• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    فتنة الابتلاء بالرخاء
    أ. د. فؤاد محمد موسى
  •  
    الحج ويوم عرفة (خطبة)
    د. محمد بن مجدوع الشهري
  •  
    خطبة (المساجد والاحترازات)
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    لماذا قد نشعر بضيق الدين؟
    شهاب أحمد بن قرضي
  •  
    حقوق الأم (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    الدرس الواحد والعشرون: غزوة بدر الكبرى
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    أهم مظاهر محبة القرآن
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    تفسير سورة المسد
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    الحديث: أنه سئل عن الرجل يطلق ثم يراجع ولا يشهد؟
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد
  •  
    التجارب
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    خطبة مختصرة عن أيام التشريق
    رمضان صالح العجرمي
  •  
    قالوا عن "صحيح البخاري"
    د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (12)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    عشر أيام = حياة جديدة
    محمد أبو عطية
  •  
    من مائدة الحديث: فضل التفقه في الدين
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    خطبة: فما عذرهم
    أحمد بن علوان السهيمي
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن / تفسير القرآن الكريم
علامة باركود

تفسير سورة التوبة (الحلقة الثالثة عشرة) حكمة الوحي وتصنيفه للمجتمع الإسلامي في آخر عهد النبوة

تفسير سورة التوبة (الحلقة الثالثة عشرة) حكمة الوحي وتصنيفه للمجتمع الإسلامي في آخر عهد النبوة
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 10/6/2024 ميلادي - 3/12/1445 هجري

الزيارات: 1182

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير سورة التوبة (الحلقة الثالثة عشرة)

حكمةُ الوحي وتصنيفُه للمجتمع الإسلامي

في آخر عهد النبوة


بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.


قال الله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ *يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ * وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *﴾ [سورة التوبة: 91، 110].


الأهداف السامية الكبيرة والقيم الراقية الخطيرة، لا يسعى لها ولا يحمل همها أو يدفع ضريبتها إلا ذوو النفوس الأبية والهمم العالية والعقول النيرة السوية، وهل في الكون أعلى وأرقى وأسمى من قيم الإسلام، وهل في الناس أسمى نفسا وأعلى همة وأسطع نورا من محمد صلى الله عليه وسلم، وبعده خيار صحابته من المهاجرين والأنصار وقد قال عنهم الحق تعالى:﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود ﴾ [الفتح: 29]، يليهم الصابرون المحتسبون من إخوانه صلى الله عليه وسلم وقد قال عنهم:[1] (وددت أني لقيت إخواني، فقال أصحابه: أوليس نحن إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)، وهم نخبة كل جيل من حملة الهم الإسلامي في كل عصر، بشر بهم صلى الله عليه وسلم فقال:(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)[2]،


هؤلاء حملة هم الإسلام، ونصراء دعوته كلما استأسد الباطل وتنمر الجهل وطغى عدوان الظالمين، وتخاذل المتهاونون وخانه المنافقون، وعجز عن نصرته الضعفة، انبعثوا غير هيابين ولا متقاعسين أو مترددين، يحمون مسيرة الإسلام بالنفس والمال والأهل والولد، كما تجلى ذلك في أول محاولة استضعاف للمسلمين في المدينة، إذ انطلق أسودهم في غزوة بدر بقيادته صلى الله عليه وسلم يذيقون المعتدين أقسى آيات الزجر والتأديب، وفي آخر غزوة بقيادته أيضا صلى الله عليه وسلم إلى تبوك إذ انطلقت إليها النخبة تلقن الروم في الشام ما يكف شرهم، ويخضد شوكتهم، وتأخرت عنها فئات من ذوي الأعذار الحقيقية، وأخرى من المنافقين المعذِّرين والمتآمرين، فنزلت سورة التوبة بمسح شامل لجميع فئات المجتمع الإسلامي في هذه الفترة وما بعدها خلال السنتين الأخيرتين من حياته صلى الله عليه وسلم، مسح أقر الصادقين الأقوياء بصدقهم وأشاد بهم، وصنفهم، صنفا أسلموا ولم يبلغ بهم إيمانهم حد السخاء بالمال والنفس، وصنفا منافقا كذبوا على الله فكشف أسرارهم وبين مآلهم في الدنيا والآخرة، وحذرهم وحذر منهم، وصنفين آخرين من المؤمنين: أولهما الذين عجزوا عن الخروج إلى الجهاد لعذر شرعي، ضعفا بينا أو مرضا معجزا أوفقرا مدقعا أوعجزا عن المساهمة في النصرة بالمال والنفس، فرفع عنهم الله الإثم والمساءلة وقال عن أولهم: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 91].


والصنف الثاني مؤمنون ليست لهم رواحل يركبونها وليس للرسول صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، والطريق إلى تبوك طويل شاق والعدو شرس قوي، فأعفاهم صلى الله عليه وسلم من الخروج ولم يأثموا بتخلفهم، وقال عنهم الحق تعالى:﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 92].


أما الصنف الأول فجاء ذكره عقب الحديث عن طائفة من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك بعذر منتحل باطل وآخرين مثلهم قعدوا جرأة من غير تكلف عذر، ليميزه الله عنهم، ويثبت له أجره ولو لم يخرج، لأن مانعه فوق الطاقة تجاوزه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم[3]:(إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة، فإن هم بها فعملها كتبها الله تعالى عنده عشرة حسنات، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها فعملها كتبها الله تعالى سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك).


هذا الصنف من الصادقين حال بينهم وبين الخروج عجز تام بسبب منهم وسبب من غيرهم، كما روي عن زيد بن ثَابت قَالَ: كنت أكتب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَرَاءَة، فَكنت أكتب مَا أنزل الله عَلَيْهِ، فَإِنِّي لواضع الْقَلَم على أُذُنِي إِذْ أمرنَا بِالْقِتَالِ، فَجعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينظر مَا ينزل عَلَيْهِ، إِذْ جَاءَ أعمى فَقَالَ: كَيفَ بِي يَا رَسُول الله وَأَنا أعمى؟ فَنزلت: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 91]. والمعفون من الخروج للجهاد بنص هذه الآية الكريمة هم:﴿ الضُّعَفَاءِ ﴾ [التوبة: 91]، من الشُّيُوخ والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم والزًّمْنَى[4] المصابين بعوائق بدنية مزمنة كالعمى والعته ومبتوري بعض الأطراف، و﴿ الْمَرْضَى ﴾ [التوبة: 91]، بأي مرض من طبيعته أن يعوق عن الخروج، مرجوَّ الشفاء أو غير مرجوِّ، و﴿ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 91]، أي: الذين لايستطيعون توفير حاجاتهم الضرورية أثناء الخروج، لأن المقاتل حينئذ كان ملزما بتوفير غذائه وركوبته بصفتهما من الجهاد بالمال.


وقد بدئت هذه الآية الكريمة بفعل ماض ناقص جامد يفيد نفي الحرج ابتداء وانتهاء عن هذه الطائفة من المؤمنين هو ﴿ لَيْسَ ﴾ [التوبة: 91]، وخبرها مقدم هو شبه الجملة من قوله تعالى:﴿ عَلَى الضُّعَفَاءِ ﴾ [التوبة: 91]، وما عطف عليها من قوله عز وجل:﴿ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 91]، أما اسم ليس فمؤخر هو ﴿ حَرَج ﴾ [التوبة: 91].


والحرَج لغة هو تجمع الشيء وضيقه، أو الضيق الذي لَا منفذ فِيهِ ولا مخرج منه، ومنه يقال: "الحَرَجَة"، وَهِي الشّجر الملتف حَتَّى لَا يُمكن الدُّخُول فِيهِ وَلَا الْخُرُوج منه، ومنه قوله تعالى:﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ﴾ الأنعام 125، أي ضيقا غير قابل لنصح أو تذكير، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أُحَرِّج حق الضعيفين اليتيم والمرأة)، فلا يعتدى عليه أو يغتصب أو يُنتقَص، ويطلق حسب سياق وروده أحيانا على الشك، كما في قوله تعالى:﴿ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65] أي شكا، لِأَن الشاك فِي الْأَمر لَا ينفُذ فِيهِ، ويطلق الحرج أيضا على الإثم كما في هذه الكريمة التي تنفي الإثم عن أصحاب الأعذار الشرعية المذكورين فيها، وهي بذلك حكم شرعي رفع الله تعالى به الحرج الذي هو الإثم وعقوبته، عن المؤمنين في مواطن العسر والعجز عن أداء الواجب الديني، ضعفا عاما عائقا أو مرضا معجزا أو فقرا مدقعا، سبق نزوله من قبل في سورة النور بقوله تعالى:﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾ [النور: 61]، وفي سورة الفتح بقوله عز وجل: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾ [الفتح: 17].


إلا أن رفع الإثم عنهم في هذه الآية مشروط ومقيد بقوله تعالى عقبها مباشرة: ﴿ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 91]، والنصح والنصيحة خلاف الغش والخديعة، ومنه التوبة النصوح أي لا غش فيها ولا تردد، والفعل منه "نصح" يتعدى بنفسه فيقال: نصحه، ويتعدى باللام فيقال: نصح له، كما في هذه الآية الكريمة:﴿ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾أي: لاحرج عليهم ما حافظوا على إخلاصهم ونصحهم لله وللرسول أثناء تخلفهم عن الخروج، فلم يخونوا ذمة، ولم يتآمروا مع عدو، ولم يطعنوا في المجاهدين، ولم يخونوهم في أهلهم أو ذرياتهم أثناء غيابهم، أو يسلموهم لما يضرهم، وكانوا حماة للأمة صادقين وعيونا ساهرة يقظة، ودروعا متينة واقية، فإن فعلوا ذلك أدوا واجب النصيحة، وكانوا نصحاء لله صادقين في إيمانهم به سبحانه، ونصحاء لرسوله مؤمنين حقا برسالته موفين بعهدهم معه، نصحاء للمسلمين يحفظون غيبتهم ويرعون حرمتهم، وذلك منهم الدين القيم الذيبينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله فيما أخرجه مسلم: (إنَّما الدِّينُ النَّصيحَةُ، إنَّما الدّينُ النَّصيحَةُ، إنَّما الدّينُ النَّصيحَةُ). فقيلَ: لِمَن يا رسولَ اللهِ؟ قال: (للهِ ولِكِتابه ورسولِه ولأِئمَّة المُؤمِنينَ وعامَّتِهِم)، ثم ختم عز وجل الآية مؤكدا مضمونها بقوله سبحانه: ﴿ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [التوبة: 91]، أي ليس إلى هذه الطائفة التي تخلفت بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصحت، من سبيل لمؤاخذتها أو سبب لتأثيمها أو مبرر لمساءلتها ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 91]، يغفر ذنوبهم ويشملهم برحمته.


أما الصنف الثاني من المؤمنين الذين لا يضرهم التخلف عن الجهاد فهم من قال عنهم الحق تعالى: ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ﴾ [التوبة: 92]، أي: الذين إذا ما لبوا نداء الجهاد وليست لهم ركوبة فأتوك ولم تستطع توفيرها لهم ﴿ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ﴾ [التوبة: 92]، أي: ليس لدي رواحل أُرْكِبكُموها ﴿ تَوَلَّوْا ﴾ [التوبة: 92]، فرجعوا إلى بيوتهم ﴿ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا ﴾ [التوبة: 92]، بكاء من شدة الحزن ﴿ أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 92]، يحزنهم فوات فرصة الجهاد عليهم لافتقارهم إلى مال يشترون به الرواحل،قال ابن عباس: "سألوه أن يحملهم على الدواب فقال عليه السلام: (لا أجد ما أحملكم عليه) لأن الشقة بعيدة، والرجل يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه وبعير يحمل عليه ماءه وزاده"، وإن لم يكن للمقاتل زاد ولا راحلة صار كلا ووبالا على رفاقه في السفر وأثناء القتال.


وقد ذكرت الروايات أسماء كثيرة من هؤلاء الذين عجزوا عن توفير الركوبة فتولوا حزانى باكين، منها ما رُوي عن ابن عباس قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال لهم: (واللهِ لا أجِدُ ما أحملكم عليه)، فتَوَلَّوا وهم يبكون، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا"، ومنها ما أخرجه ابْن جرير عَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: جَاءَ نَاس من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستحملونه، فَقَالَ: ﴿ لَا أجد مَا أحملكم عَلَيْهِ ﴾ [التوبة: 92]، فَأنْزل الله: ﴿ وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك لتحملهم... ﴾ الآية... [التوبة: 92]، قَالَ: وهم سَبْعَة نفر من بني عمر بن عَوْف سَالم بن عُمَيْر وَمن بني واقن حرميّ بن عَمْرو وَمن بني مَازِن ابْن النجار عبد الرَّحْمَن بن كَعْب يكنى أَبَا ليلى وَمن بني المعلي سلمَان بن صَخْر وَمن بني حَارِثَة عبد الرَّحْمَن بن زيد أَبُو عبلة وَمن بني سَلمَة عَمْرو بن غنمة وَعبد الله بن عَمْرو الْمُزنِيّ، وفي رواية أنهم قالوا: "يا نبي الله إن الله عزّ وجلّ قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزومعك"، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: ﴿ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ﴾ [التوبة: 92]، فتولوا وهم يبكون، وما أخرجه ابْن سعد وَيَعْقُوب بن سُفْيَان فِي تَارِيخه وَابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه عَن عبد الله بن معقل قَالَ: إِنِّي لمن الرَّهْط الَّذين ذكر الله ﴿ وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك لتحملهم.. ﴾ الْآيَة... [التوبة: 92]،، وقال عنهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لقد خَلَّفْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا أنفقتم من نَفَقَة وَلَا قطعْتُمْ وَاديا وَلَا نِلتُم من عدوّ نيلاً إِلَّا وَقد شَركُوكُمْ فِي الْأجر، ثمَّ قَرَأَ ﴿ وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك... ﴾ الْآيَة... [التوبة: 92].


وإذ حكم الله تعالى في هذه الآيات الكريمة بأنه لا سبيل إلى إدانة هاتين الطائفتين من المؤمنين ولا حجة على مخالفتهم أو إساءتهم، وأنهم مأجورون بصدق نيتهم الخروج، وسعيهم فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، عقب عز وجل كأنه يمهد لختام سورة التوبة بتقريرٍ جمع بين الإيجاز والدقة، عن حالة المجتمع المسلم بجميع فئاته طبقا لموقفها من الدين اعتقادا وعملا واستماعا وطاعة، في السنتين الأخيرتين من حياته صلى الله عليه وسلم، وقبل نزول سورة المائدة التي أتم الله لهم بها تشريعات دينهم بقوله تعالى:﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3]، وبعدها سورة التوديع المسماة سورة النصر، ثم انقطع الوحي بوفاة مبلغه صلى الله عليه وسلم، وتحميل من بقي بعده من المسلمين مسؤولية الدين والدولة، لينظر ربهم كيف يعملون ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [آل عمران: 163]، مبتدئا بالذين عليهم سبيل المؤاخذة واللوم والعقاب وقوله تعالى:

﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ ﴾ [التوبة: 93]، إنه على الذين آثروا الدعة والراحة على البذل ومواقف العز والجهاد فذلت أنفسهم، وسألوك الإذن لهم بالتخلف وهم قادرون سلامةَ أبدان ووفرةَ أموال ﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ﴾ لِضَعَةِ نفوسهم وسقوط هِمَمِهِمْ آثروا البقاء في البيوت مع الصبية والنساء والعجزة والعجائز، واستطابوا الضعة مع الدعة ورضوا بها ﴿ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [التوبة: 93]، كره الله انبعاثهم وختم على قلوبهم فلا ينفذ إليها إيمان ينهضهم من حضيضهم﴿ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 93]، خطورة ما يرتكبون ولا عاقبة ما يرضون.


ثم بين سبحانه وتعالى ما يكون عليه حال الذين تخلفوا عن تبوك بمعاذير واهية أو جرأةً بدون استئذان، إذا ما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة منتصرا غانما، وشعروا بخزي موقفهم بين أهلهم وذويهم وعامة المسلمين، وكان من عادته صلى الله عليه وسلمإذا رجع من سفر أو غزاة أن يبدأ بالمسجد، فيصلي ركعتين ثم يجلس للناس. فجاءه كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه بضعة وثمانون رجلا من المنافقين المخلفين، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، هذا يشكي مرضه، وذاك قلة ذات اليد عنده، وآخر نساءه وعوراته، فقال عز وجل: ﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 94]، يلفقون لكم معاذير وتعلات لتخلفهم إذا رجعتم من غزوة تبوك فلا تصدقوهم وإنما ﴿ قُلْ ﴾ [التوبة: 94]، لهم يا محمد﴿ لَا تَعْتَذِرُوا ﴾ [التوبة: 94]، لا داعي لاعتذاركم ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ﴾ [التوبة: 94]، لن نصدقكم ﴿ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ﴾ [التوبة: 94]، قد نزل الوحي بأخبارك كشفا لها وتحذيرا منها إشارة إلى قوله تعالى:﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 47]، فاختاروا لأنفسكم توبة أو إصرارا على النفاق ﴿ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ﴾ [التوبة: 94]، لأن العمل مصداق الإيمان المعلن باللسان ﴿ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 94]، يرى دليل إيمانكم وطاعتكم في عملكم زكاة وصدقة وجهادا ﴿ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [التوبة: 94]، سبحانه يوم القيامة ﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 94]، فيكشف لكم حقيقة أعمالكم بميزان عدله، ما كان منها له وما كان لغيره.


وأضاف فئة أخرى ممن عليهم سبيل التأثيم والمؤاخذة لتخلفهم فقال عز وجل﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ ﴾ [التوبة: 95]، حلفا كاذبا أنهم مؤمنون صادقون فيما يقولون ويزعمون ﴿ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 95]، إذا رجعتم إلى المدينة ﴿ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ﴾ [التوبة: 95]، لتتجاوزوا عما ارتكبوه وتتغاضوا عنه وتعرضوا عن محاسبتهم عليه أو لومهم أو التعريض بهم ﴿ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ﴾ [التوبة: 95]، أعرضوا عن لومهم أو عتابهم أو الحديث معهم حول تخلفهم أو في أي أمر من أمور المسلمين ﴿ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾ [التوبة: 95]، والرِّجْسُ لغة هو القَذَرُ نفسه والنجاسة نفسها، من فعل: رَجُسَ الشيءُ يَرْجُسُ رَجاسَةً فهو رِجْس، أي نَجِس ينجَس نجاسة، فهو نَجَسٌ، ومنه قوله تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90]، وقوله عز وجل: ﴿ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه ﴾ [الأنعام: 145]، ولم يقل تعالى إنهم مرجوسون أي: ملوثون بالرجس، لأن المرجوس تغسل نجاسته فيتطهر، ولكنه تعالى قال: ﴿ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾ أي هم عين الرجس، والرجس لا يتطهر وإنما يُتطهَّر منه، والسلامة من قذره لا تتحقق إلا بالإعراض عنه وتجنبه، ولذلك قال تعالى: (فأعرضوا عنهم) [التوبة: 95]، أي تجنبوهم وابتعدوا عنهم، ثم بين مبرر الإعراض عنهم فقال: (إنهم رجس) [التوبة: 95]،، أي إنهم لخبث نفوسهم ونواياهم وأعمالهم عين الرجس الذي لا يُتطهَّرُ منه إلا برميه في المزابل، ﴿ وَمَأْوَاهُمْ ﴾ [التوبة: 95]، ومقامهم المعد لهم في الآخرة هو ﴿ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة: 95] نار جهنم جزاء لما كسبوه في الدنيا من الآثام.


وطائفة أخرى من المخلفين الحلافين، لا يحلفون طلبا لتجاوزكم عن خياناتهم، وإنما لينالوا الرضا عنهم فيستردوا مكانتهم السابقة بينكم، وعضويتهم الكاملة في المجتمع المسلم معكم، قال عنهم تعالى:﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ﴾ [التوبة: 96]، ليسترجعوا مودتكم ورضاكم عن إيمانهم وسلوكهم، ولهذا حذر تعالى من الرضاء عنهم بقوله عز وجل: ﴿ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 96]، أي: فإن رضيتم عنهم وقد نافقوا وخذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواقف الجهاد والنصرة فقد خالفتم ما يرضاه الله وارتكبتم ما يضركم ولا ينفعهم، وأنتم تعلمون أن الله لا يرضى عن الفاسقين، وأن ما لا يُرضِي الله لا يجوز للمسلم أن يرضى به، والآية إشارة واضحة بينة إلى بَدَهِيَّة عقدية هي أن من رضي بما يغضب الله فقد أغضب الله، ومن رضي بفسق الفاسقين فهو فاسق مثلهم، قال تعالى: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم ﴾ [المجادلة: 22].


ثم ذكر الحق تعالى بعدهم ثلاث طوائف أخرى في المجتمع الإسلامي من الأعراب، وهم العرب القاطنون خارج المدن في البادية سهولا وجبالا وصحارَى، وكان يغلب على طباعهم الجفاء والغلظة والشدة والقسوة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ بَدَا جَفَا)[5]، وذلك تبعا لطبيعة بيئتهم وندرة وسائل العيش فيها، فقال تعالى عن الطائفة الأولى:

﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 97]، ولفظ الأعراب جمع أعرابي، وهو من استوطن ما سوى المدينة من العرب أما لفظ العرب فخاص بجنس العرب عامة، سواء سكنوا البوادي أم سكنوا المدن والحواضر ﴿ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ﴾ [التوبة: 97]، من أهل الحضَر، لجفائهم وحدة طباعهم وشراستهم التي نشؤوا عليها، وبعدهم عن مواطن اللين والرفاه ومجالس العلم والتربية في المدن والحواضر ﴿ وَأَجْدَرُ ألا يَعْلَمُواْ ﴾ [التوبة: 97]، وأحقُّ وأخلقُ بأن يجهلوا﴿ حُدُودَ ما أنزل الله على رَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 97]، من أحكام الدين وهي الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة، لبعدهم عن مجلسه صلى الله عليه وسلم وانقطاعهم عن الاتصال بالمسلمين في المدينة، ولما في طباعهم من الحدة والجفاء والكبرياء ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 97]، عليم بطباع كل من أهل البادية وأهل المدينة، وبما في قلوبهم من الكفر أو النفاق أو الإيمان، يقدر لهم جميعا ما يناسبهم وما يستحقونه من أمري الدنيا والآخرة.


وقال عن الطائفة الثانية من الأعراب: ﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ﴾ [التوبة: 98]، أي: ومن الأعراب فئة أعلنوا إسلامهم بألسنتهم وينفقون إذا ما طلب منهم الإنفاق تقية ورياء، ويعدون ما ينفقونه مجرد غرامة فرضت عليهم وخسارة في أموالهم ﴿ وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر ﴾ [التوبة: 98]، وينتظرون أن تحيط بكم دوائر الضعف فينقلبوا عليكم ويعينوا عليكم ﴿ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 98]، وجبت لهم عواقب السوء تحيط بهم في الدنيا والآخرة، والله تعالى لا يغيب عن سمعه ما يسرون به لبعضهم، ولا يخفى عن علمه ما يبيتونه من مكر وخداع.


ثم عقب تعالى بالفئة الثالثة من الأعراب الذين أرضوا الله فرضي عنهم وقال عز وجل:﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [التوبة: 99]، ومنهم من يؤمن بالله حق الإيمان ويخشى حساب يوم الدين ﴿ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ ﴾ [التوبة: 99]، ويسعى بما ينفقه فِي سَبِيل الله لنيل ﴿ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 99]، بضم القاف والراء جمع "قُرْبة" ويراد بها القرب من رضاء الله بالإنفاق في سبيله، جمعها قربات إذا تعدد الإنفاق، ﴿ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ﴾ [التوبة: 99]، والصلوات لغة جمع مفرده صلاة، وأصل الصلاة الدعاء والاستغفار، وردت بصيغة الجمع لتعدد نفقاتهم وتعدد دعوات الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالمغفرة، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو لكل من يأتيه بصدقته ويستغفر له، عملا بقوله تعالى:﴿ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 103]، ﴿ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 99]، قرأ ورش ﴿ قُرْبَةٌ ﴾ بضم الراء والباقون بسكونها، أي: ألا إن صدقاتهم هذه مقبولة تقربهم حقا من رضاء الله ﴿ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ ﴾ [التوبة: 99]، بها ﴿ فِي رَحْمَتِهِ ﴾ [التوبة: 99]، فيغفر لهم ويقربهم ويشملهم برحمته في الدنيا بالتوفيق واليمن والرضى وفي الآخرة بالثواب والجنة ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 99]، يغفر ذنوبهم ويرحم ضعفهم فيتجاوز عنهم.


ثم ذكر بعد الأعراب الصالحين من هم خير من جميع هذه الطوائف وأقرب إلى الله فقال عز وجل:﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ﴾ [التوبة: 100]، من المهاجرين إلى الحبشة والمهاجرين إلى المدينة، ويلحق بهم - إن شاء الله برحمته – كل مسلم استضعف وخاف على دينه فهاجر إلى أرض أمن على الدين والنفس عملا بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97]، وعقب عز وجل بأمثالهم فقال: ﴿ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 100]، وهم اثنا عشر رجلا من قبيلتي الأوس والخزرج بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في العقبة في موسم حج السنة الثانية عشرة من النبوة، وثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان من أهل المدينة بايعوه كذلك في العقبة أثناء موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة، ومن أسلم بعدهم من الأوس والخزرج وغيرهم في المدينة عقب هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، ذكرهم الله تعالى عطفا بحرف الواو على المهاجرين وفي درجة واحدة معهم، لما َأخرجه أَبُو الشَّيْخ عَن أبي أُسَامَة وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم التَّمِيمِي قَالَا: مر عمر بن الْخطاب بِرَجُل وَهُوَ يقْرَأ ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأوّلون من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان ﴾ فَوقف عمر فَلَمَّا انْصَرف الرجل قَالَ: من أَقْرَأَك هَذِه؟ قَالَ: أَقْرَأَنيهَا أبيّ بن كَعْب، قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَيْهِ، فَانْطَلقَا إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذر أَخْبرنِي هَذَا أَنَّك أَقرَأته هَذِه الْآيَة، قَالَ: صدق تلقيتها من فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ عمر: أَنْت تلقيتها من فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟، قَالَ: فَقَالَ فِي الثَّالِثَة وَهُوَ غَضْبَان: "نعم، وَالله لقد أنزلهَا الله على جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وأنزلها جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على قلب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يستأمر فِيهَا الْخطابَ وَلَا ابْنه"، فَخرج عمر رَافعا يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُول: "الله أكبر الله أكبر".


ثم أضاف الحق تعالى للمهاجرين والأنصار غيرَهم بقوله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ ﴾ [التوبة: 100]، بالإسلام ونصرة الدين جهادا بالنفس والمال ﴿ بِإِحْسَانٍ ﴾ [التوبة: 100]، بأعلى درجات الإيمان وهو الإحسان، لقوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الإحسان: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ [التوبة: 100]، فتقبل منهم صالح أعمالهم ﴿ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [التوبة: 100]، فحمدوه وشكروه وأخلصوا عبادته ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [التوبة: 100]، كتبها الله لهم وأعدها لتكريمهم جزاء لهم وإحسانا إليهم﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]، لا يغادرونها أو يُخرجون منها أبدا، وذلك فوزهم العظيم بالسعادة في الآخرة جنة ورضوانا من الله كما قال تعالى عنهم: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [هود: 108].


ثم حذر الحق تعالى المهاجرين والأنصار من فئة أخرى منافقة مدسوسة في المدينة وما حولها فقال عز وجل:﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ﴾ [التوبة: 101]، أي: ومن الذين يلونكم حول المدينة وفي أطرافها القريبة أعراب منافقون ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ﴾ [التوبة: 101]، وكذلك من ساكنة المدينة الأصليين والمقيمين آخرون ﴿ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ ﴾ [التوبة: 101]، مغالون في النفاق مَرَنوا عليه ومارسوه حتى أتقنوه فصار سجية فيهم ﴿ لَا تَعْلَمُهُمْ ﴾ [التوبة: 101]، يا محمد لشدة خفائه فيهم وشدة حرصهم على إظهار الإخلاص وإبطان الكفر﴿ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ﴾ [التوبة: 101]، الله يعلمهم ويكفيكهم ﴿ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ﴾ [التوبة: 101]، سيعذبهم الله تعالى في الدنيا مرتين، ويضاعف لهم العذاب كما قال عز وجل: ﴿ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ [الْأَحْزَاب: 30]، بما يقدره ويعلمه مناسبا لكفرهم ونفاقهم ﴿ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ [التوبة: 101]، في الآخرة.


ثم أضاف الحق تعالى طائفة أخرى في المجتمع المسلم هم المخطئون التوابون فقال عز وجل:

﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ﴾ [التوبة: 102]، لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقروا له بأنهم آثروا الدعة وتخلفوا عن غزوة تبوك وقد ﴿ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا ﴾ [التوبة: 102]، منه جهادهم وما أنفقوه من قبل ﴿ وَآخَرَ سَيِّئًا ﴾ [التوبة: 102]، منه تخلفهم من بعدُ عن الجهاد، فنالوا حسنات واكتسبوا سيئات ﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 102]، وفعل الرجاء والمقاربة[6]﴿ عَسَى ﴾ كناية عن تحقق وقوع المرجو الذي هو توبة الله عليهم ومغفرته لهم، لأنه من خطاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102]، واسع المغفرة والرحمة. وهم طائفة من المخلفين ندموا فاعترفوا بذنبهم، ولم يموهوا بأية أعذار كاذبة، فلما بلغهم ما نزل في المخلفين أوثقوا أنفسَهم على سواري المسجد، وقالوا: "لا نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم"، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل المسجد، فصلى فيه ركعتين، على عادته، فرآهم وسأل عنهم، فذُكر له حالهم، فأطلقهم بمقتضى هذه الآية.


والآية وإن كانت في هولاء الصحابة فهي أيضا في عامة أمثالهم من المسلمين إلى يوم القيامة ما لم تطلع الشمس من مغربها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه البخاري: (أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فَابْتَعَثَانِي فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ ولَبِن فِضَّةٍ، فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْر مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاء، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالَا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، فَوَقَعُوا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَا لِي: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ، وَهَذَا مَنْزِلُكَ، قَالَا: أَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطر مِنْهُمْ حَسَن وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ).


إلا أن من تمام توبة المرء أن يخرج من ماله صدقة تطهره وتزكيه، لما أمر الله به من ضرورة تطهرهم بعد التوبة بالصدقة بقوله: ﴿ خُذْ ﴾ [التوبة: 103]، يا محمد ﴿ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ [التوبة: 103]، والصدقة في هذا السياق غير الزكاة ﴿ تُطَهِّرُهُمْ ﴾ [التوبة: 103]، بها من الآثام ﴿ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103]، تنمي بها حسناتهم وترفع درجاتهم، ﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 103]، واستغفر لهم ﴿ إِنَّ صَلَاتَكَ ﴾ [التوبة: 103]، استغفارك لهم ﴿ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 103]، أمن لهم وسكينة يوم القيامة ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]، يشهد عليهم بما سمعه منهم وما علمه من ظاهرهم وباطنهم.


ثم عقب تعالى يَحُضُّ عامة الناس على التوبة ويؤكد مغفرته لهؤلاء المخلفين: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [التوبة: 104]، أيجهلون أن الله وحده هو الذي يتوب على عباده ﴿ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ﴾ [التوبة: 104]، وأنه وحده هو الذي يقبل الصدقات ويضاعفها ويثيب عليها ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104] وأنه وحده لا غيره هو التواب على عباده الرحيم بهم، فإذا علموا هذه الحقائق الإيمانية فحضهم يا محمد على العمل بها والسعي على هديها ﴿ وَقُلِ ﴾ [التوبة: 105]، لهم وعدا بالقبول والمغفرة ووعيدا للمخالفة ﴿ اعْمَلُوا ﴾ [التوبة: 105]، توبوا وتصدقوا ﴿ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ﴾ [التوبة: 105]، توبتكم فيقبلها ويثيبكم عليها، وصدقاتكم فيباركها ويضاعف أجرها ﴿ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105]، فيشهدون لكم بها عند الله ﴿ وَسَتُرَدُّونَ ﴾ [التوبة: 105]، في الآخرة ﴿ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [التوبة: 105]، سبحانه وتعالى ﴿ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105]، فيذكركم بأعمالكم خيرها وشرها ويحاسبكم ويجزيكم بها.


وبعد أن ذكر الله تعالى من فئات المجتمع المسلم حينئذ طوائف الأعراب الثلاثة، الأشد كفرا، والمتربصين الدوائر بالمسلمين، ثم المؤمنين بالله ورسوله، ثم السابقين من المهاجرين والأنصار، ثم منافقي الأعراب في المدينة وحولها، ثم الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا بآخر طيبا، ذكر طائفة ليست غيرَهم جميعا قال عنها الله تعالى:﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 106]، ولفظ: ﴿ مُرجَوْن ﴾ من فعل "أرجى" بغير همز، أي أخَّر، وقرئ مُرْجَؤون من أرجأ بالهمز، والإرجاء هو التأخير، أي وآخرون لم يُذكَروا مع من سبق، أُرْجِئَ الحكم فيهم وتُرِك ﴿ لِأَمْرِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 106]، يفعل بهم ما يشاء ﴿ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ ﴾ [التوبة: 106]، بما فعلوه مما يعلمه من أمرهم ﴿ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 106]، برحمته ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 106]، عليم بما اكتسبوه من الحسنات وما اقترفوه السيئات، حكيم فيما يحكم به على عباده، ولئن ذهب معظم المفسرين إلى أن المعنيين بهذه الآية هم الثلاثة الذين تخلفوا عن تبوك، كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال ابن أبي أمية رضي الله عنهم، فإن هؤلاء الصحابة قد ذكروا في سياق آخر بمخالفتهم وتوبة الله عليهم بقوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ ]التوبة: 118]، والمُرْجَؤون بذلك غيرُهم، ولا يبقى في نظري - والله أعلم - للمُرجَئين إلا أنهم الذين تستوي حسناتهم وسيئاتهم يوم القيامة، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم الله وحده أسماءهم وعددهم، كأصحاب الأعراف الذين قال الله فيهم:﴿ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾ [الأعراف: 46]، أو الذين تآمروا في العقبة للفتك بالرسول صلى الله عليه وسلم وقال فيهم الحق تعالى:﴿ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ﴾ [التوبة: 74]، وكانوا حوالي اثني عشر رافقوه في غزوة تبوك، فعرفهم صلى الله عليه وسلم وذكرهم بأسمائهم لحذيفة رضي الله عنه واستكتمه إياهم، قال حذيفه: "سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عَدَّهُمْ كُلَّهُمْ، فَقُلْتُ: أَلَا تَبْعَثُ إِلَيْهِمْ فَتَقْتُلُهُمْ؟ فَقَالَ: (أَكْرَهُ أَنْ تَقُولَ الْعَرَبُ لَمَّا ظَفِرَ بأصحابه أقبل يقتلهم، بل يكفيهم الله بِالدُّبَيْلَةِ). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الدُّبَيْلَةُ؟ قَالَ: (شِهَابٌ مِنْ جَهَنَّمَ يَجْعَلُهُ عَلَى نِيَاطِ فُؤَادِ أَحَدِهِمْ حَتَّى تَزْهَقَ نَفْسُهُ)[7]. يؤكد هذا ما ورد بعد هذه الآية مباشرة من خبر أصحاب مسجد الضرار وكانوا طرفا من مؤامرة الاغتيال بالعقبة، تخلفوا في المدينة لإتمام بناء المسجد واستقبال العائدين من تبوك بعد المقتل المفترض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعلان الانقلاب الذي سولته لهم شياطينهم على النبوة، فقال الحق تعالى فيهم: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ﴾ [التوبة: 107]، بَنَوْه في جزء من بيت خِذام بن خالد، من بني عُبَيد بن زيد، أحد بني عمرو بن عوف[8]، وجعلوه خاصا بهم للصلاة، ﴿ ضِرَارًا ﴾ [التوبة: 107]، إضرارا بالمسلمين ﴿ وَكُفْرًا ﴾ [التوبة: 107]، بالله ورسوله ﴿ وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 107]، وشقا لجماعة المسلمين باعتزالهم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ﴾ [التوبة: 107]، وإعدادا وتمهيدا وانتظارا لعودة أبي عامر الفاسق من الشام كي يؤمهم فيه، وكان قد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد "لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتُك معهم"، فلم يزل يفعل ذلك إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازنُ ولّى هارباً إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهبٌ إلى قيصرَ وآتٍ بجنود، ومخرجٌ محمداً وأصحابَه من المدينة، فبنَوا مسجد الضرار في قباءَ، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم تمويها ومكرا: "بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجةِ والليلةِ المطيرة والشاتية، ونحن نحب أن تصليَ لنا فيه، وتدعوَ لنا بالبركة"، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني على جناح سفر وحالِ شُغْلٍ، وإذا قدِمنا إنْ شاءَ الله تعالى صلينا فيه)،فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من تبوك ونزل بذي أوان[9]،سألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه الوحي يخبره الله عزّ وجلّ خبرهم وما هموا به، فدعا مالك بنِ الدخشم ومعنِ بن عدي وعامر بنِ السكن ووحشي، فقال لهم: (انطلقوا إلى هذا المسجد الظالمِ أهلُه فاهدِموه وأحرِقوه)، ففعلوا، وأمر أن يتخذ مكانه كُناسة تلقى فيها الجيفُ والقُمامة. وهلك أبو عامر الفاسقُ بالشام بقِنَّسْرين، وأصبح الذين بنوه يتبرؤون مما كشفه الوحي من تآمرهم، فقال فيهم عز وجل: ﴿ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى ﴾ [التوبة: 107]، إنهم سيحلفون لكم بأغلظ الأيمان أنهم لم يريدوا ببناء مسجد الضرار إلا الخير ﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 107]، لكاذبون في دعواهم وفي أيمانهم.


ثم اتجه الوحي الكريم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى له: ﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ﴾ [التوبة: 108]، لا تصل فيه مطلقا ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ﴾ [التوبة: 108]، هو الذي أسس في قباء[10] أول مقدمه صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة ﴿ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ﴾ [التوبة: 108]، أولى أن تصلي فيه ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ﴾ [التوبة: 108]، هم المهاجرون والأنصار ومن اتبعهم بالإيمان، وكانوا لطباع أهل المدينة ووجود الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم يحرصون على نظافة مسجدهم وأبدانهم وبيوتهم ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108]، أي: المتطهرين، أدغم حرف التاء في الطاء المشددة، أي والحال أن الله يحب المتطهرين فيثيبهم لحرصهم على نظافة مسجدهم وأبدانهم وملابسهم ومساكنهم.


ثم أكد تعالى أحقية مسجده صلى الله عليه وسلم بالصلاة وأفضليته لها فقال عز وجل: ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ ﴾ الأنصارُ والمهاجرون بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاركته في البناء ﴿ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ ﴾ وهم على حال من التقوى والصدق والإخلاص ﴿ وَرِضْوَانٍ ﴾ ورضاء من الله عليهم ﴿ خَيْرٌ ﴾ [التوبة: 109]، أفضل وأحسن وأكثر بركة ﴿ أم من أَسَّسَ بُنْيَانَهُ ﴾ [التوبة: 109]، أم من أقام بناءه ﴿ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ﴾ والشفا هو الحافة، والجرف هو الجانب الواهي من الجبل احتفرت السيول ما تحته، فاهترأ وإذا بُنِيَ عليه انهار وهوى، أي: أم من أسس بنيانه على الكفر والنفاق والخيانة والتآمر، وهم المنافقون بنوا مسجد الضرار بأمر من أبي عامر الفاسق ﴿ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ [التوبة: 109]، فهوى بهم فيها، لأن أي بناء أقيم على أسس غير سليمة مآله الانهيار، كما ينهار البناء على شفا أي جرف هار، وتنهار الصلاة في مسجد الضرار بأصحابها في نار جهنم، وتنهار أعمال أي امرئ به في جهنم إذا كانت لغير الله ونوى بها الشر والإضرار بالمؤمنين، لذلك عقب الحق تعالى بقوله: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 109]، أي: والحال أن كل الذين يبنون أعمالهم على الخيانة والغدر والإضرار بالمؤمنين، والظلم والتآمر ويصرون على ذلك، لا يهديهم الله للتوبة، تخليا عنهم، وإسلاما لهم إلى أنفسهم، وعقوبة لهم في الدنيا، كما لا يهديهم لطريق الجنة أو يأخذ بهم إليها في الآخرة.


ثم قال تعالى عن مآل أصحاب مسجد الضرار ﴿ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا ﴾ [التوبة: 110]، سيبقى مسجد الضرار هذا ولو بعد هدمه وإحراقه ﴿ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [التوبة: 110]، في قلوب المنافقين هما وحزنا وغما وكآبة واضطرابا وشكا فيما فعلوه وعملوا له، وألما لفشلهم وانكشاف سرهم، وتوجسا وترقبا لما قد ينزل فيهم من القرآن، وحسرة لما بذلوه فيه من جهد ذهب سدى، ومال أنفقوه عليه فضاع، وآمال علقوها عليه فخابت، ومؤامرة دبروها فانكشفت ﴿ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ﴾ [التوبة: 110]، أي: لا تزول هذه الآلام عنهم إلا بأن تتقطع قلوبهم فيموتوا، ويسلمهم الموت إلى حساب الآخرة وعذاب جهنم، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ عليم بنواياهم وما يسرون وما يعلنون، حكيم فيما يقدره لهم من عذاب الدنيا وسوء المصير في الآخرة.


لقد أوجزت هذه الآيات الكريمة في مجملها حالة المجتمع الإسلامي، في الفترة الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، بجميع فئاته وانتماءاته العقدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما يستتبعها أو ينتج عنها من ولاءات ومواقف، ظلت تتفاعل بين يديه صلى الله عليه وسلم وأمام عينه، وهو يعالج إيجابياتها وسلبياتها بتوجيه من ربه، وما جبل عليه من حكمة وعظيم خلق، أناةً وصبرا ومصابرة، مع السابقين المخلصين من المهاجرين والأنصارالذين كانوا قاعدة المجتمع المسلم الصلبة، وحصنه الحصين، ودرعه الواقي المتين، وكأنها بما حوته تفصيلا وإيجازا وتلميحا وتصريحا إيذان بقرب ختم سورة التوبة، وكأن سورة التوبة كلها إيذان بقرب نهاية فترة النبوة، إذ لم ينزل بعدها إلا سورة المائدة في حجة الوداع وكانت تشريعية مكملة لأحكام الدين، ثم سورة النصر التي آذنت بالوداع وملأت قلوب المحبين الصادقين بالأوجاع، وأسلمت أمر الناس للناس، فصلى الله عليك وعلى آلك وسلم يا خيرهم وسيدهم وشفيعهم وقائدهم إلى الجنة، بفضله تعالى وكرمه وإحسانه.



[1] صحيح، الألباني.

[2] صحيح، الألباني.

[3] البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.

[4] زَمْنَى جمع مفرده زمين مثل مريض مرضى.

[5] قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ بَدَا جَفَا) وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ، وَمَا ازْدَادَ أَحَدٌ مِنْ سُلْطَانِهِ قُرْبًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللهِ بُعْدًا) رواه أحمد وصححه الألباني

[6] أفعال الترجي والمقاربة هي كاد وأخواتها، تعمل عمل كان وأخواتها فتدخل على الجملة الاسمية وترفع المبتدأ ويسمى اسمها، أما خبرها فلا يأتي إلا جملة فعلية فعلها مضارع. كما في الأثر: "كاد الفقر أن يكون كفرا"، وهو ضعيف أخرجه العقيلي في الضعفاء.

[7] خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ، وورد في خبر صحيح أخرجه أحمد في مسنده.

[8] قال ابن إسحاق:" كان الذين بنوه – أي مسجد الضرار- اثنى عَشَرَ رَجُلًا: خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ، مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدٍ، أَحَدِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَمِنْ دَارِهِ أُخْرِجَ مَسْجِدُ الشِّقَاقِ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنِ الْأَزْعَرِ، مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَابْنَاهُ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ، وَزَيْدُ بْنُ جَارِيَةَ، وَنَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ، مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَبَحْزَجُ، مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ، مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهُوَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ (بْنِ زَيْدٍ) رَهْطِ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ.

[9] بلد بينه وبين المدينة ساعة.

[10] بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم في موضع مسجده، وكانت مأمورة كما قال صلى الله عليه وسلم، والمكان مربد لسهل وسهيل غلامين يتيمين من الأنصار، كانا في حجر أسعد بن زرارة، فساوَم رسولُ الله الغلامين بالمربد ليتَّخذه مسجدًا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبي رسول الله، فابتاعه منهما. وكان فيه شجر غرقد وخِرَب ونخل وقبور للمشركين، فأمر رسول الله بالقبور فنبشت، وبالخرب فسُوِّيت، وبالنخل والشجر فقطعت، وصُفَّت في قبلة المسجد، وجعل طوله مما يلي القبلة إِلى مؤخره مئة ذراع، والجانبين مثل ذلك، أو دونه، وجعل أساسه قريبًا من ثلاثة أذرع، ثم بنوه باللِّبن، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني معهم، وينقل اللّبِنَ والحجارةَ بنفسه، ويقول:(اللهم لا عيش إِلا عيش الآخرةْ ... فاغفر للأنصار والمهاجرةْ).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير سورة التوبة (الحلقة السابعة) {إلا تنصروه فقد نصره الله}
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الثامنة) نشأة النفاق في المجتمع الإسلامي الأول
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة التاسعة) مصارع المنافقين في قلوبهم وألسنتهم وأيديهم
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة العاشرة) للمنافقين خسران وللمؤمنين رحمتان
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الحادية عشرة) المنافقون حسدة بخلاء لمازون
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الثانية عشرة) منافقون ذوو طول سفهاء وأعراب حول المدينة جبناء
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الرابعة عشرة) الجهاد جهادان، بالقرآن وبالسنان
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الخامسة عشرة - الأخيرة) بالقرآن يتميز الصادق عن المنافق

مختارات من الشبكة

  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الخامسة) لا مأمن من البلاء إلا بخالص الولاء(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الرابعة) ولائج السوء والبطانات الفاسدة أصل البلاء(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الثالثة) الوفاء للأوفياء والحزم مع الناكثين الطاعنين(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الثانية) المفاصلة مع الشرك والمشركين ظاهرًا وباطنًا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • التوبة.. التوبة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير القرآن بالقرآن من أول سورة المائدة إلى آخر سورة التوبة جمعًا ودراسة(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين تفسير سورة يونس (الحلقة السادسة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • التفسير الصوتي لسورة التوبة (2)(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • تفسير سورة التوبة كاملة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • التفسير الصوتي لسورة التوبة (1)(محاضرة - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • المرأة في المجتمع... نقاش مفتوح حول المسؤوليات والفرص بمدينة سراييفو
  • الذكاء الاصطناعي تحت مجهر الدين والأخلاق في كلية العلوم الإسلامية بالبوسنة
  • مسابقة للأذان في منطقة أوليانوفسك بمشاركة شباب المسلمين
  • مركز إسلامي شامل على مشارف التنفيذ في بيتسفيلد بعد سنوات من التخطيط
  • مئات الزوار يشاركون في يوم المسجد المفتوح في نابرفيل
  • مشروع إسلامي ضخم بمقاطعة دوفين يقترب من الموافقة الرسمية
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 3/12/1446هـ - الساعة: 23:30
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب