• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أحكام شهر ذي القعدة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    من صيام التطوع: صوم يوم العيدين
    د. عبدالرحمن أبو موسى
  •  
    حقوق الوالدين
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة الكوثر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    من مائدة العقيدة: شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    الليلة الثلاثون: النعيم الدائم (3)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / روافد
علامة باركود

صور خلاف مقتضى الظاهر في القرآن الكريم

علي النجدي ناصف

المصدر: من كتاب: "مع القرآن الكريم في دراسة مستلهمة"
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/6/2008 ميلادي - 4/6/1429 هجري

الزيارات: 23628

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

صور خلاف مقتضى الظاهر في القرآن الكريم

 

1 - ضمير المفرد بمكان ضمير الجمع

(أ) قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ﴾ [الواقعة: 51 - 55][1].

 

شجر الزقوم كما يفهم من الآيات شجر يطعَمه الآثمون يوم القيامة جزاء بما كانوا يكسبون، ويختلف العلماء في تفسير الزقوم، فمِن قائل: إنه اسم يطلقه أهل اليمن على كل ما يتقيأ به، فهو - على هذا - لا يدل على نوع معين من الشجر، ولكنه يشمل كل ما تَقلِسُ له النفس، ويهيج منه البطن، فيقذف بما عسى أن يكون فيه، ويكون عقاب الآثمين بالأكل منه - أنهم يُحملون على أكله، وإنهم ليعلمون ما هو صانع بهم من التهوُّع وإثارة الجوف، ومِن قائل: إنَّه شجرة باليمن ليس لها ورق، وفروعها تشبه رؤوس الحيَّات، فيكون عقاب الآثمين بأكلها، إنهم يُحمَلون عليه مع ما يرون من بشاعة منظرها، وتقزز النفس منها، وسوء ما تخيله لهم حين يأكلونَها، حتَّى ليحسبون أنهم لا يأكلون من شجر؛ بل من رؤوس حيات.

ويفسِّر أبو جهل الزقوم في سخرية واستهزاء حين ذكر له، فيقول: إن هذه كلمة لم تكن من لغة قريش، وإن رجلاً أخبره أن أهل يثرب يقولون: تزقَّمت: إذا أكلت التمر بالزبد، فالزقوم في تفسيره مأخوذ من هذا الأصل، والأكل منه إذًا نعمة ورضا، لا نقمة وغضب[2].

ويذكر القرآن الكريم شجرة الزقوم، إذ يقول: ﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴾ [الصافات: 62 - 65]، ويذكرها ثانية، فيقول: ﴿ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ﴾ [الدخان: 43 - 46][3]، ويصفها باللعن ولا يسميها، فيقول: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 60].

ونخلص من وصف القرآن لها بأنها شجرة لا كشجر الدنيا هيئة وطبيعة، فهي تنبت في قرار جهنم، وتنمو على السعير، خبيثة المطعم، كريهة المنظر، تعافها النفس، وتزور عنها العين، تضرم العطش في جوف طاعمها، فلا يجد غير الحميم، فيشرب منه، ليزيد ما يتأجج في جوفه من حر الظمأ؛ إذ لا معدى له عنه، ولا حيلة له في اتقاء شره.

نعود بعد ذلك إلى الآيات الَّتي ذكرناها أولاً، لننظر ماذا فيها من تخالف في تصريف الضمير، نرى أن شجر الزقوم قد عاد عليه ضميران: أولهما هو الضمير المتصل بمِن في قوله: ﴿ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴾ [الصافات: 66]، والآخر هو المتصل بعَلَى في قوله: ﴿ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ ﴾ [الواقعة: 54]، والأول - كما لا يخفى- ضمير لمؤنث، فهو مطابق لمعنى الشجر، وهو مرجع الضمير، والآخر ضمير لمذكر وهو مطابق للفظ مرجعه، وهو الشجر.

وما كان الضمير ليجيء في تصريفه على هذه الصورة: مرة على وفاق مرجعه معنى، ومرة على وفاقه لفظًا - إلا لحكمة أريد لها.

 

ويقول أبو حيان: (فمالئون منها)، الضمير في (منها) عائد على (شجر)، إذ هو اسم جنس، يؤنث ويذكر، (فشاربون عليه) قال الزمخشري: ذُكِرَ على لفظ الشجر، كما أنِّثَ على المعنى في (منها).. وقال ابن عطية: الضمير في (عليه) عائد على المأكول أو الأكل[4]

ولا خلاف أن اسم الجنس يجوز تذكير ضميره مراعاة لتذكير لفظه، ويجوز تأنيثه مراعاة لتعدده في معناه، لكن هذا لا يجيب عن سؤال مَن قد يسأل: لِمَ هذا التخالف بين الضميرين مع تقارب موقعيهما على صورة تشبه التعاقب والاتصال، ثم ما وجه تقديم المقدم وتأخير المؤخر دون العكس؟ وما قول ابن عطية بأفضل من قول صاحبيه، ولا أقرب منه إلى القبول، لأنه يجعل لكل من الضميرين مرجعًا، فضمير (منها) للشجر، وهو الوجه؛ لأنهما متجاوران والمعنى عليه، وضمير (عليه) للمأكول أو الأكل الذي تشير إليه كلمة (لآكلون)، وهي مذكورة قبل الشجر، وإذًا يكون على ضمير (عليه) أن يتخطى (الشجر) وضميرها، لكي يعود إلى مرجعه؛ أي: إنَّ الضمير الأول يعود إلى المرجع الآخر، والضمير الآخر يعود إلى المرجع الأول، ولا يخفى ما في هذا من مباعدة وتفريق لغير حكمة ظاهرة، ولا ضرورة ملجئة.


ويبدو - والله أعلم - أن هذا التخالف في صورته الآنفة - يراد به تصوير حال الآثمين حين يأكلون من شجر الزقوم، وإذ يقر ما يأكلون منه في بطونهم، فهم حين الأكل لا يأكلون من شجرة واحدة؛ بل من عدَّة من شَجَرِهِ، كأن لكل شجرة مذاقًا غير المذاق، وعملاً خلاف العمل، فبعض الشجر أخبث من بعض وأشد تعذيبًا، وفي تعدد ما يأكلون منه إذًا تنويع في العذاب ومزيد منه، والضمير الذي يصلح لذلك ويمثل معناه هو ضمير الجمع، لا ضمير المفرد.

وهم إذ تمتلئ بطونهم مما يأكلون، وإذ تستقر فيها أنواعه المتعددة - لا تظل على حالها الأولى من التمايز والتنوع، ولكن يمتزج بعضها ببعض حتى تصير في رأي العين شيئًا واحدًا، على نحو ما يصير إليه طعام الأحياء في الدنيا، حين يكون مؤلفًا من أصناف متعددة، بعد أن تعمل المعدة عملها فيه، والضمير الذي يصلح لذلك ويمثل معناه هو ضمير المفرد لا ضمير الجمع.

ولا يلبث الطاعمون من الزقوم أن يجدوا من حَر العطش ما لا يُطيقون صبرًا عليه، فلا يكون لهم مما يشربون إلا الحميم، فيشربون منه ضارين به كما يشرب الهيم، وهو على شدة حره، واستبشاع مذاقه، أهون عليهم مما يذيقهم العطش من هول العذاب.

 

(ب) ومما ذكر فيه ضمير المفرد بمكان ضمير الجمع قول الله تعالى في سورة الأنعام: ﴿ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ ﴾ [الأنعام: 138] [5]، وقوله في سورة النحل: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ﴾ [6] [النحل: 5 - 7].

 

يذكر الله تعالى الأنعام في كتابه الكريم ثمانيًا وعشرين مرة في مواطن متعددة، لدواعٍ مقتضية، وقد عوملت فيها كلها لغة معاملة جمع ما لا يعقل، إشارة إليها، أو إعادة للضمير عليها، أو إسنادًا إليها، كما في هاتين الآيتين.

وذكرت مرتين اثنتين لمقصد واحد، فجعلت في إحدى المرتين مؤنثة، وعاد عليها ضمير المؤنث، وجعلت في الأخرى مذكرة وعاد عليها ضمير المذكر، فأما الآية الأولى فقوله تعالى في سورة المؤمنون: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [المؤمنون: 21]، وأما الأخرى فقوله عز من قائل في سورة النحل: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ﴾ [النحل: 66][7].

ونلاحظ أن المعنى الذي تقصد الآيتان إليه واحد، وهو التنبيه إلى نعمة جليلة من نِعَم الله على عباده، وآية بينة من آيات قدرته في خلقه، إذ يخرج لهم شرابًا طهورًا سائغًا للشاربين من حيث لا يخطر ببال أو يقع في ظن أن يمكن خروجه منه، إنه يتحلَّب من بين الفرث والدم، والفرث نِفايَة نجسة مستقذرة، ينفر منها الطبع، وينبو عنها البصر، والدم خبيث مستكره، يزور الناس عنه، وتشمئز نفوسهم منه، فهم لا يرونه سائلاً إلا نزفًا من قتيل أو ذبيح أو طعين.

ذلك مبلغ الآيتين من الوفاق في المعنى، ويوشك الوفاق بينهما في العبارة أن يكون واحدًا أيضًا، فالمفردات واحدة، ونظم الأسلوب واحد، وكل ما بينهما من فرق أن الآية الأولى تسمي الشراب، وتحدد مسيله من البطن، وتصفه بالنقاء وطيب المذاق، أما الآية الثانية فقد اكتفت بذكره إجمالاً، وتركت للآية الأولى وصفه وتفصيل أمره، ثم إنها أنثت ضمير الأنعام كما أنثته سائر الآيات إلا الآية الأولى، فهي وحدها الَّتي أعادت عليها ضميرها مفردًا مذكرًا، وهو خلاف يسترعي الانتباه، ويدعو إلى التدبر والمساءلة.

وقد عُنِي السلف من علمائنا بالنظر في تذكير ضمير الأنعام في الآية الثانية دون سائر الآيات، فقالوا فيها أقوالاً، وذهبوا مذاهب؛ فقال سيبويه في باب ما لا ينصرف: "وأما (أفعَال) فقد يقع للواحد، ومن العرب من يقول: هو الأنعَام، وقال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾"[8]، ويريد سيبويه أن ما جاء من جموع التكسير على وزن "أفعال" يصرف؛ لأنه يقع على المفرد عند بعض العرب، ثم عاد فقال في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة من غير الفعل: "وليس في الكلام أفعِيل.. ولا أفعال إلا أن تكسر عليه اسمًا للجمع"[9]، ويدل هذان النصان على أن وزن أفعال جمع عند سيبويه، وأن الإفراد لغة فيه.

وقال الفراء: "وأما قوله: ﴿ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾ [النحل: 66]، ولم يقل: في بطونها، فإنه قيل والله أعلم: إن النعم والأنعام شيء واحد، وهما جمعان، فرجع التذكير إلى معنى النعم، إذ كان يؤدي عن الأنعام.. وقال الكسائي: ﴿ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾ [النحل: 66]: بطون ما ذكرنا، وهو صواب، وأنشدني بعضهم:

مِثْلَ الْفِرَاخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُهْ [10]

وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: "يَجوزُ أن يُقال في (الأنعَام) وجهان: أحدُهُما أن يكون تكسير (نَعْم)، كأحبال في حبل، وأن يكون اسمًا مفردًا مقتضيًا لمعنى الجمع، فإذا ذكر فكما ذكر (نَعْم) في قوله:

فِي كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ ♦♦♦ يُلْقِحُه قَوْمٌ وتَنْتِجُونَهُ[11]

 

وإذا أنِّث ففيه وجهان: أنه تكسير نَعْم، وأنه في معنى الجمع"[12].


قال أبو حيان: "أعاد الضمير مذكرًا مراعاة للجنس؛ لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه - جاز عَودُه عليه مذكرًا.. وقيل: جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ومعاملة الجمع، فيعود الضمير عليه مفردًا"[13].

وما أريد أن أذكر أكثر مما ذكرت من الآراء الَّتي رآها علماؤنا الأعلام، توجيهًا لتذكير الضمير العائد على الأنعام، خلافًا لمقتضى الظاهر، ففيما ذكرت منها كفاية وغناء، وإنما الذي أريد أن أزيده أن هذه الآراء قد دلَّت بكثرة عددها، وتعارض دلالتها - على الحيرة والاضطراب، فالحقائق البيِّنة لا تكاد تختلف فيها الآراء مثل هذا الاختلاف.

وعندي أن هذا الذي قالوه - على نفاسته وجلالة قدره - لا ينقع من غلة، ولا يهدي من حيرة، فليست المشكلة في صميمها من اللُّغة، وليس الذي نشتد في طلبه أن نجد وجهًا من الرأي يقنع بأن تذكير الضمير الراجع إلى الأنعام جارٍ على سنن العربيَّة واقعًا، وإن كان جاريًا على خلافها ظاهرًا، ولكن الحقيقة الَّتي نطلبها، ونرتجي الاهتداء إليها هو السر الذي ينطوي عليه تذكير ضمير الأنعام في سورة النحل خاصَّة، مع تأنيثه في جميع الآيات الَّتي ذكرت فيها، ولا سيما آية "المؤمنون"، على ما بينهما من تشابه كبير، يكاد يجعل منهما آية واحدة وردت في موضعين مختلِفين.

لنرجع إذًا إلى جملة الآيات الَّتي ذكرت في أثنائها الآيتان اللتان يدور حولهما الحديث، ولننظر هناك نظر تدبر وأناة، لعلنا نهتدي إلى ما نريد؛ فأما آيات النحل فهي: ﴿ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾ [النحل: 65 - 69][14].

 

وأما آيات "المؤمنون" فهي: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 18 - 22].

ونلاحظ أن الآيات في السورتين تُذكِّر أول ما تُذكر بنعمة الماء وفضله على الحياة والأحياء، وأن آيات النحل بعد هذا تسمي ثلاثة أشربة، وهي اللبن، والسكر، والعسل؛ أما آيات "المؤمنون" فلا تسمي من الأشربة غير اللبن، وأما الدهن الذي تَنبُت به شجرة طور سيناء فليس بشراب، ولكنه صبغ[15] للآكلين، كما يقول القرآن الكريم.

والأنعام والنحل تلتقيان على وفاق وسواء، فكلتاهما تحيا حياة ذات روح، وكلتاهما يخرج من بطونها شراب فيه للناس غذاء، أو غداء وشفاء، والبحث إذًا يدور على الأنعام ولبنها، والنحل وعسلها؛ فأما الأنعام فآحادها سواء فيما تدر به من اللبن، ليس بَينَها فيه خلاف أو تكاد، هو من هذه مثله من تلك، لونًا، ورائحة، ومذاقًا، وأثرًا في الشاربين؛ فالأنعام من هذا الجانب جمع عددًا، وواحد فيما يخرج منها من اللبن، وعود الضمير عليها مفردًا مذكرًا يشير من طرف خفي إلى هذه اللطيفة من لطائف التعبير: أنه شراب لا خلاف بينه، ولا تنويع فيه، والإبل فيه سواء.

وأما النحل فعلى خلاف ذلك فيما يخرج منها من العسل؛ لأن عسلها كما جاء في الآية، وكما يرى في الواقع: ﴿ شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾ [النحل: 69]، منه الصافي النَّقي الذي نَصِفه بالأبيض، ومنه الأصفر والأدكَن والأسود، وهو كذلك مختلف مذاقًا ورائحة، تبعًا لاختلاف ما تأكله من الثمرات، وعود الضمير عليها مؤنثًا خلافًا لضمير الأنعام، مع ما بينهما من أسباب الوفاق، يشير كذلك إلى اللطيفة البلاغيَّة الَّتي أشار إلى مثلها ضمير الأنعام: إنه شراب فيه تنوع وبينه خلاف، وكأن النحل فيه طوائف وأنواع.

بقي أن ضمير الثمرات جاء مفردًا مذكرًا، وهي جمع لمؤنث، فلم يتطابق الضمير ومرجعه، والواقع أن مرجع الضمير ليس هو الثمرات؛ لأن السكر لا يتخذ منها مباشرة، ولكن من الرحيق الذي يعصر منها، وإنما مرجعه محذوف قبل الثمرات، وتأويل الآية إذًا: ومن عصير ثمرات النخيل تتخذون منه سكرًا ورزقًا حسنًا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

2 - ضمير الجمع بمكان ضمير المفرد

(أ) يحل ضمير الجمع محل ضمير المفرد في قوله سبحانه: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ﴾ [محمد: 16].

 

في هذه الآية الكريمة ضميران يرجعان إلى مرجع واحد، وهو (مَن) الموصولة، أحدهما مستتر يستكن في الفعل (يستمع)، والآخر بارز يتصل بالفعل (خرجوا)، فقد جاء ضمير الجمع في (خرجوا) مكان ضمير المفرد في (يستمع)، وظاهر النظم يقتضي أن يكون الضميران مفردين، لأن أولهما مفرد.

غير أن الآية بتخالف الضميرين فيها على هذا النحو تُصوِّر حالاً من أحوال النفاق، فيما يصطنع من أساليب الرياء والخداع، فهؤلاء جماعة من المنافقين يحضرون مجلس الرسول - عليه السلام - أشتاتًا، فيجلسون إليه، ويستمعون له في سكينة واطمئنان، شاخصة أبصارهم انجذابًا إليه، وتعلقًا به، لا تفاوت بينهم في هذا ولا خلاف، تكاد ترى جمعهم في أحدهم، وضمير الواحد إذًا أشبه بهم، وأدل على حالهم، فكان لذلك - والله أعلم - (يستمع) بمكان يستمعون.

وهم إذ يخرجون من عند الرسول - يخرجون أشتاتًا كما جاؤوه أشتاتًا، ثم لا يمنعهم الحياء ولا ينهاهم أن يُقبل كلٌّ على مَن عسى أن يكون أدنى إليه من المؤمنين يسأله: ماذا قال محمد إذ كنا بين يديه؟ فقد بدت البغضاء إذًا من أفواهم، وبرز المكنون من كفرهم، لا يملكون رده ولا الصبر عليه؛ لتمكنه منهم، وقوة سلطانه عليهم، فما يزال يراودهم ويلح عليهم كلما سنحت الفرصة المواتية، وأولى بهم في هذه الحال أن يُقال فيهم (خرجوا) مكان خرج، و(قالوا) مكان قال، فهم هنا أشتات متفرقون، وكانوا في حضرة الرسول أشباهًا متماثلين.

ويذكر الله تعالى فريقًا آخر من المنافقين، فيقول: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يونس: 42 - 43].

 

وقد ضمنَت هاتان الآيتان فريقَيْنِ من المُكَذِّبِينَ الضَّالِّين: فريق يستمعون، وليس في آذانهم وَقْرٌ، يبلغ القول عقولهم، ولكن لا ينفذ إليها ولا يؤثر فيها، حِيل بينهما بِسَدٍّ مكين، فيرتدُّ عنها القولُ مَخذولاً، فإذا هم سامعون كَمَنْ لا يسمعون، وعاقِلُونَ كمَنْ لا يعقلون، بَطل السمع فيهم والإدراك، فأنَّى لهؤلاء أن يهتدوا؟ وماذا عسى أن يكون الرسول صانعًا بهم، لينقذهم مِمَّا يتردَّون فيه؟ وضمير (يستمعون) يصفهم ويرمز إلى التفاوت بينهم.

وأما الفريق الآخر الذي تصفه الآيتان الكريمتان - فلهم أعين يبصرون بها فيرون ذات الرسول، لا تكاد تخفى عليهم منها خافية، ولكنهم كأصحابهم كفروا وضلوا، ولكن لآفة غير آفتهم، فهؤلاء أعينهم مبصرة، ولكن بصائرهم مطموسة، قد ذهب نورها، وخبت جذوتها، فلا رجاء في هدايتهم، ولا جدوى في تغيير ما بهم من الضلال.

وكلُّ ما بَيْنَ الفريقَيْنِ من فرق - أنَّ الأولين ليسوا سواء في تقبل الدعوة والاستجابة لها، فهذه طبيعة الآفة الَّتي مُنُوا بِها، أمَّا الآخرون فلا يُرَى فيهم تفاوت ولا بينهم خلاف، فكلهم يرى الرسول، ويُمَيِّزُ شخصه الكريم على نحوٍ ما، وليس للمزيد عليه فضل ولا إليه حاجة، فالمقام لجملة النظر لا لدرجته والإمعان فيه، وجعل ضمير ينظر مفردًا يشير إلى ذلك ويوحي به لمن يروِّي فيه، ويؤتيه حقه من الأناة، والله تعالى أعلم بمراده.

(ب) ويحلُّ ضمير الجَمْعِ مَحَلَّ ضمير المفرد أيضًا في قوله سبحانه في سورة البقرة، يشبه المنافقين ويندِّدُ بِهِم: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [البقرة: 17]، والمنافقون الذين يذكرهم الله هنا - هم المنافقون الذين يذكرهم قبل هذه الآية، فيقول: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾[البقرة: 14].

ونلاحظ في الآية الأولى أن المشبه به مفرد، وقد وصف بالذي وهو مفرد، وعاد عليه ضمير كل من (استوقد) و(حوله)، وهما ضميران للمفرد، فتطابق الموصول وصلته والعائد وضميراه في كل من الموضعين، وجاء بعد هذا ضمير (بنورهم) وضمير (قالوا)، وكلاهما ضمير جمع، وظاهر النظم يقتضي أن يكونا مفردين، مثل الضميرين الآخَرَين.

ويذهب العلماء في تأويل هذا التخالف مذاهبَ منها: أن (الذي) اسم مبهم، فيجري مجرى (مَن) الموصولة، ويقع مثلها على المفرد والجمع، وهذا يعني أن ضميري (استوقد) و(حوله) جاءا مفردين مراعاة للفظ (من)، وأن ضميري (بنورهم) و(تركهم) جاءا جمعين مراعاة لمعناها، ومنها: أن (الذي) مفرد في معنى الجمع، وهو رأي كالذي قبله، وفيه غرابة، ومنها: أنه مفرد لفظًا، لكنه في المعنى نعت لما له آحاد، والتقدير: مثلهم كمثل الجمع الذي استوقد نارًا.

وهي - كما ترى - آراء لا تسكن إليها النفس، ولا يأنس بها الطبع؛ لأنها تعتمد أولاً وآخرًا على مرونة العربية، وتنهج نهج النحو في التأويل والتقدير، وإذا جاز أن يؤخذ بمثلها في توجيه مشكل في كلام الناس - فلا يجوز أن يؤخذ بها في كلام رب العالمين، والرأي عندي أنه حين لا تسعف اللغة بالرأي السديد في شيء من أساليب القرآن - أن ندع اللغة ونحوها جانبًا، ونفزع إلى القرآن نفسه نستعينه ونستهديه، فإنْ أفضَلَ بالطِّلْبَة فذَاكَ، وإلا فالأحجى أن نفوض الأمر فيها إلى الله حتى يفتح علينا بالذي هو خير، فذلك أكرم للقرآن، وأحفظ لجلاله، وأصون له عن التخبط فيه والاعتساف.

إلى القرآن إذًا ننظر فيه، ونتحسس الطريق إلى المطلب الذي نبتغيه، إن تشبيه المنافقين يدور في صميمه على نار الدنيا، إذ توقد وتضيء ثم تطفأ، والقرآن يذكر نار الدنيا في آيتين جاءت في إحداهما آية من آيات الله في خلقه، فجعلها من الشجر الأخضر على ما بينهما من نفرة وتضاد، ففي الشجر الأخضر ماء، والماء والنار لا يجتمعان، لكن الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء جعل من الشجر الأخضر مكمنًا لها ومستقرًّا، وذلك إذ يقول سبحانه في سورة يس: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴾ [يس: 78 - 80].

ويذكر القرآن نار الدنيا مرة أخرى، جاءت فيها نعمة وذكرى، فهو الذي أنشأ شجرتها، وآتاها من الخصائص ما يجعلها تذكرة ومتاعًا للمقوين، الذين ينزلون بالقواء، أي القفر، وذلك إذ يقول في سورة الواقعة: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ﴾ [الواقعة: 71 - 73][16].

وأرى أنْ ليس للنار في سورة يس صلةٌ بالنار في سورة البقرة، ولا بينهما مشابهة؛ فالنار في سورة البقرة عاملة مؤثرة: أوقدت فاتقدت، ونهض لهيبها فأنار الظلام، ثم طفئت وخمدت جذوتها، فعاد الظلام إلى ما كان عليه؛ أما النار في سورة يس فقوة كامنة، يمكن إثارتها والإفادة منها، هي مجرد آية من آيات القدرة الإلهية، إذ جعلها الله من الشجر الأخضر، وهو ما لا يظن أن يكون لها فيه مكان.

 

وأما النار في سورة الواقعة فآية أيضًا، ولكنها تذكرة وعبرة، لقد أنشأ الله شجرتها، وجعلها تذكرة وعبرة للمقوين، فهي تذكرهم بنار جهنم حين يستشعرون حرها، وتلقي في قلوبهم الخشية حين يرون رأي العين قدرتها على الإبادة والتحطيم، هي إذًا كالنار في سورة البقرة، لها عمل وتأثير، ولها بهذا مشاركة في تصوير حال المنافقين هناك، فلنجمع بين آيات الواقعة وآية البقرة، ولنأخذ من تلك لهذه، ثُمَّ لنَنْظُر ماذا نرى؟ نَرَى أنَّ أصحاب النار رُفقة، جَمَعَهُم شأنٌ مُشتركٌ، لكنَّ الَّذِي أَوْقَد النَّارَ منهم واحد.

إذًا نستطيع أن نقول - والله أعلم - إنَّ القرآن يشبِّهُ المنافقين بِجَماعةٍ من سراة الليل، أحسُّوا في بعض الطريق بالحاجة إلى التَّعريس، ليُصِيبُوا شيئًا من راحةٍ وطعامٍ، فلمَّا عنَّ لهم مكانٌ صالح عرَّجوا عليْهِ، فألْقَوْا رِحالهم فيه، وأقبل أحدهم فاستوقد نارًا، وما لهم في مقاومهم هذا عن النار غنى، واشتعلت النار وعلا لهبها، وأضاء نورها، فرأوا ما بين أيديهم وما حولَهم، واستقام لكل أن ينصرف إلى الأمر الذي يعنيه، لكن الله تعالى لم يمهل النار حتَّى يبلغوا بها حاجتهم، فأطْفَأَها، وأرسل عليهِمُ الظلام، فأتاهُمْ من كُلِّ جانب، وإذا هُمْ جَميعًا مُظْلِمُون.

هذه صورةُ الحال الَّتي تُمَثِّلُ حالَ المنافقين، وبَقِيَ أن نُقابِلَ كُلَّ مَشْهدٍ من مشاهدِ حالِهم بنظيره فيما شبهوا به: فأمَّا سرى الليل فهو رحلة الحياة الضَّالَّة الَّتي يَحياها المنافقون، وأما الشعور بالحاجة إلى الطعام يصلح البدن، وإلى الراحة تخفف التعب - فهو الشعور بالحاجة إلى الأمن والاطمئنان؛ إذ لا يزال الخوف من غضب المؤمنين عليهم يتهددهم، ويخيفهم أن تظهر خبيئة نفوسهم، فهم لذلك يتملقونهم، ويطلبون مرضاتهم.

وأما النار الَّتي توقد وتضيء، ثم تنطفئ وتذهب بالضوء - فهي الكلمات المؤمنة يلقي بها المنافقون إلى مَن يلقون مِن المؤمنين، فيقولون بأفواههم: آمنا، فإذا لها وضاءة وإشراق، وإن كانت لتخفي من تحتها رمادًا هامدًا، وظلامًا دامسًا.

 

وأما الظلمات الَّتي يتركهم الله فيها فلا يبصرون، فهي الضلال المطبق الذي هم فيه سادرون، فلا يبصرون معه سبيل الرشاد.

 

وبعد، فإني إذ أجمع آية البقرة إلى آيات الواقعة لأستخلص منهما جميعًا صورة المنافقين كما يصورهم القرآن - إنني إذ أفعل ذلك لا آتي منكرًا من العمل ولا مستغربًا؛ فالقرآن وحدة متماسكة، عندها جلاء الشبه، وتفصيل المجمل، مثله كمثل أعضاء الجسم الواحد يأخذ بعضها ببعض، ويرفد بعضها بعضًا، وأضرب مثلاً لذلك أن الله تعالى يجعل من أوصاف المتقين أن ينفقوا مما رزقهم الله فيقول: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 2، 3]، هكذا ذكر الله الإنفاق، ولم يذكر هنا الجهات الَّتي ينفق عليها المال، ثم عاد فذكرها مفصلة في قوله سبحانه يبين معنى البر ويصف البار: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ﴾ [البقرة: 177].

(جـ) كذلك يحل ضمير الجمع بمكان ضمير المفرد في قوله تعالى في سورة المؤمنون: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100][17].

 

والملاحظ في أسلوب هذه الآية الكريمة أن أوله نداء لله في وحدانيته وتفرده، وأن آخره سؤال له أيضًا، ولكن بما يسأل به الجمع لا المفرد، ومقتضى الظاهر أن يتفق كل من صيغتي النداء، والسؤال إفرادًا وجمعًا، وقد لحظ العلماء هذا الخلاف، وقالوا فيه، وبينوا الوجه الذي رأوه له: فقال الفراء: "فجعل الفعل كأنه لجميع، وإنما دعا ربه، فهذه مما جرى على ما وصف الله به نفسه من قوله: (وقد خلقناك من قبل)"[18].

 

وقال الزمخشري: "إن خطاب الله بلفظ الجمع للتعظيم، كقوله:

فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النْسَاءَ سِوَاكُمُ[19]

ولا أرى في كلام العالمَيْن الجليلين مقنعًا، ولا أنه مما يمكن الاكتفاء به والاطمئنان إليه، فما سئل الله تعالى في كتابه الكريم إلا بلفظ الواحد، ومن أمثلة ذلك قوله سبحانه: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا ﴾ [إبراهيم: 35]، وقوله: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 40، 41]، وقوله: ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾ [20] [نوح: 26].

من أجل ذلك عدل الزمخشري في توجيه الآية عن الاستشهاد بمثلها من القرآن كدأبه في أكثر الأحيان؛ لأنه ليس ثَمَّةَ لها نظيرٌ فيه، ولجأ إلى الشعر يستشهد به، ويقتصر عليه، كأن المقام للسؤال عن أسلوب الآية: أله نظير في العربية، أم هو أسلوب تفرد القرآن به؟ وإنما المقام للتساؤل عن سر هذا التخالف في النظم بين النداء والدعاء دون أن يكون له في القرآن نظير، وليس كالقرآن في جلاء هذه الحقيقة والكشف عن السر الكامن فيها.

بقي أن استشهاد الفراء بآية (وقد خلقناك من قبل) لا يطابق الحكم الذي يستشهد له، فالفعل (ارجعون) خطاب، والفعل (خلقناكم) تكلم، وليس هذا من ذاك في شيء كما لا يخفى، وقد جرت عادة الله تعالى أن يتحدث عن نفسه بلفظ التعظيم، لا يكاد يعدل عن ذلك كقوله تعالى: ﴿ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 87] وقوله: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ ﴾ [يونس: 28]، وقوله: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [يوسف: 3]، وقوله ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ﴾ [الإسراء: 13].

وأرى - والله أعلم بمراده - أن في الخطاب بالفعل (ارجعون) إشارة إلى حال العاصي وما يكون منه حين يجيئه الموت، ويستيقن أنه منه قريب، لا ينجيه منه مال ولا بنون، فيأخذه الفزع والاضطراب، وتغشاه غاشية من الذهول والتخليط، لا يدري معها وجه القول، ولا يفرق فيه بين خطأ وصواب، فهو ينادي ربه في وحدانيته، ثم يسأله، ولكن بلفظ الجمع لا بلفظ المفرد، فيخرج الكلام وبين أوله وآخره خلاف، وأين هو الآن من إدراك الحدود، والأخذ على سننها؟ وهو بعد لا يسأل ممكنًا ولا عدلاً، فقد أعذر الله إليه، إذ دعاه وبين له فأبى واستكبر، أما الآن فقد قُضِيَ الأمر وبلغ الكتاب أجله، والوقت وقت ثواب أو عقاب.

3 - ضمير الجمع بمكان ضمير المثنى

(أ) يحل ضمير الجمع بمكان ضمير المثنى في قوله تعالى في سورة الحجرات: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: 9].


يريد الله تعالى جماعة المؤمنين ألا يكون بعضهم في عزلة وانقطاع عن بعض، لا يلقي بالاً إلى الآخرين، ولا يعنيه من أمرهم إلا ما يرجو أن يكون له فيه خير، ما دام هو يعيش في دعة، قرير العين، آمنًا مطمئنًّا في نفسه وسربه.

 

إنه سبحانه يريدهم إخوة متحابين متوادين، يؤمنون بالتعاون، والنصرة، وحسن المشاركة في كل ما يعرض للجماعة من مهم، أو يلم بهم من مكروه، يريدهم حينئذ أن ينهضوا خفافًا للعمل على رأب الصدع ولمِّ الشمل إذا صرح الشر، وثارت الفتنة بين طائفتين منهم، فتبدلتا بالإخاء عداوة، وبالسلام حربًا، وإلا كانوا بعرض الضعف وهوان الشأن بين سائر الأمم، فأسباب الخلاف بين الناس كثيرة، وهي - على كثرتها - متجددة، فلا يؤمن أن تتوالى الحروب بينهم تباعًا، كلما طُفِئَت حرب هنا أوقدت نار حرب هناك.

 

وهو سبحانه لا يرضى منهم إذا مشوا بالصلح بين الطائفتين المقتتلتين أن يتركوهما وشأنهما يأسًا أو عجزًا لو بغت إحداهما على الأخرى، وأبت إلا العدوان والإصرار عليه، فهو سبحانه يأمرهم أن يكونوا على الباغية، يكفُّونها عن البغي، ويحملونها على السلم والموادعة بالقتال حتى تفيء إلى أمر الله.

وبعد، فإنا إذ ننظر في أسلوب الآية نظرة لغوية - نلاحظ أن (طائفتان) فيها مثنى، و(اقتتلوا) بعدها مقرونة بواو الجماعة صفة لها، لكنها تصف جمعًا لا مثنى، فلم تطابق الصفة موصوفها فيما تجب مطابقتها فيه، إذ حل فيها ضمير الجمع محل ضمير المثنى، ونلاحظ كذلك أن ضمير (بينهما) جاء مطابقًا للطائفتين.

وقد نظر علماؤنا - أحسن الله إليهم - في ضمائر الآية على العهد بهم، وقال كل فيها مقالاً، وهذا ما يقوله الفراء والزمخشري:

قال الفراء: "وقوله: (اقتتلوا) ولم يقل: اقتتلتا، وفي قراءة عبدالله: (فخذوا بينهم) مكان (فأصلحوا بينهما)"[21]، ولم يزد على ذلك.

 

وقال الزمخشري: "فإن قلت: ما وجه قوله (اقتتلوا)، والقياس اقتتلتا.. قلت: هو مما حمل على المعنى دون اللفظ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس"[22].

فالفراء، لحظ الخلاف بين الضمير ومرجعه، ثم أمسك عن الرأي في تفسيره، وانصرف إلى قراءة عبدالله، مع أنها لا تمت بصلة إليه على القراءة المشهورة، أما الزمخشري فردَّ الأمر - على العهد به - إلى اللغة، وصلاح الطائفتين لأن يكون لها في أداء معناها ظاهر وباطن، وأن نظم الأسلوب ذهب مع معناها دون لفظها، لكنه لم يبين وجه الذهاب إلى المعنى هنا، فما كان ليفعل هذا إلا لحكمة دعت إليه.

 

فلنعد إذًا إلى هاتين الطائفتين كما تحدثت الآية عنهما وكما تكونان في واقع الأمر، فننظر كيف كانت حالهما قبل القتال، وكيف كانت حالهما وهما تقتتلان، وكيف كانت حالهما إذ قبلتا الصلح وثابَتَا إلى الرشد؟

 

إننا إذ نفعل نراهما قبل القتال جماعتين مستقلتين، لكل كيانها القائم، وبنيتها المتماسكة، لم تدفعها العداوة الكامنة إلى التفكك والانطلاق، ونراهما حين يهيجهما الشر، وتثور بينهما الحرب، وقد انفرط العقد، وانتشر الجميع هنا وهناك، ولم تبق العداوة كما كانت عداوة طائفة لطائفة؛ بل عداوة فرد لفرد، حتى لو ظفر امرؤ من إحداهما بآخر من عدوه لأوقع به، غير راحم له، ولا مبقٍ عليه، ويشير إلى هذا الانتشار ضمير الجماعة في الفعل (اقتتلوا).

ونراهما حين تقبلان الصلح وقد تكافَّتا، وأمسكتا أيديهما عن القتال، قد عادتا إلى سابق حالِهما من التضام والالتحام؛ لأن الصلح لا يكون بين أفراد الطائفتين كالقتال؛ بل بين الطائفتين أنفسهما ممثلتين في مندوبين عنهما، يختارون من أهل الثقة فيهما والكفاية، ويشير إلى هذا التضام ضمير المثنى في كلمة (بينهما)، بعدما دل ضمير الجمع في (اقتتلوا) على التفرق والانتشار.

 

وهكذا صور الضميران كل في موقعه حال الطائفتين قبل القتال وفي أثنائه، وحين الصلح تصويرًا بارعًا، يجمع بين الدقَّة ولطف المدخل، ومن أبلغ من الله قيلاً، وأحكم تصويرًا لقوم يعقلون.

ويشبه هذه الآية في تأليف عبارتها وتأويل معناها قول الله تعالى: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ﴾ [الحج: 19]، وقوله: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [النمل: 45].

 

(ب) ويحل ضمير الجمع بمكان ضمير المثنى أيضًا في قول الله تعالى في سورة التوبة: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 34].

 

فالذهب والفضة معدنان اثنان، والضمير العائد عليهما من (ينفقونها) ضمير المفردة أو جمع ما لا يعقل، وهو هنا للجمع، لأن مرجعه شيئان، وقد قيل في تأويل هذا الخلاف أقوال منها: أن يكون الذهب والفضة في تأويل الكنوز، وإذًا يكون المعنى: والذي يكنزون الكنوز ذهبًا وفضة، وهذا يعني ألا يؤخذ بكنز المال وحبسه عن الإنفاق في وجوهه إلا من يعدد كنوزه، ومنها أن يكون في الآية اكتفاء بأحد الاسمين عن الآخر، وهو هنا الفضة، فهي الَّتي تطابق الضمير، وعلى هذا يكون تقدير الآية: والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه فبشرهم بعذاب أليم، والذين يكنزون الفضة ولا ينفقونها بشرهم بعذاب أليم، فحذف المذكور مع الذهب اكتفاء بما ذكر مع الفضة.

 

والاكتفاء في بعض الأساليب معروف وشائع بين النحويين، وعليه يعتمدون في تأويل كثير من الأساليب ويجعلون منه قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾ [التوبة: 62]، لكن الأخذ به هنا لا يمنع سائلاً أن يسأل: لماذا خصت الفضة هنا بالاهتمام، فأخبر عنها نصًّا وعن الذهب اكتفاء، مع أنها دون الذهب نفاسة وقيمة؟

 

وقيل: إن مرجع الضمير يمكن أن يعد جمعًا في المعنى، وأن تكون الآية قد ذهبت معه لا إلى اللفظ[23] بل إلى المعنى.

وهكذا تعددت الأوجه، واختلفت التأويلات، ولا يزال مع ذلك في النفس من كل ما قيل شيء، ونَحنُ إذْ ننظُرُ إلى واقع الأمر نتبين أن الكنز يمكن أن يكون للسبائك المتخذة من الذهب والفضة، كما يكون من النقد المضروب منهما، أما الإنفاق فالعهد به أن يكون من الدراهم والدنانير، فالأشبه أن يكون المرجع إذًا إلى ما ينفق، أي: إلى الدراهم والدنانير، وفي المقام إشارة إليها وغناء عن ذكرها.

 

وما أكثر ما يرجع الضمير في العربية على غير مذكور لفظًا، لكنه ملحوظ ذهنًا، يوحي به المقام إليه، من ذلك قوله تعالى: ﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْرَاقٍ ﴾ [القيامة: 26، 27] ففي بلغت ضمير مستتر، وليس له مرجع مذكور، لكن المقام يشير إليه، فذكر التراقي، وهي أعالي الصدور حيث يترقى فيها النفس، ثم قول القائل في لهفةٍ واستِنْجاد: هل من راقٍ يذهب بالغمرة الملحة برقيته؟ كل ذلك يدل على أن الحديث في الآية عن محتضر يجود بنفسه، وأن الَّتي بلغت التراقي وشارفت أن تفارق جسدها إنما هي الروح، أغنت عن ذكرها هذه الإشارات الدالة، لأنها محذوفة كمذكورة، بل يمكن أن تعد مذكورة، ولكن رمزًا وإيماء.

 

بل قد يرجِعُ الضمير إلى الحال المشاهدة الَّتي يكون عليها القائل، لا على مذكور في كلامه، كقول العَرَبِ: "إذا كان غَدًا فأتِنِي"، يريد إذا كان ما نحن عليه الآن، وضمير كان يعود على هذا الذي هو عليه[24].

 

ذلك - فيما أرى - هو التأويل الذي يمكن الأخذ به، لأنه يعفي من التكلف، ويحفظ على القرآن جلاله، ولا يبعد به عن سَمْتِه الأصيلِ.

4 - ضمير جمع المذكر العاقل بمكان ضمير جمع لغير العاقل

قال تعالى: ﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾ [الأعراف: 4].

 

تذكر هذه الآية الكريمة وقتين سماهما الله تعالى، وأهلك فيهما قرى كثيرة، عتت عن أمره وعصت رسله: أولهما حين البيات، وآخرهما حين القيلولة والاحتماء من وهج الشمس، وكلا الوقتين موات لما أعد له، فإذا جاء البأس كان فاتكًا مدمرًا، لكنه في البيات أشد فتكًا وأعنف تدميرًا، لأن الليل يجمع الناس والأحياء كافة، ويمسك هؤلاء وأولئك عن ممارسة الحياة في شؤونها المختلفة، فيهجع الناس في مضاجعهم ليصيبوا حظًّا من راحة وجمام، ويرقد الحيوان والطير كل في مستقره لمطلع نهار من العمل والكد، فإذا السكون شامل، والصمت مطبق، إلا أنفاسًا تتردد، وخلجات تنبض، والبأس في هذا الوقت، وعلى هذه الحال، جائح لا يبقي ولا يذر، يستوعب كل من في القرى وما فيها من أحياء، لهذا جاء ضمير (أهلكناها) للقرى عامة لا لبعض ما فيها أو من فيها.

أما البأس في القيلولة فدون ذلك إحاطة وشمولاً، لأن القيلولة لا تجمع الناس وما معهم من الأحياء الأخرى؛ بل تظل حيث تكون لأن موعدها المساء، ثم إن من الناس من يحمل النفس على مكروهها، فيظل ضاحيًا لا يحتمي من الشمس، لحاجة ملحة أو ضرورة عاتية لا دافع لها، ولا مهرب منها، والهلاك في هذا الوقت للذين أخلدوا إلى القيلولة وحدهم، لهذا جاء الضمير للذين يقيلون.

 

وهكذا تبلغ الآية من دقة التعبير، وإحكام التفرقة بين النظيرين مبلغًا لا يتهيأ مثله إلا للتنزيل العزيز.

5 - ضمير المذكر بمكان ضمير المؤنث

(أ) يحل ضمير المذكر محل ضمير المؤنث في قوله تعالى في سورة النحل: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾[النحل: 58، 59][25].

 

تلمُّ هاتان الآيتان الكريمتان بقضية الأنثى، وما كانت تلقاه في حياتها من التعس والشقاء في بعض قبائل العرب زمن الجاهلية، لذلك أرى أن أقدم بين يدي القول في الآيتين كلمة حق تجلو الشبهة، وتفرق بين المحسن والمسيء من السابقين الأولين.

لم يكن عرب الجاهلية سواء في معاملة الأنثى، كما أن الناس ليسوا سواء في معاملتها الآن، لكن الحضارة المعاصرة قد غيرت من أساليب معاملتها، فأصبحت الآن كالذكر عند قوم أو تكاد، ولا تزال دونه عند قوم آخرين، ولكن على تفاوت في المنزلة والشأن، وأعتقد أن سيظل بينهما خلاف يفرق بينهما في شؤون الحياة العامة قليلاً أو كثيرًا، ما دام كلاهما خلقًا غير الآخر في التكوين والمزاج، وفي الخصائص والسمات، ولم يمنع سبق الزمن آباءنا أن يكون منهم من يكرم الأنثى، ويوليها المودة والحنان، استمع لمرة بن محكان مثلاً يخاطب امرأته خطابًا عذبًا رقيقًا يسألها أن تضم إليها ما يحمله أضيافه من متاع وسلاح، فهم في كنفه بمأمن من مباغتة الأعداء، ولا حاجة بهم إذًا إلى السلاح، قال:

يَا رَبَّةَ  البَيْتِ،  قُومِي  غَيْرَ  صَاغِرَةٍ ♦♦♦ ضُمِّي إِلَيْكِ رِحَالَ القَوْمِ وَالقُرُبَا[26]

 

ورجل آخر تجيئه امرأته بأنثى، وكان يود كما يود كثير أن تجيئه بولد ذكر، فلم يزد على أن يأوي إلى جار له يقيم عنده بعض الوقت، ضيقًا بخيبة أمله، فيما ألقت به المقادير إليه، وتنظم امرأته رجزًا تعتب عليه أن هجر بيته، وتحاول أن ترد عليه ما عزب من رشده، فتقول:

مَا لأَبِي حَمْزَةَ لا يَأْتِينَا
يَظَلُّ فِي البَيْتِ الَّذِي يَلِينَا
غَضْبَانَ أَلاَّ نَلِدَ البَنِينَا
لَيْسَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا شِينَا
وَإنَّمَا نَأْخُذُ مَا أُعْطِينَا[27]

 

ويبلغ الرجز صاحبها، فينطلق إليها معجلاً، ليرى الطفلة بين يدي أمها تناغيها، وتغني لها، فيثب إليها ويلتقط الطفلة منها، فيضمها إلى صدره، ويقبلها في حب غامر، وحنان بالغ، وفي صدره ما فيه من أسف وندم.

 

وكان من قبائل الجاهلية وأشباههم قساة آثمون، يظلمون الأنثى، وينكرون عليها حق الحياة؛ كان الأب من هؤلاء الجاهلين إذا ولدت له بنت وأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر، وأرسلها ترعى له الإبل والغنم، وإن أراد أن يئدها أمهلها حتى إذا حان حينها ذهب فحفر لها حفرة في الصحراء، ثم عاد فقال لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها[28]، ثم ينطلق بها إلى الحفرة فيأمرها أن تنظر فيها، ثم يدفعها، ويهيل عليها التراب.

ويروون أن الحامل كانت إذا أقربت[29] حفرت حفرة وتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت أنثى ألقت بها في الحفرة، وإن ولدت ابنًا أبقت عليه[30]، وأب يبشَّر بأنثى، فيهون من شأنها، ويصف عجزها وعجز كل أنثى في شخصها، فيقول: "والله ما هي بنعم الولد، نصرتها بكاء، وبرُّها سرقة"[31].

ويرجع الوأد في منشئه إلى ضيق العيش وفقدان الأمان، الحياة كزة، والأرض مجدبة، والغارة متوقعة، والبنت كَلٌّ ثقيل لا تستطيع أن تكسب رزقًا، ولا أن تحمي حقيقة، وربما سيقت سبية في غارة من عدو قاهر، فتجلب عليهم الخزي والعار.

 

ومنهم من جعلوا الملائكة بنات الله، واستحلوا بهذه العقيدة الفاسدة أن يقتلوا بناتهم، ليلحقوهن ببناته[32]، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن قتل الأولاد خشية الفقر، ووعد الآباء أن يرزقهم وإياهم، فقال: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 31]، وأنكر على الذي يفترون الكذب، إذ يجعلون الملائكة بنات الله، فقال: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ [النحل: 57].

وكان من الجاهليين من يفتدي الموؤودة بماله، ومنهم صعصعة بن ناجية، وبه يفخر الفرزدق، فيقول:

وَمِنَّا الَّذِي  مَنَعَ  الْوَائِدَاتِ ♦♦♦ فَأَحْيَا الوَئِيدَ فَلَمْ تُوأَدِ[33]

 

ويروى لحسان بن ثابت أو متمِّم بن نويرة قوله يرثي لحال الموؤودة، ويأسى لمهانتها:

ومَوْؤُودَةٍ مَقْرُورَةٍ فِي  مَعاوِزٍ ♦♦♦ بِآمَتِهَا مَرْمُوسَةٍ لم تُمَهَّدِ[34]

 

هذه كلمة موجزة عن قضية الأنثى عند سلفنا من العرب، كما حفظها التاريخ، وكما ذكرت في القرآن الكريم، أردت التمهيد بها للقول في الآيتين الكريمتين، والخلاف الواقع بين ثلاثة من ضمائرها والمرجع الذي تعود عليه.

 

أما الضمائر فالهاء من (به)، والفاء في (يمسكه)، والهاء في (يدسه)، وكلها ضمائر لمفرد مذكر، والحديث في الآيتين عن الموؤودة، أي: عن مفرد مؤنث، فلم تتوافق الضمائر وما تعود عليه، وقد تجعل (ما) من قوله: (ما بشر به) هي مرجع الضمائر بحسب لفظها، وهي من الكلمات الَّتي يجري على لفظها حكم المذكر، وعلى معناها حكم المؤنث، وإن كان المراد بها في الحالين مؤنثًا كما في الآيتين، واستعمال (ما) للعاقل جائز وإن كان قليلاً، وله نظائر في العربية، لكن هذا التوجيه لا يبرز ما وراء الخلاف بين الضمائر من لطائف وإشارات، فلنحاول غيره، عسى أن يكون لنا به مقنع، ولنا فيه سعة.

إن هذه الضمائر بألفاظها المذكرة ترجع إلى الأنثى في خاطر الأب، وإن لم تكن مطابقة لها في سنن العربية، ولهذا التخالف مشاركة بارعة في تصوير حال المولود له من الحنق والغيظ، ومن الكراهية والمقت، لأنه في حديثه عن أنثاه، ومساءلته نفسه عما هو صانع بها، لا ينكر في وجدانه وقرارة نفسه حقها في الحياة وحسب، لأنه لا يشفي غليله، ولا يطفئ غيظه، ولكنه ينكر عليها أيضًا حقها من اللغة، فهو يمسك لسانه أن يكني عنها بضميرها، ويرفض أن يكون لها من اللغة مثل ما للذكر، ضمير يدل عليها، ولا تذكر إلا به، ولا يرى أروح له إلا أن يكني عنها بضمير المذكر قرة العين، ومنية النفس، فهو وحده الجدير بالحياة، وأن يختص من اللغة بضمير لا يشركه أحد فيه.

ونحن نرى في حياتنا مثلاً من هذا العدول عن منطق الواقع، فنمسك عن ذكر من يثيرنا، ويهيج سخطنا باسمه، فنطويه في ضميرنا، ونؤثر أن نذكره بوصف منكر ليس من أوصافه، ولا هو مما يذكره الناس به، مالت بنا ثورة الغضب عن نهج الحقيقة والصواب، تنفيسًا واسترواحًا.

(ب) ويحل ضمير المذكر محل ضمير المؤنث أيضًا في قول الله تعالى في سورة عبس: ﴿ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 11 - 16].

 

وقبل هذه الآيات آيات أخر، بدئت بها السورة، وفيها يعاتب الله نبيه في عبدالله بن أم مكتوم، فبينما كان الرسول - صلوات الله عليه - في نفر من سادات قريش يدعوهم إلى الإسلام - أقبل ابن أم مكتوم، وكان أعمى فلم يعلم اشتغال الرسول بهم وإقباله عليهم، فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكره الرسول أن يقطع حديثه، فعبس، وأعرض عنه، وجاءت بعد آيات هذه القصة الآيات الَّتي معنا تعقيبًا عليها، ودعوة إلى تذكرها والتأدب بأدبها، ويلاحظ أن الضمير في (ذكره) لمذكر، وأن مرجعه مؤنث، وهو (تذكرة)، فلم يطابق الضمير مرجعه، تخالفًا بالتذكير والتأنيث، ويقول الفراء في ذلك: "ذكر القرآن، ثم رجع التذكير إلى الوحي"[35]، ويقول الزمخشري: "وذكر الضمير، لأنَّ التذكير في معنى الذكر"[36]، ويقول الجلال المحلي: "إن المعنى حفظ ذلك فاتعظ به".

ويشرح المغفور له الشيخ عبدالرحمن تاج قول الجلال، فيقول: "إن الضمير عائد على القرآن، وهو إن لم يجر له ذكر في هذا المقام فهو معهود معلوم على كل حال، ويؤيده ما جاءت به الآية التالية في قوله تعالى: ﴿ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾ [عبس: 13 - 16]، فإن المعهود المعروف أن هذه أوصاف القرآن الكريم"[37].

 

فالزمخشري يذهب وحده إلى أنَّ ضمير (ذكره) عائد على (تذكرة)، وأنها مصدر، والمصدر معناه الحدث، وهو مذكر؛ أي: إن (تذكرة) مؤنثة اللفظ مذكرة المعنى، والتأويل على هذا: أن في هذا الذي كان من التلهِّي عن ابن أم مكتوم وعتاب الله عليه، موعظة لمن شاء أن يتعظ إذا وعاه وتدبره.

أما الآخرون فمرجع الضمير عندهم هو القرآن الكريم، لا يمنع من عودته عليه أنه لم يُذكَر في الكلام قبله، لأن المقام يدل عليه، وفي الآيات التالية أوصاف لا يوصف بها غيره في المعتاد المألوف، والتقدير على هذا: أن في هذه القصة موعظة، فمن شاء حفظ القرآن وتدبره، ليزداد وعظًا ورشادًا.

 

ويزيد على ذلك أنَّ العربية تتوسع في مرجع الضمير، ولا تلتزم ذكره بلفظه في كل مقام، غناء عنه بدلالة المقام أو فحوى الكلام عليه، فقد أُغفل ذكره واستُغني عنه بالمصدر المفهوم من الفعل المذكور قبله في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]، ففي (كان) ضمير يعود على الإنفاق الذي يتضمنه الفعل (أنفقوا)، والتقدير: وكان إنفاقهم قوامًا بين الإسراف والتقتير.

وعاد على المعروف المعتاد، وما تشير الفحوى إليه في قوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 66، 67]، فضمير (به) يعود على البيت العتيق أو الحرم، وليس له ذكر في الكلام، لكن سوغ إضماره أنهم كانوا يفخرون به، ويتباهون بالولاية عليه، عرف ذلك عنهم، وشاع فيهم، حتى صار كالأمارة عليهم، وعاد على مثله في قوله سبحانه: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ [النحل: 61]، فضمير (عليها) يعود على الأرض، أشار إليها ذكر (دابة)، فهي تعيش على ظهر الأرض، وعاد على مثله في قول ابن قيس الرقيَّات يمدح عبدالعزيز بن مروان:

فَدَلَّهَا  الحُبُّ   فَاشْتَفَيْتُ   كَمَا ♦♦♦ تشْفَى دِمَاءُ المُلُوكِ مِنْ كَلَبِهْ [38]

 

فضمير (كلبه) للكلب، تذكر به العقيدة الفاشية فيهم أن دواء الكلب قطرة من دم ملك تخلط بماء ثم يسقاه الكليب، وفي هذا المعنى يقول الكميت:

أَحْلامُكُمْ   لِسَقَامِ   الجَهْلِ    شَافِيَةٌ ♦♦♦ كَمَا دِمَاؤُكُمُ يُشْفَى بِهَا الكَلَبُ[39]

 

وعندي أن كلا التأويلين مقبول، وله سند من اللغة، لكن الثاني أقرب إلى الطبع، وأدخل في الفهم.

 

وبعد، فإن في تذكير الضمير ليعود على القرآن الكريم، تنبيهًا للغافل ليذكر أن القرآن هو المنهل الفياض، والأصل الجامع الذي يأخذ عنه المهتدون ما شاء الله أن يأخذوا من المواعظ والحكم، وما هذه الموعظة الَّتي تستخلص من قصة ابن أم مكتوم إلا مثال مقتبس منه، وقطرة من فيضه العميم، والله سبحانه أعلم.

وبعد، فعسى ألا أكون فيما قلت عن كتاب الله - قد جَنَحْت إلى زيغ، أو خبطت على غير هدى، فما هي أولاً وأخيرًا إلا نية صالحة حاكت في صدرى، ورغبة صادقة قد شدت من عزمي، فأقبلت على هذه الدراسات، حفيًّا بها، جادًا فيها، على رجاء في الله أن يهب لي من لدنه توفيقًا فيها وسدادًا جزاء النية الصالحة والرغبة الصادقة.

 

فإن يكن عداني ما ارتجيت من التوفيق والسداد - فمجتهد أخطأ، ومحاول أخفق، وما يزال المرء يخطئ ويصيب، وسيظل كذلك ما دام خلقًا من البشر، يقعد به القصور أحيانًا، وتنوشه الغفلة والنسيان أحيانًا أخرى.

 

وسبحان من تفرد بالكمال وحده، لا إله إلا هو رب العالمين.

 

 


 

[1] الهيم: الإبل التي أصيبت بالهيام، وهو داء لا تروى معه، جمع أهيم.

[2] "الروض الأنف": 1/ 288.

[3] المُهْل: دُرْدِيُّ الزَّيتِ.

[4] "البحر المحيط": 8/ 210.

[5] حِجْر: مَحجور ومَمنوع.

[6] تُريحون: تردُّونها إلى المراح؛ أي: المأوى، تَسرحُون: تدعونها ترعى حيث تَشاء.

[7] الفَرْثُ: بقايا الطعام في الكرش.

[8] "الكتاب": 2/ 17.

[9] المصدر السابق: 2/ 316.

[10] "معاني القرآن" للفرَّاء: 2/ 108، 109، ونتفت: سمنت.

[11] البيت لقيس بن الحصَين بن يزيد الحارثي، كما في "الكتاب" 1/ 65.

[12] "الكشَّاف": 1/ 528.

[13] "البحر المحيط": 5/ 508.

[14] السكر: كل ما يُسكِر.

[15] الصبغ: ما يؤتَدَم به.

[16] تُورون: أورَى النار: أوقدها.

[17] البرزَخ: ما بين الموت والبَعث.

[18] "معاني القرآن": 2/ 241، 242، والآية في سورة مريم: 9، وهي هنا بقراءة حمزة والكسائي، وقراءة الباقين: ﴿ خَلَقْتُكَ ﴾ [مريم: 9]، كَما في "إتحاف فضلاء البشر": 181.

[19] "الكشاف": 2/ 79، وعجز البيت: وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلاَ بَرْدَا

والنقاخ، بضم ففتح: الماء البارد، والبرد: النوم، والبيت للعرجي كما في "شواهد الكشاف": 33.

[20] ديارًا: أحدًا.

[21] "معاني القرآن": 3/ 71.

[22] "الكشاف":2/ 395.

[23] "الكشاف":1/392.

[24] "الكتاب":1/114، "وشرح التصريح":1/272.

[25] كظيم: يملك نفسه عند الغضب، هون: خزي.

[26] "ديوان الحماسة": 2/ 242، القرب: جمع القراب، وهو غمد السيف.

[27] "الكشاف": 2/ 348، 526، و"البحر المحيط": 5/ 504.

[28] الأحماء: جمع حما، من يكون من أقارب الزوج من الرجال، وأبو الزوج.

[29] أقربت: قرب أوان ولادتها.

[30] "الكشاف": 2/ 526.

[31] "الإنصاف": 1/ 99.

[32] "تفسير القرطبي": 10/ 147.

[33] "الكشاف": 2/526.

[34] مَقرورُة: أصابها القر، أي: البرد، المعاوز: خرق يلف بها الصبي، الآمة: ما يعلق بسرة المولود إذا سقط من بطن أمه ("اللسان": عوز، و"تفسير القرطبي": 16/ 230، 231).

[35] "معاني القرآن": 3/236.

[36] "الكشاف": 2/425.

[37] مجلة مجمع اللغة العربية ج 36، نوفمبر 1975.

[38] الديوان: 10.

[39] "اللسان": كلب.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • لماذا سميت سورة هود بهذا الاسم؟
  • الإبانة في تفصيل ماءات القرآن
  • كلمة "جيد" في القرآن الكريم وكلام العرب
  • المشوق إلى القرآن الكريم
  • القرآن الكريم يصور هذا الحدث

مختارات من الشبكة

  • خروج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر في القرآن (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • من أسرار التعبير بحروف الجر على خلاف مقتضى الظاهر فيما اتفق عليه الشيخان (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • إيراد الكلام على خلاف مقتضى الظاهر(مقالة - حضارة الكلمة)
  • حضور الجن في صورة الإنس والحيوانات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من جماليات الظاهر: النظافة والعناية بالملبس(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • هل الرياء يعد صورة من صور النفاق(مادة مرئية - موقع موقع الأستاذ الدكتور سعد بن عبدالله الحميد)
  • حديث: من صور صورة في الدنيا...(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • صورة من صور الإيمان الحق في قبسات من كتاب الله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حياتنا ووسائل التواصل(مقالة - آفاق الشريعة)
  • آداب الحياة الزوجية كما صورها القرآن الكريم والسنة النبوية(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
1- استفسار
أمل محمد - السعودية 03-11-2018 07:17 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحاول البحث عن الكتاب كاملا لنقل المعلومات التي ذكرت هنا وتوثيقها في رسالتي الماجستير لكن لم أجد في النت إلا الجزء الثاني
هل يمكن توجيهي للمصدر؟
شكرا لك

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب