• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / منبر الجمعة / أصول فن الخطابة / مقومات الخطيب
علامة باركود

سر بلاغة خطب صالح بن حميد

سر بلاغة خطب صالح بن حميد
د. أحمد بن محمد عبيري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 21/1/2024 ميلادي - 10/7/1445 هجري

الزيارات: 8065

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

سر بلاغة خطب صالح بن حميد


قابلني أحد الأخوة بعد صلاة إحدى الـجُمَع فقال مُعجبًا: هل سمعت خطبة الشيخ صالح بن حميد اليوم؟ قلتُ: لا، وبعد ثنائه على الخطبة، قلتُ: أظن أن سِرَّ بلاغتها في كذا وكذا... وذكرتُ له ظاهرةً لغويةً وجدتُها في خطب الشيخ في بحث أكاديمي قدمتُه قبل أكثر من سبع سنين، وقبل نهاية نهار ذلك اليوم نشر من الخطبة في وسائل التواصل مقاطع مصورة، وكتابات متفرقة، فتأملتُها فإذا هي ذات الظاهرة اللغوية والسر القديم.

 

عند الحديث عن الأسرار البلاغية يخطر بالبال شيخ البلاغيين عبدالقاهر، فأبدأ بقوله: "لا بد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة، وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل"[1]، وهذه منهجية علمية قويمة، فالحكم بالبلاغة دعوى تحتاج إلى تعليل ودليل، فكان هذا المقال دليلًا وحجةً لدعوى كاتبه، والحكم بأن هذا الخطاب بلاغيٌّ يقتضي أن له قدرةً نافذةً يمكنها أن تغيِّر الأفكار والقناعات والسلوك؛ لأن "جماع البلاغة البصر بالحجة"[2].

 

عند كتابة هذا المقال عزمتُ على اختيار أكثر من خطبة؛ لأختار منها شواهد الظاهرة، ولكني وجدت أن خطبة واحدة كافية للدراسة والتحليل؛ فهذه الظاهرة منشورة في خطب الشيخ.

 

وخطبتنا المختارة بتاريخ: 11/ 11/ 1443هـ، وهي عن الأُخوّة[3] وعنوانها في الموقع الرسمي "أختك وأخاك"، وقد طار بها أصحاب القنوات في (اليوتيوب) وغيرها من مواقع التواصل، وسجلت أرقام مشاهدات عالية جدًّا، وتفننوا في تسميتها، والتعليق عليها، وهذا المقال لا يبحث في عناصر الخطبة الفنية، من مقدمة وعرض وخاتمة، ولكنه خاص بما أعتقده سر بلاغتها.

 

وهذه الظاهرة ليست لفظية ولا تصويرية بل تركيبية، وهي: تكرار المعنى الواحد في جُمَل متوالية؛ وذلك بإعادة الفكرة غير مرة للتأكيد والتأثير، ومن شواهدها: "العَلاقةُ بينَ الأخوة من أرقِّ العلاقاتِ وأَرْقَاهَا، وأَشدِّها وأَقْوَاها، وأقدَرِها على البقاء، ومِنْ أصلَبِها في الْمُلِمَّات، ومِنْ أوثَقِها في مواجَهة الصعاب والأزمات"، فالجُمَل الأربع الأخيرة تحمل ذات المعنى، ولكن بعبارات متباينة؛ وذلك لمحاصرة النفس وتقرير المعنى فيها، وهذه الظاهرة يكثر ورودها عندما يكون همُّ الخطيب التأثير والإقناع لا التعليم وبيان الأحكام؛ يقول الزمخشري: "النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عودًا عن بدء لم يرسخ فيها، ولم يعمل عمله"[4].

 

ومما يؤكد مناسبة التكرار للخطب أنها "في المواطن الجامعة، والمواقف الحافلة؛ لأن تلك المواطن تجمع البطيء الفهم، والبعيد الذهن، والثاقب القريحة، والجيد الخاطر، فإذا تكررت الألفاظ على المعنى الواحد توكد عند الذهن اللّقن، وصح للكليل البليد"[5].

 

والتكرار من أنواع الإطناب، وهو بأفانينه فن عربي أصيل، عرَّفه ابن الأثير بقوله: "هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة"[6]، وهذه الفائدة هي ساحة الفصحاء، أما إن كانت الزيادة غير مفيدة لم تكن من الإطناب، وبعض الناس يظن كل إطالة عيب، وهذا مردود، ولا أدَل على ذلك من استعمال القرآن بنظمه العالي لأنواع من الإطناب[7]، والعجيب أنه ربما كان الإطناب إيجازًا؛ لأنه "قد يطول الكلام في البيان عن المعاني المختلفة، وهو مع ذلك في نهاية الإيجاز"[8]، فربما بلغ القول الذي فيه إطناب في نفس المخاطب مبلغًا ما كان ليصل إليه غير البليغ بأضعاف ما قيل من الأقوال.

 

واعلم أن ليس كل تكرار للمعاني يكون بليغًا مؤثرًا، فكثيرًا ما يكون التكرار مُمِلًّا ثقيلًا على النفوس؛ فهي لا تنشط في متابعة ما سبق بيانه، ولكن ثمة سمات تسمو بالتكرار وتزيحه عن المذموم، وهي من سمات خُطب الشيخ صالح.

 

السمة الأولى: قِصَر الـجُمَل، فهي من أهم مكونات هذا التأثير؛ فالنفوس تنشط لها، وتؤثر فيها؛ وقِصر الجُمَل من المؤثرات في الخطبة؛ لأن الجُمَل القصيرة تناسب جوَّ العاطفة الثائرة، ويبقى صوت الخطيب مدويًا، ولهجته قوية، ونَفَسه نشيطًا، وطول الجملة يحصل معه فتور في الإلقاء، وضعف في الصوت، ويختل توازن الصوت، ويفقد الإيقاع المؤثر في أذن السامع[9].

 

ومن شواهد ذلك: "واعلموا -حفظكم الله- أن حل الخلاف بين الأخوة إمَّا بالحكمة، وإما بالمحكمة، أما المحكمة فبابها عريض، وسلمها طويل، وعتباتها كثيرة، في مداخل متعرجة، وسراديب ملتوية، ونهايتها بعيدة..." فمن قول الخطيب: (فبابها عريض) حتى نهاية الشاهد جاءت الجُمَل قصيرة رنَّانة، مؤدية وظيفة التأكيد والتأثير في أتمِّ صورة، فهذه الجُمَل الست تتابعت لغرض واحد وهو: التنفير من تحاكم الأخوة، ومشقة ذلك الطريق، وقِصَر هذه الجُمَل هو سِرُّ بلاغتها؛ "فهي مثل الطرقات المتوالية على الحديد الـمُحمى، تؤثر فيه وتُشكله"[10].

 

والخطبة خطاب شفوي لا يُفضِّل طول الجُمَل؛ لأنها تحتاج إلى نَفَس طويل للمتابعة، وفكر حاضر، يصلح للخطاب المكتوب الذي يحتمل إعادة النظر والتأمل، والخطاب الشفوي عُرضة لغفلة المخاطَب، فلو فاته في قصير الجمل مطلع القول أدرك آخره دون خلل، أو الجملة المؤكِّدة.

 

درجة تأثير هذه الجمل التوكيدية ترتبط بمؤثرات ترفع أسهمه وتهبط به، من أهمها قِصَر الجُمَل، فكلما قَصُرت بلغت مبلغًا كبيرًا، وإذا طالت قلَّ أثرها، وهنا شاهدان، يقول الشيخ في الأول: "الأُخُوَّة نعمة تصان بالرعاية، وتحاط بالعناية، وتُحفَظ عن المُكَدِّرات، وتُحرَس عن المنغِّصات"، ويقول الشيخ عن انتشار الود بين الأخوة: "فهذه البيوت المتصافية الكريمة يَصعُب حصرُها، ويَعجَز العادُّ عن عدِّها"، من الجليِّ أن الشاهد الأول يتفوق على الثاني، وذلك لأسباب منها القِصَر في الأول والطول في الثاني، فالشاهد الثاني لم يكن ذا أثر بالغ كما في الأول والشواهد قبله؛ وذلك لطول الجملتين، ولسبب آخر، وهو السمة الثانية التي تجعل التكرار بليغًا.

 

السمة الثانية: الجرْس والإيقاع، فهذه الجمل المتوالية توظِّف جمال الصوت، وتجعله وسيلة تأثير، فالجرْس أو الإيقاع "مؤثر غاية التأثير، نافذ في النفس أبلغ النفاذ"[11].

 

وهذا الجرس له صور كثيرة، ومما جاء في الخطبة، أو تحديدًا في هذه الظاهرة، وهي الجمل المتوالية والمتواطئة لغرض واحد: قِصَر الجُمَل، والسجع، والازدواج، والأول منها سمة تركيبية صوتية، والسجع ليس غريبًا عن خطب العرب؛ فقد كان شائعًا في الخطب الجاهلية[12]، يقول أبو هلال العسكري: "لا يحسن منثور الكلام، ولا يحلو حتى يكون مزدوجًا"[13]، وإياك أن تظن أن هذا الجمال الصوتي جرْس فارغ؛ يقول عبدالقاهر الجرجاني: "قد يُتوهَّم في بدء الفكرة، وقبل إتمام العبرة، أنَّ الحُسْن والقبح فيها لا يتعدَّى اللفظ والجرس، إلى ما يناجي فيه العقل النفس"[14]، وهذا يعني أن جمال الإيقاع وحُسْن الجرْس فيه مخاطبة للنفس، ويؤدي وظيفة سامية، وهي إيداع المعاني نفوس المخاطَبين وقلوبهم.

 

وهذه الأساليب الثلاثة قد تجتمع وقد تنفرد في الجُمَل المؤكِّدة، ومن شواهد اجتماعها ما قاله الشيخ عن يوسف عليه السلام وتعامله مع إخوته، وأنه أحسن إليهم في كل أحوال الحياة: "في بأسائها ونعمائها، في سرَّائها وضرَّائها"، فأنت ترى جرس الجملتين عاليًا؛ وذلك لأنه جمع الأساليب الثلاثة، فالجملتان قصيرتان مسجوعتان، ومما زاد إيقاع الجمل الازدواج؛ فقد جاءت الجملتان في توازن وتقابل حسن الجرس، شكَّله تعادل الجملتين واتفاقهما في الوزن، وقد قال الخطيب القزويني: "وأحسن السجع ما تساوت قرائنه"[15].

 

والجُمَل الموجزة المسجوعة تنقل الكلام من ساحة حديث عامة الناس، فتصير كأنها حكمة لا تقبل المراجعة؛ "ذلك أن توقيع الكلام وتوازنه يكاد يكون حجة على صدقه"[16].

 

ومن الشواهد التي لم تجمع الأساليب الصوتية الثلاثة: ثناء الشيخ على يوسف عليه السلام وبيان تعامله مع إخوته بعد أن رفعه الله سبحانه وتعالى، حيث قال: "لم تَصدُر منه عبارةُ لومٍ، أو لفظةُ عتابٍ، أو حالةُ استعلاءٍ، أو هيئةُ افتخارٍ"، فليس في الجمل سجع، ولم يتكلفه الشيخ، ومع ذلك كان الإيقاع مؤثرًا؛ فمن المجمع عليه عند أرباب البلاغة والنقد أن السجع إذا كان متكلفًا صار مذمومًا؛ لأن ذلك سيجعل المعاني تبعًا للألفاظ، ومما قاله الخطيب القزويني في ختمه للمحسنات اللفظية: أن أصل الـحُسن في ذلك كله أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني[17]، وتكلُّف المحسنات اللفظية يؤدي إلى خفاء المعاني وركاكتها، فيصير كغِمْد من ذهب على سيف من خشب[18].

 

عند تكرار الجمل التوكيدية تجد أن ثمة سمات لغوية تصاحب السِّمتَين السابقتين:

• الترادف.


• الطباق.


• الجمل الشرطية.


• الوصل.

 

فالأول: "ما كان معناه واحدًا وأسماؤه كثيرة"[19]. والثاني: "الجمع بين متضادين"[20]، وهو من المحسنات البديعية المعنوية، ومن شواهدهما: "عبادَ اللَّهِ، استعيذوا بالله من إخوةٍ بينَهم شحناءُ، وعداوةٌ وبغضاءُ، وغلظةٌ وجفاءُ، قطيعةٌ شنيعةٌ، وفُرقةٌ فظيعةٌ، خيرُهم مصروفٌ للناس، وشرُّهم مجموعٌ للإخوانِ، البعيدُ أنيسُهم، والقريبُ مُوحِشُهم"، هذه الجمل المتوالية جاءت للتنفير من عداوة الإخوة، والحث على الأُلفة، وقد وظَّف الترادف لتقرير ذلك، فإن ظاهرة الترادف بادية، وقد كانت خير معين للتأكيد والتأثير، يقول أبو هلال العسكري: "وزيادة الألفاظ التي تحصل فيه ليست بضائرة؛ لأن بسط الألفاظ في أنواع المنثور سائغ؛ ألا ترى أنها تحتاج إلى الازدواج، ومن الازدواج ما يكون بتكرير كلمتين لهما معنى واحد، وليس ذلك بقبيح إلا إذا اتفق لفظاهما"[21]، وهذا يعني أن التكرار منه محمود، وأن الترادف معين عليه؛ ففيه مخرج لطيف من الوقوع في تكرار اللفظ نفسه، وفي هذا تحايل على النفوس، ومحاصرتها بـجُـمَل متوالية تبدو متباينة، لكنها متفقة؛ حتى تُذعن له القلوب وتَقْبل، واعلم أن تركيب هذه الجُمَل يحتاج إلى توظيف الترادف، وهذا يعني أن هذه الظاهرة تحتاج من صاحب الخطاب إلى ثروة لفظية، سواء كان خطيبًا أو معلمًا أو غيرهما.

 

ومما يجب ألا يغيب أن هذا الترادف له وظيفة عظمى هي التأكيد والتقرير، ومما يعين على ذلك سهولة الألفاظ، فغرابتها تعطيل للخطاب وأثره، وهذا الوضوح لم يصل بالألفاظ إلى حدِّ الابتذال؛ بل جاءت الألفاظ واضحة، وهي في ذات الوقت في غالبها ليست من الألفاظ المطروقة المبتذلة، ولا هي من الغريب الوحشي، فقد جاءت: (الشحناء، البغضاء، الغلظة، الجفاء) وهي ليست من المستعمل المبتذل ولا الغريب المهجور، بل ألفاظ مكشوفة المعنى مُحركة للمشاعر؛ فالألفاظ حين لا تكون من المتداول تُحرِّك النفس والخاطر، فغير المألوف له دهشة.

 

وتجد الطباق في الشاهد السابق بين: (خيرهم وشَرِّهم) و(مصروف ومجموع) و(البعيد والقريب) و(أنيسهم وموحشهم)، ومن بلاغة الطباق أنه يجعل المعاني بارزة في النفوس، فقد استطاع الخطيب تقرير قبح عداوة الأخوة؛ فبيَّن عظيم الجور والظلم حين يكون الخير للبعيد والشر للقريب، وهذا البيان والجلاء سِرُّه في الطباق، فبضدها تتميز الأشياء.

 

فلو أن الخطيب أنكر على الأخوة تعاملهم بالشر ووحشتهم مع بعضهم لم تكن هذه الأخلاق مستقبحة في النفوس إلى الحد الذي كان مع وجود ضدها، من تعاملهم بالشر مع القريب والخير مع البعيد، فأنت ترى قبحها بارزًا في النفس ومستقرًّا في القلب، ولم يكن ذلك إلا بوجود الطباق القائم على جمع المعاني المتضادة.

 

والصاحب الثالث لهذه الجمل المؤكِّدة: الجمل الشرطية، ومن شواهدها قول الشيخ عن الأخ: "يَفرَحُ لفرحكَ، ويحزَنُ لحزنكَ، يردُّ غَيبَتَكَ، ويستر عَيبَتَكَ، إذا مددتَ يدكَ إلى خيرٍ مدَّها، وإِنْ رأى فيكَ ثغرةً سدَّهَا، وإِنْ نزلَتْ بك نازلةٌ واساكَ، وإِنْ سألتَه أعطاكَ، وإن سكتَّ ابتداكَ، يُؤثِرُكَ في الرغائب، ويتقدَّم عليكَ في النوائب، إذا غبتَ افتقَدَكَ، وإذا غفَلْتَ نبَّهَكَ، وإذا ضَلَلْتَ أرشدَكَ، وإذا دعَا ربَّه لم يَنْسَكَ، هو التاج على الرأس، والقلادة على الصدر، أخوك إذا وقَع فارْفَعْهُ، وإذا احتاج فساعِدْه، وإذا ضَعُفَ فَأسْنِدْهُ".

 

هذه القطعة الذهبية شاهد لتوظيف الجمل الشرطية في التوكيد، ولها شواهد أُخَر، ولكني آثرتُ هذه القطعة لكثرة الشرط فيها، ولأنها جاءت أنموذجًا لكل السمات والظواهر، والجمل الشرطية تلائم الخطاب الشفوي؛ فهي محكمة متماسكة، يصعب معها شرود الذهن والخاطر؛ لأن آخرها مرتبط بأوَّلِها.

 

اعلم أن البلاغة تبلغ بالقول في النفس مبلغًا قد تجد أثره، ولا تدرك سببه؛ ففي القطعة السابقة وغيرها من الخطبة عَطْف بين الجمل بالواو، وهو الوصل، وقد جاء بين الجمل التوكيدية، فكانت الواو كالسلسلة تضم الخرز فيكون غاية الجمال، والأصل أن العطف يقتضي التغاير، فحضور الواو بين الجمل المتواطئة على المسامع والقلوب يوهم أن الثانية غير الأولى[22]، وقل مثل ذلك في الثالثة والرابعة... فقد جاءت الواو بين الجملتين في قول الشيخ عن الأخ: "وإذا غفَلْتَ نبَّهَكَ، وإذا ضَلَلْتَ أرشدَكَ"، تعظيمًا لفضل الأخ على أخيه، فوجود الواو بين الجُمَل يوهمك أن الثانية فضل آخر، ونعمة حادثة ليست هي الأولى، ففي الواو مبالغة في بيان هذا الفضل وتحسينه، ثم ختم الشيخ المقطع بقوله: "أخوك إذا وقَع فارْفَعْهُ، وإذا احتاج فساعِدْه، وإذا ضَعُفَ فَأَسْنِدْهُ"، فكأنه قد أمرك ثلاث مرات، والمعنى بالوصل يجعله يزداد قوةً وظهورًا[23]، فكما أن الشيخ أغرقك سابقًا ببيان فضل أخيك عليك بجُمَل كثيرة، فهو هنا يستحثُّك ويأمرك بثلاث جمل توكيدية معطوفة بالواو، ليستنهض همتك، حتى لا تتركه على كل حال، ومع العطف تشعر أنها ثلاث حالات، والحقيقة أنها واحدة، وذلك حتى لا يترك في نفسك تردُّدًا حال حاجة الأخ.

 

ومما ينبغي التنبيه عليه أن هذا التوكيد كثير جدًّا في الجُمَل، وقد جاوزها حتى إنه سرى إلى المفردات، فكما أن الشيخ وظَّف الجُمَل المتوالية للتأكيد فإنه قد صنع مثل ذلك مع المفردات، حيث يقول: "إنَّ الحفاظ على الأُخوَّة في قوتها ومتانتها تحتاج إلى عَقْل، وحكمة، وصَبْر، وتحمُّل"، وقال: "واعلم -حفظك الله- أن كثرة الشيء تُرخِصُه، فلا تَكُنْ كثيرَ اللومِ، والنقدِ، والعتابِ، والاستقصاءِ، والتَّشَكِّي، واعلم أن كثرة العتاب طريقُ النُّفرةِ والاجتنابِ".

 

تأمل معي هذه الألفاظ: (عقل، حكمة)، و(صبر، تحمُّل)، و(اللوم، النقد، العتاب، الاستقصاء، التشكي)، و(النُّفرة، الاجتناب)، لا أستطيع الحكم بأن كل هذه الألفاظ مترادفة، ولكن من المؤكد أن أحدها يغني عن الآخر؛ وذلك لأن داعي التوكيد يلحُّ على الخطيب رغبة منه في تقرير هذه المعاني في النفوس، وما قيل في الـجُمَل يُقال في الألفاظ من قدرتها على محاصرة النفس، وعمل الواو بينها، لتبدو كأنها متغايرة في الدلالة على المعنى، فيعظم أثرها، من حث وتحسين، أو تنفير وتقبيح.

 

ثمة أمر يسري في الخطبة بين حروفها وكلماتها، حتى بين سطورها، في ظاهرة التوكيد وغيرها، وهي العاطفة، فقد تثور أو تهدأ في بعض أجزاء الخطبة، لكنها لا تغيب، ومن شواهدها الثائرة في ظاهرة التوكيد قول الشيخ: "إخوان النسب، بطن الأم حمَلَهم، وحِضْنُها ضمَّهم، ومن لبنها أرضعَتْهم"، فهي جمل تخاطب المشاعر، وتحرك القلوب ببيان ما جمع الأخوة يومًا من الأيام، ومن وسائل الإقناع والتأثير تحريك العواطف والطبائع، وتهييجها[24].

 

البلاغة علم شامل، فكما أنها حديث عن الـحَسن من القول والأحسن ففيها توجيه لأداء ذلك القول، فهذا الجمال في التركيب والجرس الحاصل بالسجع وغيره يحتاج إلى أداء حسن؛ حتى لا يَفسُد هذا الجمال، ويكون ذلك بالوقوف على رؤوس الجُمَل؛ وهذا السكون "واجب عند اختلاف الحركات الإعرابية، ومستحسن عند اتفاقها"[25]؛ فتركه إهدار لهذه القوة التأثيرية؛ يقول الخطيب القزويني: "واعلم أن فواصل الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفًا عليها؛ لأن الغرض أن يزاوج بينها ولا يتم ذلك في كل صورة إلا بالوقف"[26]، وترك السكون تعطيل له، ويُفقِد الجُمَل جرسها وقوة تأثيرها حتى يُخيَّل أنها جملة طويلة، فيضعف معها صوت الخطيب، وأثره.

 

ولحظات السكوت على السكون لحظة تسكن فيها المعاني في النفوس، وفي الوقوف فرصة للتلوين الصوتي من حزن وتعجب مثير للعاطفة، وهذا ما تجده في نبرة الشيخ حتى لكأنه يُكلم كل واحد منَّا، والخطبة إذا فقدت العاطفة ضعف أثرها، وفقدت أهم عناصرها التأثيرية، ومن وسائل نقل عاطفة الخطيب وصدقه مؤثرات الخطيب الصوتية، فهي تشي لنا بحسرته وألمه ومشاعره، وكل ذلكم سيفقده الخطيب إن هو لم يقف على الجُمَل، وسَرَدها سردًا.

 

واعلم أن مهارة توكيد القول بجمل قصيرة لها إيقاع مهارة لها قُدرة على التأثير، وليست خاصة بالخطابات العامة؛ بل صالحة في غيرها، ومن أسباب تكوين هذه المهارة مطالعة كتب الأدب، وكلام الفصحاء.



[1] دلائل الإعجاز: عبدالقاهر الجرجاني: 41، تحقيق: محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، 1413هـ.

[2] البيان والتبيين: 1/92، الجاحظ، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1423هـ.

[3] الموقع الرسمي لخطب الحرمين الشريفين: شؤون الأئمة والمؤذنين:

https://www.youtube.com/watch?v=ST9g2NJYHIk

[4] الكشاف: 4/ 123، أبو القاسم محمود الزمخشري، دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة، بيروت، 1407هـ.

[5] الصناعتين الكتابة والشعر: 373، أبو هلال العسكري، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1419 هـ.

[6] المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 2/ 120، ت: محمد محيي الدين، المكتبة العصرية، بيروت، 1416هـ.

[7] مثل: التكرار، وذكر الخاص بعد العام، والعكس.

[8] النكت في إعجاز القرآن: 80، أبو الحسن الرماني، تحقيق: محمد خلف الله أحمد، محمد زغلول سلام، دار المعارف، الطبعة السادسة، القاهرة، 2012م.

[9] انظر: خصائص الخطبة والخطيب:83، نذير محمد مكتبي، دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر، بيروت، 1419هـ.

[10] فن الخطابة: 176، أحمد الحوفي، شركة نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الرابعة، 2006م.

[11] مدخل إلى كتابي عبدالقاهر الجرجاني: 123، محمد محمد أبو موسى، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، 1418هـ.

[12] انظر: الفن ومذاهبه في النثر العربي: 35، شوقي ضيف، دار المعارف، الطبعة الخامسة عشرة، القاهرة، 2012م.

[13] الصناعتين الكتابة والشعر: 260، أبو هلال العسكري، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1419 هـ.

[14] أسرار البلاغة: 6، عبدالقاهر الجرجاني، تحقيق: محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، 1413هـ.

[15] الإيضاح: 279، الخطيب القزويني، تحقيق: غريد الشيخ محمد، إيمان الشيخ محمد، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1425هـ.

[16] في بلاغة الخطاب الإقناعي: 116، محمد العمري، إفريقيا الشرق، الطبعة الثانية، 2002م.

[17] انظر: الإيضاح: 283.

[18] انظر: مختصر المعاني شرح تلخيص المفتاح: 408، سعد الدين التفتازاني، تحقيق: ماهر محمد عدنان عثمان، دار تحقيق الكتاب، الطبعة الأولى، 2018م.

[19] التعريفات: 199، علي بن محمد الجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ.

[20] الإيضاح: 238.

[21] الصناعتين الكتابة والشعر: 218.

[22] انظر: دلالات التراكيب دراسة بلاغية: 304، محمد محمد أبو موسى، مكتبة وهبة، الطبعة الرابعة، القاهرة، 1429هـ.

[23] انظر: دلائل الإعجاز: 226.

[24] انظر: الحجاج في البلاغة المعاصرة: 12، محمد سالم محمد طلبة، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى، بنغازي، 2008.

[25] حاشية الدسوقي على مختصر السعد: 4/ 197، محمد بن عرفة الدسوقي، المكتبة العصرية، الطبعة الأولى، 1428هـ.

[26] الإيضاح:280.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • صدر حديثاً (اليسير في اختصار تفسير ابن كثير) بإشراف الشيخ صالح بن حميد
  • (رجال صدقوا.. رثاء ووفاء) كتاب للشيخ صالح بن حميد

مختارات من الشبكة

  • الأسرة السعيدة بين الواقع والمأمول (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • البلاغة السفلى(مقالة - حضارة الكلمة)
  • سلسلة فقه الأسرة: الخطبة (1) أسس بناء الأسرة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أنواع الخطابة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أوجه البلاغة: نحو تقريب البلاغة وتأصيل أوجهها النقدية ليوسف طارق جاسم(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • عرض (بلاغة القرآن الكريم: دراسة في أسرار العدول في استعمال صيغ الفعل) رسالة دكتوراه(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
  • الخطب المحفلية (خطب المحافل)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مخطوطة تأهيل من خطب في ترتيب الصحابة في الخطب(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • كتمان الأسرار الشخصية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • دور الأسرة في علاج وتدريب الطفل المعاق(مقالة - مجتمع وإصلاح)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب