة الربا، فإن الربا في الفقه الإسلامي لا يكاد يلقي ظله على شيء إلا ويفسده. ومن ثم كان الأيسر على الفقهاء أن يلجأوا في تعليل فساد العقد إلى فكرة الربا.

 

• والواقع من الأمر أن فكرة تعدد الصفقة هي الفكرة التي تسيطر على فساد العقد المقترن بالشرط، بل إن فكرة الربا نفسها - لو سلمنا بها جدلاً - تُرَدُّ في النهاية إلى فكرة تعدد الصفقة ذلك أن كل مثل تورده الفقهاء للشرط الفاسد الذي يفسد العقد يتضمن حتماً صفقتين في صفقة واحدة ولا يتحتم أن يتضمن فكرة الربا. فالشرط الفاسد هو في ذاته صفقة تضمنها عقد البيع، وقد يكون إجارة أو إعارة أو بيعاً آخر أو هبة أو صدقة أو زواجاً أو غير ذلك. فإذا ما اقترن البيع بهذا الشرط أصبح صفقتين في صفقة واحدة.

 

• والشرط الفاسد قد لا يكون له مقابل من الثمن أو يكون له هذا المقابل فإن لم يكن له مقابل من الثمن، فهنا تأتي فكرة الربا. إذ يقول الفقهاء: أن الشرط يكون زيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض، فيفسد العقد للربا. ولكن إذا صح أن تقوم فكرة الربا هنا، فإنه مع ذلك يمكن الاستغناء عنها بفكرة تعدد الصفقة، ويمكن القول بأن العقد الذي تضمن هذه الزيادة المشروطة في المنفعة دون عوض إنما تضمن صفقة أخرى فأصبح صفقتين في صفقة.

 

• أما إذا كان الشرط له مقابل من الثمن، فإن فكرة الربا لا تقوم. إذ تصبح زيادة المنفعة المشروطة في العقد يقابلها عوض، فلا يمكن تعليل فساد العقد عندئذ إلا بفكرة تعدد الصفقة.

 

ومن هنا نتبين أن فكرة الربا لا تصلح لتعليل جميع الأحوال التي يفسد الشرط الفاسد فيها العقد، فقد رأيناها لا تصلح إلا لتعليل بعض هذه الأحوال، وحتى في هذا البعض يمكن الاستغناء عنها بفكرة تعدد الصفقة. أما فكرة تعدد الصفقة فتصلح تعليلاً لفساد العقد المقترن بالشرط الفاسد في جميع الأحوال دون استثناء.

 

• على أن هناك ما هو أبعد مدى من ذلك. فإن التعليل بالربا، حتى في بعض الأحوال دون بعض، قد لا يستقيم، فالربا لا يكون إلا في الأموال الربوية، وهي المكيلات والموزونات عند الحنفية فإذا كان البيع الذي اقترن بشرط فاسد لم يقع على مال ربوي، لم تقم علة الربا بشطريها وهما القدر والجنس. فلا يصح تعليل فساد العقد في هذه الحالة بفكرة الربا.

 

ففكرة تعدد الصفقة تَجُبُّ إذن فكرة الربا، وهي وحدها، في رأينا، التي ضيقت المذهب الحنفي، وجعلت العقد يفسد إذا اقترن بالشرط. ففي هذا المذهب لا يجوز أن يتضمن العقد الواحد أكثر من صفقة واحدة. فإذا أضيف إلى هذه الصفقة صفقة أخرى، ولو في صورة شرط فإن العقد يضيق بالصفقتين ويفسد، فتسقط الصفقتان معاً.


السبب في تحريم تعدد الصفقه - وحدة العقد

ويبقى بعد ذلك أن نسأل: ولماذا لا يجوز تعدد الصفقة في العقد الواحد؟ هنا نجد نصوص المذهب الحنفي تتذرع بأحاديث كثيرة عن النبي عليه السلام، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع وشرط، وعن بيع وسلف.

 

على أنه فضلاً عن أن بعض هذه الأحاديث موقوفة، كالنهي عن صفقتين في صفقة وقد أمكن على كل حال تأويله على وجه آخر وكالنهي عن بيع وشرط، فإن هناك أحاديث أخرى صحت عن النبي عليه السلام تجيز اقتران الشرط بالعقد.

 

ونطالع هنا صفحة من المبسوط، ترددت في كتب كثيرة. نرى فيها كيف تعددت الأحاديث في هذه المسألة. وبعضها يجيز الشرط فيجيز معه العقد، وبعضها يسقط الشرط ويجيز العقد. وبعضها يسقط الشرط والعقد معاً.

 

قال السرخسي في المبسوط (جزء 13 ص13): ((حكى عن عبدالوارث بن سعيد قال: حججت فدخلت بمكة على أبي حنيفة وسألت عن البيع بالشرط، فقال باطل. فخرجت من عنده ودخلت على ابن أبي ليلى وسألته عن ذلك، فقال البيع جائز والشرط باطل. فدخلت على ابن شبرمة وسألته عن ذلك فقال البيع جائز والشرط جائز. فقلت هؤلاء من فقهاء الكوفة، وقد اختلفوا علي في هذه المسألة كل الاختلاف، فعجزني أن اسأل كل واحد منهم عن حجته. فدخلت على أبي حنيفة فأعدت السؤال عليه، فأعاد جوابه، فقلت إن صاحبيك يخالفانك، فقال لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْط.. فدخلت على ابن أبي ليلى فقلت له مثل ذلك، فقال: لا أدري ما قالا. حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها لما أرادت أن تشتري بريرة رضي الله عنها أبى مواليها إلا بشرط أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلوات الله عليه وسلامه: ((اشْتَرِي وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاء فإنَّ الوَلاء لمَنْ أَعْتَقَ))ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ في كِتَابِ اللهِ، كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَالوَلاء لمَنْ أَعْتَقَ))فدخلت على ابن شبرمة وقلت له مثل ذلك، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني محارب بن دثار عن أبي الزبير عن جابر ابن عبدالله الأنصاري رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه ناقة في بعض الغزوات وشرط له ظهرها إلى المدينة. اهـ.


فالأحاديث كما نرى مختلفة متضاربة. ولابد من التوفيق بينها. وكان من الممكن أن يكون هذا التوفيق لمصلحة اقتران الشرط بالعقد. لاسيما أن أدلة المانعين الكثيرة منها متكلف فما الذي جعل المذهب الحنفي يؤثر النهي عن الشرط، ويجعله هو المسيطر في هذه الحالة، ويدع الأحاديث الأخرى؟.

 

والواقع من الأمر أن فكرة النهي عن تعدد الصفقة - فضلاً عن أنها وردت في أحاديث عن النبي عليه السلام - هي الفكرة الطبيعية التي تتفق مع تطور القانون. فهي الفكرة الأولى التي يقف عندها نظام قانوني ناشئ، في توخيه الدقة في التعاقد بتحري البساطة في العقد. وتكون وحدة العقد مبدأ جوهرياً من مبادئه، ومن ثم لا يجوز أن يتضمن العقد أكثر من صفقة واحدة وإلا أخل ذلك بوحدته. بل لعل الفقه الإسلامي استغنى بهذه الفكرة وأمثالها - كفكرة اللفظية وفكرة مجلس العقد - عن الشكلية في العقود. تلك الشكلية التي بدأت في القانون الروماني رسوماً وأوضاعاً ساذجة، وجاءت في الفقه الإسلامي ضرباً من الشكلية أكثر تهذيباً.

 

ولعل فكرة وحدة الصفقة في العقد الواحد لم يخلص منها أي نظام قانوني مهذب في مراحله الأولى من التطور، فإنها الفكرة التي تلائم العقل القانوني عندما يبدأ في تشييد صرح من النظم القانونية، فهو يتحرى لها الثبات والاستقرار عن طريق وحدة العقد، إذ أن حاجة القانون إلى الثبات والاستقرار تسبق في تاريخ تطوره حاجته إلى المرونة والتجدد. - إلى أن قال -:


تطور الفقه الإسلامي في الشروط المقترنة بالعقد

تطور الفقه الإسلامي في المذاهب الأربعة

على أن الفقه الإسلامي لم يلبث جامداً عند المرحلة الأولى للفكر القانوني بل خطا خطوات واسعة في طريق التطور. تطور في المذهب الحنفي نفسه وفي المذهب الشافعي، وتطور تطوراً أسرع في المذهبين المالكي والحنبلي.


1- تطور الفقه الإسلامي في المذهب الحنفي

رأينا مما قدمناه من نصوص الفقه الحنفي أن فقهاء هذا المذهب، بالرغم من أنهم يقررون كمبدأ عام وجوب وحدة الصفقة، يحدثون مع ذلك في هذا المبدأ ثغرات هامة، فيدفعون المذهب إلى طريق من التطور يوطئ أكنافه ويوسع ما ضاق منه، سداً لحاجات التعامل.

 

1 - فأول ما يقررونه - لا على سبيل الاستثناء من المبدأ بل مطاوعة لطبائع الأشياء - أن الشرط الذي يقتضيه العقد هو شرط صحيح يصح معه العقد. وبديهي أن ما يقررون من ذلك غني عن أن يذكر، فإن ما يقتضيه العقد صحيح معمول به سواء ذكر في صورة شرط أو لم يذكر أصلاً.

 

ولكنهم لا يقصدون من تقرير هذه القاعدة الحكم في ذاته، بل يقصدون التمهيد بذلك للاستثناءات الحقيقية. من مبدأ وحدة الصفقة، فيبنون على هذه القاعدة الأولى قاعدة أخرى.

 

2 - ومن ثم يقررون أن الشرط يلائم العقد، وإن لم يكن العقد يقتضيه صورة، هو من مقتضى العقد حقيقة، فيلحق بالشرط الذي يقتضيه العقد، ويكون استحساناً شرطاً صحيحاً يصح معه العقد، وقد سبق بسط هذه المسألة في تفصيلاتها وما ورد فيها من الأمثلة.

 

3 - ثم ينتقلون بعد ذلك إلى شرط جرى به التعامل، وهذا هو الباب الواسع الذي يدخل منه التطور السريع. فيجيزون شرطاً فيه منفعة مطلوبة، دون أن يقتضيه العقد ودون أن يلائم العقد إذا كان التعامل قد جرى به. فيصح الشرط في هذه الحالة استحساناً ويصح معه العقد.

 

4 - ثم يقررون أن الشرط الذي ليست فيه منفعة مطلوبة لا تتحقق فيه معنى الصفقة، ولا يجعل العقد ينطوي على صفقتين، ومن ثم يلغو الشرط لعدم إمكان المطالبة به، ولكن يبقى العقد صحيحاً.

 

5 - ثم إنهم في الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة دون أن يقتضيه العقد ودون أن يلائم العقد - وهذا هو الشرط الفاسد الذي يجعل العقد متعدد الصفقة - ويميزون بين أنواع العقود المختلفة: فيقصرون تحريم الصفقتين في الصفقة الواحدة على عقود المعاوضات المالية دون التبرعات والاسقاطات والإطلاقات والتقييدات على ما قدمنا. ففي المعاوضات المالية يتحقق معنى تعدد الصفقة كاملاً، أما في غير المعاوضات المالية فالأمر يختلف، إذ يمكن إلغاء الشرط الفاسد دون أن يمس ذلك كيان العقد الأصلي. فيلغو الشرط ويصح العقد.

 

هذه هي حلقات متلاصقة في سلسلة من الاستثناءات أوردها المذهب الحنفي على مبدأ ضيق هو مبدأ وحدة الصفقة، فوسع فيه، وأنقذ كثيراً من ضروب التعامل، وخطا خطوات محسوسة في طريق التطور. وكل هذا باسم الاستحسان، هذا المصدر الخصب الذي كان من أهم أسباب تطور المذهب الحنفي.


2 - تطور الفقه الاسلامي في المذهب الشافعي

مذهب الشافعي يقرب كثيراً من المذهب الحنفي في الأصل الذي تمسك به وهو منع تعدد الصفقة، وفي الاستثناءات التي أوردها على الأصل.

 

• فالشرط الذي يقتضيه صحيح بداهة، لأنه معمول به من غير حاجة إلى أن يذكر.

 

والشرط الذي يلائم العقد، ويدعى في الفقه الشافعي بالشرط الذي فيه مصلحة للعقد أو الشرط الذي تدعو إليه الحاجة، صحيح أيضاً ويصح معه العقد، وليس ذلك سبيل الاستثناء كما هو الأمر في المذهب الحنفي. بل هو أصل يقوم بذاته، وقد تقدم بيان ذلك. ومن أمثلة الشرط الذي فيه مصلحة للعقد اشتراط الإشهاد على العقد واشتراط كتابته في صك، واشتراط الرهن أو الكفيل بالثمن.

 

ولعل الفقه الشافعي لا يميز بين الشرط الذي يلائم العقد والشرط الذي تدعو إليه حاجة التعامل، فهما عنده شيء واحد. إذ هو يتحدث عن الشرط الذي يلائم العقد تحت اسم الشرط الذي فيه مصلحة للعقد أو الشرط الذي تدعو إليه الحاجة، ولا يورد أمثلة خاصة للشرط الذي تدعو إليه حاجة التعامل.

 

• ثم إن الفقه الشافعي يذهب إلى أن الشرط الذي لا غرض فيه ولا منفعة منه يلغو ويصح العقد.

 

ويتمسك الفقه الشافعي بعد ذلك بالأصل المعروف، فيمنع البيع والشرط، ما دام الشرط فيه منفعة مطلوبة ولا يقتضيه العقد ولا يلائم مقتضى العقد. فلا يجوز أن يشتري زرعاً ويشترط على البائع أن يحصده، أو ثوباً ويشترط على البائع أن يخيطه، ولا يجوز أن يبيع داراً بألف على أن يقرضه المشتري قرضاً بمائة. ولا يجوز للعاقد أن يشترط ما ينافي مقتضى العقد، فلا يجوز للراهن أن يشترط على المرتهن ألا يبيع العين المرهونه أصلاً.

 

أو ألا يبيعها حتى يمضي شهر من وقت حلول الدين، أو أن يكون المرتهن أسوة الغرماء، أو أن يضمن المرتهن هلاك العين كلها ولا يقتصر على ضمان ما زاد من قيمتها على الدين، ولا يجوز أن يشترط أحد الشركاء أن يكون له نصيب في الربح دون خسارة، أو أن يكون له مبلغ معين من الربح فقد تربح الشركة أكثر من هذا المبلغ أو قد لا تربح شيئاً، ولا يجوز أن يشترط رب المال في القراض أن يكون رأس المال في يده، أو أن يشترك مع العامل في التجارة، أو أن تكون يد العامل يد ضمان. ويمنع الفقه الشافعي البيعتين في بيعة، ويتأول الحديث الوارد في النهي عن ذلك على وجهين لا يجيز أياً منهما، فلا يصح أن يشتري بألف نقداً أو بألفين نسيئة، كما لا يصح أن يبيع العبد بألف على أن يبيع منه المشتري أو أجنبي الدار بألفين.

 

ويبدو أن الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة دون أن يقتضيه العقد أو يلائم مقتضى العقد يبطل في مذهب الشافعي المعاوضات والتبرعات على السواء.

 

ويتبين مما تقدم أن مذهب الشافعي قد تطور على نحو يكاد يضاهي فيه المذهب الحنفي وإن كان يتسع عنه في جهة ويضيق دونه في جهة أخرى.


3- تطور الفقه الإسلامي في المذهب المالكي

التطور في المذهب المالكي أبعد مدى من التطور في المذهب الحنفي وفي مذهب الشافعي: وقد تطور الفقه الإسلامي في مذهب مالك تطوراً أبعد مدى من تطوره في مذهبي أبي حنيفة والشافعي، فمالك يجيز من الشروط ما يجيزه المذهبان الآخران، ثم هو يجيز منها كثيراً مما لا يجيزانه.

 

وعنده أن الأصل في الشرط أن يكون صحيحاً ويصح معه العقد، وقد يقع الشرط فاسداً على سبيل الاستثناء.

 

ونستعرض في مذهبه الشرط الصحيح ثم الشرط الفاسد، وذلك في شيء من التنسيق والترتيب لا نجده عادة في كتب المذهب. فهذه تتعدد فيها التقسيمات ويتداخل بعضها في بعض وقد نوه بذلك ابن رشد في بداية المجتهد.


الشرط الصحيح في مذهب مالك

الشرط الصحيح في مذهب مالك أوسع بكثير من الشرط الصحيح في مذهب أبي حنيفة:

(أ) فكل شرط يقتضيه العقد صحيح، وفي هذا يتفق المذهبان، فيصح الشرط والعقد إذا اشترط البائع أن يدفع المشتري الثمن، أو اشترط المشتري أن يسلم البائع المبيع أو أن يضمن العيب، أو اشتراط الدائن المرتهن أن يكون له الحق في بيع العين المرهونة إذا لم يستوف الدين أو يكون مقدماً على سائر الغرماء، أو اشترطت الزوجة أن ينفق عليها الزوج وأن يكسوها.

 

(ب) ولا يصح فحسب، في مذهب مالك، كل شرط يقتضيه العقد، بل يصح أيضاً كل شرط لا يناقض مقتضى العقد. وفي هذا يتسع مذهب مالك عن مذهب أبي حنيفة، إذ يحل في حكم الصحة عند مالك الشرط الذي يلائم العقد والشرط الذي جرى به التعامل وهما صحيحان في مذهب أبي حنيفة، ويدخل أيضاً الشرط الذي فيه منفعة معقولة لأحد المتعاقدين ولو لم يكن العقد يقتضيه أو يلائمه مادام الشرط نفسه لا يناقض مقتضى العقد، ومثل هذا الشرط يفتح الباب واسعاً للتعامل، وهو كما رأينا صحيح عند مالك فاسد عند أبي حنيفة.

 

فيصح في المذهبين أن يشترط البائع على المشتري تقديم رهن أو كفيل أو محال عليه بالثمن، وهذا شرط يلائم مقتضى العقد ولا يقتصر على عدم مناقضته.

 

ويصح في مذهب مالك دون مذهب أبي حنيفة:

1 - أن يشترط البائع على المشتري أن يعتق العبد المبيع، أو يقف الأرض المبيعة، أو يبني فيها مسجداً، أو غير ذلك مما يتضمن إيقاع معنى في المبيع هو من معاني البر.

 

2 - أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه أو يعتقه حتى يعطي الثمن المؤجل وفي هذا إيقاع معنى في المبيع لضمان حق البائع.

 

3 - أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة معقولة، أو الدابة ويشترط ركوبها ثلاثة أيام أو الوصول بها إلى مكان قريب، أو الثوب ويشترط عليه المشتري أن يخيطه، أو الحنطة ويشترط عليه أن يطحنها، وغير ذلك من الشروط التي فيها منفعة معقولة لأحد المتعاقدين.


الشرط الفاسد في مذهب مالك

ولا يكون الشرط فاسداً عند مالك إلا في موضعين:

إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد، كما إذا اشترط البائع على المشتري ألا يتصرف في المبيع، أو اشترط الزوج على الزوجة ألا ينفق عليها أو ألاَّ ترثه أو اشترط بائع الرقيق على مشتريه أنه إذا أعتقه كان الولاء للبائع. وسبب فساد الشرط هنا واضح، فإن العقد لا يسلم مع وجود الشرط مادام الشرط يناقض مقتضاه، أو كما يقول الحطاب وهو شرط ((لا يتم معه المقصود من العقد)).

 

إذا كان الشرط يخل بالثمن، وذلك كبيع وسلف أي بيع يتضمن قرضاً، وكبيع الثنيا وصورته أن يبتاع سلعة على أن البائع متى ما رد الثمن فالسلعة له (وهذا هو بيع الوفاء في القانون الحديث وهو بيع معلق على شرط لا مقترن بشرط) وكبيع يشترط البائع فيه أنه إذا باع المشتري السلعة فهو أحق بها بالثمن الذي باع به للمشتري. وسبب فساد الشرط هنا أنه اشترط لمصلحة البائع أو المشتري وقد روعي فيه نقص الثمن بقدر غير معلوم إذا كان لمصلحة البائع كما في بيع الثنيا، أو زيادة الثمن بقدر غير معلوم إذا كان الشرط لمصلحة المشتري كما في بيع وقرض للمشتري من البائع، وفي الحالتين تلحق الجهالة بالثمن أو كما يقول الخرِشي إن الشرط يعود جهله في الثمن إما بزيادة إن كان الشرط من المشتري، أو بنقص إن كان من البائع.

 

والشرط الفاسد يبطل في جميع الأحوال، ولا يعمل به. أما أثره في العقد:

(1) فتارة يبطله.

(2) وطوراً يبطل الشرط وحده ويبقى العقد.

(3) وثالثة يبطل الشرط والعقد معاً إلا إذا نزل المشترط عن الشرط فيسقط الشرط ويبقى العقد.

 

(1) أما أن الشرط الفاسد يبطل العقد فيقع ذلك عادة إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد، بحيث إذا أعمل الشرط كان لابد للعقد حتماً من أن يختل. فيبطل كل من الشرط والعقد إذا اشترط الواهب ألا يقبض الموهوب له الهبة، أو اشترط المقرض أن يرد له المقترض أحسن مما اقترض، أو اشترط الراهن أن يستبقي الرهن تحت يده أو أنه يخرج من الرهن بعد مدة معلومة أو أن الرهن لا يباع، أو اشترط رب المال في القراض أن يستبقي المال تحت يده أو أن يضمنه العامل أو أن يجعل مع العامل أميناً، أو يشترط الزوج ألا ينفق على الزوجة أو ألا ترثه، أو تشترط الزوجة أنها بالخيار إلى مدة معلومة أو أن الزوج إذا لم يأت بالمهر في مدة معلومة فلا زواج.

 

(2) وأما أن الشرط الفاسد يبطل هو وحده ويبقى العقد، فيبدوا أن ذلك يقع إذا ناقض الشرط مقتضى العقد ولكن العقد لا يختل إذا أعمل الشرط. فما دام العقد لا يختل بالشرط أو بدونه فإنه يبقى.

 

أما الشرط فيسقط، لأنه شرط فاسد يناقض مقتضى العقد، فهو أقرب إلى أن يكون مخالفاً للنظام العام في لغة الفقه الغربي، فيبطل الشرط ويبقى العقد إذا اشترطت الزوجة على زوجها ألا يتزوج عليها أو ألا يطلقها أو ألا ينقلها من بلدها أو من دارها، أو اشترط بائع الرقيق على مشتريه أنه إذا أعتقه كان الولاء للبائع، أو اشترط البائع ألا حق للمشتري في حط جزء من الثمن إذا أصابت الثمار آفة، أو اشترط رب الوديعة على حافظها أن يضمن هلاكها.

 

(3) وأما أن الشرط الفاسد يبطل هو والعقد معاً إلا إذا نزل عنه المشترط فيسقط ويبقى العقد، فإن ذلك يتحقق في حالة ما إذا كان الشرط يخل بالثمن كما رأينا في البيع والسلف وبيع الثنيا والبيع مع اشتراط البائع أنه أحق بالبيع إذا باعه المشتري. ويتحقق ذلك أيضاً فيما إذا كان الشرط يناقض مقتضى العقد عن طريق إيقاعه معنى في البيع ليس من معاني البر، وذلك كأن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه، وهذا إذا عمم أو استثني قليلاً كقوله: على ألا تبيعه جملة أو لا تبيعه إلا من فلان وأما إذا خصص ناساً قليلاً فيجوز الشرط ويصح البيع.


تقدير مذهب مالك

ولاشك في أن الفقه الإسلامي، فيما يتعلق باقتران العقد بالشرط، قد تطور في مذهب مالك تطوراً ملحوظاً نحو الإباحة. فالمذهب المالكي - خلافاً للمذهبين الحنفي والشافعي - يجيز الشرط الذي فيه منفعة مطلوبة فيتخطى بهذه الإباحة العقبة التي ترجع في المذهبين الآخرين إلى مبدأ وحدة الصفقة.

 

ثم إن الشرط الفاسد عند مالك لا يجاوز في أكثر صوره منطقة معقولة، وهذا واضح في الشرط الفاسد الذي يبطل العقد والشرط الفاسد الذي يبطل وحده ويبقى العقد.

 

أما الشرط الفاسد الذي يبطل ويبطل العقد معه إلا إذا نزل عنه المشترط فهو في إحدى صورتيه، وهي صورة المنع من التصرف في البيع، لا يجاوز أيضاً حدوداً معتدله، إذ الشرط يصح إذا قيد بقيود معقولة كما إذا نهى البائع المشتري عن التصرف لناس قليلين وترك باب التصرف مفتوحاً لأكثر الناس، ويصح كذلك إذا كان له مسوغ مشروع كما إذا اشترط البائع ألا يتصرف المشتري في المبيع حتى يعطي الثمن المؤجل وكما إذا كان المنع من التصرف يتضمن إيقاع معنى في البيع هو من معاني البر.

 

وتبقى الصورة الأخرى لهذا الشرط الفاسد، وهي التي يخل بها الشرط بالثمن كما في بيع وسلف، ففي هذه نرى مذهب مالك قد وقف جامداً، ولم يتابع التطور إلى غايته. وكأنه اصطدم هنا بمبدأ وحدة الصفقة فلم يستطع أن يتخطاه في البيع والسلف، فإن العقد الذي يتضمن بيعاً وسلفاً، لا يتميز في الواقع من الأمر إلا بأنه عقد واحد تضمن صفقتين.


تطور الفقه الاسلامي في المذهب الحنبلي

المذهب الحنبلي أبعد المذاهب تطوراً في تصحيح الشروط

وأبعد تطور للفقه الإسلامي في المسألة اقتران الشرط بالعقد كان في مذهب أحمد بن حنبل، لاسيما إذا استكملنا هذا المذهب بما أضافه إليه ابن تيمية وهو من أكبر فقهائه.

 

فالمذهب الحنبلي، كالمذهب المالكي، تخطى مبدأ وحدة الصفقة، ولم يتقيد بهذا المبدأ كما تقيد به المذهبان الحنفي والشافعي، ومن ثم استطاع أن يسير أشواطاً بعيدة في طريق التطور.

 

والحنابلة، كالمالكية، الأصل عندهم في الشرط أن يكون صحيحاً ويصح معه العقد، بل هم يسيرون في هذا الأصل إلى مدى أبعد من المالكية في تصحيح الشروط، ويقع الشرط عند الحنابلة فاسداً، على سبيل الاستثناء، إذا كان ينافي مقتضى العقد، أو كان قد ورد بالنهي عنه نص خاص.

 

فنستعرض في المذهب الحنبلي الشرط الصحيح، ثم الشرط الفاسد، ثم ننظر ما أضاف ابن تيمية إلى المذهب من مزيد توسعة في تصحيح الشروط.


الشرط الصحيح في مذهب الحنابلة

الأصل في مذهب الحنابلة، كما قدمنا هو أن يكون الشرط صحيحاً، ونساير صاحب المغني في الترتيب الذي جرى عليه في استعراض الشروط:

( أ ) فكل شرط يقتضيه العقد صحيح، وفي هذا تتفق المذاهب الأربعة. فيصح اشتراط المشتري التسليم على البائع، والتقابض في الحال، ويصح لكل من المتعاقدين أن يشترط خيار المجلس فكل هذه الشروط يقتضيها العقد، وهي معمول بها حتى لو لم تشترط.

 

(ب) ويصح أيضاً كل شرط يلائم العقد ويكون من مصلحته فتتعلق به مصلحة المتعاقدين كالرهن والضمين والشهادة. وفي هذا أيضاً تتفق المذاهب الأربعة.

 

(جـ) ويصح أخيراً الشرط الذي ليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته، ولكنه لا ينافي مقتضى العقد. وهنا نلحظ المدى البعيد من التطور الذي سار فيه المذهب الحنبلي كما لحظنا ذلك في مذهب مالك، وهذا خلافاً لمذهبي أبي حنيفة والشافعي، فما دام الشرط لا ينافي مقتضى العقد فهو في الأصل صحيح سواء كان العقد يقتضيه أو لا يقتضيه، وسواء لاءم مقتضى العقد أو لم يلائمه. والشرط صحيح حتى لو تضمن منفعة مطلوبة، وفي هذا يتخطى المذهب الحنبلي مبدأ وحدة الصفقة كما تخطاه المذهب المالكي، بل هو ينكر صحة الحديث الذي نهى عن بيع وشرط، ثم إنه لا حاجة في صحة الشرط إلى جريان التعامل به، خلافاً لما يذهب إليه الفقه الحنفي.

 

ومن ثم نرى المذهب الحنبلي، خلافاً لمذهبي أبي حنيفة والشافعي يصحح أكثر الشروط التي فيها منفعة لأحد المتعاقدين كما يصححها المذهب المالكي. ونورد ما جاء في هذا الصدد في الشرح الكبير على المقنع (جزء 4 ص49- ص51): ((والثالث أن يشترط نفعاً معلوماً في المبيع كسكنى الدار شهراً وحملان البعير إلى موضع معلوم، أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع كحمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة، مثل أن يبيع داراً ويستثني سكناها سنة، أو دابة ويشترط ظهرها إلى مكان معلوم، أو عبداً ويستثني خدمته مدة معلومة، نص عليه أحمد، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر. وقال الشافعي وأصحاب الرأي لا يصح، لأنه رُوِيَ أنَّ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْط.. ولنا ما رَوَى جَابِرً أنّهُ بَاعَ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَلاً وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إلىَ المدِينَة.. ولم يصح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، وإنما نهى عن شرطين في بيع فمفهومه إباحة الشرط الواحد.. ويصح أن يشترط المشتري نفع البائع في المبيع، مثل أن يشتري ثوباً ويشترط على بائعه خياطته قميصاً، أو بغلة ويشترط حذوها نعلاً، أو حزمة حطب ويشترط حملها إلى موضع معلوم)).

 

ويتوسع المذهب الحنبلي في إباحة الشروط في عقد الزواج بوجه خاص، ويفوق في ذلك سائر المذاهب وفيها مذهب مالك نفسه. فيجوز في الزواج من الشروط ما يكون فيه للزوجين منفعة مقصودة ما دامت لا تعارض الشرع ولا تنافي المقصود من عقد الزواج، ويقول ابن تيمية (الفتاوى 3 ص327 وص332 - نظرية العقد ص155) في ذلك: ((ويجوز أحمد أيضاً في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح، لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ أحَقَّ الشُّرُوطِ أنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اَسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوج))فلا يقتصر مذهب أحمد على أن يكون لكل من الزوجين أن يشترط في الآخر صفة يصح قصدها، فيشترط الزوج في زوجته البكارة أو الجمال مثلاً، وتشترط الزوجة في زوجها المال أو حرفة معينة أو مورداً معيناً من العيش. ويكون للمشترط أن يفسخ الزواج إذا فات عليه ما اشترطه، ولا فرق في هذا أن يكون المشترط هو الرجل أو المرأة، وهذا هو أصح روايتي أحمد، وأصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك (ابن تيمية: الفتاوي 3 ص346 - نظرية العقد ص156- 157). بل يجوز أيضاً في مذهب أحمد أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو من دارها، أو لا يتسرى، أو ألا يتزوج عليها. فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج (نظرية العقد لابن تيمية ص16 وص34 وص161- ص162 والفتاوى 3 ص327). وقد رأينا أن هذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك.


الشرط الفاسد في مذهب الحنابلة

ولا يكون الشرط فاسداً عند الحنابلة إلا في موضعين:

كان الشرط ينافي مقتضى العقد. مثل ذلك أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يهبه أو يعتقه، أو يشترط عليه إن أعتقه أن يكون الولاء للبائع. فهذه الشروط كلها تنافي مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد حرية المشتري في التصرف في المبيع بعد أن صار ملكه، يبيعه أو لا يبيعه ويهبه أو لا يهبه، وإذا كان رقيقاً فأعتقه فإن الولاء يكون له هو لا للبائع لأنه هو المعتق والولاء لمن أعتق. بقي أن يشترط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه، فهل يصح الشرط؟ في المذهب روايتان، أحدهما الشرط فاسد لأنه ينافي مقتضى العقد شأنه في ذلك شأن ما قدمناه من الشروط، والرواية الأخرى الشرط صحيح لحديث بريرة المعروف.

 

ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد عند الحنابلة أن يشترط المشتري إن أغضبه غاضب أن يرجع على البائع بالثمن. ومنها أن يشترط البائع أن يكون أحق بالمبيع بثمنه إن باعه المشتري، لأنه يكون بذلك قد اشترط ألا يبيعه من غيره إذا أعطاه ثمنه، فهو كما اشترط ألا يبيعه إلا من فلان، وهذا يقيد حرية المشتري في التصرف فينافي مقتضى العقد. وقيل أيضاً في مذهب أحمد أن هذا الشرط يتضمن شرطين، فيكون غير جائز على ما سنرى لأن البائع شرط أن يبيعه إياه وأن يبيعه بالثمن الأول، فهما شرطان (الشرح الكبير على المقنع 4 ص55). وقد رأينا أن هذا الشرط غير جائز في المذهب المالكي لأنه يخل الثمن.

 

ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد أيضاً ما جاء في الشرح الكبير على المقنع (جزء 4 ص58): ((وإذا قال بع عبدك من فلان بألف على أن علي خمسمائة فباعه بهذا الشرط، فالبيع فاسد لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري، فإذا شرط كون بعضه على غيره لم يصح، لأنه لا يملك المبيع والثمن على غيره. ولا يشبه هذا ما لو قال: أعتق عبدك أو طلق امرأتك وعلي خمسمائة لكون هذا عوضاً في مقابلة فك الزوجة ورقبة العبد ولذلك لم يجز في النكاح. أما في مسألتنا فإنه معاوضة في مقابلة نقل الملك، فلا يثبت لأن العوض على غيره. وإن كان هذا القول على وجه الضمان، صح البيع ولزم الضمان.

 

ولما كان الشرط الذي ينافي مقتضى العقد فاسداً، فإنه يبطل ولا يعمل به. أما حكم العقد الذي اقترن به الشرط ففيه روايتان: الأولى أن العقد صحيح، وهذا هو المنصوص عن أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي، فيسقط الشرط ويبقى العقد، وللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن، وللمشتري الرجوع بزيادة الثمن إن كان هو المشترط، ((لأن البائع إذا سمح بالبيع بهذا الثمن لما يحصل له من الغرض بالشرط، والمشتري إنما سمح له بزيادة الثمن من أجل شرطه، فإذا لم يحصل غرضه ينبغي أن يرجع بما سمح به كما لو وجده معيباً. ويحتمل أن يثبت الخيار ولا يرجع بشيء، كمن شرط رهناً أو ضميناً فامتنع الراهن والضمين، لأن ما ينقصه الشرط من الثمن مجهول فيصير الثمن مجهولاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم لأرباب بريرة بشيء مع فساد الشرط وصحة البيع)) (الشرح الكبير على المقنع 4 ص55). والرواية الثانية أن الشرط الفاسد يبطل البيع.. لأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع[44] إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه، والمشتري كذلك إذا كان الشرط منه، فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه، والبيع من شرطه التراضي. (الشرح الكبير 4 المقنع 4 ص54).

 

• ونرى مما تقدم أن المذهب الحنبلي والمذهب المالكي لا يختلفان كثيراً في الشرط الذي ينافي مقتضى العقد ففي كلا المذهبين الشرط فاسد. ولكن مذهب مالك يتدرج في ترتيب الجزاء على هذا الشرط الفاسد، فتارة يبطل الشرط والعقد معاً، وطوراً يبطل الشرط ويستبقي العقد صحيحاً، وثالثه يبطل الشرط والعقد معاً إلا إذا نزل المشترط عن شرطه فيسقط الشرط ويبقى العقد، وقد مر ذكر ذلك.

 

(ب) ويكون الشرط فاسداً أيضاً إذا ورد في النهي عنه نص خاص. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة وعن شرطين في بيع وسلف، وقال عليه السلام: ((لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيعٌ، وَلا شَرْطَانِ فِي بَيْع، وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ))فهناك إذن نص خاص في النهي عن الجمع بين شرطين في العقد، وفي النهي عن الجمع بين بيع وسلف.

 

• أما الجمع بين شرطين في العقد فممنوع في مذهب أحمد كما قدمنا. والشرطان المنهي عنهما هما الشرطان اللذان فيهما منفعة لأحد المتعاقدين دون أن يقتضيهما العقد أو يلائماه، ولو انفرد أي منهما كان صحيحاً. مثل ذلك من اشترى ثوباً واشترط على البائع خياطته وقصارته أو طعاماً واشترط طحنه وحمله، فاجتماع الشرطين في العقد يبطل الكل: الشرطان باطلان والعقد باطل. أما إن شرط شرطين أو أكثر من مقتضى العقد أو مما يلائم العقد، مثل أن يبيعه بشرط الرهن أو الضمين وبشرط أن يسلم إليه المبيع أو الثمن، فهذا لا يؤثر في العقد وإن كثر.

 

• وأما الجمع بين بيع وسلف فممنوع أيضاً. ومعناه في مذهب أحمد أن يشترط أحد المتعاقدين على المتعاقد الآخر عقداً ثانياً مستقلاً في مقابل العقد الأول، وليس معناه مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد، فقد قدمنا أن مجرد اجتماع صفقتين في عقد واحد يجوز كما إذا اشترط سكنى الدار أو حمل الحطب أو خياطة الثوب. وقد جاء في المغني (جزء 4 ص285): ((والثاني أن يشترط عقداً في عقد، نحو أن يبيعه شيئاً بشرط أن يبيعه شيئاً آخر أو يشتري منه أو يؤجره أو يزوجه أو يسلفه أو يصرف له الثمن أو غيره. فهذا شرط فاسد يفسد به البيع، سواء اشترطه البائع أو المشتري، ثم جاء في ص290- 291: ولو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه، أو شرط المشتري ذلك عليه، فهو محرم والبيع باطل. وهذا مذهب مالك والشافعي ولا أعلم فيه خلافاً إلا أن مالكاً قال: إن ترك مشترط السلفِ السلفَ صح البيع، ولنا ما روى عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ رِبْحِ مَالَمْ يُضْمَنْ وَعَنْ بَيْعِ مَالَمْ يُقْبَضْ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَه وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ)) أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، وفي لفظ لا يحل بيع وسلف. ولأنه اشترط عقداً في عقد ففسد كبيعتين في بيعة، ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله فتصير الزيادة في الثمن عوضاً عن القرض وربحاً له وذلك رباً محرم، ففسد لو صرح به، ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحاً كما لو باع درهماً بدرهمين ثم ترك أحدهما، هذا ويحتمل أن يبطل الشرط وحده، ولكن المشهور في مذهب أحمد أن هذا الشرط الفاسد يبطل العقد.

 

ويبدو أن المذهب الحنبلي، في منعه الجمع بين شرطين في العقد والجمع بين بيع وسلف، إنما يحتفظ ببقايا من مبدأ وحدة الصفقة، كما فعل المذهب المالكي في منعه الجمع بين بيع وسلف. وإنما تخطى المذهبان الحنبلي والمالكي مبدأ وحدة الصفقة في البيع والشرط الواحد لأن خطب الشرط الواحد يسير وهو تابع للعقد ومتمم له. فلا يخل بوحدته إخلالاً جسيماً. أما إذا كان لتعدد الصفقة مظهر أوضح. بأن اجتمع في العقد شرطان لا شرط واحد عند أحمد أو بأن اجتمعت صفقتان متقابلتان في عقد واحد عند أحمد ومالك، فهذا تعدد جسيم في الصفقة لا يجوز احتماله، وما احتمل منه اليسير لا يحتمل منه الكثير.

 

فالمذهبان المالكي والحنبلي وقفا جامدين هنا، ولم يتخطيا مبدأ وحدة الصفقة تخطياً تاماً ولم يجيزا تعدد الصفقة في صورته السافرة. وننظر الآن ماذا فعل ابن تيمية.


استكمال المذهب الحنبلي بأقوال ابن تيمية

يقول ابن تيمية، أن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطاله نص أو قياس عند من يقول به، وأصول أحمد رضي الله عنه المنصوصة يجري أكثرها على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحاً للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحاً للشروط منه (فتاوى ابن تيمية 3 ص326 وص329 وما بعدها).

 

ويستدل ابن تيمية لصحة ما يقول بالنقل والعقل. أما النقل فلقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، ولقوله عليه السلام: ((والمُسْلِمُونَ عَلى شُرُوطهم. إلاَّ شَرْطاً حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَاماً))وأما العقل فإنه يقول: ((إن العقود والشروط من باب الأفعال العادية - أي ليست من العبادات - والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم. كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم وقوله تعالى: ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 119] عام في الأعيان والأفعال. وإذا لم تكن حراماً لم تكن فاسدة، لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم. وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحه، (الفتاوى 3 ص334). فالوفاء بالشرط إذن واجب بالنقل والعقل، وبخاصة بعد أن رضيها المتعاقد مختاراً، فإن الأصل في العقود رضا المتعاقدين، ونتيجتها هي ما أوجباه على نفسيهما بالتعاقد، لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29]، وقال: ﴿ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴾ [النساء: 4] فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه، فدل على أنه سبب له. وإذا كان طيب النفس هو المبيح للصداق، فكذلك سائر التبرعات، قياساً بالعلة المنصوصة التي دل عليها القرآن.

 

وكذلك قوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29] لم يشترط في التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك، فإذا تراضى المتعاقدان، أو طابت نفس المتبرع بتبرع، ثبت حله بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك (الفتاوى 3 ص336- 337).

 

• ويستخلص ابن تيمية من هذه المقدمات أن الأصل في الشرط أن يكون صحيحاً ويصحح معه العقد، سواء كان ذلك في المعاوضات أو في التبرعات، ففي المعاوضات يجوز للبائع أن يشترط منفعة المبيع كأن يسكن الدار شهراً أو ينتفع بزراعة الأرض سنة، ويجوز للمشتري أن يشترط على البائع أن يخيط له الثوب أو يحمل المبيع إلى داره أو يحصد الزرع، ويجوز أن يشترط البائع إذا باع الرقيق أن يعتقه المشتري، ولكن لا يجوز أن يشترط البائع أن يكون الولاء له عند الإعتاق لأن هذا شرط يحلل حراماً. وفي التبرعات يجوز لمن أعتق عبداً أن يشترط عليه أن يخدمه طول حياته، حياة العبد أو السيد، وقد ورد أن أم سلمة أعتقت عبدها سفينة واشترطت عليه أن يخدم الرسول صلى الله عليه وسلم ما عاش (الفتاوى 3 ص327). ويجوز للواهب أو الواقف أن يشترط لنفسه منفعة ما يهبه أو يقفه مدة معينة أو طول حياته (نظرية العقد لابن تيمية ص16 - الفتاوى 3 ص389- 390) بل يصح أن تكون المنفعة التي استثناها المتبرع وأضافها لنفسه منفعة غير معلومة إذ يجوز في التبرعات من الغرر مالا يجوز في المعاوضات كما تقدم القول. وفي هذا يقول ابن تيمية ((يجوز لكل من أخرج عيناً عن ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع، أو تبرع كالوقف والعتق، أن يستثني بعض منافعها. فإن كان مما لا يصح فيه الغرر كالبيع. فلابد أن يكون المستثني معلوماً لما روى عن جابر. وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف. فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش عبده أو عاش فلان، أو يستثني غلة الوقف ما عاش الواقف)) (الفتاوى 3 ص342- ص343).

 

ويبني ابن تيمية على ما تقدم أن الشرط لا يفسد إلا على سبيل الاستثناء، وفي موضعين:

(الأول) إذا كان الشرط ينافي المقصود من العقد، مثل أن يشترط البائع على المشتري ألا يبيع ما اشتراه أو يؤجره. ذلك أن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، ثم شرط العاقد فيه ما ينافي هذا المقصود فقد جمع بين المتناقضين، بين إثبات المقصود ونفيه، فمثل هذا الشرط باطل، ويقول ابن تيميه في تفسيره للمعنى المراد بالشرط الذي ينافي المقصود في العقد وفي تمييزه بين هذا الشرط والشرط الذي يناقض الشرع، ما يأتي: ((إن العقد له حالان، حال إطلاق وحال تقييد، ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود. فإذا قيل هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فإن أريد به ينافي العقد المطلق فكذلك كل شرط زائد وهذا لا يضره، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك. وإنما يصح هذا إذا أتي في مقصود العقد. فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود، فقد جمع بين المتناقضين، بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء. ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق، بل هو مبطل للعقد عندنا. والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع مثل اشتراط الولاء لغير المعتق، فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده فإن مقصوده الملك. والعتق قد يكون مقصوداً للعتق فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيراً، فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوثَقُ)). فإذا كان الشرط منافياً لمقصود العقد كان العقد لغواً، وإذا كان منافياً لمقصود الشارع كان مخالفاً لله ورسوله. فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما. إذا لم يكن لغواً ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله، فلا وجه لتحريمه بل الواجب حله. لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه. إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه، ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج.

 

(الثاني) الشرط الذي يناقض الشرع فيحل الحرام، ويبدو أن ابن تيمية يبدأ بالتمييز بين منطقة الحرام ومنطقة المباح. فلا يستطيع الشرط في منطقة الحرام أن يجعل الحرام حلالاً، بل كل ما كان حراماً بدون الشرط فالشرط لا يبيحه، كالزنا وكثبوت الولاء لغير المعتق. وأما ما كان مباحاً بدون الشرط، كالزيادة في مهر المثل وكالتبرع برهن لتوثيق الثمن، فيصح أن يوجب الشرط فعله بعد أن كان تركه مباحاً، بل كان تركه هو الأصل المعمول به مادام الشرط الموجب لفعله لم يوجد، وليس في ذلك تحريم للحلال أو تحليل للحرام، فيكون الشرط الموجب لفعل المباح شرطاً مشروعاً، ومن ثم يكون صحيحاً. ويقول ابن تيمية في هذا المعنى ما يأتي:

فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله.. وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط مالم يكن واجباً بدونه، فمقصود الشروط وجوب مالم يكن واجباً ولا حراماً.. وكل شرط صحيح فلابد أن يفيد وجوب مالم يكن واجباً.. وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهناً، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها، فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط مالم يكن كذلك. وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشرط، قالوا: لأنها إما أن تبيح حراماً أو تحرم حلالاً أو توجب ساقطاً أو تسقط واجباً، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع.. وليس كذلك، بل كل ما كان حراماً بدون الشرط فالشرط لا يبيحه، كالزنا وكالوطء في ملك الغير وكثبوت الولاء لغير المعتق، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو يمين، فلو أراد رجل أن يُعِيرَ أمته للوطء لم يجز له ذلك، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز. وكذلك الولاء نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد.. فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط فلا يبيح الشرط ما كان حراماً. وأما ما كان مباحاً بدون الشرط فالشرط يوجبه، كالزيادة في المهر والثمن والمثمن والراهن.

 

ونرى من ذلك أن ابن تيمية لا يجعل الشرط فاسداً إلا إذا كان منافياً للمقصود من العقد وهذا طبيعي، وإلا إذا كان مناقضاً للشرع فيحل حراماً وهذا أشبه في الفقه الغربي بالشرط - الذي يخالف القانون أو النظام العام. ولم يعرض ابن تيمية لتحريم إجتماع الشرطين ولا لتحريم إجتماع البيعتين في بيعة أو اجتماع البيع والسلف. ومن ثم يكون تطور الفقه الإسلامي في تصحيح الشروط قد وصل على يد ابن تيمية إلى غاية تقرب مما وصل إليه الفقه الغربي الحديث.


مقارنة بين المذاهب الأربعة في تصحيح الشروط المقترنة بالعقد

مقارنة إجمالية

يتبين مما قدمناه أن المذاهب الأربعة من ناحية تصحيح الشروط المقترنة بالعقد، يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيين:

1 - قسم يضيق في تصحيح الشروط ويلتزم مبدأ وحدة الصفقة، فلا يبيح إلا شرطاً اقتضاه العقد أو لاءم العقد أو جرى به التعامل، وهذان هما المذهب الحنفي والمذهب الشافعي.

 

2 - وقسم يتوسع في تصحيح الشروط ولا يلتزم مبدأ وحدة الصفقة، فيبيح الشروط مالم تكن منافية لمقتضى العقد أو مناقضة للشرع، وهذان هما المذهب المالكي والمذهب الحنبلي.

 

فتطور الفقه الإسلامي نحو تصحيح الشروط، ونبذ مبدأ وحدة الصفقة الذي كان أساساً من أسس الصناعة القانونية في المراحل الأولى من تطور القانون. أوضح وأبرز في القسم الثاني منه في القسم الأول. على أنه يبدو لنا أن المذهب الحنفي على ضيقه في تصحيح الشروط وتأخره في التطور من هذه الناحية، هو أكثر المذاهب تقدماً من ناحية تنسيق الصناعة القانونية، فنظريته في فساد العقد تفوق في وضوحها وتسلسلها المنطقي نظائرها في المذاهب الأخرى.


مقارنة تفصيلية

على أن هناك فروقاً تفصيلية ما بين المذهب الحنفي ومذهب الشافعي اللذين ينتظمهما القسم الأول، وكذلك ما بين المذهب المالكي والمذهب الحنبلي اللذين ينتظمهما القسم الثاني.

 

فالمذهب الحنفي ومذهب الشافعي يبيحان جميعاً الشرط الذي يقتضيه العقد ويبيحان كذلك الشرط الذي يلائم العقد، إلا أن المذهب الحنفي يبيحه استثناء على سبيل الاستحسان ومذهب الشافعي يبيحه أصلاً لا استثناء. ثم يتميز المذهب الحنفي على مذهب الشافعي بافساحه المجال للشرط الذي جرى به التعامل، ويبيحه استحساناً كذلك، فيدخل العرف من هذا الباب عنصراً مرناً يطور الفقه الإسلامي. أما المذهب الشافعي فلا تكاد تلمح فيه باب جريان التعامل مفتوحاً، إنما يتحدث المذهب عن شرط تدعو إليه الحاجة فهو شرط لمصلحة العقد، ويمزج بينه وبين الشرط الذي يلائم العقد. ولكن مذهب الشافعي، من جهة أخرى، يصحح شروطاً لا يصححها المذهب الحنفي، ومن ذلك اشتراط بائع الرقيق على مشتريه أن يعتقه، ومن ذلك ما يشترط الزوج في زوجته من بكارة أو جمال أو غير ذلك، وما تشترط الزوجة في زوجها من مال أو حرفة أو مورد للعيش.

 

أما المذهبان المالكي والحنبلي فيصدران جميعاً عن مبدأ واحد، هو أن الأصل في الشروط الصحة، والفساد هو الاستثناء، فينبذان بذلك إلى حد كبير مبدأ وحدة الصفقة. وقد يزيد المذهب الحنبلي على المذهب المالكي في تصحيح الشروط، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية حين قال: ((وأصول أحمد رضي الله عنه المنصوصة يجري أكثرها على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحاً للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحاً للشروط منه)). فيجوز في مذهب أحمد مثلاً أن تشترط الزوجة على زوجها ألا يخرجها من بلدها أو من دارها، أو لا يتسرى أو ألا يتزوج عليها، فإن لم يف لها بشرطها كان لها أن تفسخ الزواج. وهذه الشروط غير جائزة في مذهب مالك.

 

ولكن التميز الحقيقي للمذهب الحنبلي على المذهب المالكي ليس في الشروط الصحيحة، وإنما هو الشروط الفاسدة. على أننا إذا أخذنا المذهب الحنبلي كما كان قبل أن يجدد فيه ابن تيمية، لما كاد يتميز عن المذهب المالكي في ذلك. ففي المذهبين يفسد الشرط إذا كان مناقضاً لمقتضى العقد، أو كان صفقة أخرى تقابل الصفقة الأصلية كبيع وسلف، فيخل الشرط بالثمن كما يقول المذهب المالكي، أو ينهى عن الشرط نص خاص كما يقول المذهب الحنبلي. وفي هذا النوع الثاني من الشرط الفاسد نلمح في المذهبين أثراً لمبدأ وحدة الصفقة، فهما يستبقيان هذا المبدأ في صورة من صوره، بل أن المذهب الحنبلي يزيد على المذهب المالكي بتحريم اجتماع الشرطين في عقد واحد. أما إذا أخذنا المذهب الحنبلي بعد تجديد ابن تيمية، فإننا نراه يتقدم تقدماً كبيراً في التطور، فينبذ مبدأ وحدة الصفقة، ويضيق من منطقة الشروط الفاسدة، فلا يكون الشرط فاسداً إلا إذا كان منافياً لمقتضى العقد، أو إلا إذا كان مناقضاً للشرع[45]. اهـ..

 

ويمكننا على ضوء ما تقدم تقسيم الشروط في العقود إلى صحيح وفاسد أن ننظر هل الشرط الجزائي من الشروط الصحيحه في العقود أم من الفاسدة وفي حال القول بفساده هل ينحصر الفساد فيه أم يتعداه إلى العقد نفسه فيبطل ببطلانه، لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله أن الشروط في العقود قسمان: صحيح وفاسد أما الصحيح فثلاثة أنواع: أحدها شرط يقتضيه العقد كالتقابض وحلول الثمن، ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع لإمكان تحقق العقد بدونه. الثاني: شرط من مصلحة العقد كاشتراط صفة في الثمن كالتأجيل أو الرهن أو الضمين به أو صفة في المثمن ككون العبد خصياً أو مسلماً والأمة بكراً والدابة هملاجه، وحكمه أنه صحيح وأن المشروط عليه إن وفى بالشرط لزم البيع وإن لم يف به فإن تعذر الوفاء تعين الأرش لصاحب الشرط، وإن لم يتعذر الوفاء به ففيه وجهان، الأول: أن صاحب الشرط مخير بين الفسخ والأرش وهو الصحيح من المذهب. والثاني: أنه ليس له إلا الفسخ.

 

- وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الشرط الجزائي من مصلحة العقد، لأنه حافز لمن شرط عليه أن ينجز لصاحب الشرط حقه ومساعد له على الوفاء بشرطه، فكان شبيهاً باشتراط الرهن والكفيل في الوفاء لصاحب الشرط بشرطه، وإذن يصح الشرط، ويلزم الوفاء به، فإن لم يف وتعذر استدراك ما فات تعين لمن اشترط شرطاً جزائياً الأرش، وقد اتفق عليه عند العقد بتراضيهما، وإن لم يتعذر الاستدراك فلصاحب الشرط الخيار بين فسخ العقد والأرش مع بقائه. الثالث: شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته وليس منافياً لمقتضاه كاشتراط البائع سكنى الدار شهراً أو اشتراط المشتري خياطة الثوب وفي حكمه خلاف قيل يصح وقيل لا يصح ويظهر أن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط فهو مرتبط بالعقد حيث أنه تقدير للضرر المتوقع حصوله في حالة عدم الوفاء بالإلتزام.

 

• وأما الفاسدة فثلاثة أنواع:

• أحدها: أن يشترط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقداً آخر كبيع أو إجارة أو نحو ذلك فهذا الشرط غير صحيح، وهل يبطل العقد لبطلان الشرط أم يصح العقد ويبطل الشرط، قولان لأهل العلم أشهرها القول: ببطلان العقد لبطلان الشرط لكونه من قبيل بيعتين في بيعة، المنهي عنها، وفي القول بصحة العقد وبطلان الشرط رواية عن الإمام أحمد سنده فيها حديث عائشة حيث أرادت أن تشتري بريرة للعتق فاشترط أهلها ولاءها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اشْتَرِيها واشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاء فَإنَما الوَلاءُ لِمَن أعْتَقَ))متفق عليه. فصحح الشراء مع إبطال الشرط. ويمكن أن يقال: بأن الشرط الجزائي من هذه الشروط الفاسدة المترتب على فسادها على المشهور لدى بعض أهل العلم فساد العقود المشتملة عليها. وتوجيه ذلك أن الشرط الجزائي يعتبر عقد معاوضه مغايراً للعقد الأصلي فهو من مسائل بيعتين في بيعة المنهي عنها. ويمكن أن يرد هذا بأن الشرط الجزائي ليس مستقلاً عن العقد الأصلي وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر فليس من قبيل بعتك على أن تقرضني أو تزوجني أو تؤجرني لأن كل واحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلاً عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلاً. الثاني: من الشروط الفاسدة: شرط ينافي مقتضى العقد كأن يشترط في المبيع أن لا خسارة عليه أو ألا يبيع ولا يهب ولا يعتق فهذه الشروط باطلة وهل تبطل العقود المشتملة عليها قولان لأهل العلم وهما روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما لا يبطل العقد وهو المذهب اختاره في المغني ونصره في الشرح وجزم به في الوجيز وقدمه في الفروع لحديث بريرة وإذا ألغى الشرط لبطلانه كان لصاحبه الخيار بين الفسخ وما نقص من الثمن، وقيل ليس له إلا الفسخ أو الإمضاء ولا أرش له، ويمكن أن يقال: إن الشرط الجزائي ليس من هذا النوع من الشروط لأنه منافاة بين نفاذه وبين العقد المشتمل عليه. الثالث من الشروط الفاسدة شرط يعلق به العقد كقوله: بعتك إن جئتني بكذا أو إن رضى فلان أو يقول الراهن إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك فلا يصح المبيع، وهذا هو المذهب لأن مقتضى العقد انعقاد البيع وهذا الشرط يمنعه وللإمام أحمد رحمه الله رواية في تصحيح البيع والشرط اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لأنه لم يخالف نصاً. ويمكن أن يقال بأن الشرط الجزائي من هذا النوع من الشروط باعتباره عقد معاوضه مستقلاً. وعلى هذا الاعتبار فهو عقد معاوضه معلق على حصول الإخلال بالتزام في العقد الأصلي فتجري فيه أحكام هذا النوع من الشروط إلا أن القول ببطلان العقد لبطلانه لا يأتي على العقد الأصلي المشتمل عليه لأن تحقق العقد الأصلي ليس مرهوناً بوجود الشرط وإنما يعتبر الشرط الجزائي عقد معاوضه مستقلاً معلقاً نفاذه على الإخلال بالعقد الأصلي ذلك لأن النص في عقد المقاوله مثلاً بعبارة: إن تأخر إكمالك العمل عن شهر كذا فعليك عن كل شهر تتأخر مبلغ كذا. يعتبر عقداً يشبه في الجمله عقد الرهن المتضمن قول الراهن: إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك. ويمكن أن يرد على هذا بأن الشرط الجزائي ليس مستقلاً عن العقد الأصلي وإنما هو من قبيل الاحتياط في إكماله بالوفاء بالشرط أو التعويض عما يترتب على الإخلال به من ضرر فليس من قبيل بعتك على أن تقرضني أو تؤجرني أو تزوجني لأن كل واحد من هذه العقود يمكن أن يقع مستقلاً عن العقد الأصلي بخلاف الشرط الجزائي فإنه لا يقع مستقلاً.

 

• ونذكر جملة من العقود التي اقترن بها شرط، وكان ذلك مثار خلاف بين أئمة الفقهاء.

أ - بيع العربون وهو: أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع مبلغاً من المال على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن وإن لم يأخذها فهو للبائع.

 

وقد بحث علماء المذاهب الإسلامية المعتبرة هذا النوع من البيوع واختلفوا فيه على قولين: فذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى القول بتصحيحه. قال أبو محمد ابن قدامة رحمه الله[46]: والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهماً أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن وإن لم يأخذها فذلك للبائع يقال عربون واربون وعربان وأربان. قال أحمد لا بأس به وفعله عمر رضي الله عنه، وعن ابن عمر أنه أجازه وقال ابن سيرين: لا بأس به، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئاً، وقال أحمد هذا في معناه، واختار أبو الخطاب أنه لا يصح وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، ويروى ذلك عن ابن عباس والحسن لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربون رواه ابن ماجه ولأنه شرط للبائع شيئاً بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهماً وهذا هو القياس وإنما صار أحمد فيه إلى ما روى فيه عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا قال الأثرم: قلت لأحمد تذهب إليه قال أيَّ شيء أقول؟ هذا عمر رضي الله عنه، وضعف الحديث المروي. روى هذه القصة الأثرم بإسناده.

 

• فأما إن دفع إليه قبل البيع درهماً وقال لا تبع هذه السلعة لغيري وإن لم اشترها منك فهذا الدرهم لك ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدأ وحسب الدرهم من الثمن صح لأن البيع خلا عن الشرط المفسد، ويحتمل أن الشراء الذي اشترى لعمر كان على هذا الوجه فيحمل عليه جمعاً بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس، والأئمة القائلين بفساد العربون وإن لم يشتر السلعة في هذه الصورة لم يستحق البائع الدرهم لأنه يأخذه بغير عوض ولصاحبه الرجوع فيه ولا يصح جعله عوضاً عن انتظاره وتأخير بيعه من أجله لأنه لو كان عوضاً عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء، ولأن الانتظار بالمبيع لا تجوز المعاوضة عنه ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة. أهـ.

 

وقد لخص الدكتور السنهوري أدلة القولين ورد أدلة القائلين ببطلان بيع العربون فقال بعد إيراده ما ذكره ابن قدامة رحمه الله ما نصه[47]:

• ويمكن أن نستخلص من النص المتقدم ما يأتي:

•إن الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن بيع العربون ولأن العربون اشترط للبائع بغير عوض، وهذا شرط فاسد ولأنه بمنزلة الخيار المجهول إذا اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة كما يقول: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهم.

 

• إن أحمد يجيز بيع العربون ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر وضعّف الحديث المروي في النهي عن بيع العربون وإلى القياس على صورة متفق على صحتها هي: أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئاً. قال أحمد: هذا في معناه.

 

• ونرى أنه يستطاع الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون - فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض إذ العوض هو الانتظار بالمبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة، وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع مع ذكر مدة معلومة إن لم يرجع فيها مضت الصفقة وانقطع الخيار. أهـ.

 

ويمكن أن يقال: بأن الشرط الجزائي يشبه بيع العربون في أن كلاً منهما شرط يوجب على من أخل بالشرط عقوبة مالية يجري تعيينها قبل حصول ذلك.

 

ونوقشت المقارنة والترجيح بما يأتي:

أولاً: في سند الأثر الذي فيه شراء نافع من صفوان دار السجن - عبدالرحمن بن فروخ السعد مولى عمر، وهو مجهول العين لأنه لم يرو عنه إلا عمرو بن دينار ولذا ترك مسلم الرواية عنه في صحيحه، ولم يرو عنه البخاري إلا في التعليقات اللهم إلا أن يقال: إن الشهرة تقوم مقام راوٍ آخر، ذكر معنى ذلك ابن حجر في تهذيب التهذيب عن الحاكم.

 

ثانياً: هذا الأثر يحتمل متنه أن يكون عقد الشراء قد أبرم فعلاً بين نافع وصفوان، ويحتمل أن يكون مجرد وعد من نافع لصفوان بالشراء، ثم كان العقد بعد العرض على عمر ورضاه.

 

ثالثاً: دعوى الاتفاق على ما قاله ابن سيرين من أنه لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئاً تحتاج إلى إثبات حتى يتأتى قياس بيع العربون عليه، وإلا فمجرد قول ابن سيرين ليس بأصل يرجع إليه في الاستدلال، والإمام أحمد ليس بمجتهد مذهب حتى يقال أن هذا من باب التخريج على مسألة في المذهب بل هو مجتهد مطلق يرجع في اجتهاده إلى الأصول الشرعية.

 

رابعاً: ذكر الأستاذ السنهوري أن العربون عوض عن انتظار البائع أو عن تفويت فرصة البيع عليه، فهل الانتظار أو تفويت الفرصة مما يقوم بمال حتى يستحق البائع العربون عوضاً عنه هذا محل نظر، فالمخالف لا يوافقه على ذلك كما مر في النقل عن ابن قدامة رحمه الله.

 

خامساً: لم يذكر في تعريف بيع العربون تعيين مدة، فكان شبهة بالخيار المجهول ثابتاً.

 

ب - مسألة ما إذا أعطى الرجل الخياط ثوبه فقال له: إن خطته اليوم فبعشرة أو خطته غداً فبتسعة فهذه المسألة بحثها الفقهاء رحمهم الله ومنهم أبو الحسن المرداوي الحنبلي فقد قال ما نصه:

قوله: وإن قال إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم فهل يصح على روايتين. وأطلقهما في الهداية والمذهب والمستوعب والخلاصة والمغني والشرح والفائق وشرح ابن منجا والحاوي الصغير إحداهما لا يصح وهو المذهب والرواية الثانية يصح وقدمه في الرعايتين. اهـ[48].

 

جـ - مسألة ما إذا أكرى لأحد الناس دابة فقال: إن رددتها اليوم فكراؤها خمسة وإن رددتها غداً فكراؤها عشرة. فقال أحمد في رواية عبدالله: لا بأس به قال في الفائق صح في أصح الروايتين وجزم في الوجيز والمذهب وقدمه في الرعايتين والخلاصة والحاوي الصغير والنظم[49].

 

فعلى رأي القائلين بصحة العقد في المسألتين - ب، جـ - يكونون قد صححوا اقتطاع جزء من كامل الأجرة جزاء التأخير وهذا يشبه الشرط الجزائي من حيث أن كلاً منهما يوجب على المتسبب في الإخلال بالاتفاق غرامة مالية يجري تقديرها سلفاً في مبدأ العقد. وقد يرد على ذلك بأن العقد في كلتا الصورتين ليس مشتملاً على شرط التنجيز بخياطة الثوب أو رد الدابة وإنما هو عقد تخييري لحالين، أي حال منهما يقع عليها الاختيار يتعين العقد بموجبها، وعليه فليس فيه اقتطاع جزء من كامل الأجرة.

 

د - مسألة ما إذا قال من خاط لي هذا الثوب في هذا اليوم فله كذا: فإذا خاطه في اليوم الثاني مثلاً فهل يستحق الجعل أو أجرة المثل أو لا يستحق شيئاً؟ هذه المسألة ذكرها ابن قدامة رحمه الله في المغني فقال في معرض تفريقه بين الإجارة والجعالة في حكم الجمع بين تقدير المدة والعمل، وإن علقه بمدة معلولة فقال: من رد لي عبدي من العراق إلى شهر فله دينار. أو من خاط قميصي هذا في اليوم فله درهم صح لأن المدة إذا جازت مجهولة فمع التقدير أولى - إلى أن قال - فإن العمل الذي يستحق به الجعل هو عمل مقيد بمدة إن أتي به فيها استحق الجعل ولا يلزمه شيء آخر، وإن لم يف به فيها فلا شيء له. اهـ[50].

 

• وذكرها البهوتي رحمه الله في الكشاف فقال:

ويصح الجمع بين تقدير العمل والمدة كأن يقول: من خاط لي هذا الثوب في يوم فله كذا فإن أتي به فيها استحق الجعل ولم يلزمه شيء آخر وإن لم يف به فيها فلا يلزمه شيء له. اهـ[51].

 

فعلى القول بأنه يستحق أجرة المثل إن لم يكن أكثر من الجعل ففي حال نقص أجرة المثل عن الجعل فإن الفرق بينهما في مقابلة التأخير، وعليه فيمكن أن يقال: بأن الشرط الجزائي يشبهه من حيث استحقاق الشرط الجزائي في مقابلة الإخلال بالالتزام ومنه التأخير.

 

هـ - المسألة التي حكم فيها القاضي شريح والتي سبق ذكرها في أول البحث ونصها: روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لكريه: أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح من شرط على نفسه طائعاً غير مكروه فهو عليه. أهـ.

 

فهذه المسألة صريحة في أنها من أنواع الشروط الجزائية.

ويمكن أن يقال: بتصحيح الشرط الجزائي بناء على اعتباره عقوبة مالية في مقابلة الاخلال بالالتزام حيث أن الاخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع ولأن في تصحيحه ووجوب الوفاء به سداً لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله، وسبباً من أسباب الحفز على الوفاء بالوعود والعهود تحقيقاً لقوله تعالى ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1].

 

هذا ومن الجدير بالذكر أن اللجنة بنت ما ذكرته من احتمالات في تطبيق الضوابط وفي الإلحاق بالنظائر على أوسع المذاهب في ذلك، وأقربها إلى قوة الدليل، فإن سلم ذلك وظهر الحكم فالحمد لله، وإلا فالشرط الجزائي أبعد عن الحكم فيه بالجواز إذا طبقت عليه ضوابط الشروط الصحيحة والفاسدة في المذاهب الفقهية الأخرى كمذهب الحنفي والشافعي، اللهم إلا أن ينظر إلى ما نقل عن الحنفية من اعتبار ما جرى به التعامل وتعارفه الناس في معاملاتهم وكان غير مناقض لمقتضى العقد، فبهذا يمكن أن يقال: أن الشرط الجزائي يتسع له هذا الضابط، فيعد من الشروط الصحيحة.

 

هذا ما تيسر ذكره، وبالله التوفيق.. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم..


ملخص قرار الهيئة

الحمد لله

بعد مداولة الرأي والمناقشة واستعراض المسائل التي يمكن أن يقاس عليها الشرط الجزائي ومناقشة توجيه قياسه على تلك المسائل والايراد عليه وتأمل قوله تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1] وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: ((المُسْلِمُونَ عَلىَ شُرُوطهِمْ إلاَّ شَرْطاً أحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً))ولقول عمر رضي الله عنه ((مقاطع الحقوق عند الشروط)) والاعتماد على القول الصحيح: من أن الأصل في الشروط الصحة وأنه لا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصاً أو قياساً.

 

واستعراض ما ذكره أهل العلم من تقسيم الشروط في العقود إلى صحيحة وفاسدة وتقسيم الصحيحة إلى ثلاثة أنواع:

أحداها: شرط يقتضيه العقد: كاشتراط التقابض وحلول الثمن.

 

الثاني: شرط من مصلحة العقد: كاشتراط صفة في الثمن كالتأجيل أو الرهن أو الكفيل به أو صفة في المثمن ككون الأمة بكراً.

 

الثالث: شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ولا منافياً لمقتضاه: كاشتراط البائع سكنى الدار شهراً.

 

وتقسيم الفاسدة إلى ثلاثة أنواع.

أحداها: اشتراط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقداً آخر: كبيع أو إجارة أو نحو ذلك.

 

الثاني: اشتراط ما ينافي مقتضى العقد: كأن يشترط في المبيع ألا خسارة عليه أو ألا يبيع أو يهب ولا يعتق.

 

الثالث: الشرط الذي يتعلق به العقد: كقوله: بعتك إن جاء فلان. وبتطبيق الشرط الجزائي عليها وظهور أنه من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدود له، والاستئناس بما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لكريه: أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه. وقال أيوب عن ابن سيرين: أن رجلاً باع طعاماً وقال: إن لم آتيك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجيء فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه. وفضلاً عن ذلك فهو في مقابلة الإخلال بالالتزام حيث أن الاخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله، وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود تحقيقاً لقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1] لذلك كله فإن المجلس يقرر بالاجماع: أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر يجب الأخذ به مالم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعاً فيكون العذر مسقطاً لوجوبه حتى يزول. وإذا كان الشرط الجزائي كثيراً عرفاً بحيث يراد به التهديد المالي ويكون بعيداً عن مقتضى القواعد الشرعية فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة أو لحق من مضرة. ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر عملاً بقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58] وقوله سبحانه: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾[المائدة: 8] وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار))وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم...



[1] المدخل الفقهي العام 713- 714 ف386.

[2] الوسيط القسم الثاني نظرية الالتزام 851 ف477.

[3] الوسيط القسم الثاني نظرية الالتزام 852 ف477.

[4] انظر ص107 نظام المناقصات.

[5] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري جـ5 ص142.

[6] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري جـ5 ص347.

[7] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري جـ5 ص331.

[8] القواعد النورانية ص184- 220.

[9] كذا في المطبوع.

[10] في النسخة رقم 16 " فلم يلزم ".

[11] في النسخة رقم 16 ففي حال العقد.

[12] الزيادة من صحيح مسلم ج1 ص440.

[13] الحديث في سنن أبي داود مطولاً اختصره المؤلف.

[14] في النسخة رقم 14 ( لأنه عقد ما لا يصح ).

[15] سقط لفظ عليه من النسخة رقم 14.

[16] في النسخة رقم 14 ( وأما ).

[17] ذكر في ص376.

[18] الزيادة من النسخة الحلبية.

[19] في النسخة رقم 14 (ابن عمر) وهو غلط.

[20] في النسخة رقم 16 (أمر النبي).

[21] في النسخة رقم 14 هنا.

[22] سقط لفظ (عن أبيه) الثاني من سنن النسائي ج7 ص295.

[23] الزيادة من النسخه رقم 16.

[24] في النسخه رقم 14 ( الشرطين ).

[25] في النسخ كلها ( أن أحبوا أهلك ).

[26] في النسخة رقم 14 أن يكون لهم الولاء.

[27] الزيادة من صحيح البخاري ج3 ص304 والحديث فيه مطول اختصره المصنف.

[28] في النسخه رقم 14 عتقا أصلا.

[29] في صحيح البخاري ج4 ص30 فسار يسير.

[30] في النسخه رقم 16 ثم إني رجعت وما هنا مواق لما في صحيح مسلم ج1 ص470.

[31] في سنن النسائي ج7 ص299 قلت: بل هو لك يا رسول الله.

[32] الزيادة من سنن النسائي.

[33] الزيادة من سنن النسائي.

[34] في النسخة رقم 16 ( إذاً لا سبيل ).

[35] في النسخة رقم 14 ( وترك ).

[36] في النسخة رقم 14 ( يأتي محرماً ).

[37] كذا في الأصل ولعله - لا شرطاً.

[38] في النسخه رقم 16 ( سائر الطريق ).

[39] في النسخه 14 حتى نعلم.

[40] في النسخه 16 سكناه.

[41] المحلى ج8 ص412- 420 المطبعه المنيرية.

[42] مصادر الحق في الفقه الإسلامي ج3 ص117- 153 وص167- 194.

[43] اكتفي فيما تقدم عما في فتح القدير بما نقل عن المبسوط والبدائع لاشتمالهما عليه.

[44] بما ينقصه الشرط من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولاً ولأن البائع... ألخ.

[45] ملحوظة: نقلت اللجنة ما تقدم عن الدكتور السنهوري لما فيه من نصوص فقهية في الموضوع من المذاهب الأربعة مع مقارنة بينها، وفي هذا فوائد كثيرة، غير أنه وقع في حديثه من تطور الفقه الإسلامي بعض أخطاء، منها ظنه أن المالكيين والحنابلة انتهيا إلى عدم اعتبار وحدة الصفقة في صحة العقد، غير أنهما استبقياها في صور قليلة كبيع وسلف أو شرطين في عقد، ومنها ظنه أن ابن تيمية نبذ مبدأ وحدة الصفقة معلقاً في صحة العقد، وأنه بذلك طور مذهب الإمام أحمد ص63- 64- 67- 68- 71- 72.

[46] المغني جـ4 ص232- 233 طبعة المنار.

[47] مصادر الحق في الفقه الإسلامي الجزء الثاني ص101- 102.

[48] الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف جـ6 ص18.

[49] الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف جـ6 ص20.

[50] المغني جـ6 ص28 مطبعة الإمام.

[51] كشاف القناع عن متن الإقناع جـ4 ص173.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • نظام الشرطة في الدولة الإسلامية
  • خيار الشرط
  • ميانمار: الشرطة التايلاندية تعتقل 180 مهاجرًا من مسلمي الروهنجيا

مختارات من الشبكة

  • شرط الوجوب وشرط الصحة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الخداع في الزواج(مقالة - موقع الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك)
  • الآيات المتضمنة لتراكيب شرطية في سورة النور وإعرابها(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الأدوات التي تجزم فعلين(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الفرق بين الشرط والركن والسبب عند الأصوليين(مقالة - آفاق الشريعة)
  • ضمان العارية في الفقه(مقالة - موقع الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك)
  • مسألة العمل بشرط الواقف(مقالة - موقع الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك)
  • شرط الخبرة عائق وإعاقة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الشروط المعتبرة فيمن يقبل قوله في هلال رمضان(مقالة - ملفات خاصة)
  • الصحة في الفقه(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
2- حجية السنة
علي ونيس - مصر 22-12-2008 12:07 PM
السنة هي الدليل الثاني بعد القرآن، وقد أمرنا الله باتباعها والأخذ بها فقال تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"
وقال: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة "
وما أشبه طلبك هذا بما رواه مسروق : أن امرأة جاءت إلى ابن مسعود فقالت: " أنبئت أنك تنهى عن الواصلة قال نعم فقالت أشيء تجده في كتاب الله أم سمعته عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أجده في كتاب الله وعن رسول الله فقالت والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف فما وجدت فيه الذي تقول قال فهل وجدت فيه { ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } قالت نعم قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن النامصة والواشرة والواصلة والواشمة إلا من داء قالت المرأة فلعله في بعض نسائك قال لها ادخلي فدخلت ثم خرجت فقالت ما رأيت بأسا قال ما حفظت إذا وصية العبد الصالح { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " رواه أحمد وغيره.

ومع هذا فقد استدلوا على الشروط بقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود "
وفقك الله أخت فاطمة وشرح صدرك ويسر أمرك.
1- التقارب بين ادلة الفقهاء
فاطمة - الجزائر 07-04-2008 04:28 PM
نرى من خلا ل عرض حكم الشرط عند هم تقارب من ناحية ادلة خا صة في السنة وانا اريد الحصول على ادلة من القرآن واضحة
1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 20/11/1446هـ - الساعة: 15:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب