ما جاء في شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم

مدارسة كتاب (الشمائل المحمدية) للترمذي رحمه الله:

5- باب ما جاء في شَيب رسول الله صلى الله عليه وسلم

الشَّيب: تغيُّر لون الشعر إلى البياض؛ لكِبَرِ سنٍّ، أو غيره.

‏والمقصود من هذا الباب: بيان هل شابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكم عدد الشعرات؟ وهل خَضَب؛ يعني: غيَّر لون هذا الشيب، أم لا؟

• ‏والشَّيب نورُ المؤمن، ويكون خيرًا لصاحبه؛ ولذلك نُهِيَ عن نَتْفِ الشيب.

1- في الصحيحين عن قتادة قال: قلت لأنس بن مالك: ((هل خَضَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم يبلغ ذلك، إنما كان شيبًا في صُدْغَيه، ولكِنْ أبو بكر رضي الله عنه خَضَبَ بالحِنَّاء والكَتَم)).

• الخَضْبُ: تلوين الشيب بالحُمرة.

• ‏لم يبلغ ذلك: يعني لم يكن الشيب كثيرًا.

• ‏إنما كان شيبًا في صُدغيه: والصُّدْغ: هو ما بين العين والأذن، ويسمى الشعر النابت على الصدغ صدغًا، وهو المراد هنا.

• ‏ولكن أبو بكر رضي الله عنه: لأنه كان في عمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان شيبه كثيرًا.

• ‏بالحِنَّاء والكَتَم: ورق يُصبَغ به الشعر، والحناء: تجعل الشعر أحمرَ، والكَتَم: يجعل الشعر أسود مائلًا إلى الحمرة.

2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ((ما عددتُ في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته، إلا أربعَ عشْرةَ شعرةً بيضاءَ))؛ [رواه ابن ماجه، وعند البخاري في الفضائل عن أنس: ((ليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء))].

• قال العلماء: "والاختلاف في العدد باختلاف الأزمان".

• ‏والثابت من الروايات الصحيحة: أنه لم يكثُر الشيب في رأسه صلى الله عليه وسلم.

3- في صحيح مسلم عن سماك بن حرب، قال: سمعت جابر بن سمرة رضي الله عنه، وقد سُئل عن شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ((كان إذا دَهَنَ رأسه لم يُرَ منه شيب، وإذا لم يدهُن رُؤِيَ منه شيء)).

• وفي رواية: ((لم يكن في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم شيب إلا شعرات في مَفْرِقِ رأسه، إذا ادَّهن وَارَاهُنَّ الدُّهْنُ)).

4- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((إنما كان شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوًا من عشرين شعرةً بيضاء))؛ [رواه ابن ماجه].

• نحوًا من عشرين شعرةً بيضاء: أي: قريبًا من هذا العدد.

5- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، قد شبتَ، قال: ((شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت))؛ [رواه الترمذي].

• هذا الحديث في بيان سبب هذا الشيب.

• ‏ومن الحقائق العلمية: أن الإنسان عند الفزع الشديد، أو الخوف الشديد قد يتغير لون شعره.

• ‏وهذه السور تتميز عن غيرها بذكر أهوال يوم القيامة.

6- عن أبي جحيفة رضي الله عنه، قال: قالوا: يا رسول الله، نراك قد شِبْتَ، قال: ((قد شيبتني هود وأخواتها))؛ [رواه الطبراني].

7- عن أبي رمثة التيمي تيم الرباب قال: ((أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، ومعي ابن لي قال: فأريته، فقلت لما رأيته: هذا نبي الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان، وفي رواية: بُردان أخضران، وله شعر قد علاه الشيب، وشيبُه أحمر))؛ [رواه أبو داود، والنسائي].

• تيم الرباب: تمييز عن تيم قريش.

• ‏البُردان: تثنية بُرْدٍ؛ وهو الثوب المخطط.

• ‏وشَيبه أحمر: يعني: قد خَضَبَه بالحِنَّاء، والجمع بين هذا الحديث، وحديث أنس: ((لم يبلغ ذلك)) أنه لم يخضِب، لكنه كان يكثر من الادِّهان والطِّيب؛ فيظهر الشعر كأنه مخضوب.

• ‏وجواب آخر: لعله خضب أحيانًا.

الكلام عن مسألة:أسباب الشيب؛ فإن الإنسان قد يشيب، ويظهر عليه الشيب قبل أوان المشيب، وذلك لأسباب متعددة؛ منها:

1- أن يكون الإنسان ممن يهتم بالأشياء اهتمامًا عظيمًا؛ كما في الحديث: ((شيبتني هود، وأخواتها)).

• قال الطيبي رحمه الله: "يريد أن اهتمامي بما فيها من أهوال يوم القيامة، والْمَثُلات النوازل بالأمم الماضية، أخذ مني ما أخذه، حتى شبت قبل أوان المشيب؛ خوفًا على أمتي".

• ‏وقال المباركفوري رحمه الله: "قوله: (قد شبت) من الشيب؛ وهو بياض الشعر، قال القاري: أي: ظهر عليك آثار الضعف قبل أوان الكِبْرِ، وليس المراد منه: ظهور كثرة الشعر الأبيض عليه".

2- أن يكون الإنسان كثير الهموم والغموم والأحزان.

• قال المناوي رحمه الله: "الهموم والأحزان إذا تقاحمت على الإنسان أسرع إليه الشيب في غير أوان".

3- الفزع والخوف.

• كما قال تعالى عن أهوال يوم القيامة: ﴿ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ﴾ [المزمل: 17].

• ‏وكما جاء في الحديث: ((شيبتني هود وأخواتها)).

• ‏قال القاري رحمه الله: "الفزع يُورِث الشيب قبل أوانه؛ إذ هو يُذهِل النفس، فتنشف رطوبة البدن، وتحت كل شعرة منبع، ومنه يعرق، فإذا نشفت رطوبته، يَبِستِ المنابع فيبس الشعر فابيضَّ؛ كالزرع الأخضر إذا لم يُسقَ فإنه يبيضُّ".

4- وقد يكون مع تقدُّم الإنسان في السن، ودليل على الضعف.

• قال الله تعالى: ﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 2 - 4].

• ‏قال ابن كثير رحمه الله: "والمراد من هذا: الإخبار عن الضعف والكِبْرِ، ودلائله الظاهرة والباطنة".

• ‏وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم: 54].

5- وقد يكون نذيرًا.

• قال الله تعالى: ﴿ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾ [فاطر: 37].

• ‏قال ابن كثير رحمه الله: "رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعكرمة، وغيرهم قالوا: يعني: الشيب".

• ‏وقال البغوي رحمه الله: "يُقال: الشيب نذير الموت، وفي الأثر: ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها: استعدي فقد قرُب الموت".

• ‏فالشيب مع تقدُّم الإنسان في السنِّ هو رسول الموت؛ قال أبو الوفاء علي بن عقيل رحمه الله: "الشيب مرض الموت"، وقال ابن قتيبة رحمه الله: "رأى إياس بن قتادة شعرة بيضاء في لحيته، فقال: أرى الموت يطلبني، وأراني لا أفوته، أعوذ بك يا رب من فجاءات الأمور، يا بني سعد، قد وهبت لكم شبابي فهَبُوا لي شيبتي، ولزم بيته"، وقال قيس بن عاصم: "الشيب حُطام المنية"، وقال آخر: "الشيب تاريخ الموت"، وقال آخر: "الشيب أول مراحل الموت"، ويُقال: "شيب الشَّعْر موت الشعر، وموت الشعر علة موت البشر".

والشيب نورٌ في وجه المسلم.

عن كعب بن مرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من شاب شيبةً في الإسلام، كانت له نورًا يوم القيامة))؛ [رواه الترمذي، وصححه الألباني].

وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من شاب شيبةً في سبيل الله، كانت له نورًا يوم القيامة))؛ [رواه أحمد، الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي].

والشيب فضلًا على أنه نور في وجه المسلم، فله بكل شيبة حسنة، ورفع درجة.

فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجلٌ شيبةً في الإسلام، إلا كانت له بكل شيبةٍ حسنةٌ، ورُفِع بها درجةً))؛ [رواه البيهقي في الشعب، وصححه الألباني في الصحيحة].

مسألة: حكم نتف الشيب.

لا ينبغي نتفُه؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تَنْتِفوا الشيب، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام، إلا كانت له نورًا يوم القيامة))؛ [رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع].

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور المسلم يوم القيامة))؛ [رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم بأسانيد حسنة].

• فمن نتف شيبه، فإنه ينتف نوره؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشيب نور في وجه المسلم، فمن شاء فلْيَنْتِفْ نوره)).

• ‏فهذه الأحاديث تدل على كراهة نتف الشيب إذا كان من الرأس، أو الشارب، أما إذا كان الشيب في اللحية، فإنه يحرُم نتفه.

حكم تغيير الشيب.

من ظهر عليه الشيب، فله أن يغيِّره بغير السواد؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبُغون فخالفوهم)).

• مع وجوب تجنُّب السواد؛ وذلك أن صبغ الشيب الأبيض بالسواد مضادة لحكمة الله عز وجل؛ إذ إن حكمة الله عز وجل أنه كلما كبِر الإنسان ابيضَّ شعره، فإذا حاول أن يقلبه إلى سواد، فهذا مضاد لِما كان من خَلْقِ الله عز وجل.