سفيه لم يجد مسافها

سَفِيهٌ لَمْ يَجِدْ مُسَافِهًا

هذا مَثَلٌ يُروَى عن الإمام الحَسَن بن عليّ رضي الله تعالى عنهما (ت: 50هـ)، قالَه لِعَمرو بن الزُّبير بنِ العَوّام (ت: 65هـ) حين شَتَمَه عَمرٌو.

وَكَانَ عَمْرو بن الزُّبير ذَاهِبًا بِنَفسِهِ، شامِخًا بِأَنْفِهِ، إِذا شَتَمَهُ إِنْسَانٌ أعرضَ عَنهُ إِعْرَاضَ مَن لَا يَعْبَأُ بالشَّتْمِ. وهو الذي يقال فيه: «عَمرٌو ولا يُكَلَّم، ومَن يُكَلِّمْهُ اليومَ يَندَمْ».

كانَ يجلِسُ، فيُلقِي عَصاه بالبَلاط[1]، فَلا يَتَخَطّاها أَحَدٌ إلّا بإذنِه. ويَأمرُ غِلمانَه فيَمُدُّوا حَبْلًا في الطّريق فمَن مَرَّ به أَلْقاهُ غِلمانُه وحُبْشانُه.

فمَرَّ به الحسنُ بنُ عليٍّ رضي الله عنهما؛ فقال له حُبْشانُه: يا بنَ رسولِ اللهِ، نحن مَأمورونَ؛ فقال: «سَفيهٌ لو يَجِدُ مُسافِهًا».

وفي رواية: فشَتَمَ عَمْرٌو يَوْمًا الْحسَنَ رضي الله عنه؛ فَقَالَ له الحَسَن: (‌سَفِيهٌ ‌لم ‌يَجِدْ ‌مُسافِهًا)، وَسَكَتَ؛ فَقَالَ عَمْرٌو: لِمَ سَكَتَّ؟ قَالَ: [سَكَتُّ] لِما تَسْكُتُ لَهُ.

يُرِيد: أَنّ المُتَناهِيَ فِي الشَّرَفِ لَيْسَ لَهُ مَن يُسابُّهُ، وَإِنَّمَا يَتَسابُّ النُّظَراءُ.

وَمِنْه قَولُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ، يَهْجُو مِسْكِينًا الدَّارِميَّ[2]:

لَا تَسُبَّنَّنِي ‌فَلسْتَ ‌بِسِبِّي إِنَّ سِبِّي مِنَ الرِّجالِ الكَرِيمُ

وَقَالَ الفرزدق[3]:

وَلَيْسَ بِنَصْفٍ أَنْ أَسُبَّ مُقاعِسًا بِآبائيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الخَضارِمِ وَلَكِنَّ نَصْفًا أَنْ سَبَبْتُ وسَبَّنِي بَنو عَبْدِ شَمْسٍ مِنْ مَنَافٍ وهَاشِمِ أُولَئِكَ قَومٌ إِنْ هَجَوْني هَجَوْتُهمْ وأَعْبَدُ[4] أَنْ أهجُوَ كُلَيْبًا بدارِمِ

وقال حاجِب بنُ زُرارَة[5]:

وَقُلْ لِبَنِي سَعْدٍ فَمَا لِي وَمَا لَكُمْ تُرِقُّونَ مِنِّي مَا اسْتَطَعْتُمْ وَأَعْتِقُ أَغَرَّكُمُ أَنِّي بأَحْسَنِ شِيمَةٍ رَفِيقٌ وأَنّي بالفَواحِشِ أَخْرَقُ وأَنَّكَ قد فاحَشْتَني فَغَلَبْتَنِي هَنِيئًا مَرِيئًا أَنتَ بالفُحْشِ أَرْفَقُ ومِثْلِي إذا لَمْ يُجْزَ أَفضَلَ سَعْيِهِ تَكَلَّمُ نُعْماهُ بِفِيهِ فَتَنْطِقُ

هذا، وأصلُ السَّفَهِ، والسَّفَاهِ، والسَّفَاهَةِ: الخِفَّةُ[6]، والحَرَكَةُ، والاضطِرابُ، والمُنازَعَةُ.

وَقِيلَ: نَقِيضُ الحِلْم. وَقِيلَ: الْجَهْلُ. وَهُوَ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ.

وَقَدْ سَفِهَ حِلْمَه ورأْيَه ونَفْسَه: حَمَلَهُ عَلَى السَّفَهِ. وَالسَّفِيهُ: الْجَاهِلُ، والأُنثى سَفِيهَةٌ، وَالْجَمْعُ سَفِيهاتٌ وسَفائِهُ وسُفَّهٌ وسِفاهٌ. وسَفَّهَه تَسْفِيهًا: نَسَبَهُ إِلَى السَّفَهِ، وجَعَلَهُ سَفِيهًا. وسَفَّهَهُ: وسافَهَهُ مُسَافَهَةً: شاتَمَه وسابَّه.

ومِن أمثالِهم فِي السَّفَه قَوْلُهُم: خَابَ قومٌ لَا سَفِيهَ لَهُم. وإِنّ السَّفِيهَ إِذا لم يُنْهَ مَأْمُورُ.

وَنَحْوُ الْمَثَل قَولُ الشَّاعِر:

وَكُنْ ذَا تُقًى لِلهِ لَا شَيْءَ كالتُّقَى وحِلْمٍ أَصيلٍ واخْلِطِ الْحِلْمَ بِالْجَهْلِ

وفي خَبَرِ مريمَ العَذْراء - عليها وعلى نَبيِّنا الصّلاة والسّلام - قال تعالى: ﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26].

في قوله: ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ أمرَها اللهُ تعالى بنَذرِ الصَّمْت؛ بأنْ تَنذِرَ الصَّوْمَ عن الكلام. وقيل: إنّها أَخبَرتهُم بأنّها نَذَرَتِ الصَّوْمَ بالإشارة.

وإنّما مُنِعَتْ مِنَ الكَلامِ لِئلّا تَشْرَعَ مع البَشَرِ المُتَّهِمِينَ لها في الكَلامِ لِمعنيَيْنِ:

أَحَدُهما: أنّ عيسى - صَلواتُ الله عليه - يَكْفِيها الكَلامَ بما يُبَرِّئُ به ساحَتَها؛ لأنّ كَلامَه – عليه السّلام - أَقْوى لِحُجَّتِها في إزالةِ التُّهمَة عنها مِن كلامِها. وفي ذلك دلالةٌ على أنَّ تَفويضَ الأمر (الكَلام) إلى الأفضلِ أَوْلَى.

والثاني: كَرَاهَةُ مُجَادَلَةِ السُّفَهَاءِ ومُناقَلَتهم.

وَفِيهِ أَنَّ السُّكُوتَ عَنِ السَّفِيهِ وَاجِبٌ، ومِن أَذَلِّ النّاسِ: ‌سَفيهٌ ‌لم ‌يَجِدْ ‌مُسافِهًا.

يُنظَرُ في ذلك إلى قولِ أبي الطَّيِّبِ[7]:

وأَتْعَبُ مَنْ نَادَاكَ مَنْ لا تُجِيبُهُ وَأَغْيَظُ مَنْ عَادَاكَ مَنْ لا تُشَاكِلُ[هْ]

وفي الآية إشارةٌ إلى الصَّوْم عن الالتفاتِ لِغيرِ اللهِ تعالى.

ومِن بَلاغاتِ الزَّمخشَريّ:

1- ما قُدعَ السَّفِيه بمثلِ الإعراضِ، وما أُطلِقَ عِنانُه بمثلِ العِراض[8].

2- سَوْرَةُ السَّفِيهِ تَكْسِرُها الحُلَماءُ.

3- النّارُ المُضْطَرِمَةُ يُطْفِئُها الماءُ.

4- النّارُ تَأكُلُ نفسَها إنْ لم تَجِدْ ما تَأكُلُه.

واعلَم أنّ الأصلَ في باب ‌‌(التَّفاعُل) و(المُفَاعَلَة) أنْ تَقتضيَ هاتان الصِّيغتان المُشارَكَةَ. وقولُ الحَسَن رضي الله عنه (‌سَفِيهٌ ‌لم ‌يَجِدْ ‌مُسافِهًا) لا يُسْقِطُ هذا الأصلَ ولا يُلْغيهِ؛ لأنّه يقالُ في الفَرقِ المعنويِّ بينهما أنّ المُبادِئَ بالفعلِ أو الغالِبَ فيه معلومٌ في (المُفاعَلَة)، بخِلافِ (التَّفاعُل)، فإنّ المُبادِئَ فيه أو الغالِبَ غيرُ مَعلُومٍ.

ثمّ إنّ في كلامِ الحسن رضي الله عنه قَرينةً تَدلُّ على أنّ (المُسافِهَ) - بكسرِ الفاء - ليس هو البادِئُ بالسَّفَهِ، حينَ قال: (‌سَفِيهٌ ‌لم ‌يَجِدْ ‌مُسافِهًا)، وإنّما المراد: سَفيهٌ لم يَجِدُ مَن يُقابِلُ سَفَهَهُ بمِثلِهِ فيُشارِكُهُ فيهِ.

مظانّ المبحث:

1- أدب الدّنيا والدّين (ص263)[9].

2- أساس البلاغة (1/ 460 سفه)[10].

3- أمالي الزَّجّاجيّ (ص33)[11].

4- [كتاب] الأمثال (ص79 - 80 رقم 174)[12].

5- تاج العروس (36/ 401 سفه)[13].

6- تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه (5/ 582 – 583 مريم/26)[14].

7- تفسير حدائق الرَّوْح والرَّيْحان في رَوابي علوم القرآن (17/ 114)[15].

8- التّمثيل والمحاضرة (1/ 40)[16].

9- جمهرة الأمثال[17] (1/ 508 الباب 12) - (1/ 511 - 512 رقم 929).

10- جمهرة النَّسَب (ص70)[18].

11- دراسات في النّحو (ص390 - 391)[19].

12- شرح ديوان الفرزدق (2/ 523/552)[20].

13- ديوان المتنبّي (ص165)[21].

14- ديوان المعاني (1/ 81)[22].

15- روح البيان (5/ 328 - 329)[23].

16- زهر الأَكَم في الأمثال والحِكَم (3/ 168 - 169)[24].

17- [كتاب] الزّهرة (ص672 الباب 75)[25].

18- سراج الملوك (ص84)[26].

19- سَفَط المِلْح وزَوْح التَّرَح (ص349)[27].

20- شرح شافية ابن الحاجب (1/ 101)[28].

21- الصّحاح (6/ 2234)[29].

22- فتوح الغَيب (10/ 11 مريم/26)[30].

23- فصل المقال لأبي عُبيد البَكْريّ (ص102 - 103)[31].

24- القاموس المحيط (ص1247 السَّفَه)[32].

25- الكشّاف (3/ 14 مريم/26)[33].

26- اللُّباب في علوم الكتاب (13/ 51 – 52 مريم/26)[34].

27- لسان العرب (13/ 498 سفه)[35].

28- مجمع الأمثال للميدانيّ (1/ 339 – 340 رقم 1846)[36].

29- المحيط في اللّغة (3/ 416 سفه)[37].

30- المستقصى في أمثال العرب (2/ 118 – 119 رقم 412)[38].

31- معجم ديوان الأدب (2/ 392)[39].

32- مفاتيح الغَيب (21/ 206 - 207)[40].

33- نَثر الدُّرّ في المحاضرات (6/ 177)[41].

34- نجعة الرّائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد (ص99)[42].

35- نَشوة الطَّرَب في تاريخ جاهليّة العرب (ص451)[43].