• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    ماذا سيخسر العالم بموتك؟ (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    فقه الطهارة والصلاة والصيام للأطفال
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    ثمرة محبة الله للعبد (خطبة)
    د. أحمد بن حمد البوعلي
  •  
    خطبة: القلق من المستقبل
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    فوائد وعبر من قصة يوشع بن نون عليه السلام (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    خطبة: المخدرات والمسكرات
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    {وما النصر إلا من عند الله} ورسائل للمسلمين
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الرزاق، ...
    فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
  •  
    الأحق بالإمامة في صلاة الجنازة
    عبد رب الصالحين أبو ضيف العتموني
  •  
    فضل الصبر على المدين
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    تفسير قوله تعالى: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ...
    سعيد مصطفى دياب
  •  
    محاسن الإرث في الإسلام (خطبة)
    الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
  •  
    تفسير: (لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    علامات الساعة (2)
    تركي بن إبراهيم الخنيزان
  •  
    ما جاء في فصل الصيف
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    أحكام التعاقد بالوكالة المستترة وآثاره: دراسة ...
    د. ياسر بن عبدالرحمن العدل
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / فقه وأصوله
علامة باركود

صفحات من علم أصول الفقه لفضيلة الشيخ محمد أبي زهرة

محمود داود دسوقي خطابي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 24/5/2010 ميلادي - 10/6/1431 هجري

الزيارات: 129445

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

صفحات من علم أصول الفقه

لفضيلة الشيخ محمد أبي زهرة

المتوفى سنة 1394هـ - 1974م

رحمه الله تعالى


المقدمة:

الحمد لله مُنزل القرآن، والبادئ بالإحسان، والعائد بالامتنان، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - خير ولد عدنان، وعلى آله وصحبه وتابعيهم في كل مكان وزمان.

 

أما بَعْدُ:

فقد منَّ الله - تعالى - علينا بمننٍ عظام، وآلاء جسام، أفضلُها بعثه إلينا سيِّدنا محمدًا - عليه الصلاة والسلام - الذي جاء بشريعة محمدية مَنْ حكَّمها صار عاليَ المقام، ولقد تنوعتْ إسهامات علماء المسلمين في نصرة هذه الشريعة المحمدية الغرَّاء، كلٌّ حسب تخصُّصه وفنه، بدْءًا من الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - ومرورًا بأئمة الإسلام، إلى أن يرث الله - تعالى - الأرض ومَن عليها، فكلٌّ أدلى بدلوه، سواء فيما له تعلُّق بالقرآن الكريم وعلومه، أو السنة المطهرة وعلومها، أو الفقه وأصوله، أو الدين وأصوله، أو اللغة... وهكذا، ومما تجدر الحاجة إليه علم أصول الفقه، سواء كان عالمًا أو مُتَعَلِّمًا.

 

أما العالِم،  فبه يستنبط الأحكام، ويوازن بين الأدلة، ويتعرَّف على مقاصد الشريعة والتشريع، مع مقارنة مناهج المتقدمين ومصادرهم ومواردهم، ولا يتجاوز مواطن الإجماع، ويُؤَصِّل ويُقَعِّد المسائل، على غرار ما ابتدأه الأوائلُ من الأئمة المتقدمين، فيجتهد كما اجتهدوا.

 

وأما طالبُ العلم، فيحتاج إلى علْم أصول الفقه؛ ليفهم مصطلحات الأئمة ومآخذهم، وأسباب الاجتماع أو الاختلاف، وليساعده على فَهم الشريعة، وليظهر له ما خفي عليه من خلال الاطلاع على دلالات الألفاظ والمصطلحات، فيكون علم أصول الفقه كقانون يفهم بمقاييسه أمور الشريعة المحمديَّة الغرَّاء، ويكون ذلك بالتقيُّد بالوحي المعصوم، الذي لا يأتيه الباطل مِن بين يديه ولا مِنْ خلفه، وقد كان للإمام الشافعي (ت 204 هـ) قَصَبُ السَّبْقِ والقَدَحُ المُعَلَّى في ذلك الفن؛ لكونه أول مَنْ ألَّفَ في أصول الفقه في كتابه الماتع: "الرسالة"[1]، كما ألمع إلى ذلك الإمامُ شرف الدين العِمْرِيطي[2] (ت حدود 890 هـ) بقوله:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَدْ أَظْهَرَا
عِلْمَ الأُصُولِ لِلْوَرَى وَأَشْهَرَا
عَلَى لِسَانِ الشَّافِعِي وَهَوَّنَا
فَهْوَ الَّذِي لَهُ ابْتِدَاءً دَوَّنَا

وقد أكْثَرَ العلماءُ المتقدِّمون والمتأخرون من التأليف في أصول الفقه بعد الإمام الشافعي - رحمهم الله تعالى أجمعين - وقد جعلتُ كتاب العلامة الشيخ محمد أبي زَهْرَة (ت 1974 م) الموسوم بـ: "أصول الفقه"، أصلاً لهذه الصفحات؛ لما لِمُؤلِّفِهِ من منزلةٍ علمية، وعلو شأنٍ في البحث والتحرِّي والإنصاف، وما كان مِنْ غَيْره فقد ييَّنْتُهُ وأحلتُ إليه.

 

واللهَ وَحْدَهُ أسألُ أن يجعلَه خالصًا لِوَجْهه الكريم، يَوْم لا ينْفع مالٌ ولا بنون، إلا مَنْ أتى الله بقلْبٍ سليم.

 

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيِّه محمدٍ الأمين - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون.

 

 

نشأة علم أصول الفقه:

نشأ علمُ أُصُول الفقه مع علْم الفقه، وإنْ كان الفقه قد دُوِّن قبله؛ لأنه حيث يكون فقهٌ يكون حتمًا منهاجٌ للاستنباط، وحيث كان المنهجُ يكون حتمًا لا محالة أصول الفقه.

 

فمِن عصْر الصحابة - رضي الله عنهم - كان بعضُهم ينْهج نهج الحُكْم بالمآل، والحكم بالذرائع، واستخدام قواعد النسْخ... فما كان فقهاء الصحابة - رضي الله عنهم - يقولون أقوالهم مِن غير قيد ضابط؛ بل كانوا يلتزمون في فتواهم مناهجَ، وإن لم يُصَرِّحوا في كل الأحوال بها؛ اكتفاءً بأن عصرهم عصْر فصاحة، وغالبًا السائل مثل المسؤول في الفصاحة، لكن هؤلاءِ فقهاء، وهؤلاء ليسوا كذلك، حتى إذا انتقلْنا إلى عصْر التابعين وجَدْنا الاستنباط يتَّسع؛ لكثرة الحوادث، ولعُكُوف طائفة من التابعين على الفتْوى، ومنهم من كان ينهج منهاج المصْلحة إن لَم يكن هناك نصٌّ، ومنهم مَن ينهج منْهاج القياس واسْتِخراج عِلَلِ الأقيسةِ وضبطها والتفريع عليها بتطْبيق تلك العِلل على الفُرُوع المختلفة.

 

فإذا تجاوَزْنا عصْر التابعين، وَوَصَلْنا إلى عصْر الأئمة المجتهدين، نجد أنَّ المناهج تَتَميَّز بشكلٍ أوضح، وهكذا إلى أن جاء الإمام محمد بن إدريس الشافعيُّ المُطَّلِبِيُّ، فدوَّن علم أصول الفقه، ورسم مناهج الاستنباط، وبَيَّنَ ينابيع الفقه، وَوَضَّح معالِم ذلك العلْم الجليل.

 

ذلك أنَّ الإمام الشافعي وجَد ثرْوةً فقهيَّة أثرتْ عمن قبله، ووجد هناك جدالاً بين أهل الرأي في العراق وأهل الأثر بالمدينة المنورة، وكان ذلك بطلب مِن عَصْرِيِّه الإمامِ عبدِالرحمنِ بنِ مَهْدِي (ت 198 هـ) "أن يضع له كتابًا فيه معاني القرآن، ويجمع قَبُول الأخبار، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة"[3]؛ انتهى.

 

فهداه الله - تعالى - إلى وضع موازين يتبيَّن بها الخطأ من الصواب في الاجتهاد، فكانت تلك الموازين هي أصولَ الفقه.

 

ولا غرابة أن يكون وضع علم أصول الفقه بعد علم الفقه تدوينًا، فالنحو تأخَّر عن النطق بالفُصحى، وعلم العروض تأخر عن الشعر.

 

ولقد كانت منَّة من الله - تعالى - كبيرة على الإمام الشافعي؛ حيث آتاه الله - تعالى - علمًا دقيقًا باللغة العربية الفصحى، ونظمًا للشعر، وأوتي علم الفقه من أهله، وعلم الحديث كذلك، مع ما آتاه الله - تعالى - من الديانة التي شهد بها المُخالِف قبل الموافق، ورآه القاصي والداني، فرحمه الله - تعالى - وإيانا وسائر المسلمين بمنِّه وكرمه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

أُصُول الفقه والفقه والقواعد الفقهيَّة:

هناك فرْق بين الفِقْه وأُصُول الفقه والقواعد الفقهيَّة:

أصول الفقه: "هي المناهج التي تَحُدُّ وتُبَيِّن الطريق الذي يلتزمه الفقيه في استخراج الأحكام من أدلتها، ويرتب الأدلة من حيث قوتُها: فيقدم القرآن على السنة، والسنة على القياس وسائر الأدلة التي لا تقوم على النصوص المباشرة.

 

أما الفقه، فهو استخراج الأحكام مع التقيُّد بهذه المناهِج[4]"؛ انتهى.

 

وإن مثل علم أصول الفقه بالنسبة للفقه كمثل علم النحو بالنسبة للنطق العربي والكتابة العربية، فهو ميزان يضبط القلم واللِّسان، ويمنعهما من الخطأ، كذلك علم أصول الفقه هو ميزان للعقل يضبطه، وهو بالنسبة للفقيه يضبطه ويمنعه من الخطأ في الاستنباط، ولأنه ميزان فإنه يتبيَّن به الاستنباط الصحيح من الاستنباط الباطل، كما يُعرف بالنحو الكلام الصحيح من الكلام غير الصحيح، هذا "ولا شك أن الفقه مستنِدٌ في تحقق وجوده إلى الأدلة: فهو كالغصن من الشجرة[5]"؛ انتهى.

 

وأما القواعد الفقهيَّة، فهي مجموعة من الأحكام المتشابهة التي ترجع إلى قياسٍ واحدٍ يجمعُها، أو إلى ضَبْطٍ فِقْهِيٍّ يربِطُها، كقواعد المِلكية في الشريعة، وكقواعد الضمان، وكقواعد الخيارات، فهي ثمرة للأحكام الفقهية الجزئية المتفرقة، يجتهد فقيه مستوعب للمسائل فيربط بين هذه الجزئيات المتفرقة برباط، وهو القاعدة التي تحكمها أو النظرية التي تجمعها، كما ترى في "قواعد الأحكام"؛ لعز الدين بن عبدالسلام الشافعي (ت 660 هـ)، وفي "الفروق"؛ للقَرَافِي المالكي (ت 684 هـ)، وفي "الأشباه والنظائر"؛ لابن نُجَيْم الحنفي (ت 970 هـ)، وفي "القوانين"؛ لابن جُزَيِّ المالكي (ت 741 هـ)، وفي "تبصرة الحُكَّام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام"؛ لابن فَرْحُون المالكي (ت 799 هـ)، وفي "قواعد ابن رجب الكبرى" (ت 795 هـ) ففيها ضَبْطٌ لأشتات المسائل المتفرعة للمذهب الحنبلي[6]"؛ انتهى.

 

فالقواعد الفقهية يصحُّ أن يُطلقَ عليها: "النظريَّات العامة للفقه الإسلامي"، وعلى ذلك فدراسة القواعد الفقهية من قَبِيل دراسة الفقه، لا من قَبِيل دراسة أصول الفقه.

 

ومِنْ هنا يتبين أنَّ "أصول الفقه يبحث في أدلَّة الفقه، وقواعد الفقه تبحث في مسائل الفقه، وليس لها علاقة إطلاقًا بالأدلة[7]"؛ انتهى.

 

الفقه أم أصول الفقه يقدم في الدراسة؟

بكلا القولين قالتْ طائفةٌ من العلماء، فبعضهم يُقدم دراسة الفقه على دراسة أصول الفقه، وهو الأفضل؛ وذلك لأسباب، منها:

ليس كل من يَدْرُسُ الفقه يُطلَب منه الاستنباط، أو تقعيد المسائل وتأصيلها.

الحاجة ماسَّة إلى دراسة الفقه أكثر منها بالنسبة لأُصُول الفقه.

كثير ممن يقرأ يريد معرفة المسائل الفقهية ولا يتطلَّع إلى الاجتهاد.

من العلماء من يُدَرِّسُ الفقه للتلاميذ وللناس، ويُفهم المقصود دون الحاجة إلى أصول الفقه.

مسائل الفقه واضحة بنفسها، أمَّا أصول الفقه فتحتاج إلى أمثلة من الفقه؛ حتى يتضح المقصود منها على وجه التمام والكمال.

المتعلم لو درس الفقه أولاً ثم ثنَّى بأصول الفقه، فإنه سيطبق على ما درسه في الأصول على أمثلة من جميع الأبواب الفقهية؛ بخلاف دارس الأصول أولاً، فإنه كلما أراد تطبيق مسألة فإنه سوف يفهم معناها وما تدل عليه أولاً، ثم يجعلها شاهدًا ومثالاً لمبحث أصول الفقه الذي هو بصَدد الكلام عنه.

 

ولقد قرر هذا المعنى الشيخ ابن عُثَيْمِين (ت 1421 هـ) بقوله:

"قال بعض العلماء: لا بل الفقه؛ لأن الإنسان يمكن أن يعرف الفقه دون أن يرجع إلى أصول الفقه؛ لأن أصول الفقه ليستْ تبحث في الفقه، لكن تبحث في أدلة الفقه، وحينئذٍ يُمكن للإنسان أن يعرف الفقه قبل أن يعرف أصول الفقه.

وهذا هو الذي عليه العمل الجاري من قديم الزمان، حتى إن بعض العلماء - فيما نسمع - يقرؤون الفقه ولا يقرؤون أصول الفقه إطلاقًا[8]"؛ انتهى.

 

وعلى النقيض من هذا القول، اختار بعضُ العلماءِ تقديمَ أصولِ الفقهِ على الفقهِ، كما قرر ذلك الشيخ العلامة عبدالقادر بن بَدْران الدِّمَشْقِي (ت 1346 هـ) بقوله:

"ولا يُقرِئُها - يقصد: كتب الفقه للمتعلم - إياه إلا بعد إِطْلاعه على طرَف من فنِّ أصول الفقه. واعلم أنه لا يمكن للطالب أن يصير متَفَقِّهًا ما لم تكن له دراية بالأصول، ولو قرأ الفقه سِنينَ وأعوامًا، ومن ادَّعى غير ذلك، كان كلامه إما جهلاً، وإما مكابرة[9]"؛ انتهى.

 

 

أصول الفقه ومعناه:

أصول الفقه: مركب إضافي، وهو في ذاته: اسم لعلم خاص، ولكن تركيبه إضافيٌّ؛ ولذا فلا بُدَّ الآن من تعريف جزأيه: الفقه والأصول.

 

أولاً: الفقه:

الفقه لُغة: الفَهْم العميق النافذ الذي يعرف غايات الأقوال والأفعال، ومن ذلك قوله - تعالى -: ﴿ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 78].

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن يُرد الله به خيرًا، يُفقِّهه في الدين))؛ رواه الشيخان.

الفِقْه اصْطلاحًا: هو العلْم بالأحكام الشرعيَّة العَمَليَّة مِنْ أدِلتِها التفصيليَّة.

 

وعلى هذا يكون موضوع علم الفقه الأحكامَ التفصيلية لكل قضية من القضايا، فإذا ذكر مثلاً: الربا حرام قليله وكثيره، ذكر دليله من الكتاب والسنة.

 

ثانيًا: الأصول:

الأصْل لُغة: ما يُبنى عليه، وهو متَّسق مع المعنى الاصطلاحي؛ ذلك أن علم أصول الفقه عند الأصوليين هو ما يبنى عليه الفِقْه.

ومعنى أصول الفقه: هو العلم بالقواعد التي تبيِّن طريقة استخراج الأحكام من الأدلة.

فأصول الفقه: هي المناهج التي تُحَدِّد وتبِّين الطريق الذي يلتزمه الفقيه في استخراج الأحكام من أدلتها، ويرتب الأدلة من حيثُ قوتها، فيقدم القرآن على السنة، والسنة على القياس وسائر الأدلة التي لا تقوم على النصوص مباشرة.

 

أما الفقه، فهو استخراج الأحكام مع التقيُّد بهذه المناهج.

 

اتِّجاهات العلماء حول أصول الفقه الذي توصَّل إليه الإمام الشافعي:

ألْمعتُ - فيما سبق - أنَّ الإمام الشافعي هو واضعُ علم أصول الفقه من الناحية العلمية التطبيقية، وذلك في كُتُبه: الرسالة وجماع العلم وإبطال الاستحسان.

 

وقصد الإمام الشافعي من ذلك أن يكونَ علمُ الأُصُول ميزانًا ضابطًا لمعرفة الصحيح من الآراء من غير الصحيح، وأن يكون قانونًا كليًّا تجب معرفته ومراعاته عند استنباط الأحكام في أيِّ عصرٍ منَ العُصُور، ولقد استخدم هذا المنهاج في مناقشة آراء الفقهاء التي وجدها بين يديه شائعة فاشية، ولهذا كانتْ أُصُول الفقه عند الإمام الشافعي لا تتَّجه نظريًّا فقط؛ بل كانتْ تسير في اتِّجاهات نظريَّة وعمليَّة.

 

ولقد تلقَّى الفقهاء جميعًا ما وصل إليه الإمام الشافعي في تحرير أصوله بالدراسة والفحص، ولكنهم اختلفوا من بعده على اتجاهين اثنَيْن:

فمنهم مَن اتجه شارحًا أُصُول الإمام الشافعي، مفصلاً لما أجمل، مخرِّجًا عليها.

ومنهم مَنْ أخذ بأكثر ما قرر وخالفه في جُملة تفْصيلات، وزاد بعض الأصول، ومن هؤلاء: الحنفية والمالكية، فزاد الحنفية الاستحسان والعُرف، وزاد المالكيَّة الاستِحْسان والمصالح المرْسَلة والذرائع، وعند المالكيَّة فقط عمل أهل المدينة في العصر الأول.

 

والحق أن فقهاء المذاهب الأربعة لَم يُخالفوا الإمام الشافعي في الأدلة التي قرَّرها، وهي: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والقياس.

 

وهذه الأصول مجمع عليها، والزيادة عليها موضع خلاف بينه وبين أكثرهم.

 

وقد سار الفقهاء بعد تقرر المذاهب في دراسة أصول الفقه في اتجاهَيْن مختلفَيْن:

أحدهما: اتجاه نظري، ويُعرف بـ"أصول الشافعية"، وهو لا يتأثَّر بفروع أيِّ مذهب، فهو يُقَرر المقاييس من غير تطبيقها على أيِّ مذهب؛ تأييدًا أو نقضًا، بل كانتْ عنايتُهم تتَّجه إلى تحقيق القواعد وتنْقيحها من غير اعتبارٍ مذهبي؛ بل يُريدون إنتاجَ أقوى القواعد سواء أكان يؤدي إلى خدمة مذهبهم أم لا يؤدي إلى خدمة، ولقد كان منهم مَنْ خالَفَ الإمام الشافعي في أصوله، وإن كان متبعًا له في فروعه، فمثلاً: الإمام الشافعي لا يأخذ بالإجماع السكوتي، ولكن الإمام الآمِدِيّ (ت 631 هـ) - وهو شافعي - رجَّح[10] أنَّه حُجَّة، وقد علَّق الشيخ محمد أبو زَهْرَة على ذلك بقوله: "إنَّ ذلك الاتِّجاه أفاد علم الأصول في الجملة[11]؛ فقد كان البحثُ لا يعتمد على تعصُّب مذهبي، ولَم تخضع فيه القواعد الأصوليَّة للفروع المذهبية؛ بل كانت القواعد تدرس على أنها حاكمة على الفروع، وعلى أنها دعامة الفقه"[12]؛ انتهى.

 

وثانيهما: اتِّجاه متأثر بالفروع، ويُعرف بـ"أصول الحنفية"، وهو يتَّجه لخدمتها وإثبات سلامة الاجتهاد فيها؛ بمعنى: أنَّ أصحاب المذهب يجتهدون له في أن يثبتوا سلامة الأحكام الفقهيَّة التي انتهى إليها المتقدمون من مذهبهم، فيذكرون القاعدة التي تؤيد مذهبَهم، فيُقرر الحنفية مثلاً: أن العام دلالته قطعية، وبذلك يضعِّفون أخبار الآحاد التي تخالفها؛ لأنها ظنيَّة.

 

والفقهاء الذين أكثروا ابتداءً من هذا الاتجاه هم الحنفية - كما سبق - وهو الاتِّجاه المتأثِّر بالفروع، اتجه إلى قواعد الأصول؛ ليقيسوا بها فروع مذهبهم، ويثبتوا سلامتها بهذه الأقيسة، "وإنه من الإنصاف أن نقول: إن بعض الذين تصدَّوا للأصول من الشافعية والمالكية والحنابلة قد كتبوا على مناهج الحنفية في تطبيق الأصول الكلية على الفروع الجزئية، وخدموا المذهب الذي ينتمون إليه؛ فكتاب "تنقيح الفصول في علم الأصول"؛ للقَرَافِيِّ، ينهج ذلك المنهاج، ويبيِّن أُصُول المذْهب المالكي، مطبقة على فُرُوع هذا المذهب، وكذلك نجد للإِسْنَوِيِّ الشافعي - المُتَوَفَّى سنة 772 هـ - كتابًا سماه: "التمهيد في تخريج الفروع على الأصول"، وهو بهذا يُبَيِّن تطبيق الأصول المعروفة عند الشافعية على فروع المذهب الشافعي، وإن كتابات ابن تيميَّة وابن القيِّم في الأصول فيها توجيه واضح للمذهب الحنبلي.

 

ومن هذا يَتَبَيَّن أن طريقة الحنفية بعد أنِ استقامت، استخدمها كثيرون غيرُهُم من الآخذين بمذاهب الأئمة الأربعة، وإنه بعد أنِ استقامتِ الطريقتان - كل واحدة في منهاجها - وُجِدَتْ كتب فقهيَّة جمعتْ بين الطريقتَيْن: تكتب الأصول مُجَرَّدة، ثم تَتَوَلَّى تطبيقها، وتزيد ما زاد الحنفية، وقد تولى تأليفها علماء ممتازون؛ بعضهم شافعية، وبعضهم حنفيَّة، ومن هذه الكتب: كتاب "بديع النظام، الجامع بين كتاب البَزْدَوِِيِّ الحنفي - وهو فخر الإسلام علي بن محمد ت 483 هـ - والإحكام"؛ للآمِدِيِّ"، ألَّفَهُ أحمد بن علي الساعاتي البغدادي، المتوفَّى سنة 694 هـ، جمع بين أصول البَزْدَوِيِّ، وما اشتمل عليه كتاب "الإحكام" للآمِدِيِّ.

 

وجاء من بعد ذلك صدْر الشريعة عُبيدالله بن مسعود البخاري الحنفي، المتوفَّى سنة 747 هـ، وكتب كتاب "تنقيح الأصول" وشرحه بشرح سماه "التوضيح"[13]، وقد لَخَّصَ فيه أصول البَزْدَوِِيِّ[14]، و"المحصول"؛ للرَّازِي - ت606 هـ - و"المختصر"؛ لابن الحاجب المالكي - ت 646 هـ - ولقد توالت بعد ذلك الكتابات الجامعة بين الطريقتين، وكانت من ثمار ذلك كُتُب قيمة، ومنها كتاب "جمع الجوامع"[15]؛ لتاج الدين السُّبْكِيِّ الشافعي، المتوفَّى سنة 771 هـ، وكتاب "التحرير"[16]؛ لكمال الدين محمد بن عبدالواحد الشهير بـ"ابن الهُمام الحنفي"، المتوفَّى سنة 861 هـ، ومنها كتاب "مُسَلَّمُ الثُّبُوت"[17]؛ لمحب الله بن عبدالشَّكُور الهندي - ت 1119 هـ"[18]؛ انتهى.

 

وسُمِّيت الطريقة الأولى - كما مر - أصول الشافعية؛ باعتبار أن الإمام الشافعي أول مَنْ بيَّن المناهج في دراسته دراسة نظرية مجردة، وتُسمَّى أيضًا طريقة المتكلمين؛ لأن كثيرين من علماء الكلام لهم بحوث في الأصول على هذا المنْهاج النظري.

 

 

أبواب أصول الفقه:

تقدَّم الكلام أن موضوع أصول الفقه هو بيان طرائق الاستنباط، وموازين الاستدلال؛ لاستخراج الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية، ولكي تَتَمَيَّز أبوابُ هذا العلم، فلا بد من بيان حقيقة الأحكام الشرعية وأقسامها؛ لأنَّ هذه الأحكام هي التي يجري عليها الاستدلال، وبمُقتضى الدليل يكون الوصْف الذي يُعطاه فعل المكلَّف، وذلك الوصف هو الحكم، على ما سنُبَيِّن، ولذلك كان لا بُد من بيان معاني الحكم وأقسامه، وأن لهذه الأحكام مصدرًا يُعَدُّ هو الحاكم عليها، فهو الذي يعطيها الوصْف الذي يعتبر حكمها، ثُمَّ لا بُدَّ من الكلام في موضوع التكليف، وهو أفعال الناس، ولذلك كانت موضوعات أصول الفقه المقسمة على أبوابه الأربعة:

1- الحكم الشرعي: وهو الذي يجري عليه الاستدلالُ، وبمقتضى الدليل يكون الوصف الذي يُعطاه فعل المكلف.

2- الحاكم: وهو الله - سبحانه وتعالى - وطرق معرفة حكم الله - تعالى - هي الأدلة أو المصادر الشرعية لمعرفة حكم الشرع الإسلامي فيها، سواء كانتْ أدلة متفقًا عليها، أم مختلفًا فيها.

3- المحكوم فيه: وهو ذات فعل المكلف، وأنه في مقدور المكلف، مع الإشارة إلى حق الله - تعالى - الخالص، وحق العباد الخالص، وكذلك اجتماعهما وافتراقهما.

4- المحكوم عليه: وهو المكلف، وفيه يكون الكلامُ على الأهليَّة وعوارضها، والفتوى والاجتهاد، ومقاصد الشريعة المحمدية الغرَّاء.

 

الباب الأول

الحكم الشرعي

فمعرفة الحكم الشرعي هي ثمرة علم الفقه والأصول؛ كما قرَّر ذلك الإمامُ الغزالي[19] (ت 505 هـ)، فإن ثمرة هذين العلمين هي تعريف حكم الشرع فيما يتعلَّق بأفعال المكلفين؛ بَيْدَ أنَّ الأصول تنظر إلى مناهج تعرُّفه ومصادره، والفقه ينظر في استنباطه بالفعل في دائرة ما يرسمه علْمُ الأصول.

 

وقد عرف الإمام ابن الحاجب الحكم بأنه: خطابُ الشارع المتعلِّق بأفعال المكلَّفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضْع.

 

والمراد من خطاب الشارع: الوصْف الذي يعطيه الشارعُ لما يتعلَّق بأفعال المكلفين، كأن يقال: إنه حرام، أو مكروه، أو مطلوب، أو مباح، أو صحيح، أو باطل، أو هو شرط، أو سبب، أو مانع... إلى آخر العبارات المتعلقة بهذا العلم.

ومعنى كلمة اقتضاء: أي: طلب، سواء كان طلب فعل، أو طلب منع، فالحرام فيه طلب منْع لازم، والوجوب فيه طلب فعل لازم، والتخيير هو أن الشارع أجاز للمكلف أن يفعل أَوْ لا يفعل؛ مثل: الأكل في وقت معين أو النوم، من أفعال الإنسان المعتادة التي لا يتعين عليه فيه نوع واحد منها، وإن كانت جملتها مطلوبة.

ومعنى الوضع: أن يكون الشارع قد ربط بين أمرَيْن مما يتعلق بالمكلفين، كأن يربط بين الوراثة ووفاة شخص، فتكون وفاته سببًا لوراثة آخر، أو يربط بين أمرين بحيث يكون أحدهما شرطًا شرعيًّا لتحقق الآخر وترتيب آثاره؛ كاشتراط الوضوء للصلاة، وكاشتراط الشهود للنكاح.

 

ويُسمَّى الحكمُ الشرعيُّ إذا كان فيه اقتضاءٌ أو تخييرٌ حُكمًا تكليفيًّا، وإذا كان فيه ربط بين أمرين يُسمَّى حكمًا وضعيًّا.

 

وعلى ذلك ينقسِم الحكمُ الشرْعي إلى قسْمَيْن:

أ- حكم تكليفي

ب - حكم وضعي.

 

ويتَّضح ذلك من خِلال الشكل التالي[20]:


أولاً: الحكم التكْليفي: وهو ما يكون بيان الشارع فيه باقتضاء طلب الفِعْل، أو الكف عنه، أو التخْيير فيه، وذلك كما يلي:

1- إذا كان طلب الفعل ملزمًا، فهو الواجب والفرض والمحتوم واللازم (عند الجمهور)، وهو قليل مقارَنةً بالمندوب[21].

والواجب: ما يُثاب فاعله امتِثالاً، ويعاقب تاركه استحقاقًا؛ ومثاله: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، والحج، وبر الوالدين.

 

2- إذا كان طلب الفعل غير ملزم، فهو المندوب، وهو النافلة والسنة والتطوُّع والمستحب والإحسان، وهو ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه، ومثاله: صلاة النوافل.

 

3- إذا كان طلب الكف ملزمًا، فهو الحرام، وهو ما يعاقب فاعله ويثاب تاركه؛ ومثاله: فعل الفواحش؛ كالزنا، وشرب الخمر، والقتل... ثم إن المحرَّم قسْمان:

الأول: محرَّم لذاته: وهو ما قصد الشارع إلى تحريمه؛ لما فيه من ضرر ذاتي؛ كأكل الميتة، أو لحم الخنزير، أو فعل الفواحش، وغير ذلك مما يمس الضرورات الخمس، وهي:

1 - حِفْظ النفْس.

2 - حِفْظ النسْل.

3 - حِفْظ المال.

4 - حِفْظ العقْل.

5 - حِفْظ الدِّين.

 

والشيء الضروري[22]: هو الذي لا يتحقق معه المحافظة على واحد من هذه الخمسة إلا بوجوده، فما يُذهِب العقلَ يمس الضروريَّ بالنسبة للعقل، والذي يُفسد الدين يمس الضروريَّ من الدين... وهكذا.

 

الثاني محرم لغيره: وهو الذي يكون النهي فيه لا لذاته، ولكن لأنه يفضي إلى محرمٍ ذاتي؛ كالنظر إلى عورة المرأة فهو محرم؛ لأنه يفضي إلى الزنا، والزنا محرم لذاته، والبيع الربوي حرام؛ لأنه يؤدي إلى الربا المحرم لذاته، والجمع بين المحارم حرام؛ لأنه يفضي إلى القطيعة؛ ولهذا[23] يَتَبَيَّن أن من ترك الحرام لأنه ما خطر بباله غير مثاب، وكذلك من تَمَنَّى المحرَّم؛ لكنه لم يفعل أسبابه، ولَم يسعَ في تحصيله أو الحصول عليه، وكذلك مَن هَمَّ بالحرام وسعى في أسبابه، لكنه عجز عنه، فلا يُثاب هؤلاء؛ بل يعاقبون، والذي يثاب فقط هو مَن ترك الحرام طاعة لله - تعالى - وانقيادًا لكلام رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم.

 

فائدة:

قد يُطلق المحرَّم على ما يكون التحريم فيه لأمْرٍ عارض؛ ومثاله: الصلاة في الأرض المغصوبة (مع صحتها)، أو البيع وقت النداء لصلاة الجمعة، وكذلك البيع الذي يكون نتيجة للمساومة على سوم أخيه، وهكذا الخطبة على خِطبة أخيه، وغير ذلك.

 

4- إذا كان طلبُ الفِعْل غير ملزم، فهو المكروه، "ولو أصر عليه؛ لأنه ليس عليه عقاب"[24]؛ انتهى.

 

وهو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله؛ ومثاله: ما ثبت في المسند وصحيح مسلم أنَّ رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال))، وكذلك السؤال عما لا يعني.

 

5- إذا كان الطلب على التخيير، فهو المباح، وهو الحلال والجائز، وهو ما لا يُذم على فعله، "وهذا التعريف باعتبار ذات المباح، لكن باعتبار ما يكون وسيلة له، فقد يكون واجبًا ومندوبًا ومكروهًا وحرامًا"[25]؛ انتهى.

 

ومثاله: النوم والأكل والشرب والمشي.

 

وفي الجُملة المباحُ ثلاثة أقسام[26]:

1- ما صرَّح الشارع فيه بالتخيير.

2- ما لَم يرد فيه عن الشارع دليلٌ سمعي بالتخيير، لكن صرح الشارع بنفْي الحرج عن فعله.

3- ما لَم يرد فيه عن الشارع شيء، فيبقى على البراءة الأصلية.

 

وعلى ذلك تكون أقسام الحكم التكليفي عند الجمهور خمسة، وهي:

الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح؛ أي إنَّ الإباحة تثبت بأحد أمور ثلاثة، وهي:

1 - إما بنفي الإثم إن وُجِدَتْ قرينة.

2 - وإما بعدم النص على التحريم.

3 - وإما بالنص على الحِل.

 

الرُّخصة[27] والعزيمة[28]:

ومما له تعلُّق بباب الحكم التكليفي، مبحث الرخصة والعزيمة[29]؛ لأن من مقتضاه أن ينتقل ما هو موضع النهي إلى مباح، أو ما هو مطلوب على وجه الحتْم واللزوم إلى جائز الترْك في أمدٍ معلوم، فهو باب بين الانتقال من حكم تكليفي إلى آخر... فبينهما فرْق[30].

 

والعزيمة: ما شرعت ابتداءً، ويكون الفعل فيها ليس سببه وجود مانع.

والرخصة: ما شرعتْ بسبب قيام مسوِّغ لتخلُّف الحكم الأصلي.

 

وعلى ذلك تكون العزيمة حكمًا عامًّا، هو الحكم الأصلي، ويشمل الناس جميعًا، والكل مخاطب به.

 

أما الرخصة فليست الحكم الأصلي، بل هي حكم جاء مانعًا من استمرار الإلزام في الحكم الأصلي، وهي في أكثر الأحوال تنتقل من مرتبة اللزوم إلى مرتبة الإباحة؛ ومثاله: رؤية الطبيب عورةَ المرأة.

 

وللرخصة أسباب كثيرة، منها الضرورة، كمن يخشى على نفسه من الموت ولا يجد ما يأكله إلا الميتة.

ومنها دفع الحرج والمشقة؛ كالإفطار في رمضان، ورؤية الطبيب عورة المرأة.

 

(تنْبيه):

الرُّخصة تنقَسم إلى قسمَيْن: رخصة فعْل، ورُخصة ترْك.

 

وذلك التقْسيم بحسب ما جاء في العزيمة:

فَإِنْ كَانَ حُكم العزيمة يوجب تركًا، فالرخصة رخصة فعْل.

وإن كان حُكم العزيمة يوجب فعلاً، فالرخصة رخصة ترك.

 

(فائدة):

منَ الرُّخَص العظيمة التي تصدَّق الله - تعالى - علينا بها رخص السفر، وقد جمعها الإمامُ أبو حامد الغزالي في سبع رخص، فقال: "والسفر يفيد في الطهارة رخصتين: مسح الخفين والتيمم، وفي صلاة الفرْض رخصتين: القصر والجمع، وفي النفل رخصتين: أداؤه على راحلته، وأداؤه ماشيًا، وفي الصوم رخصة واحدة، وهي الفطر، فهذه سبع رخص[31]"؛ انتهى.

 

وحكم الرخصة: جواز العمل بها في مواضع الجواز؛ لأنها مما تصدَّق الله - تعالى - علينا بها، كما ثبت في الكتب الستة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الرخصة: ((صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته)).

 

كما أن اليسر رفع الحرج، وهو من مقاصد الشرع الإسلامي المطهَّر، كما قال الله - تعالى -: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال - تعالى -: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، هذا ما يَتَعَلَّق بتقْسيم الجمهور للحكم التكْليفي.

 

أمَّا الحنفيَّة، فإنَّهم يُقَسِّمون الحكم التكليفي إلى سبعة أقسام، وهي:

1 - الفرْض: ثبت اللزوم فيه بدليلٍ قطعي لا شبهة فيه.

2 - الواجب: ثبت اللزوم فيه بدليل ظني فيه شبهة.

3 - المندوب.

4 - الحرام: ثبت طلب الكف عنه بدليل قطعي لا شبهة فيه.

5 - المكروه كراهة تحريم (هو يقابل الواجب عندهم)، وهو ما ثبت طلب الكف اللازم فيه بدليل ظني فيه شبهة، وعندهم يذم فاعله، ويُثاب تاركه.

6 - المكروه كراهة تنزيه (وهو يقابل المندوب عندهم)، وتعريفه عندهم كتعريف الجمهور.

7- المباح: وتعريفه عندهم كتعريف الجمهور.

 

ثانيًا: الحكم الوضعي:

وهو يشْمل ما ربط الله - تعالى - به الأحكام الشرعية التكليفيَّة مما يتصل بها؛ من أسباب موجبة لها، وشروط لتحققها، وموانع إن وجدت زال أثر السبب.

 

والحكم الوضعي بمقتضى هذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام، كما يلي:

الحكم الوضعي: سبب وشرط ومانع.

 

أما السبب، فهو الأمر الظاهر المضبوط الذي جعله الشارع الحكيم أمارةً لوجود الحكم، وبمقتضى هذا التعريف تثبت حقيقتان:

إحداهما: أن السبب لا ينعقد سببًا إلا بجعل الشارع الحكيم له سببًا.

ثانيهما: أن الأسباب ليستْ مؤَثِّرة في وجود الأحكام التكليفيَّة؛ بل هي أمارة لظهورها ووجودها.

 

وأما الشرْط، فهو الأمر الذي يتوقف عليه وجود الحكم ويلزم من عدمه عدم الحكم، ولا يلزم من وجوده وجود الحكم، والفرق بينه وبين السبب:

♦ أنَّ الشرْط إذا وجد لا يستلزم وجوده وجود الحكم، فلا يلزم مِن وجود الوضوء - الذي هو شرْط الصلاة - وجوبها، ولا يلزم من وجود الشاهدينِ وجود عقد الزواج مع أن وجودهما (شرط لصحَّة النكاح).

♦ أما السبب، فإنه يلزم من وجوده وجود الحكم - إلا إذا كان ثَمَّةَ مانعٌ - فإذا جاء وقت الصلاة فقد وجبت الصلاة، وكذا رمضان، وإذا كان الإسْكار فقد وجد التحريم، وإذا وجدتِ السرقةُ فقد وجب الحدُّ... وهكذا.

♦ وأمَّا المانع، فهو الأمر الشرعي الذي يُنافي وجوده الغرض المقصود من السبب أو الحكم؛ ومثاله: السبب في الزكاة هو النِّصابُ، لكن قابَلَنا مانعٌ، وهو أن مالك النِّصاب مَدِين بِدَيْنٍ يعادل النِّصابَ أو بعضه، ثُمَّ إنَّ المانع قسْمان:

أحدهما: مانع مؤَثِّر في السبب؛ مثل: الدَّيْن مع النِّصاب.

الثاني: مانع يؤثِّر في الحكم فيسلبه؛ مثل: كون الأُبُوَّة مانعة من القِصاص؛ لِمَا ثَبَتَ في سنن الترمذي وصححه الألباني: أن رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((لاَ يُقَادُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ))، وفي رواية الحاكم وصححه ووافقه عليه الذهبيُّ: ((لا يُقاد مملوك من مالكه، ولا والد من ولده))، ورواه الإمام أحمد في مُسْنَده، وحسنه الأرناؤوط: ((لا يقاد الوالد من ولده))، وفي رواية الإمام ابن الجارود في "المُنتقى": ((لا يقاد الأب بابنه)).

 

فإذا وجد (السبب) وتحقق (الشرط) وزال (المانع)، ترتب على الفعل الأثرُ الشرعي والتكليف الذي ارتبط به.

ومثاله: الوقت بالنسبة للصلاة (سبب) لوجوبها، ولكن (شرط) صحتها الوضوء، فإذا مضى الوقت وشخص مجنون وهذا (مانع)، فإن الصلاة لا تجب عليه.

وكذلك الوفاة مع القرابة أو الزوجية (سبب) لوجوب الميراث، و(شرطه) حياة الوارث بعد وفاة الموروث حقيقة، وهو (المانع) من انتقال الأملاك.

 

الباب الثاني

الحاكم

وهو الله - سبحانه وتعالى - وطرق معرفة حكم الله - تعالى - هي الأدلة أو المصادر الشرعية لمعرفة حكم الشرع الإسلامي في أمر معين، أو مسألة بعينها.

 

هذا؛ والأدلة - وهي مصادر التشريع الإسلامي - قسْمان، هما:

أ - مصادر متفق عليها.

ب - مصادر مختلف فيها.

 

ويتَّضِح ذلك مِنْ خلال الشكل التالي:

الأدلة - مصادر التشريع الإسلامي -:

♦ فمن جعل كلاًّ من الكتاب والسنة معًا (النص) وأطلقهما؛ فإنَّ الأدلَّة عنده ستُصبح عشرة.

♦ وأما مَن جعلها دليلين، فإن الأدلة عنده ستصبح أحد عشر دليلاً.

 

 

أولاً: الأدلة المتفق عليها:

وهي أربعة: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والقياس.

1- الكتاب: وهو القرآن الكريم الذي نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق أمين الوحي - عليه السلام - وجاءنا بالتواتر بقراءاته العَشر، فمن أنكر منه حرفًا فقد كَفَر كفرًا مخرجًا من ملة الإسلام، وقد نزل هذا القرآنُ الكريم منجمًا في مدى ثلاث وعشرين سنة، وهي سنوات الرسالة المحمدية، ومنه مكيٌّ، وهو ما نزل قبل الهجرة، ومنه مدنيٌّ، وهو ما نزل بعد الهجرة، وعدد سُوَره ( 114) سورة، وعدد أجزائه (30) جزءًا، وهو أفضل معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - من نواحٍ كثيرة؛ أبرزها خمس نواحٍ، وهي:

أ- من الناحية البلاغية.

ب- إخباره بأحوال القرون السابقة؛ كأحوال الأنبياء، والأقوام الهالكة.

ج - إخباره عن أمور مستقبلية وقعتْ كأول سورة الروم، وانتصار المسلمين في بدر، واستخلاف المؤمنين في الأرض كما وعدهم الله - تعالى.

د- ما اشتمل عليه من حقائق علمية، ما كان يمكن أن تكون لأُمِّيٍّ لا يقرأ ولا يكتب - صلى الله عليه وسلم - كانفصال السموات والأرض وخَلْقِهما، وأصل الإنسان، والتلاقح عن طريق الريح.

هـ - شريعة الإسلام التي اشتمل عليها من أمور الحلال والحرام، والمعاملات والعبادات.

 

ويتَّضح فضْل التشريع الإسلامي من خلال مقارنته بسائر التشريعات الوضعية التي لا تحتكم إلى الوحي المعصوم.

 

والقرآن الكريم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، وهذا جزء من اعتقاد كل مؤمن؛ كما قال الإمام ابن تيميَّة (ت 728هـ): "ومن الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن كلام الله، منزَّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله - تعالى - تَكَلَّم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز[32] إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه بذلك في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله - تعالى - حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى مَنْ قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلِّغًا مؤدِّيًا.

 

وهو كلام الله حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف[33]".

 

ثم رد على من زعم خلاف هذا المعتقد، وأثبت هذا المعتقد الكريم، وهو أن القرآن الكريم كلام الله - تعالى - حقيقة؛ أثْبَتَ ذلك من تسعين وجهًا في رسالة تعرف بـ"التِّسْعِينِيَّة".

 

هذا؛ وإن المستقرئ لأحكام القرآن الكريم يجد أن البيان فيه ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي:

الأول: ما يكون بيانه فيه كاملاً، والسنة المطهرة تقرر معنى ما اشتمل عليه؛ مثل: شهود وصوم رمضان، وآية القذف واللعان.

الثاني: أن يكون نصُّ القرآن الكريم مجملاً، والسنة المطهرة تبينه؛ كالأمر بالزكاة، فإنه مجمل والسنة بينته بيانًا شافيًا.

الثالث: ما يكون أصل الحكم في القرآن الكريم بالإشارة أو العبارة، وتكمل السنة المطهرة فيه بقية أحكامه؛ مثل: عقوبة الإماء عند ارتكاب الفاحشة، وهي أن عقوبة الأمَة نصف عقوبة الحرَّة[34].

 

ولهذا وغيره؛ فغالب بيان القرآن الكريم إجماليًّا وليس تفصيليًّا؛ بل يحتاج إلى بيان من السنة المطهرة؛ لأن دلالات القرآن الكريم قد تكون قطعية وقد تكون ظنية، ومن الظنية معنى القروء، ولغو اليمين، وكيفية الصوم، لكن القرآن الكريم من ناحية السند فهو قطعي؛ لأنه متواتر.

 

وقد اشتمل القرآن الكريم على أحكام العبادات والمعاملات، والعقوبات والسير والأخلاق، والعقائد وقصص السابقين، وما يتعلَّق بالحكم، ومعاملة المسلمين لغيرهم وغيرها من أمور السياسة الشرعيَّة.

 

2- السنة: وهي أقوالُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أفعاله أو تقريراته؛ لأنه لا يقر على باطل.

 

والسنة مكملة للقرآن الكريم، وموضحة له، ومبيِّنة له، وقاضية عليه في إيضاح المراد مما فيه دلالات.

 

والحديث: متن وسند (إسناد)، ويتضح من الشكل التالي:

أما السند، فسلسلة الرجال الموصِّلة إلى المتن.

 

الصحابي لغة: الصحابة لغة: مصدر صحب، بمعنى "الصحبة "، ومنه صحابي - طبقة.

"الصحابي" و"الصاحب"، ويجمع على أصحاب وصحب، وكثر استعمال "الصحابة" بمعنى الأصحاب تابعي -طبقة.

الصحابي اصطلاحًا: من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا، ومات على ذلك (الإسلام)، ولو تخللت ذلك ردة على الأصح. تابعي طبقة.

 

التابعي لغة: التابعون جمع تابعي أو تابع، والتابع اسم فاعل، شيخ شيخ المصنف طبقة.

من "تبعه" بمعنى مشى خلفه.

التابعي اصطلاحًا: من لقي صحابيًّا مسلمًا، ومات على الإسلام، وقيل: هو من صحب الصحابي، شيخ المصنف "الإمام الترمذي مثلاً". طبقة.

 

الحديث= متن (نص الحديث) + سند (إسناد)، وهو سلسلة الرجال الموصلة إلى المتن.

ملحوظات:

1 - إذا صح الحديث - بشروطه كما سيأتي - من المصنف "الإمام الترمذي مثلاً إلى هـ، ورفعه هـ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول أو بفعل أو بصفة أو بتقرير، فهو صحيح مرفوع.

2 - إذا صح الحديث إلى (هـ) ولم يرفعه؛ بل حُكي عنه، صحيح مَوْقُوف.

3 - إذا صح الحديث إلى (د)، ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مُرْسَل.

4 - إذا سقط راوٍ مثل (ب) أو (جـ) أو (د)، فهو مُنْقَطِع "ضعيف".

5 - إذا سقط راويان متتاليان؛ مثل: (ب) و(جـ) أو (جـ) و(د)، فهو مُعْضَل "ضعيف".

6 - إذا قال المصنف مثلاً: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((...))، بأن يحذف كل السند، فهو مُعَلَّق ضعيف، أو يحذف (أ)، أو (أ) و(ب) (جـ)، فهو مُعَلَّق "ضعيف".

 

(فائدة): معلقات الصحيحين يحكم بصحتها، وذلك إن كانت بصيغة الجزم كـ "قال"، و"ذَكر" و"حكى" فهو يُحكم بصحته عن المضاف إليه.

 

أما ما ذُكر بصيغة التمريض، كـ: "قيل"، و"ذُكر"، و"حُكي"، ففيه الصحيح والحسن والضعيف.

 

وأحسن من بحث في المعلقات التي في صحيح البخاري، الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه "تغليق التعليق".

 

والسنة من حيث مجيئُها إلينا تنقسم قسمين: متواترة وآحادًا.

 

أمَّا التواتر: لغة: فهو اسم فاعل مشتق من التواتر؛ أي: التتابع، تقول: تواتر المطر؛ أي: تتابع.

اصطلاحًا: ما رواه عدد كثير تحيل العادةُ تواطؤهم (اتفاقهم) على الكذب.

 

والمتواتر قسمان: لفظي كحديث الشيخين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ))، ومعنوي كرفْع اليدين في الدعاء؛ حيث ثَبَتَ ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرابة مائة موضع، والمتواتر كله مقبول لا يُبحث في إسناده؛ إذ مجيئه بالتواتر؛ أي: مقطوع بصحته.

 

وأما الآحاد، وهو ما ليس بمتواتر، فهو قسمان: مقبول ومردود، ويتَّضح من الشكل التالي:

تقسيم خبر الآحاد بالنسبة إلى قوته وضعفه:

فكلُّ ما صحَّ إسناده من السُّنَّة المطهَّرة، فهو دليلٌ شرْعي، ما لم يُعلَم له ناسخ أو مخصص... كما هو معلوم في هذا العلم الجليل.

 

ومقام السنة مع الكتاب أنها تعاونه في بيان الأحكام الشرعية، وهذه المعاونة تتلخَّص في أمورٍ ثلاثة، وهي:

أولها: أنها تبيِّن مُبْهَمَهُ، وتفصِّل مُجْمَلَهُ، وتخصِّص عمومه، وتبيِّن ناسخه من منسوخه...، ومثاله في أحكام الصلاة والزكاة والقتال.

ثانيهما: أنها تزيد على فرائض ثبتت أصولها في القرآن الكريم بالنص، بأن تأتي بأحكام زائدةٍ مكمِّلة لهذه الأصول، ومثاله: موضوع اللعان، فقد بيَّنه القرآن الكريم بيانًا كاملاً، والسنة قررت الفصل بين الزوجين على التأبيد، وحكمة ذلك هو أن الثقة - التي هي أساس الحياة الزوجية - قد فقدتْ بينهما.

ثالثهما: أنها تأتي بحُكم ليس في القرآن الكريم نصٌّ عليه، وليس هو زيادة على نص قرآني، ومثاله: تحريم أكل الحُمر الأهلية، ولحم السباع، وأحكام الديات.

 

وعلى كل حال، لا يكاد يوجد مثال لحكم أتتْ به السنة إلا وُجِدَ لَهُ دليل قرآني، قريبًا كان أو بعيدًا، ذلك أن السنة راجعة في معناها إلى القرآن الكريم.

 

أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليست كلها للاتباع:

ويظهر ذلك مِنْ خلال استِقراء سُنَّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيرته؛ حيث قسَّم العلماء أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاثة أقسام، هي:

الأول: أعمال تتصل ببيان الشريعة؛ كصلاته - صلى الله عليه وسلم - وصومه وبيعه وحجه، فإن هذا النوع شَرْعٌ يجب اتِّباعه والتقيُّد به.

الثاني: أفعال قام الدليلُ على أنها خاصَّة بالرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ومِنْ ذلك تزوُّجه - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من أربع زوجات، ووصال الصوم.

الثالث: أعمال يعملها بمُقتضى الجِبِلَّة البشرية، أو بمقتضى العادات الجارية في بلاد العرب؛ كثيابه، وأكله.

 

وعلى هذا؛ "فإنَّ فعله - صلى الله عليه وسلم - لها - أي: الأعمال الجِبِلِّيَّة - لا يقْتضي أكثر من إباحتها اتفاقًا، وأما غيرها فإن ثَبَتَ خصوصيته بها بدليل، كانتْ خاصة به، وليست أُمَّتُهُ فيها مثله؛ كزواجه أكثر من أربع، وجواز النكاح من غير مهْر، ومُواصلة الصَّوم، وإن لَم تكن مختصة به، فإن تبيَّن أنها بيان لمُجْمَلٍ من الكتاب، أو تقييد لِمُطْلَقٍ، أو تخصيص لعام، التحقتْ بيانًا به، وكان حُكْمُها حُكْمَ ما تُبَيِّن، ويُعرف كونها بيانًا بدليلٍ قولي؛ كقوله في الصلاة: ((صَلُّوا كَمَا رأيتموني أُصَلِّى))؛ رواه البخاري، وفي الحج: ((لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فإني لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حجتي هَذِهِ))؛ رواه مسلم، أو بقرينة حال؛ كصدوره عند الحاجة إلى بيان لفظ مجمل الفعل صالح لبيانه؛ كالقطع من الكوع[35] في السرقة، وكالتيمم إلى المرفقين، فهو بيان لآيتهما - عند من يُثبت إجمالهما - فإن لم يظهر كونه خاصًّا أو مبيَّنًا، فإن عُرفت صفته من وجوب أو ندب أو إباحة، فإن أمَّته في ذلك مثله - صلَّى الله عليه وسلم"[36]، انتهى.

 

الاستنباط من النصوص:

ويكون الاستنباط من نصوص الكتاب الكريم، ومن نصوص السنة النبوية المطهرة؛ ذلك أنَّ الأدلة الشرعية قسمان:

1- نصوص: كالكتاب الكريم، والسنة النبوية المطهَّرة.

2- غير نصوص: كالقياس والاستحسان؛ لأنها ذاتها مُستنبطة من النصوص، ومشتقة منها، ومعتمدة عليها.

 

ولا بد للفقيه من معرفة بطرُق الاستنباط من النصوص، ويجمع تلك الطرقَ قسمان:

الأول: طرق معنوية: وهي الاستدلال مِن غير النُّصوص؛ كالقياس، والاستحسان، والمصالح، والذرائع، وغير ذلك.

الثاني طرُق لفظيَّة: وقواعد معرفة معاني ألفاظ النصوص، وما تدل عليه في عمومها وخصوصها، وطريق الدلالة بالمنطوق اللفظي للنص، أم هي من طريق المفهوم الذي يؤخذ من فحوى الكلام، ومعرفة القيود التي اشتملتْ عليها العبارات، ثم ما يفهم من الألفاظ أهو بالعبارة، أم هو بالإشارة، إلى غير ذلك مما تصدتْ له طرق الاستنباط اللفظي، ويتضح ذلك من خلال ما يلي:

المباحث اللفظيَّة:

إن النصوص الإسلامية هي نصوص عربية، فلا بد لفهمها والاستنباط منها أن يكونَ المستنبط عليمًا باللِّسان العربي، ومدركًا لمرامي العبارات فيه، وطرق الأداء؛ من تعبير بالحقيقة أحيانًا، وتعبير بالمجاز في أخرى، ومدى الدلالة في كل طريق من طرق الأداء؛ لأنَّ هذه المعرفة لها مداها في فهم النُّصوص، وتبيين الأحكام منها.

 

والقواعد التي من خلالها تُفهم النصوص وتُستنبط الأحكام التكليفية منها، قسمان:

أ- المدلولات اللغوية، والفهم العربي لهذه النصوص بالنسبة للقرآن الكريم، والسُّنَّة والنبويَّة المطهَّرة.

ب- ما نهجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيان أحكام القرآن الكريم، ومجموع ما تُبينه السُّنَّة النبوية المطهَّرة مِنْ أحكام النُّصوص.

 

والقواعد اللغويَّة تتَّجه في أربع نواحٍ:

1- الألفاظ مِنْ ناحية وضوحها وقوة دلالتها في المقصود منها.

2- من حيثُ طرُق هذه الدلالة، أهي بصريح العبارة أم بالإشارة ولوازم المعنى؟ أم هي بالمنطوق أم بالمفهوم؟

3- من حيث ما تشتمل عليه الألفاظ، ومدى ما تدل عليه من عموم أو خصوص، ومِنْ تقييد أو إطلاق.

4- من ناحية صيغ التكاليف.

 

وإن ما تؤَدِّيه الألفاظُ مِن معانٍ هي دلالات، وهي تنْقسم إلى:

دلالة العبارة

دلالة الإشارة

دلالة النَّص

دلالة الاقتِضاء

دلالة مفْهوم المُخالَفة

وهي المعنى المفهوم منَ اللفظ؛ سواء كان ظاهرًا فيها أم خفيًّا، وسواء كان مُحْكمًا أم غير محكم.

فكل ما يفهم من ذات اللفظ الذي وضع له - مهما تكن قوة وضوح اللفظ عليه - يعد من قَبِيل دلالة العبارة؛ ومثاله: قوله - تعالى -: ﴿ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30]، فإنه يفهم بدلالة العبارة أن شهادة الزُّور جريمة.

وهي ما يدل عليه اللفظ بغير عبارته، ولكنه يجيء نتيجة لهذه العبارة، فهو يفهم من الكلام، ولكن لا يستفاد من العبارة ذاتها.

ومثاله قوله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [النساء: 3]، فيفهم منه ما يلي:

* لا يحل له دينيًّا أن يتزوج أكثر من واحدة إذا تأكد أنه لا يعدل بين أزواجه.

* العدل مع الزوجة واجب دومًا.

* ظلم الزوجة حرام.

وتسمى مفهوم الموافقة، وتسمى دلالة الأَوْلى، وتسمى القياس الجلي، وتكون إذا كانت عبارة النص تدل على الحكم في واقعة أخرى لتحقق موجب الحكم منه.

ومثاله تحريم ضرب الوالدين من قوله - تعالى -: ﴿ فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا ﴾ [الإسراء: 23]، فإذا كان قول (أف) ونهرهما حرام، فإن ضربهما حرام مِنْ باب أَوْلَى.

وهي دلالة اللفظ على أمر لا يستقيم المعنى إلا بتقديره؛ ومثاله: قوله - تعالى -: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ﴾ [المائدة: 3]، فإن المراد تحريم الأكل لا تحريم ذاتها، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وُضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))؛ رواه ابن ماجه بإسناد حسن.

فإن الخطأ إذا وقع لا يرفع؛ وإنما المراد رفع الإثم لا رفع الخطأ، كمن قتل غيره خطأ فيرفع عنه الإثم، لكن لا ترفع عنه الدية؛ لأنه صدر عن تقصير منه.

وهي إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه إذا قيد الكلام بقيد يجعل الحكم مقصورًا على حال هذا القيد.

ومثاله: قوله - تعالى -: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [النساء: 25].

فقد أجْمع الفُقهاء على أنَّ الأَمَة لا يصح الزواج منها إذا كان في عصمته حرة، واعتبروا إباحة الأمة مشروطة بعدم القدرة على الحرة.

وهذا عند جمهور الحنفية.

(تنبيه) الأحناف لَم يأْخذوا بمفهوم المخالَفة، واستدلُّوا بأُمُورٍ:

الأول: أنَّ النُّصوص الشرعية واردة بما يدلُّ على فساد القول في الأخْذ بمفهوم المخالفة، ومن ذلك قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36]، فلو أخذ بمفهوم المخالفة لأدَّى ذلك إلى أن الظلم حرام في هذه الأشهر الأربعة فقط وغير حرام فيما عداها، مع أن الظلم حرام في كلِّ الأوقات.

 

والجواب: أن المقصود أن الظلم في هذه الأشْهُر يختلف عن الظلم في غيرها من باقي الشهور ترغيبًا وترهيبًا، ولما لها من منزلة "فقد نهى المسلمين عن هتك حُرْمتهن، وارتكاب ما حرم فيهن، كنهيه عن المظالم في هذه الأشهُر العظيمة خصوصًا؛ تشريفًا لها وتعظيمًا، فقد خصها بالذكر وإن كانت المظالم منهيًّا عنها في كل زمان[37]"؛ انتهى.

 

الثاني: قوله - تعالى -: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف: 23، 24]، فالنهي عن أن يقول: "إني فاعل" مقيد بأن فعله يكون في الغد، فلو كان يفعله بعد يومين أو ثلاثة لا يكون منهيًّا عنه إذا لم يقل: "إلا أن يشاء الله"، مع أن النهي ثابت في كل الأوقات، فلو أخذ بمفهوم المخالفة لكان مباحًا للشخص أن يقول: إني فاعل ذلك بعد شهر من غير أن يقولَ: إن شاء الله.

 

والجواب: أن الغد هو أقرب أيام المستقبل، وليس من الفصاحة أن يقول القائل: غدًا، أو: بعد غد، وبعد كذا وكذا سأفعل - إن شاء الله - بل الفصاحة التي كانتْ سجيَّة في العرب الذين بُعث فيهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ونزل القرآن الكريم بلغتهم تعني أن الغد لكلِّ مستقبل.

 

ثم المستدل بهذا الكلام كالمستدل بأن العدد له مفهوم، بتجاوزه يختلف الحكم، كما في نهي الله تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - عن الاستغفار للمنافقين سبعين مرة؛ كما قال الله - تعالى -: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 80]، فهل لو استغفر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى وسبعين مرة، فسيغفر الله - تعالى - لهم؟ هذا الفهم كسابقه، ولينتبه أن القرآن الكريم نزل بلغة العرب وعلى طبيعتهم في فهم دلالات نصوصها.

 

الثالث: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة))؛ رواه أبو داود، وصحَّحه ابن حبان، قالوا: فإن بمفهومه يفيد النهي عن التبول في الماء الساكن والنهي عن الاغتسال، ويفيد بمفهوم المخالفة حل الاغتسال منه بغير الجنابة!

 

والجواب كسابقه في مسألة لُغة العرب وتطبيقهم للدلالات، وإنما تذكر الجنابة؛ لأن الإنسان تكون طهارته أوجب، ويحرص على التطهر أكثر من الاغتسال تبردًا مثلاً، وهذا كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة....))؛ أخرجه الشيخان، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا خرجت المرأة إلى المسجد، فلتغتسل من الطيب كما تغتسل من الجنابة))؛ رواه النَّسائي وصححه الألباني، وعند أبي داود - وصححه الألباني - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تُقبل صلاة لامرأة تتطيب لهذا المسجد، حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة)).

 

وهذا الاستدلال كمَنْ يستدل على أن التحريم في قول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90] أنَّ التحريم لا يكون إلا باجتماعها، وهكذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري: ((ليكوننَّ أناس من أمتي يستحلون الحِرَ والحرير، والخمر والمعازف))، قالوا: التحريم لا بد أن يشمل الأربعة، وعلى قولهم: لو فعل واحدة فلا حرج عليه.

 

الرابع: قوله - تعالى -: ﴿ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾ [النساء: 23]، قالوا: لا يمكن أن يؤخذ بالوصف الأول بمفهوم المخالفة؛ لأنه يكون الحل إذا لم تكن الربيبة في الحجر، وذلك خلاف الإجماع، ولم يشذ عنه إلا الإمام ابن حزم (ت 456 هـ)، ولا يلتفت لخلافه.

 

والجواب: أن الوصف هنا الغرض منه التنفير من زواج الربيبة؛ لأنه في الغالب تكون الربيبة مع أمِّها.

 

الخامس: قالوا: إن الأحكام في نظر الجمهور مُعَللة، وإذا كانتْ معللة فإنها تتعدى إلى غير موضع من النص، وعلى ذلك لا يكون خلاف الحكم المقيد دائمًا خاليًا من الحكم المنصوص عليه حتى يجري فيه نقيض الحكم؛ لأنه قد يكون مما يتحقق فيه علَّة الحكم، فيكون من غير المعقول أن يثبتَ فيه نقيض الحكم بمفهوم المخالفة.

 

ومِنْ مُقتضاه ألا يحكم بمفهوم المخالَفة في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية؛ بل يؤخذ فقط بالدلالة المشتقة من المنطوق أو المتلاقية معه في الحكم؛ هكذا قالوا.

 

وأجاب الجمهور بقولهم: إن القيد لا بد أن يكون لسبب، وذلك السبب إذا لم يثبت أنه للترغيب ولا الترهيب ولا لأي مقصد آخر، فإنه - بلا شك - يكون لتقييد الحكم بحال واحدة، لا يتجاوزها إلى غيرها، وبذلك النص المقيد يستفاد إيجابًا وسلبًا:

إيجابًا: بذكر الحكم في المنطوق، وسلبًا: في غير المنطوق، والحكم إما حل أو تحريم، فإذا كان الحل مقيدًا بهذا القيد، فإذا تخلف القيد يكون التحريمُ، وإذا كان الحكم المنطوق به يفيد التحريم مُقيدًا بقيد، فإذا ذهب القيد كان الحِلُّ.

واستدلوا من النصوص إلزامًا للحنفية الذين يتفقون مع الجمهور مع مخالفتهم في الأخْذ بمفهوم المخالفة، وذلك يتَّضح بما يلي:

1- حديث السائمة: (وقد رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وصححه ابن حبان، وابن خزيمة، والحاكم، والذهبي)، أثبت الزكاة في السائمة التي ترعى في كلأ مباحٍ، ونفاها في غير السائمة، وقد قرر ذلك جمهور الفقهاء، وفيهم الحنفية، ولم يخالف إلا الإمام مالك (ت 179 هـ)، الذي قرر أن المعلوفة تجب فيها الزكاة؛ لعموم حديث البخاري: ((في كل خمس شاة))، وكذلك لمعارضة المطلق والمقيد، وعندهم أن عموم اللفظ أقوى من دليل الخطاب، وهنا وافق الحنفية الجمهور، مع كونهم لا يأخذون بمفهوم المخالفة.

 

2- استدلوا بإجماع الفقهاء على أن الأَمَة لا يصح الزواج بها إلا إذا كانت في عصمته حرة، واعتبروا إباحة الأمَة مشْروطة بعدم القدرة على الحرة، وأخذوا ذلك من قوله - تعالى -: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [النساء: 25].

 

وهذا النصُّ لا يُمكن أن يفيد ذلك، إلا إذا أخذنا بمفهوم المخالفة، ولو لم يؤخذ بمفهوم المخالفة[38] لكانت الأمة يجوز زواجها في كل حال، باعتبار أنها سبب من أسباب التحريم، وبمقتضى قوله - تعالى -: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ [النساء: 24].

 

المُجْمَل والمُبَيَّن:

المُجْمَل: هو الذي ينْطوي في معْناه عدة أحوال وأحكام قد جُمعت فيه، ولا يُمكن معرفتها إلا بمُبين، وهو الذي يؤدي إلى "إخراج المُجْمَلِ من الإجمال إلى البيان"[39]؛ انتهى.

 

وإن كثيرًا من العبادات القرآنية الخاصة بالأحكام التكليفية جاءتْ مُجْمَلَة، وفصَّلت أحكامَها وبينتْها السنةُ المطهرة، فالصلاة جاء الأمر بها مُجْمَلاً، وبينتْه السنة بالقول والعمل؛ كقوله في الصلاة: ((صَلُّوا كَمَا رأيتموني أُصَلِّي))؛ رواه البخاري، وكقوله في الحج: ((لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ؛ فإني لاَ أَدْرِي لَعَلِّي لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حجتي هَذِهِ))؛ رواه مسلم، ومثلهما الزكاة والبيوع، وأحكام الجنايات والقِصاص، وغير ذلك.

 

وهكذا لا تجد مُجْمَلاً قد ذُكِرَ في القرآن الكريم إلا وبينتْه السنة المشرفة بتفصيل أحكامه تفصيلاً لا يدَعُ موْضع إبْهام من بعده.

 

العام والخاص:

العام: هو اللفظ الدالُّ على كثيرين، المستغرق في دلالته لجميع ما يصلح له بحسب وضْع واحد.

 

وعند معارضة عام القرآن وأخبار الآحاد؛ فعند الإمامين: الشافعي وأحمد، فإن آحاد الحديث يخصص عام القرآن، فيصير العام غير دالٍّ على كل ما يشتمل عليه لفظه؛ بل على بعض ما يشتمل عليه، وعند الحنفيَّة عام القرآن لا يخصص بآحاد السنة - أي: لا بد أن يساويه في القطعية والظنية - وعند المالكية يخصص بآحاد السنة، بأحد شرطين:

أ- إن عاضَدَه عملُ أهل المدينة.

ب- إن عاضَدَه قياسٌ.

 

المطلق والمقيد:

المطلق: هو الذي يدلُّ على موضوعه من غير نظر إلى الوحدة أو الجمع أو الوصف؛ بل يدل على الماهية من حيث هي؛ كالرقبة في قوله - تعالى -: ﴿ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾ [البلد: 13]، وقوله - تعالى -: ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ [المجادلة: 3]، تدل على المطالبة بعتق رقبة، من غير ملاحظة أن تكون واحدة أو أكثر، ومن غير ملاحظة كونها مؤمنة أم لا؛ بل المطلوب عتق ما يسمَّى رقبة.

أمَّا العام، فإنه يدل على الماهية، باعتبار تعددها؛ فقوله - تعالى - في سورة القتال: ﴿ فَضَرْبَ الرِّقَابِ ﴾ [محمد: 4]، لفظ عام يعمُّ المقاتلين.

 

أما المقيد، فهو يدل على الماهية مُقيدة بوصْف، أو بحال، أو غاية، أو شرط، أو بعبارة عامة مقيدة؛ كقوله - تعالى -: ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ﴾ [النساء: 92] قيد بوصْف، وأما الشرط فمِثْل قوله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ﴾ [المائدة: 89]، فصيام ثلاثة أيام مقيد بألا يجد رقبة ولا طعامًا ولا كسوة، ومثال التقييد بالغاية قوله - تعالى -: ﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ [البقرة: 187]، فالصوم مقيد بغاية[40]، وهي الليل، فلا يجوز صوم الوِصَال.

 

الأمْر والنَّهي:

منَ المعلوم في لُغة العرب الفصيحة دلالة الأمر بالشيء والنهي عنه، ويتَّضح ذلك مِنْ خِلال التعرُّف على ما يلي:

الأَمْر:

وهو طلب الفعل على جهة الاستعلاء؛ أي: إن الآمر يكون أعلى من المأمور، وصيغة الأمر في اللغة العربية هي: افْعَلْ وَلْتَفْعَلْ، وهي تدل على الطلب بأصل وضعها، وفي غير الطلب مجازي؛ للإرشاد، والتهديد، والإهانة، والدعاء.

 

والأصل في الأمر الوجوب الحتمي اللازم؛ لأن ذلك هو الكثير الغالب، إلا إذا قام الدليل على خلاف ذلك، وما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب، إن كان سببًا وفي مقدور المكلف، والأمر بالشيء نهي عن ضده[41].

 

النهي:

وهو طلب الكفِّ عن فِعْل، والنهي عن الأمر يقْتضي طلب الكف الحتمي.

 

وعند تعارُض الأدلة فلا بد من التوفيق بينها بأوجه من أوجه التوفيق بين الأدلة؛ لأن الإعمال للأدلة خير من الإهمال، وذلك كما يلي:

1- أن يكون أحدهما عامًّا، والآخر خاصًّا، فيُخصِّصُ الخاصُّ العامَّ، ويكون العامُّ غير وارد فيما اشتمل عليه حكم الخاصِّ.

2- أن يُؤولَ أحدُ النَّصَّيْنِ بحيث يتلاقى مع النص الآخر، إذا كان أحد النصين يتفق مع أمر مقرر من أمور الشريعة، والآخر يخالف ذلك المقرر.

 

فإذا لَم يكن التأويل، أخذ المجتهد بأقواهما سندًا؛ كآية وخبر آحاد، وإن تساويا في القوة ولَم يعلم المجتهد زمن كل واحد فيهما، توقف حتى يعرف وجهًا من أوجه الترجيح، بأن يكون أحدهما معاضَدًا بغيره، حتى يكون أقوى استدلالاً من الآخر، فإن لم يكن كذلك مثل تَقَدُّم المُحرِّم على المبُيِح وقبل التوقف، وإن عرف تاريخ أحدهما، فإن المتأخر ينسخ المتقدِّم.

 

والنسخ: رفع الشارع حكمًا شرعيًّا بدليل متراخٍ، وهو أحد أوجه التوفيق بين الأدلة التي ظاهرها التعارض.


شروط النسخ أربعة، وهي:

1- أن يكون المنسوخ غير مقترن بعبارة تفيد أنه حكم أبديٌّ، ومثاله من الكتاب العزيز - حيث حكم بعدم قبول شهادة المحدود في قذف قبل توبته - قوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 4]، ومن السنة المطهرة ما ثَبَتَ في صحيح الإمام البخاري، باب: الجِهَاد مَاضٍ مَعَ البَرِّ والفاجر؛ لِقَوْلِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((الخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)).

 

2- ألا يكون الحكم المنسوخ من الأمور التي اتَّفق العقلاء على حُسْنها أو قبحها، ويُقصد بالعقلاء: أصحاب العقول الصريحة، والأفهام السليمة الصحيحة، الخالية من الشبهات والشهوات؛ لأنه يستحيل أن يتعارض نصٌّ صحيح مع عقل صريح خالٍ من الشبهات والشهوات، في شريعتنا المحمدية الغراء، فإن حدث تعارُض بين نص وعقل، فلا بد وأن يكون الفساد في أحدهما: إما أن النص لا يصح وليس بثابت، وإما أن العقل فاسد وقياسه باطل[42].

 

3- أن يكونَ النصُّ الناسخ متأخِّرًا في النزول عن النص المنسوخ؛ لأنَّ النسخ: إنهاء لحكم النص الذي نُسخ حُكمُهُ.

 

4- يُصار للنسخ الضمني؛ أي: عند تعارض نصين ولا يُمكن التوفيق بينهما، بأن يتواردا على موضوع واحد بالسلب والإيجاب، ومثاله: نَسْخُ آية المواريث[43] لوصية الوارث التي اشتملتْ عليها آية الوصية[44]؛ لأنَّ النَّسخ إنهاء للحكم، وعدم إعمال للنص، ولا يُصار إلى ذلك إلا عند تعذُّر التوفيق، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ))؛ رواه الخمْسة، وقال التِّرمذي: وهو حديثٌ حسن صحيح، والحديثُ رواه ابن الجارود في "المنْتقى"، والإمام أحمد في "المسْند"، وقال الأرناؤوط: صحيح لغيره.

 

والنسْخ ثلاثة أقسام[45]، وهي:

1- ما نُسِخَ حُكْمُهُ دون رسمه: ومثاله قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنفال: 65]، فإنه نُسِخَ بقوله - تعالى -: ﴿ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 66].

 

2- ما نُسِخَ رسْمُهُ دون حُكْمِهِ: ومثاله ما أخرجه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مُسْتَدْرَكِه، وصحَّحه ووافقه عليه الذهبي، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: "كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، وكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألْبَتَّة"، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجَهْ في سننه، ولفظه: عن ابن عَبَّاس قال: قال عمر بن الخَطَّاب: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاس زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: مَا أَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، أَلاَ وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ إِذَا أُحْصِنَ الرَّجُلُ وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوِ اعْتِرَافٌ، وَقَدْ قَرَأْتُهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا ألْبَتَّةَ؛ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ"، وأصل قول عمر - رضي الله عنه - في الصحيحَيْن.

 

3- ما نُسِخَ حُكْمُهُ ورَسْمُهُ معًا: ومثاله ما رواه الإمامان: مسلم وابن حبان، وغيرهما، عَنْ أم المؤمنين أم عبدالله عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رضعات مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ".

 

للنَّسْخ حِكَمٌ كثيرةٌ، منْها:

أ- التعبُّد المطلق لله – تعالى - والتسليم لأمره - سبحانه وتعالى.

ب- التدرُّج في التشريع.

جـ - التيْسير على العباد، ورفع الحرج عنهم حسبما يلائم أحوالهم.

د - ابتلاء العباد بأُمُور غيبيَّة، لله - تعالى - فيها حِكَمٌ عظيمة، ودليل على علمه المطلق، وإحاطته بالسر وأخفى.

هـ - بيان منزلة هذه الأمَّة وفضْلها على الأمم السابقة؛ مقارنة بما كُلِّفوا به قبلنا.

 

مسالك العلة:

وهي الطرق التي يُعرَف بها ما اعتبره الشارعُ علةً، وما لم يعتبره علة.

 

وقد ثبت بالاستقراء أنَّ عِلل الأحكام تشتق من النصوص، أو من الإجماع، أو من الاستنباط الفقهي من مجموع الأحكام الشرعية.

 

1- فمنَ العِلَل التي تثبت بالنص الإسكارُ من حيث هو علة التحريم؛ فمن القرآن الكريم قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43]، ومنَ السُّنَّة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جُعل الإذن لأجل البصر))؛ رواه النَّسائي والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ولفظه: ((إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)).

 

2- ومن العلل التي تثبت بالإجماع تقديم الأخ الشقيق على الأخ لأب في الميراث؛ بسبب رجحانه بقرابة الأم، فيكون بالقياس يقدم ابن العم الشقيق على ابن العم لأب، وابن الأخ الشقيق على ابن الأخ لأب، وبالقياس يثبت تقديم الأخ الشقيق على الأخ لأب في الولاية.

 

3- إذا لَم يكن نص يبين العلة أو يومئ إليها، فإن الطريق لتَعَرُّفِها يكون الاجتهاد الفقهي بتعريف الأوصاف المختلفة في المحكوم فيه، وتعرُّف أيها يصلح وصفًا يكون مناسبًا للحكم، فمثلاً إذا ورد في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن رجلاً جامع امرأته في نهار رمضان فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فطالَبَه بكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، فلا شك أن النص معلل، ولكن ما هي علته؟ أتعتبر العلة لكونه واقعًا في نهار رمضان؟ أم مجرد الإفطار؟

 

ويسمى هذا تنقيح المناط، وهناك فرق بينه وبين تخريج المناط، وتحقيق المناط.

 

ويقصد به - أي: تنقيح المناط - أن يكون هناك علة للحكم قد تُستفاد من مجموع ما اشتمل عليه، فيتعرف الوصف الذي يصلح علة من بين هذه الأوصاف، ويستبعد الوصف الذي يكون غير مناسب، حتى ينتهي المجتهد إلى الوصف المناسب الذي يصلح علة.

 

♦ أما تخْريج المناط، فهو تعرف الوصف الذي يصلح علة، إذا لم يكن هناك بيان للعلة من النصوص بالعبارة أو الإشارة أو الإيماء، ولم يكن إجماع على علة؛ كاستنباط أن القتل الموجب للقصاص هو القتل المقصود بآلةٍ من شأنها أن تقتل عادة، فيثبت الحكم في كل قتل بأية آلة لها هذا الشأن؛ سواء كانت مستعملة في عصر التنْزيل أم لا.

♦ وأما تحقيق المناط، فهو النظر في معرفة وجوده في آحاد الصور التي ينطبق عليها وتدخل في عمومها، بعد أن تكون العلة نفسها قد عرفت بطرق المعرفة المختلفة؛ كالعدالة، فإنها مناط الإلزام في الشهادة.

 

والحق أن تعرف العلل واستخراجها من النصوص والأحكام، هو عمل الفقيه الحاذق، الذي عالج النصوص، وتحرَّى فهمها فهمًا عميقًا، وعرف مقاصد الشريعة في عمومها وفي خصوصها.

 

3- الإجماع: وهو الدليل[46] الثالث الذي يلي النصوص في القوة والاحتجاج، وهو يَعتَمِدُ عليها، وهو لا يَنْسَخ ولا يُنْسَخ، وهو اتِّفاق المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على حكم شرعي في أمرٍ منَ الأُمُور العمليَّة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين.

 

وهم - أي: أهل السنة والجماعة - يزنون بهذه الأصول الثلاثة - الكتاب والسنة والإجماع - جميع ما عليه الناس من أقوالٍ وأعمال، باطنة أو ظاهرة، مما له تعلق بالدين، والإجماع الذي ينضبط: هو ما كان عليه السلَف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف، وانتشرت الأمَّة"[47]؛ انتهى.

 

مراتب الإجماع ثلاثة:

المرتبة الأولى: الإجماع الصريح: وهو الذي اتفق جمهور الفقهاء على حجيته، وهو أن يصرح كل واحد من المجتهدين بقبول ذلك الرأي المنعقد عليه.

المرتبة الثانية: الإجماع السكوتي: وهو أن يذهب واحد من أهل الاجتهاد إلى رأي، ويعرف في عصره، ولا ينكر عليه منكر، وهو حجة، ولكن دون الإجماع الصريح في القوة.

المرتبة الثالثة: وهي أن يختلف الفقهاء في عصر من العصور على جملة آراء، فلا يصح أن يأتي شخص برأي يناقض آراءهم جميعًا، إذا كان هناك مع الاختلاف اتفاق على أصل.

 

ومثاله: مسألة ميراث الجد مع الإخوة، فحكمه كما يلي:

يُعطى مثل الإخوة، على ألا يقل عن الثلُث.

يُعطى مثل الإخوة، على ألا يقل عنِ السدُس.

يرث ويسقط ميراث الإخوة بوجوده.

 

فمع اختلافهم في كيفية القسمة له، لكن اتفقوا على أنه لا بد وأن يرث، فلا يصح أن يجيء فقيه فيقرر أنه لا يرث؛ لأنه يكون بذلك مخالفًا للإجماع، ومخالفة الإجماع ضلالة وشذوذ عن جماعة أهل السنة.

 

وقد عدَّ بعض العلماء ذلك الإجماع ضمن الإجماع السكوتي؛ كالحنفيَّة.

 

(تنبيه):

الإجْماع لا يتكوَّن إلا من المجتهدين ممن لا يدْعون إلى بدعهم؛ كالروافض، والخوارج، بخلاف مَنْ نسب إليهم الكلام والخوض في القدر أو نُسبوا إلى الإرجاء، فإن هذا لا يخرج بهم عن صفوف أهل الإجماع.

 

والمجتهد المعتبر: هو العارف بمسائل الفقه وأدلتها.

 

4- فتوى الصحابة:

والصحابي: هو مَنْ لقي[48] النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا ومات على ذلك، وإن لم يره؛ كابن أم مكتوم - رضي الله عنه - ولو تخلَّل ذلك ردَّة - والعياذ بالله تعالى.

 

والصحابة - رضي الله عنهم -: هم الذين شاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونقلوا عنه الرِّسالة المحمديَّة الغراء، وهم الذين سمعوا منه بيان الشريعة، ولذلك قرَّر جُمهور الفقهاء أن أقوالهم حجة بعد النصوص، وفتوى الصحابي لا تخرج عن ستة وجوه[49]:

أحدهما: أن يكون سمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أن يكون سمعها ممن سمعها.

الثالث: أن يكون فهمها من آية في كتاب الله - تعالى - فهمًا خفي علينا.

الرابع: أن يكون قد اتفق عليه ملؤهم، ولم ينقل إلينا إلا قول المفتي وحده.

الخامس: أن يكون رأيه لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنا، أو لقرائن اقترنت بالخطاب، أو لمجموع أمور فهمها على طول الزمان لصحبته النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهوده التنزيل، فيكون فهم ما لا نفهمه.

وعلى هذه التقادير الخمسة تكون فتواه حجة علينا.

السادس: أن يكونَ فهم ما لَم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخطأ في فهمه، وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة.

 

ومعلوم قطعًا أن وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين، هذا ما لا يشك فيه عاقل؛ ولذلك يفيد ظنًّا غالبًا قويًّا على الصواب في قوله، وليس المطلوب إلا الظن الغالب، والعمل به متعين ويكفي العارف هذا الوجه.

 

وقد علَّق الشيخ محمد أبو زَهْرَة على ذلك بقوله:

"هذا، وإن المأثور عن الأئمة الأربعة أنهم يتبعون أقوال الصحابة ولا يخرجون عنها"[50]؛ انتهى.

 

5- القياس:

وهو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه، بأمر آخر منصوص على حكمه؛ للاشتراك بينهما في علة الحكم، ومثاله ما يلي:

الأصل: الخمر.

حكمها (التحريم).

العلة (الإسكار وذهاب العقل).

 

الفرع: الحشيشة وسائر المُخَدِّرات.

حكمها (التحريم).

العلة (الإسكار وذهاب العقل).

 

فهنا تلحق الحشيشة وسائر المخدرات بحكم الخمر من التحريم؛ لاتِّفاقهما في علة ذهاب العقل.

 

والقياس من باب الخضوع لحكم التماثُل بين الأمور الذي يوجب التماثُل في أحكامها.

 

ولقد لَخَّص ذلك الإمام ابن القيِّم (ت 751 هـ) في "إعلام الموقعين" بقوله: "ومدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، فلو جاز التفْريق بين المتماثلين، لانسدتْ طرُق الاستدلال وغلقت أبوابه"[51]؛ انتهى.

 

وأركان القياس أربعة، وهي:

الأصل: وهو المصدر الذي يبين الحكم الذي يقاس عليه الفرع.

الفرع: وهو الموضوع الذي لم ينص على حكمه.

الحكم: وهو الذي اتجه القياس إلى تعدِّيه من الأصل إلى الفرع.

العلة: وهي التي قام عليها القياس، وهي ركن القياس وأساسه، وتُعرَّف العلة على أنها: "وصف ظاهر منضبط مناسب للحكم؛ كالإسكار وذهاب العقل بالنسبة للخمر".

 

أقسام القياس[52]:

قال الشيخ ابن عثيمين:

واعلم - رحمك الله - أنَّ القياس اختلف العلماء - رحمهم الله - في مورد التقسيم فيه، فمنهم من قسمه على ما مشى عليه المؤلف[53]، ومنهم من قسمه على وجْهٍ آخر، فقال: القياس نوعان: جليٌّ وخفيٌّ، وطرد وعكس.

 

فالقياس الجلي: هو الواضح الذي ثبتت علتُه بالنص، أو بما لا مجال للشكِّ فيه.

 

مثاله: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس؛ فإن ذلك يحزنه))، فهنا نصَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أن علة النص هي إحزان الأخ الثالث، فإذا وجد إحزان لأخيك في غير التناجي ثبت النهي؛ لوجود علة الإحزان، فكأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: كل ما يحزن أخاك فهو حرام، وهذا قياس جلي.

 

مثال آخر: ما رواه البخاري ومسلم - رحمهما الله عز وجل - عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك، ففي هذا الحديث رأى حذيفة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الانتباه من نوم الليل، ولا يمنع أن يكون ذلك أيضًا عند الانتباه من نوم النهار؛ لأنَّ العلَّة واحدة، وهي تغيُّر الفم بالنوم، فعلى هذا يتأكَّد السواك عند الانتباه مطلقًا، كما هو مذهب الحنابلة - رحمهم الله - بالدليل في نوم الليل، وبالقياس في نوم النهار.

 

واعلم أن القياس الواضح الجلي يعبر عنه بعض أهل العلم - كشيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - بالعموم المعنوي[54]؛ لأن العموم يكون بالألفاظ، وقد يكون بالمعاني، بمعنى أننا إذا تيقنَّا أو غلب على ظننا أن هذا المعنى الذي جاء به النص، يشمل هذا المعنى الذي لم يدخل في النص لفظًا، فإننا نقول: دخل فيه العموم المعنوي.

 

أما القياس الخفيُّ، فهو ذو العلة الخفيَّة، ولذلك يختلف العلماء في تحديدها.

 

مثاله: قياس الرُّزِّ على البُرِّ في ثبوت الربا.

 

الرُّزُّ لَم ينص عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل يقاس على البُرِّ؛ لأنهما في المطعوم، أو لا يقاس؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عيَّن كما في الصحيحين؟

الجواب: فيه احتمال، ولهذا نُسمي مثل هذا القياس قياسًا خفيًّا.

 

وأمَّا قياس الطرد، فهو أن يُقاس النظير على نظيره.

وقياس العكس: أن يقاس الشيء على ضده.

 

ومثاله: ما رواه أحمد ومسلم والنَّسائي - رحمهم الله - عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وفي بُضْع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له فيها أجر)).

 

قوله - رحمه الله -[55]: لعلةٍ أضفْه، المراد قياس العلة.

وقوله - رحمه الله -: أو دلالهْ، المراد قياس الدلالة.

وقوله - رحمه الله -: وشَبَه، المراد قياس الشبه.

 

فهذه ثلاثة أنواع للقياس، أقواها قياس العلة، ثم قياس الدلالة، ثم قياس الشبه.

 

أول أقسام القياس: وهو قياس العلة[56]، وهو ما كانت العلة فيه موجبة للحكم؛ أي: مقتضية له، بأن يكون المَقِيس (الفرع) أولى بالحكم من المَقِيس عليه (الأصل)؛ مثاله: قال - تعالى - في الوالدين: ﴿ فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾ [الاسراء: 23].

﴿ أُفّ ﴾: اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر، فلا تتضجر حتى وإن أثقلا عليك، اصبر واحتسب، ولا تنهرهما باللسان إذا سألاك شيئًا؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾ [الضحى: 10].

 

وقال - تعالى -: ﴿ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23]؛ أي: قولاً حسنًا حسب ما يقتضيه الحال؛ لأن حق الوالدين أعظم الحقوق بعد حقِّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإذا جاء إنسان، وأمره أبوه بشيء، أو أمُّه ففعل، ثم أمره ثانية ففعل، ثم أمره ثالثة، فقال: أف، فهذا حرام، فأمره الرابعة فضربه، فهذا أشد من التحريم، مع أن الضرب ليس موجودًا النهيُ عنه في الآية، ولكن إذا حرم التأفف، حرم الضرب من باب أولى؛ لأن العلة الإيذاء، وأنت إذا ضربت الوالدين آذيتهما حسًّا ومعنًى؛ أي: آذيت الجسد والقلب، وإذا قلت: أف، آذيت القلب فقط، فما يحصل به إيذاء القلب والبدن، أعظم مما يحصل به إيذاء القلب فقط.

 

إذًا هذا قياس علة؛ لأن الفرع أوْلى بالحكم من الأصل، وهذا يُسَمَّى أيضًا قياس الأَوْلى، فكل قياس أولى، فهو قياس علة.

 

مثال آخر: قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ﴾ [النساء: 10]، فجاء إنسان فقال: نهى الله عن الأكل، وأنا لن آكلها، ولكني سأحرقها، نقول: إحراقها أشد تحريمًا من أكلها؛ لأنَّ أكلها ليس فيه إضاعة مال، وإحراقها فيه إضاعة للمال وإفساد له، ومع ذلك فيه أكل لمال اليتامى، فيكون تحريم الإحراق من باب أولى، ويكون هذا قياس علَّة.

 

مثال ثالث: امرأة بِكْر قيل لها: أتريدين أن تتزوجي فلانًا؟ قالت: نعم، ففي هذه الحالة نزوجها هذا الرجل، ونقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في البكر: ((إذنها أن تسكت))؛ رواه البخاري ومسلم، فإذا كانت تزوَّج إذا سكتت، فمن باب أولى إذا تكلمتْ بالموافقة، وهذا هو قياس العلة.

 

مثال رابع: روى مسلم - رحمه الله - عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث، حتى تختلطوا بالناس؛ فإن ذلك يحزنه)).

 

ففي هذا الحديث نهى - صلى الله عليه وسلم - القوم إذا كانوا ثلاثة أن يتناجَى اثنان دون الثالث؛ من أجل إحزانه، فإذا تكلم رجلان ومعهما ثالث، وصار يشتمان هذا الثالث علنًا، فلا شكَّ أن هذا أشد إحزانًا له؛ لأنَّه في حالة التناجي يقول: ربما كانا يتكلمان فيَّ أو فِي غيري.

 

إذًا رفع الصوت بسبِّه وشتمه حرام؛ لأنه أشد إحزانًا له، فصار الضابط في قياس العلة أنه ما كان المقيس أولى بالحكم من المقيس عليه.

 

الثاني: قياس الدلالة:

فقياسُ الدلالة هو أن يكونَ الحكم في المقيس نظيرَ الحكم في المقيس عليه، يعني: هما سواء، فيستدل بهذا على نظيره، وعَليه فيكون قياس الدلالة أضعف من قياس العلة؛ لأنَّ العلَّة في قياس العلة موجبةٌ للحُكم.

 

أما قياس الدلالة، فإنَّ الدَّليل مجوز للحكم، أي: مجوز لنقل الحكم من المقيس عليه إلى المقيس؛ لأنه نظير بنظيره، وليس كدلالة العلة؛ إذ من الجائز أن يكون لهذا النظير معنى خاص يمنع الإلحاق، وهو غير معلوم لنا.

 

ومثاله: قول المؤلفُ - رحمه الله تعالى -:

كَقَولِنَا مَالُ الصَّبِيِّ تَلْزَمُ
زَكاتُهُ كَبَالِغٍ أيْ لِلنُّمُو

اختلف أهل العلم - رحمهم الله - في حكم الزكاة في مال الصبي، هل تجب أو لا؟ أما الزكاة في مال البالغ، فواجبة بالاتفاق.

 

فإذا قال قائل بقياس مال الصبي في وجوب الزكاة على مال البالغ في وجوب الزكاة، والعلة النمو، فكل منهما مالٌ نامٍ، فالثمار والغنم والإبل والبقر وعروض التجارة، تجب زكاتها إذا كانتْ لبالغ، فتجب زكاتها إذا كانت لصبي، والعلة النمُو.

أما إذا قلنا: إنها ثابتة بالنص - وهو الصحيح - فلا حاجة للقياس.

 

والزكاة في مال الصبي واجبة بالنص؛ لأن الزكاة حق المال، كما ورد ذلك في الكتاب، قال - تعالى -: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ [التوبة: 103]، ولَم يقلْ: خذ منهم.

 

وبذلك أيضًا وردت السنة، ففي حديث معاذ المتفق عليه، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أرسله إلى اليمن: ((أعْلمهم أن الله فرض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم)).

 

وقال أبو بكر - رضي الله عنه - كما في صحيح مسلم في حديث الردة: "والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة؛ فإنَّ الزكاة حق المال"، فوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون بالنص.

 

لكن لو أن أحدًا ترك الاستدلال بالنص، وقال: أنا أريد أن أثبت ذلك بالقياس أيضًا، فإنه يقول: أوجب الزكاة في مال الصبي قياسًا على وجوب الزكاة في مال البالغ، بجامع وجود النمو في كلٍّ منهما.

 

مثال آخر على قياس الدلالة:

قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، فجاء إنسان وشرب من ماء اليتيم، أو اكتسى بثوبه ظلمًا، فهذا أيضًا يحرم، وإن كانت الآية في الأكل، فالشربُ مثله، واللباس مثله، وهذا قياس دلالة؛ لأنه استدلال بالنظير على نظيره.

 

الثالث: قياس الشَّبَه:

وقياس الشبه هو تردُّد الفرع بين أصلَيْن مختلفين في الحكم، فيلحق بأكثرهما شبهًا.

 

وضرب المؤلف - رحمه الله - مثالاً بقوله:

فَلْيَلْحَقِ الرَّقِيقُ فِي الإِتْلافِ
بِالمَالِ لاَ بِالحُرِّ فِي الأَوْصَافِ

فالرقيق يشبه الحر في حقوق الله - عز وجل - فالتوحيد والشهادة للرسول بالرسالة وإقامة الصلاة والصيام، واجبات عليه، أما الزكاة والحج فلا؛ لأنه ليس له مال.

 

وكذلك يشبه الرقيق البهيمة في كونه يباع ويشترى، ويرهن ويوهب، ويوقف.

 

فإذا أتلف - يعني: قتل رجلاً خطأ - فهل يضمن بالدية قياسًا على الحر؟ أو بالقيمة قياسًا على البهيمة؟

نقول: في ذلك تفصيل، ففي باب المعاوضات نجد أنه أكثر شبهًا بالبهيمة؛ لأن الحر لا يمكن أن يباع، ولا يرهن، ولا يوقف، وفي باب العبادات أشبه بالحر.

 

والمسألة ليستْ مسألة عبادات، ولكنها مسألة ضمان ومعاوضات، فإذا أتلف العبد، وقارنَّا بين الحر وبين البهيمة وجدنا أنه أقرب إلى البهيمة في باب الإتلاف، وعلى هذا فيضمن بالقيمة، فتكون ديته قيمته، سواء كانت مثل دية الحر، أو أقل، أو أكثر.

 

وعلى هذا، فلو كان العبد المقتول شابًّا قويًّا، ذا علم وعقل ومروءة، وشيخًا كبيرًا عاجزًا أصم أبكم عالة على الغير، فالدية ستختلف بينهما اختلافًا عظيمًا، فدية الشاب قد تكون مليون ريال، ودية الشيخ العاجز قد لا تتعدى عشرة ريالات، ولو كان هذا بين حُرَّيْنِ لم تختلف الدية، كلاهما مائة من الإبل.

 

ويقول الشيخ محمد أبو زَهْرَة[57]:

يقسم القياس من حيث مراتبه إلى أقسام ثلاثة:

أولها: قياس الأولى، وهو أن يكون المعنى الذي شرع لأجله - وهو العلة - في الفرع أقوى من الأصل؛ مثل: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله حرَّم من المؤمن دمه، وأن يظن به إلا خيرًا))، رواه ابن ماجَهْ بإسناد حسن.

 

فإن هذا يفهم منه حكم قول المكلف في المؤمن غير الخير، فإنه إذا كان لا يظن بالمؤمن إلا خيرًا، فأولى ألا يقال فيه إلا خيرًا، وهذا يسمى قياس الأولى، وقد علمنا أنه يعد من دلالة النص، وأشار الشافعي في "الرسالة" إلى أن بعض العلماء لا يعده من القياس.

 

الثاني: أن يكون الوصف الذي اعتُبر علةً للحكم متحققًا في الفرع بقدر ما يتحقق في الأصل، وذلك مثل قياس العبد على الأمَة في تنصيف العقوبة، فإذا قال - تعالى -: ﴿ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [النساء: 25]، فالقياس يثبت التنصيف على العبد، وأكثر العلماء على أن ذلك من دلالة النص؛ بل من دلالة العبارة نفسها؛ ولذلك أقر هذا مَن نَفَوُا القياس، وقالوا: إن هذا من قَبِيل المساواة بين الرجل والمرأة في التكليفات الشرعية، إلا ما قام الدليل فيه على وجوب التفاوت بنص.

 

الثالث: أن يكون تحقق العلة في الفرع أقلَّ وضوحًا من تحققها في الأصل؛ كالإسكار في بعض الأنبذة، فإنه ليس كقوة الإسكار في الخمر، ولكن ذلك لا يمنع استقامة التعليل؛ لأن المنصوص عليه دائمًا يكون أوضح في الدلالة على العلة، وهذا يوجب أن يكون تحققها فيه أوضح.

 

ويقسم الشافعي القياس من ناحية أخرى، وهي من حيث ما يلتحق به الفرع من الأصل، فيذكر أن القياس نوعان: قياس المعنى، وقياس الشبه.

 

وقياس المعنى أن يكون الأصل الذي يرجع إليه الفرع واحدًا؛ وذلك لأن الفرع في معنى الأصل من حيث الأمر الذي شرع من أجله الحكم؛ كالأقسام التي ذكرناها، فإن المعنى في الفرع هو ذات المعنى الذي من أجله ثبت الحكم في الأصل، فالاشتراك واضح بَيِّن.

 

وقياس الشَّبَه: أن يكون الفرع الذي يُعرف حكمه بالرجوع إلى الأصول المنصوص عليها، له في هذه الأصول أشباه، فيرد المجتهد الفرع إلى أقرب هذه الأصول شبهًا به، ويكون فيه تحقيق مقاصد الشارع، ومثال ذلك: شراب عصير القصب، فإننا إذا أردنا حكمه من النصوص وردَّه إلى أصل من أصول الأحكام، ترددنا أنلحقه بالخمر؛ لأنه يسكر أحيانًا؟ أم نلحقه بالشراب المباح، باعتبار أن السكر فيه ليس من طبيعته؟ فيقرر الفقيه أن يلحقه بالخمر إن تخمَّر، فإنَّ الإسكار يكون من شأنه، ويلحقه بالشراب المباح إن لم يتخمر، ويقول الشافعي في هذا القسم: "يكون الشيء له في الأصول أشباه مختلفة، فذلك يلحق بأولاها به وأكثرها شبهًا فيه، وقد يختلف القايسون في هذا"[58].

 

وقد ضرب الشافعيُّ - رضي الله عنه - أمثلةً لقياس الشبه الذي تتنازعه عدة أُصُول؛ منها أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في عبدٍ دلس للمبتاع بعيب، فظهر عليه بعدما استغله، بأن للمبتاع ردَّه بالعيب، وله حبس الغلة لضمان العين، فالحديث قضى بأن الغلة ما دامتْ قد حدثت في ضمان المشتري، ولم يكن لها جزء مقابل من الثمن، فهي ملك للمشتري، فقاس الشافعي هذه الزيادة المتولدة على كلِّ زيادة متولدة، فثمر النخل، ولبن الماشية، وصوفها ونتاجها، كل هذا يكون ملكًا للمشتري، إذا حدث بعد البيع، وقبل الفسخ بخيار العيب؛ لأنه حدث في ضمانه.

 

هذا ما قرَّره الشافعي، ولكنَّ آخرين لم يلحقوا الزيادة المتولدة بالكسب والغلة؛ لأنها ملحقة بالعين، فلا ينطبق عليها الأصل المقرر "الخراج بالضمان".

 

والخلاصة أن الزيادة المتولدة يتنازعها قياسان:

أحدهما: قياسها على الكسب، فلا ترد؛ للمشابهة التامة بين الزيادتين، من حيث إنَّ كلتيهما حدثتْ في ملكه، فالزيادة في الملكيَّة هي علة استحقاقها.

والقياس الثاني: أن تقاس المتولدة على العين؛ لأنها مشتقة من ذاتها، وبما أن العين ردت فيرد ما هو مثلها.

 

بناء القياس على الحكمة:

الفرْق بين العلَّة والحكمة هو أن (العلة): وصف ظاهر منضبط محدود، أقامه الشارع أمارة على الحكم، أما (الحكمة) فهي: وصْف مناسب للحكم يتحقَّق في أكثر الأحوال، وهو غير منضبط، وغير محدود.

 

وجمهور الفقهاء على أن الأحكام تُناط بالعلة لا بالحكمة، ولكن جرى على أقلام بعض الكتاب التعليل بالحكمة، واعتبار الحكمة مناطًا للأقيسة المختلفة، وقد جرى ذلك في عبارات بعض كتب الفقه الحنفي، وجرى ذلك في غيره من المذاهب، ولكن الذين أكثروا من ذلك فقهاء المذهب الحنبلي، وقد تصدى لبيان هذا النوع من القياس ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيم.

 

ولذلك اعتبروا أن الوصف المناسب يكون علة للقياس، من غير نظر إلى كونه منضبطًا أو غير منضبط، وقرروا أنه لا يُمكن أن يكون نص قرآني أو نبوي إلا وله حكمة واضحة، ومصلحة مشروعة، وبها تُناط الأحكام، وهذه المصلحة المشروعة هي التي تربط بها الأشباه والنظائر.

 

وقد بنى كلامه ذلك على أساس أن النصوص تعلل بالمصالح التي تطوى في ثناياها؛ سواء أكانت منضبطة، أو غير منضبطة، وإذا كانت المصلحة أصلاً يُقاس عليه، فإنهم يثبتون كل شيء في مصلحة معتبرة، وتكون معتبرة ما دام لَم يقمْ دليل من الشارع على اعتبار هذه المصلحة؛ إذ إن إلغاء الشارع لها دليل على أن اعتبارها مصلحة باطلٌ، وأنه نزعة هوى.

 

(لطيفة):

يجب على المسلم تقديم حكم الرسول المعصوم - صلى الله عليه وسلم - على أي حكم أو قياس عارضه، وهذا من الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - كما قال الإمام ابن القيِّم: "ومن الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - ألا يستشكل قوله؛ بل تستشكل الآراء لقوله، ولا يُعارَض نصُّهُ بقياس؛ بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه - صلى الله عليه وسلم"[59]، وهذا مِنْ أسمى معاني: أشهد أن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

 

6 - الاستحسان: وقد أخذ به الأحناف والمالكية، وعرَّفه الإمام أبو الحسن الكَرْخِي الحنفي (340 هـ) بقوله: "هو أن يعدل المجتهد عن أن يحكم في المسألة بمثْل ما حكم به في نظائرها؛ لوَجْه أقوى، يقتضي العدول عن الأول".

 

وأما عند المالكية، فعرفه الإمام أبو بكر بن العربي (ت 543 هـ) بقوله: "الاستحسان: إيثار ترك الدليل والترخيص بمخالفته، لمعارضته دليلاً آخر في بعض مقتضياته، وقسمه إلى أربعة أقسام هي: ترك الدليل للعرف، وتركه للإجماع، وتركه للمصلحة، وتركه للتيسير ودفع المشقة[60]".

 

7- العُرْف: وهو لفهم الشريعة لا للتشريع المستقل، فهذا أيضًا أصلٌ أخذ به الحنفية والمالكية في غير موضع النص.

 

والعرف: ما اعتاده الناس من معاملاتهم واستقامتْ عليه أمورهم، وعندهما أن الثابت بالعرف الصحيح غير الفاسد، ثابتٌ بدليل شرعي، كما في "المبسوط"؛ للإمام السَّرَخْسِي[61] (ت 483 هـ): "الثابت بالعرف كالثابت بالنص" انتهى[62]، وقد علَّق على ذلك الشيخ محمد أبو زَهْرَة في "أصول الفقه": "ولعل معناه: أن الثابت بالعُرف ثابتٌ بدليل يعتمد عليه كالنص حيث لا نص[63]"؛ انتهى.

 

ثم قال: "وعلى ذلك نقول: إنَّ العُرف قسمان: عرف فاسد لا يؤخذ به، وهو الذي يخالف نصًّا قطعيًّا، فإن هذا يرد.

 

والقسم الثاني: عرف صحيح، فإنه يؤخذ به ويعتبر الأخذ به أخذًا بأصْل مِنْ أُصُول الشرع"؛ انتهى.

 

ولذلك قرَّر الإمام ابن القيِّم مراعاة المفتي للعُرْف؛ فقال حاضًّا المفتي: "لا يجوز له أن يفتي في الإقرار والأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلق باللفظ، بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عرف أهلها والمتكلمين بها، فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه، وإن كان مخالفًا لحقائقها الأصلية، فمتى لَم يفعل ذلك ضلَّ وأضل"[64]؛ انتهى.

 

فكل من السفر وقبض الرهن الذي جاء بهما الشرْع المطهَّر، لَم يرد دليل صحيح في كيفيَّة تحديد هذَيْن الأمرَيْن، فصار الرجوع للعُرف لفَهْم النُّصوص الشرعية.

 

فكل ما عدَّه الناس سفرًا تَجري عليْه أحكام السفر؛ من الفطر، والقصر والجمع، والجمعة والجماعة، والتطوعات، وكذلك قبض الرهان.

 

8- المصالح المرْسلة: عرَّفها ومثَّل لها الشيخ عبدالوهاب خلاف (ت 1375هـ، 1956 م) بقوله: "المصلحة المرسلة - أي: المطلقة - في اصطلاح الأصوليين:

المصلحة التي لم يشرع الشارع حكمًا لتحقيقها، ولَم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها، وسُمِّيت مطلقة؛ لأنها لَم تَتَقَيَّد بدليل اعتبار، أو دليل إلغاء.

 

ومثالها: المصلحة التي شرع لأجلها الصحابة اتِّخاذ السجون، أو ضرب النقود، أو إبقاء الأرض الزراعية التي فتحوها في أيدي أهلها، ووضع الخراج عليها، أو غير هذا من المصالح التي اقتضتْها الضرورات أو الحاجات أو التحسينات، ولم تشرع أحكام لها، ولَم يشهد شاهد شرعي باعتبارها أو إلغائها[65]"؛ انتهى.

 

وقال الشيخ محمد أبو زَهْرَة: "والمصالح المعتبرة هي المصالح الحقيقية، وهي ترْجع إلى أمورٍ خمسة:

حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال؛ لأن هذه الأمور بها قِوامُ الدنيا التي يعيش فيها الإنسان، ولا يحيا حياة تليق به إلا بها[66]"؛ انتهى.

"والإمام مالك هو الذي حمل لواء الأخْذ بالمصلحة المرسلة[67]"؛ انتهى.

 

ومن أشهر المسائل التي استدل بها المالكية فعل الصحابة - رضي الله عنهم - كما يلي:

1 - جمع القرآن الكريم.

2 - كان عمر - رضي الله عنه - يشاطر الولاة الذين يتهمهم في أموالهم.

4 - إراقة عمر - رضي الله عنه - اللبن المغشوش بالماء.

5 - ما قرَّره الصحابة - رضي الله عنهم - من قتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في قتله.

6 - ولاية العهْد من أبي بكر لعُمر - رضي الله عنهما.

7 - التَّوْسِعة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم.

9- سد الذرائع:

وهذا الأصل ذكرتْه الكُتُب المالكية والحنبلية، وهو مقرر ضمن الفقه الحنفي والشافعي، على اختلاف في بعض أقسامه.

 

والذريعة معناها: الوسيلة، والذرائع في لُغة الشرعيين: ما يكون طريقًا لمحرم أو لمحلل، فإنه يأخذ حكمه، فالطريق إلى الحرام حرام، والطريق إلى المباح مباح، وما لا يؤدَّى الواجبُ إلا به فهو واجب.

فمثلاً: الزنا حرام، والنظر إلى عورة المرأة الذي يفضي إليه حرام أيضًا.

 

والجمعة فرض، فترك البيع لأجل أدائها واجب؛ لأنه ذريعة.

 

والحج فرض، والسَّعي إليه فرْض مثله عند القدرة عليه.

 

فالأصل في اعتبار الذرائع هو النظر إلى مآلات الأفعال، ومما جاء في الشريعة سدًّا للذريعة قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ﴾ [البقرة: 104] وكان النَّهي؛ لأن اليهود اتخذوا من قول (راعنا) شتمًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أي: من الرُّعُونة - فنُهِيَ المسلمون عن النطق بها؛ سدًّا للذريعة، مع أن قصد المسلمين من راعنا: أي أرعنا سَمْعَكَ.

 

ومن السنة كف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتْل المنافقين مع ظهورهم ووضعهم الفتن خلال المسلمين في الشدائد؛ لأنَّ قتلهم ذريعة لأن يقال: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يقتل أصحابه، كما ثبت ذلك في الصحيحَيْن.

 

وذلك يطمع الكافرين في المؤمنين، فيجعلهم يصرون على الجحود والعناد؛ رجاء أن يجدوا ضعفًا.

 

والذريعة كما هي لدفع الفساد، هي أيضًا لجلب المنافع؛ كالسعي للجمعة.

 

وأصل سد الذريعة قد أخذ به فقهاء المسلمين، كما قال الشيخ محمد أبو زَهْرَة: "الذرائع أصل في الفقه الإسلامي أخذ به الفقهاء جميعًا، وإنهم اختلفوا في مقداره، ولَم يختلفوا في أنه أصل مُقرر ثابت، ومن المسائل التي تعد الأحكام بالإباحة فيها من قَبِيل الأخذ بالذرائع ما يأتي:

أ - دفع مال فداء للأسرى من المسلمين، فإن أصل دفع مال للمحارب محرَّم؛ لما فيه من تقوية له، ولكنه أجيز؛ لأنه يتحقق من ورائه حرية طائفة من المسلمين.

ب- دفع المسلمين مالاً لدولة محارِبة لدفْع أذاها.

ج - الرشوة لدفع الظلم إذا لَم يقدر على دفعه إلا بها (وتكون صورتها صورة رشوة، والإثم على الآخذ).

د - إعطاء المال لمن يقطعون الطريق على الحجاج[68]"؛ انتهى.

 

ثم ختم الشيخ أبو زَهْرَة: "وبهذا ننْتهي إلى أن المكلف عليه أن يتعرف في الأخْذ بالذرائع مضار الأخذ ومضار الترك، ويراجح بينهما، وأيهما رجح أخذ به[69]"؛ انتهى.

 

10- الاستصحاب:

ومعناه المصاحبة، أو استمرار الصُّحبة.

 

أما معناه اصطلاحًا، فكما قال الإمام ابن القيم: "استدامة ما كان ثابتًا، أو نفي ما كان منفيًّا[70]"؛ انتهى.

 

أي: بقاء الحكم نفيًا وإثباتًا، حتى يقوم دليل على تغيير الحال، فهذه الاستدامة لا تحتاج إلى دليل إيجادي؛ بل تستمر حتى يقوم دليل مغير.

 

ومثال ذلك: إذا ثبتت الملكية في عين بدليل يدل على حدوثها؛ كشراء أو ميراث أو هبة أو وصية، فإنها تستمر، حتى يوجد دليل على نقْل الملكيَّة أو غيره، ولا يكفي احتمال البيع.

ومثله: من عُلِمت حياته، حتى توجد إمارات تدل على الوفاة، وكذلك الإباحة في المطعومات، حتى يقوم دليل التحريم، وعكسه بقاء التحريم بين الرجل والمرأة، حتى يكون الدليل المبيح؛ كالزواج مثلاً.

 

وأصل الاستصحاب مبنيٌّ على غلبة الطن؛ ولذلك فهو أصْل متأخر بالنسبة للفتوى والأخْذ به.

 

11- شرع مَن قبلنا:

هل شرع من قبلنا هو شَرْعٌ لنا أو لا؟

إن الله - سبحانه - قد أكمل لنا شريعتنا الغرَّاء، وارتضاها لنا دينًا نتعبده به، وفضَّلنا على سائر الأمم، ورفع قدر شرعنا على جميع الملل والنِّحل، كما قال - جلَّ شأنُه -: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، كما أنه - سبحانه - قد جعل الانْقياد لتلك الشريعة مناط الفوز في الآخرة؛ فقال: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وإن من حكمة العليم الخبير أنْ قصَّ علينا في كتابه الكريم أحوال الأمم السالِفة من المؤمنين والكافرين؛ لنعتبر ونتعظ، ونقتدي بمن أُمرنا أن نقتدي بهم، ونبتعد عمَّن نُهينا عن الاقتداء بهم؛ سواء كانوا أهل الكتاب أم غيرهم، وهذا منه - سبحانه - تكْريم وفضل، فيستحق منَّا العبودية له، والشكر دومًا.

 

وهذه المسألة قد خاض العلماء غمارها، وبيَّن المحقِّقون منهم الحكم في ذلك، راجين رضا الله - عزَّ وجل - مدافعين عن الملة الحنيفية والشريعة المحمدية، ونظرًا لوُرُود كثير من الأدلَّة والبراهين المتعلِّقة بهذه المسألة، انْقَسَم هؤلاءِ العلماء قسمَيْن:

قِسْمٌ تَمَسَّك بظواهر بعض الأدلة وبعمومات ووقائع، ونفى كون شرع من قبلنا شرعًا لنا، وهؤلاء المعتزلة[71]، وبعض الشافعية.

قِسم جمع بين الأدلة الشرعية المتعلقة بالأمم السالفة فعلاً أو تركًا، قبولاً أو ردًّا، وأثْبَت بشروط أن شرع من قبلنا شرع لنا، وهذا هو القول الراجح في المسألة.

 

حكم العمل بالحكم أو الشرع المنسوخ:

الأحكام المنوط التكليف بها إنما هي ثابتة؛ حيث إنَّ الشريعة التي تعبَّد الله عبادَه بها إنما هي التي الحكم فيها باقٍ ثابت، وليس لأحد أن يعبد الله - سبحانه - بحُكم أو بشرع منسوخ؛ إذ الحكم والشرع إنما جاء لفترة محدودة، تبعًا لما اقتضتْه حكمة الله - عزَّ وجل - ثم ينسخ الله ما شاء؛ إذ هو وحده صاحب الأمْر والنَّهي، فنحن نتعَبَّد الله بالوحي المتلو، أو غير المتلو، سواء كان ناسخًا أو منسوخًا، فإنَّ تحرير الحد فيه أن يقال: النسْخ هو بيان انتِهاء الحكم الشرعي المطلق[72] الذي في تقدير أوهامنا استمراره لولاه بطريق التراخي[73]"، وسواء كان نسْخًا للدليل الذي ثبت به الحكم الأول، أو نسخًا للشرط الذي تعلق به الحكم الأول، أو نسخًا لنفس الحكم الأول إما بعضه أو كله[74].

 

قال الإمام ابن تيميَّة[75]:

"وأما من اتبع دينًا مبدلاً ما شرعه الله، أو دينًا منسوخًا، فهذا قد خرج عن دين الإسلام؛ كاليهود الذين بدلوا التوراة"؛ انتهى.

 

كما قرَّر هذا الإمام ابن تيميَّة بقوله: "ولهذا كان مذهبُ جماهير السلف والأئمة: أن شرع مَنْ قبلنا شرعٌ لنا ما لم يَرِدْ شرعنا بخلافه، ومَنْ حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم بما أنزل الله، كما أن الله أمر أمة محمد أن يحكموا بما أنزل الله في القرآن، وفيه الناسخ والمنسوخ، فهكذا القول في جنس الكتب المنزلة: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48].

 

فقد أمر نبيَّه محمدًا أن يحكم بما أنزل الله إليه، وحذره اتِّباع أهوائهم، وبيَّن أن المخالف لحكمه هو حكم الجاهلية؛ حيث قال - تعالى -: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].

 

وأخبره - تعالى - أنه جعل لكلٍّ من أهل التوراة والإنجيل والقرآن شِرعةً ومنهاجًا، وأمرُه - تعالى - بالحكم بما أنزل الله أمرٌ عام لأهل التوراة والإنجيل والقرآن، ليس لأحد في وقت من الأوقات أن يحكم بغير ما أنزل الله، والذي أنزله الله هو دين واحد، اتَّفقت عليه الكُتُب والرسل، وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة، وإن تنوعوا في الشريعة والمنهاج بين ناسخ ومنسوخ، فهو شبيهٌ بتنوُّع الكتاب الواحد، فإنَّ المسلمين كانوا أولاً مأمورين بالصلاة لبيت المقدس، ثم أُمروا أن يصلُّوا إلى المسجد الحرام، وفي كلا الأمرين إنما اتبعوا ما أنزل الله - عز وجل -"[76]؛ انتهى.

 

فلذلك لا يجوز العمل بالحكم المنسوخ أو بالشريعة المنْسوخة؛ لأن الحكم بذلك ليس حكمًا بما أنزل الله - تعالى - حقيقة.

 

استدلال العلماء بـ(شَرْع مَنْ قبلنا):

حيث سار جُمهور العلماء ومَشَوا على الاستدلال بـ"شرع من قبلنا"، وقد ألمح إلى هذا المعنى وأكده الإمام ابن تيميَّة بقوله: "شرع مَنْ قبلنا: هل هو شرع لنا أو لا؟

 

والنزاع في ذلك مشهور؛ لكن الذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أنه شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، وهذا إنما هو فيما ثبت أنه شرع لمن قبلنا من نقلٍ ثابت عن نبينا، أو بما تواتر عنهم، لا بما يروى على هذا الوجه - أي: يقولونه هم - فإن هذا لا يجوز أن يحتج به في شرع المسلمين أحدٌ من المسلمين"[77].

 

وكون الجمهور أجازوا الاستدلال بـ"شرْع من قبلنا"، إنما يكون ذلك بمُراعاة أمرَيْن، أشار إليهما الإمام ابن تيميَّة بقوله: "إحداهما: أن يثبت أن ذلك شرعٌ لهم بنقلٍ موثوق به، مثل أن يخبرنا الله في كتابه، أو على لسان رسوله، أو ينقل بالتواتر، ونحو ذلك، فأما مجرد الرجوع إلى قولهم، أو إلى ما في كتبهم، فلا يجوز بالاتفاق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد استخبرهم فأخبروه، ووقف على ما في التوراة، فإنما ذلك لأنه لا يروج عليه باطلهم؛ بل الله - سبحانه - يُعرفه ما يكذبون مما يصدقون، كما أخبره بكذبهم غير مرة.

 

الثاني: ألا يكون في شرعنا بيان خاص لذلك، فأما إذا كان فيه بيان خاص إمَّا بالموافقة أو بالمخالفة، استُغني عن ذلك فيما ينهى عنه من موافقتهم، ولم يثبت أنه شرع لمن كان قبلنا، وإن ثبت فقد كان هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم - بخلافه.

 

وإنما تجيء الموافقة (لأهل الكتاب) في بعض الأحكام العارضة، لا في الهدي الراتب والشعار الدائم"[78].

 

ضوابط شرعية للعمل بـ"شَرْع مَنْ قبلنا":

حيث بيَّن العلماء أن الأمر لا يؤخذ مباشرة دون ضوابط محدَّدة، فأشهر الضوابط ما يلي:

1- أن يكون ثابتًا في الكتاب العزيز أو في صحيح السنة.

2- ألا يرد في شرْعنا ما يخالفه.

3- ألا يكون الأمرُ مَحْكيًّا عنهم، أو مِنْ روايتهم دون التثبُّت.

4- ألا يؤخذ مِنْ كُتُبهم مباشرة.

5- ألا يكون في شرْعنا حكم خاص يُخالفه، سواء كان بالموافقة أم بالمخالفة.

6- أن يكون ذلك عن طريق الموافقة لا المتابعة.

 

وبذلك يتضح أن القول بجواز الاستدلال بشرع من قبلنا لم يكن على إطلاقه؛ جمعًا بين الأدلة؛ ذلك أن شريعتنا لا تجمع بين المفترقين، ولا تفرق بين المجتمعين، وبهذا تعتضد الأدلة وتتشابَك.

 

الباب الثالث

المحكوم فيه

أي: عليه، وهو موضع الحكم الشرعي، أو متعلق الحكم الشرعي، وهو ذات الفعل الذي هو موضوع الطلب، أو موضوع الكف، أو موضوع الإباحة، "وقد علمنا أن الحكم الشرعي ينقسِم إلى قسمَيْن: حكم وضعي، وحكم تكليفي، وأنَّ الحكم الوضعي بعضه مِنْ أفعال العباد، وبعضه ليس من أفعالهم؛ فدلوك الشمس سببٌ ليس من أفعال العباد، والهلال سبب ليس من عمل العباد، وما يكون من الأعمال ليس من عمل العباد لا يتكلم فيه الأصوليون في هذا الباب، من حيث إنه موضع للحكم الوضعي؛ لأن (المحكوم فيه) الذي يتكلم فيه علماء الأصول هو ما يكون من أفعال المكلفين؛ سواء أكانتْ تكليفًا مجردًا، أم كانتْ تكليفًا يتَّصِل بحكم وضْعي؛ كالوضوء من حيث إنه شرط للصلاة، وكالبيع من حيث إنه سبب للملكية، وكالقتْل مِنْ حيثُ إنه مانع من الميراث، وكالزوجية من حيث إنها سبب للميراث، ولكن القرابة من حيث سببيتها ليست من فعل المكلف الذي يرث، أو الذي يُورث عنه؛ بل يدخل في تكْوينها عدة أمور في تكوين الأسرة، وبذلك ينحصر الكلام في المحكوم فيه، من حيث شروطُ التكليف وما وضع الله - تعالى - لعباده.

 

وعلى هذا نُقَرِّر أن المحكوم فيه هنا هو ذات الفعل، الذي هو موضوع الطلب، أو موضوع الكف، أو موضوع الإباحة.

 

فهو إذًا أفعال المكلّفين التي تعلق بها الحكمُ التكليفي، وهي هنا ينظر فيها من حيث إنها مقدورة تدخل في طاقته أو لا تدخل، من حيث إنها حق لله تعالى أو حق للعباد"[79].

 

أمَّا ما يتعلق بحق الله - تعالى - الخالص، فكالعبادات كلها، وأما حق العباد الخالص، فهي كالدُّيُون، والأملاك، والوراثة، واللهُ - سبحانه وتعالى - لا يَتَقَبَّل توبة من أكل حقًّا من حقوق العباد، إلا إذا أدَّاهُ، أو أسقطه صاحبه أو عفا عنه، وأحيانًا يجتمع الحقان، ويُغَلَّبُ حقُّ الله - تعالى - كحدِّ القذْف[80]، ويُغَلَّبُ حقُّ العباد كالقِصاص.

 

الباب الرابع

المحكوم عليه

وهو المكلف؛ لأنه هو الذي يُحكم على أفعاله بالقبول أو الرد، وكونها داخلةً في دائرة المأمور به أو المنهي عنه، أو غير داخلة.

 

وأساس التكْليف هو العقْل والفهم.

 

ولا بُدَّ أن تكون عنده أهليَّة تصلح لإلزامه والتزامه بحقوق له أو عليه، وهذه الأهليَّة هي التي يناط بها التكليف، ما لم يعرض للشخص من بعد كمال أهليته ما ينقصها أو يفقدها، ويُسمَّى هذا عارضًا مِنْ عوارِض الأهلية.

 

وعوارض الأهلية: هي أحوال تعْتري الشخص، فتنقص عقله أو تفقده بعد كماله، وهي قسمان:

الأول: عوارض سماويَّة، ليست من أعمال الإنسان، وهي: الجنون، والعته، والنسيان، والنوم، والإغماء، و"المرض، والحيض، والنفاس، والموت"[81].

الثاني: عوارض بفعل الإنسان أو يكسبها الإنسان، وهي نوعان:

النوع الأول: من ذات المكلف، وهي السفه - مع كونه عاقلاً لكنه ليس برشيد - والجهل والسُّكْر والخطأ.

النوع الثاني: من غيره، وهي الإكراه.

 

ومما له تعلق بما سبق أمران، هما:

أولاً: مقاصد الأحكام: حيث اتَّجه الإسلام في أحكامه إلى نواحٍ ثلاث:

الناحية الأولى: تهذيب الفرد؛ ليستطيع أن يكون مصدر خير لجماعته، ولا يكون منه شر لأحد من الناس.

الناحية الثانية: إقامة العدل في الجماعة الإسلامية فيما بينها، وكذلك العدل مع غيرها.

الناحية الثالثة: وهي غاية محققة ثابتة في كل الأحكام الإسلامية، وهي المصلحة، فما من أمرٍ شرعه الإسلام بالكتاب والسنة إلا كانت فيه مصلحة حقيقية، وإن خفيتْ تلك المصلحةُ على بعض الذين غشاهم الهوى.

 

والمصلحة التي يريدها الإسلام ليست الهوى؛ وإنما هي المصلحة الحقيقية التي تعم ولا تخص، وهي ما تعرف (بالمصلحة المعتَبَرة) التي تحققها الأحكام الإسلامية، وتثبتها النصوص الدِّينية، وهي المصلحة الحقيقية، وليست المتوهمة، ولا التي بنيت على هوى.

 

تقدمت الإشارة[82] أن مقاصد الشارع الحكيم في وضع الشريعة لا تعدو ثلاثة أقسام، هي[83]:

فالضرورية: وهي ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا؛ بحيث إذا فُقدت لَم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة؛ بل تفوت الحياة بفوتها، ويفوت في الآخرة الفوزُ برضا الله سبحانه، فأصولُ العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود، والعادات راجعة إلى حفْظ النفس والعقل من جانب الوجود، والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضًا لكن بواسطة العادات، ومجموع الضروريات خمسة، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل.

 

وأمَّا الحاجيات، فهي التي يُفتقر إليها من حيث التوسعة، ورفع التضييق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تُراعَ دخل على المكلفين على الجملة الحرجُ والمشقة، لكنه لا يبلغ الفساد العام، وهي جارية في العبادات والعادات، والمعاملات والجنايات؛ ففي العبادات كالرُّخَص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر، وفي العادات كإباحة الصيد والتمتُّع بالطيبات، وفي المعاملات كالقِراض والمساقاة والسَّلَم، وفي الجنايات كضرب الدية على العاقلة، وتضمين الصُّناع، وما أشبه ذلك.

 

وأمَّا الكماليَّات، فمعناها محاسن العادات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق، وهي - أي: الكماليات - تجري فيما جرى فيه الأُوليان، وكل مرتبة من هذه المراتب مكملة لما هو أقوى منها، فالحاجيات مكملة للضروريات، والكماليات مكملة للحاجيات"؛ انتهى.

 

ثانيًا: الاجتهاد: ومعناه بذْل غاية الجهد في الوصول إلى أمر من الأمور، أو فعل من الأفعال.

 

وفي اصطلاح علماء الأصول: بذْل الفقيه وسعه في استنباط الأحكام العمليَّة مِنْ أدلتِها التفصيليَّة.

 

والاجتهاد لا يخلو عصرٌ منه، فلا بُدَّ مِنْ مجتهد يبلغ هذه الرتبة، كما قرَّره الحنابلة، وللمجتهد شروط:

1- العلم بالعربية.

2- العلم بالقرآن الكريم ناسخه ومنسوخه...

3- العلم بالسنة المطهَّرة: صحة وضعفًا، ناسخًا ومنسوخًا...

4- معرفة مواضع الإجماع ومواضع الخلاف.

5- معرفة القياس.

6- معرفة مقاصد الأحكام.

7- صحة الفهم وحُسن التقدير.

8- صحة النية وسلامة الاعتقاد.

 

والمجتهدون مراتب، وهي:

الأولى - وهي أعلى المراتب -: المجتهد المستقل؛ كفُقهاء الصحابة - رضي الله عنهم - وفقهاء التابعين؛ كسعيد بن المُسيّب (ت 93 هـ)، وإبراهيم النَّخَعِي (ت 95 هـ)، والأَوْزاعي (ت 157هـ)، واللَّيْث بن سعد (ت 175هـ)، وسفيان الثَّوْرِي (ت 161 هـ)، وأبي ثَوْر (ت 240 هـ)، والأئمة الأربعة: أبي حنيفة (ت 150هـ)، ومالك والشافعي وأحمد (ت 241 هـ).

 

الثانية: المجتهد المنتسب، وهم الذين اختاروا أقوال الإمام في الأصل وخالفوه في الفرع، وإن انتهَوْا إلى نتائج مشابهة في الجملة لما وصل إليه الإمام، ومنهم أصحاب أبي حنيفة: أبو يوسف (182 هـ)، ومحمد بن الحسن (ت 189هـ)، وزُفَر (158هـ)، ومن الشافعية: المُزَنِيّ (ت 264 هـ)، ومن المالكية: ابن القاسم (ت 355هـ)، وابن وَهْب (ت 242هـ)، وابن عبدالحَكَم (214 هـ).

 

الثالثة: المجتهدون في المذهب، وهم الذين يتبعون الإمام في الأصول والفروع التي انتهى إليها؛ وإنما عملهم في استنباط المسائل التي لا رواية فيها عن الإمام.

 

الرابعة: المجتهدون المرجحون، حيث إنهم يرجحون بين الآراء المرويَّة بوسائل الترجيح التي ضبطتها لهم الطبقة السابقة.

 

هذا ما يتعلق بمراتب المجتهدين، والاجتهاد أعمُّ من الإفتاء؛ حيث إنَّ الإفتاء أخص من الاجتهاد، فإنَّ الاجتهاد: استنباط الأحكام؛ سواء أكان سؤال في موضوعها أم لم يكن، كما كان يفعل الإمام أبو حنيفة.

 

أما الإفتاء، فإنه لا يكون إلا إذا كانتْ واقعة وقعتْ، ويتعرف الفقيه حكمها.

 

والفتوى السليمة التي تكون من مجتهدٍ تقتضي - مع شروط الاجتهاد التي سبقت - شروطًا أخرى، وهي:

1- معرفة واقعة الاستفتاء.

2- دراسة نفسية المستفتي والجماعة التي يعيش فيها؛ ليعرف مدى أثر الفتوى سلبًا وإيجابًا؛ حتى لا يُتخذ دِينُ الله - تعالى - هُزوًا ولعبًا.

 

ولقد قال الإمام أحمد في شروط المفتي: "لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفُتيا حتى يكون فيه خمس خصال:

أولها: أن تكون له نية، فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.

والثانية: أن يكون على علم وحلم، ووقار وسكينة.

والثالثة: أن يكون قويًّا على ما هو فيه وعلى معرفته.

والرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس.

والخامسة: معرفة الناس[84]"؛ انتهى.

 

وليعلم المفتي أنه هادٍ ومرشد، وأن فتواه مدار لإصلاح الناس، وقد قال الإمام الشاطبي (790 هـ):

"المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناسَ على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرق الانحلال[85]"؛ انتهى.

 

وليعلم المفتي أن فتواه قوليةً كانت أم مكتوبة، إنما بمثابة التوقيع عن حكم الله تعالى، وقد جعل الإمام ابن القيم هذا المعنى الدقيق والخطير عنوانًا لأعظم كُتبه، وهو "إعلام - بالكسر والفتح - الموقعين عن رب العالمين".

 

وينبغي على المفتي عند تمييز الأدلة والاختيار من المذاهب المختلفة، أمورٌ - كما قال العلامة الشيخ محمد أبو زَهْرَة[86] -:

1- ألا يختار قولاً متهافتًا في دليله؛ بحيث لو اطلع صاحبه على أدلة غيره لعدل عنه.

2- أن يكون في فتواه صلاحُ الناس، والسير بهم في طريق وسط؛ لا يتجه إلى طرف الشدة، ولا يهبط إلى درجة الانحلال.

3- أن يكون حسن القصد في اختيار ما يختار، فلا يختار لهوى الناس ويتجاهل غضب الله - تعالى - ورضاه... وأولئك قوم بور"؛ انتهى.

 

ثم قال العلاَّمة الشيخ محمد أبو زَهْرَة: "ويجب على مَن يتخيَّر من المذاهب أن يلاحظ الأمور الثلاثة الآتية:

أولها: أن يتبع القول لدليله، فلا يختار من المذاهب أضعفها دليلاً؛ بل يختار أقواها دليلاً، ولا يتبع شواذ الفُتيا، وأن يكون عالمًا بمناهج المذهب الذي يختار منه، وإن ذلك حتمًا يقتضي أن يكون مجتهدًا لا يتخلف اجتهاده به إلى مرتبة التقليد، ومِنْ هذا النوع ابن تيميَّة في اختياراته.

ثانيهما: أن يجتهد ما أمكنه الاجتهاد في ألا يترك المجتمع عليه إلى المختلف فيه.

ثالثهما: ألا يتبع أهواء الناس؛ بل يتبع المصلحة والدليل، والمصلحةُ المعتبرة هي مصلحة الكافة، وما تؤدي إليه الفُتيا من تحليل وتحريم.

 

والحق أن المفتي الحق قائم بعملٍ هو عمل الأنبياء - عليهم السلام - فالأنبياء - عليهم السلام - كانوا يقومون ببيان ما يحلُّ للناس وما يَحرُم، وهو ينقل إليهم شرْع النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو جالس في مجلسه، وهو وارثه في بيان شرْعه للعامة، فلا يجعل لِهواه موْضعًا ويتوقف حيث التقدُّم، وينطق بالحق إن بدت معالمه، لا يخشى في الله لوْمة لائم.

 

اللهم جنبنا الزلل، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إن الله سميع الدعاء"[87]؛ انتهى.

 

والحمد لله رب العالمين.

 

وصلى الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه وتابعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الذاكرون.

ـــــــــــــــــــــ
[1] وكذلك في كل من: جِماع العلم، وإبطال الاستحسان، واختلاف الحديث، والرد على العراقيين، وغيرها.

[2] في أول نظمه لمتن الورقات للإمام الجُوَيني (ت 478هـ).

[3] كما في "تاريخ بغداد"؛ للإمام الخطيب البغدادي، مقدمة الشيخ أحمد محمد شاكر لكتاب "الرسالة"؛ للإمام الشافعي، ص 11 تعليق (1).

[4] "أصول الفقه"؛ للشيخ محمد أبي زهرة، ص 5.

[5] "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد"؛ للشيخ العلامة عبدالقادر بن بَدْران الدِّمَشْقِي، ص 144.

[6] "أصول الفقه"؛ للشيخ محمد أبي زهرة، ص 8.

[7] "شرح نظم الورقات"؛ للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ص 19.

[8] - "شرح نظم الورقات"؛ للشيخ ابن عثيمين، ص 19.

[9] - "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل"؛ للشيخ العلامة عبدالقادر بن بَدْران الدِّمَشْقِي، ص 489.

[10] في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" جـ 1ص 265.

[11] قال الشيخ ابن قاسم في "حاشية الرَّوْضِ المُرْبِع شرح زاد المُسْتَقْنِع"، ج1 ص58 تعليق (1): "الفرق بين قولهم: في الجملة وبالجملة: أن (بالجملة) يعم ذلك المذكور، و(في الجملة) يكون مختصًّا بشيء منه لا في كل صوره"؛ انتهى.

[12] "أصول الفقه"؛ للشيخ محمد أبي زَهْرَة، ص 17.

[13] وقد كتب على التوضيح حاشية سعد الدين مسعود بن عمر التَّفْتازاني الشافعي، المتوفَّى سنة 702 هـ؛ "أصول الفقه"؛ للشيخ الخُضَرِي، ص 12.

[14] وقد شرحه شرحًا جميلاً علاء الدين عبدالعزيز بن أحمد البخاري المتوفَّى سنة 730 هـ؛ نفسه.

[15] وقال في أوله: إنه جمعه من زُهاء مائة مصنف؛ نفسه.

[16] وشرحه تلميذه محمد بن مُحمد بن أمير حاج الحلبي، المتوفَّى سنة 879 هـ؛ نفسه، وهناك "فواتح الرحموت شرح مُسَلَّم الثُّبُوت"؛ لابن نظام الدين الأنصاري.

[17] وقال الشيخ الخضري عنْ شرْح الحلبي: مِنْ أدَقِّ كُتُب المتأخرين؛ نفسه ص 13.

[18] "أصول الفقه"؛ للشيخ محمد أبي زَهْرَة، ص 20.

[19] في "المُسْتَصْفَى" ص 7، بقوله: "فإن الأحكام ثمرات، وكل ثمرة لها صفة وحقيقة في نفسها، ولها مُثْمر ومُسْتَثْمِر، وطريق في الاستثمار.

والثمرة: هي الأحْكام؛ أعني: الوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة، والحسن والقُبح، والقضاء والأداء، والصحة والفساد، وغيرها.

والمُثْمِر: هي الأدلة، وهي ثلاثة: الكتاب، والسنة، والإجماع فقط.

وطرق الاستثمار هي: وجوه دلالة الأدلة، وهي أربعة؛ إذ الأقوال: إما أنْ تدلَّ على الشيء بصِيغتها ومنْظومها، أو بفحْواها ومفْهومها، وباقتضائها وضرورتها، أو بمعْقُولها ومعناها المستنْبط منها، والمستثْمر هو المجتهد..."؛ انتهى.

[20] - من "شجرة أصول الفقه"؛ للدكتور عمار صالح (المقدمة)، بتصرُّف يسير.

[21] قال الشيخ ابن عثيمين في شرحه لمنظومة الإمام العمريطي، ص 31: "وهذا من فضل الله علينا؛ لأن الواجب إلزام، وقد يكون فيه مشقة؛ فلهذا كان قليلاً بالنِّسبة للمندوب، والمندوب كمال، وتزداد به المرتبة ويزداد به الثواب؛ فلهذا كان أكثر". انتهى.

[22] وهو أحد ثلاثة مقاصِد للشارع الحكيم في وضْع الشريعة، والثاني: الحاجي، والثالث: الكمالي، وسيأتي إيضاح ذلك - إن شاء الله تعالى - عند الكلام على مقاصد الشريعة في الباب الرابع.

[23] شرح الشيخ ابن عثيمين لمنظومة الإمام العمريطي، ص: 34 بتصرُّف.

[24] نفسه، ص: 33.

[25] نفسه، ص: 32.

[26] "أصول الفقه"؛ للشيخ الخضري، ص: 51.

[27] وهي لُغةً: الانتقال من صعوبة إلى سهولة، وشرعًا: ما ثَبَتَ على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح؛ "حاشية الرَّوْض المُرْبِع شرح زاد المُسْتَقْنِع"؛ للشيخ ابن قاسم، ج1 ص 213 حاشية (2).

[28] - وهي لُغةً: القصد المؤكد، وشرعًا: حكم ثابت بدليل شرعيٍّ خالٍ عن معارض راجح؛ نفسه.

[29] هما وصفان للحكم الوضعي؛ نفسه.

[30] الفرق بينهما أن الرخصة ما جاء على خلاف دليل شرعيٍّ لمعارض راجح، وهي لا تُستباح بالمعاصي، والعزيمة: ما جاء على وَفْقِ دليل شرعيٍّ خالٍ عن معارض راجح، وهي ما جاز فعلها ولو في حال المعصية"؛ انتهى. نفسه.

[31] "إحياء علوم الدين"؛ للإمام أبي حامد الغزالي، ج 2 ص 236.

[32] يجوز: تارة تُستعمل بمعنى يحل، وتارة بمعنى يصح، وتارة تصلح للأمرين؛ "حاشية الرَّوْض المُرْبِع شرح زاد المُسْتَقْنِع"؛ للشيخ ابن قاسم، جـ1 ص 114 حاشية (1).

[33] "مجموع الفتاوى"؛ للإمام ابن تيميَّة، ج 3 ص 144.

[34] - (أما العبد فبالقياس).

[35] طَرَفُ الزَّنْدِ الذي يلي الإبهامَ: هو الكُوعُ، بينما طَرَفُ الزَّنْدِ الذي يلي الخِنْصر هو الكُرسُوعُ، والرُّسغ مجتمع الزَّنْدَيْن، ومن عندِهِما تُقطعُ يَدُ السارق.

[36] "أصول الفقه"؛ للشيخ الخضري، ص: 210.

[37] "التفسير الشامل للقرآن الكريم"؛ للدكتور أمير عبدالعزيز، ج 3 ص 1479.

[38] لمفهوم المخالفة أقسام خمسة، وهي:

- مفهوم اللقب.

- مفهوم الوصف.

- مفهوم الشرط.

- مفهوم الغاية.

- مفهوم العدد.

"أصول الفقه"؛ للشيخ محمد أبي زَهْرَة، ص 141.

[39] "شرح نظم الورقات"؛ للشيخ ابن عُثَيْمِين، ص 130.

[40] - المُغيَّا لا يدخل في الغاية إلا في ثلاثة أشياء كما في حاشية الشيخ عبدالرحمن بن قاسم على "الرَّوضِ المُرْبع شرح زاد المُسْتَقْنِع"، ج 1 ص 82 تعليق (2)، حيث قال:

" وذكروا أن المُغيَّا لا يدخل في الغاية إلا في ثلاث:

* غسل اليدين إلى المرفقين.

* والرجلين إلى الكعبين، يريد إدخال المرفقين والكعبين في الغسل.

* والتكبير المقيَّد يدخل فيه عصر آخر أيام التشريق"؛ انتهى.

[41] وللإمام ابن تيميَّة تحقيق رائع في "مجموع الفتاوى"، جـ10 ص 531 وجـ20 ص 118، وكذلك الإمام ابن القيِّم في كتابه الماتع: "الفوائد" ص124، فليُنظر.

[42] - وقد قرَّر هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيميَّة في عشر مجلدات في كتابه الماتع: "درء تعارض النقل والعقل - موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول".

[43] - وهما آيتان من سورة النساء؛ حيث يقول الله - تعالى -: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 11]، وقوله - تعالى -: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 12].

[44] سواء كانتْ في قوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 240]، أم في قوله - تعالى -: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180].

[45] "التحبير في علم التفسير"؛ للحافظ السيوطي، ص 432.

[46] قال الشيخ ابن قاسم في "حاشية الرَّوْض المُرْبِع شرح زاد المُسْتَقْنِع"، جـ1 ص 9 تعليق (1): "إثبات المسألة بدليلها تحقيق، وبدليل آخر تدقيق، والتعبير عنها بفائق العبارة ترقيق، وبمراعاة علم المعاني والبديع في تركيبها تنميق، والسلامة فيها من اعتراض الشرع توفيق، ونسأل الله بأسمائه الحسنى الهداية والتوفيق، لما اختُلف فيه من الحق إلى أقوم طريق"؛ انتهى.

[47] "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيميَّة، جـ3 ص: 157

[48] هناك صحابي واحد فقط نال شرف الصحبة مع أنه لم يلتق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره مع كونه مبصرًا، وهو يعدُّ صاحبًا من وجه، وتابعًا من وجه، وهو النجاشي - أَصْحَمَة ملك الحبشة - رضي الله عنه - كما بيَّن ذلك الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء"، جـ 1 ص428 بقوله: "معدود في الصحابة - رضي الله عنهم - وكان ممن حسُن إسلامه ولم يهاجر، ولا له رؤية، فهو تابعي من وجه، صاحب من وجه، وقد توفِّي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى عليه بالناس صلاة الغائب؛ رواه البخاري والنَّسائي"؛ انتهى.

[49] ذكرها العلامة الشيخ محمد أبو زَهْرَة في "أصول الفقه"، ص 200 اختصارًا لكلام الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين"، ج 1، ص 248.

[50] الشيخ محمد أبو زَهْرَة، أصول الفقه، ص 201.

[51] "إعلام الموقعين عن رب العالمين"؛ للإمام ابن القيم، جـ 1 ص 131.

[52] "شرح نظم الورقات"؛ للشيخ ابن عثيمين، بتصرف، جـ1 ص 180.

[53] يقصد الإمام العِمْرِيطي (ت حدود 890 هـ) صاحب نظم الورقات للإمام الجُوَيني ( ت 478 هـ).

[54] كما في "مجموع الفتاوى"، جـ 35 ص 173، وكذا في جـ 30 ص 226، وفي "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم"، جـ 1 ص 54.

[55] - يقصد الشيخُ ابن عثيمين: الإمامَ العِمْريطيَّ ناظم الورقات؛ للإمام الجويني.

[56] - هذا كما في نظم الإمام العِمْريطي لورقات الإمام الجُوَيْني.

[57] "أصول الفقه"؛ للشيخ محمد أبي زَهْرَة، ص 231.

[58] - "الرسالة"؛ للإمام الشافعي، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، ص 479.

[59] - "مدارج السالكين"؛ للإمام ابن القيِّم، جـ 2 ص: 390.

[60] ينظر لذلك في: "الموافقات"، ج 4 ص 207، "الاعتصام" ص 390 للإمام الشاطبي.

[61] وقيل: السَّرْخَسِي، والأول أشهر.

[62] "المبسوط"؛ للإمام السَّرَخْسِيِّ، ج 13 ص 14 ومثله في ج 19 ص 41: "فصار التقييد الثابت بالعرف كالثابت بالنص"؛ انتهى.

[63] ص 255

[64] "إعلام الموقعين"؛ للإمام ابن القيِّم، جـ4 ص 228.

[65] - "علم أصول الفقه"، ص 84 .

[66] - "أصول الفقه"؛ للشيخ محمد أبي زَهْرَة، ص 259.

[67] - نفسه، ص 26.

[68] - "أصول الفقه"، ص 274 بتصرُّف يسير.

[69] - نفسه، ص 276

[70] - "أعلام الموقعين"؛ للإمام ابن القيم، ج 1 ص 339.

[71] وسموا بذلك لاعتزال أئمتهم لجماعة أهل السنة، فقيل لهم: معتزلة، وكان ظهورهم بمسألتين باطلتين، هما: خلق الإنسان لأفعال نفسه، ومسألة مرتكب الكبيرة، وبالجملة هم منسوبون للأمة الإسلامية.

[72] أو كان رفعًا للحكم المتَقَدِّم.

[73] "ميزان الأصول"؛ للإمام علاء الدين السَّمرقندي، ص 700.

[74] نفسه ص 719.

[75] "مجموع الفتاوى"؛ للإمام ابن تيميَّة، ج 27 ص 370.

[76] "الجواب الصحيح لمن بدَّلَ دين المسيح"؛ الإمام ابن تيميَّة، ج 2 ص 436 - 438.

[77] "مجموع الفتاوى"؛ للإمام ابن تيميَّة، ج 1 ص 258.

[78] "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم"، ج 1 ص 464 بتصرف يسير.

[79] "أصول الفقه"؛ للشيخ محمد أبي زَهْرَة، ص 294.

[80] - ((إن قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة))؛ قال الإمام الهَيْثَمِيُّ: "رواه الطبراني، والبزار، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، وقد يحسن حديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح"؛ انتهى، والحديث رواه الحاكم وابن عساكر وذكر الحافظ رواية البزار في "الفتح" وسكت عنها، فالحديث بمقتضى ذلك لا ينزل عن الحسن؛ كما في "هَدْي الساري"، ص 4.

[81] "أصول الفقه"؛ للشيخ الخضري، ص: 88.

[82] - في الباب الأول.

[83] - "أصول الفقه"؛ للشيخ الخُضَرِيِّ، ص 259

[84] "إعلام الموقعين"؛ للإمام ابن القيِّم، جـ4 ص 199.

[85] "الموافقات"؛ للإمام الشاطبي، جـ 4 ص 258.

[86] "علم أصول الفقه"، ص 378 بتصرف.

[87] نفسه، ص 379.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أصول الفقه ومدارس البحث فيه
  • عرض كتاب: الكثرة والقلة وأثرهما في مسائل أصول الفقه
  • تاريخ علم أصول الفقه
  • العلماء الذين لهم إسهام في علم الأصول
  • شرح الورقات في أصول الفقه للإمام الجويني (1)
  • أصالة الفقه الإسلامي بين الحقيقة والافتراء
  • نشأة أصول الفقه
  • صفحات من الذاكرة

مختارات من الشبكة

  • الأعظمية وصفحة جديدة من صفحات الطائفية في العراق(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • صفحات من حياة الفقيد العالم الزاهد الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • صفحات من حياة الشيخ أحمد مبارك مخدوم السيريلانكي (3)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • صفحات من حياة الشيخ أحمد مبارك مخدوم السيريلانكي (2)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • صفحات من حياة الشيخ أحمد مبارك مخدوم السيريلانكي (1)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • صفحات من حياة شيخنا محمد بن إدريس بلبصير(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • محاضرة (صفحات مشرقة من حياة المحدثين) للشيخ الدكتور سعد بن عبدالله الحميّد(مقالة - موقع موقع الأستاذ الدكتور سعد بن عبدالله الحميد)
  • خصائص ومميزات علم أصول الفقه: الخصيصة (3) علم أصول الفقه علم إسلامي خالص(مقالة - آفاق الشريعة)
  • صفحات رمضانية(مقالة - ملفات خاصة)
  • صفحات منسية من تاريخ الإسلام في روما والأملاك البابوية (1)(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 


تعليقات الزوار
1- رحم الله أبازهرة وأثاب كاتب المقال
إحسان - قطر 27-05-2010 12:48 PM

رحم الله الشيخ محمد أبوزهرة وهو غني عن التعريف، وأثاب الله كاتب المقال على أسلوبه الأخاذ وانتقائه لكل مفيد بوركتم

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 16/11/1446هـ - الساعة: 14:43
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب