• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أحكام شهر ذي القعدة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    من صيام التطوع: صوم يوم العيدين
    د. عبدالرحمن أبو موسى
  •  
    حقوق الوالدين
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة الكوثر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    من مائدة العقيدة: شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    الليلة الثلاثون: النعيم الدائم (3)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / النصائح والمواعظ
علامة باركود

الافتقار للهدى

إبراهيم الدميجي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 2/11/2023 ميلادي - 18/4/1445 هجري

الزيارات: 2612

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الافتقار للهُدى


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، أما بعد؛ فإن أعظم الافتقار هو الافتقار للهدى إرشادًا وتوفيقًا وتثبيتًا، ومن رحمة الله تعالى ولطفه أن شرع لنا اللهج بها سبع عشرة مرَّة في كل يوم وليلة على أقل تقدير، فكل مصلٍّ يتلو قول ربه داعيًا راغبًا راهبًا: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6]، وكان رسول الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه كثير اللهج بسؤال الله الهداية، فكان من دعائه بين السجدتين: «اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ رواه الأربعة إلا النسائي واللفظ لأبي داود[1].

 

وعند أبي داود والترمذي واللفظ له من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: «رَبِّ أَعِنِّي، ولا تُعِنْ عَلَيَّ، وانْصُرْني ولا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وامكُرْ لي ولا تَمكُرْ عَلَيَّ، واهدِني ويَسِّرْ الْهُدَى لي، وانْصُرْني على مَن بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجعلْني لك شَاكِرا، لك ذَاكِرًا، لك رَاهِبًا، لك مِطْوَاعًا، لك مُخْبِتًا، إِليك أَوَّاها مُنيِبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبتي، واغْسِلْ حَوْبَتي، وأجِبْ دَعْوَتي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وسَدِّدْ لِسَاني، واهْدِ قلبي، واسْلُلْ سَخيمَةَ صَدْرِي»[2]، وكان شيخ الإسلام يوصي باللهَج بهذا الدعاء العظيم.

 

وروى مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألتُ عائشة بأي شيء كان النبي صلى الله عليه سلم يفتتح صلاته؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته، قال: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»[3].

 

وكان صلى الله عليه وسلم يهدي أصحابه ويرشدهم إليها لطلبها ممن لا يهدي هدى التوفيق سواه فمن ذلك:

ما رواه ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لا أستطيع أن آخُذَ من القرآن شيئًا، فَعلِّمني ما يُجْزِئُني؟ قال: «قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أَكبر، ولا حَولَ ولا قُوة إلا باللهِ»، قال: يا رسولَ الله، هذا لله، فماذا لي؟ قال: قُلْ: «اللَّهمَّ ارْحَمني وعَافِني واهْدِني وارْزُقني»، فقال: هكذا بِيَدَيه - وقَبَضَهما - فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا هذا فقد ملأ يديْه من الخير»[4].

 

وعن علي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «قُلْ: اللَّهُمَّ اهْدِني، وسَدِّدْنِي»، وفي رواية: «اللهم إني أسألك الهدى والسداد، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد سداد السهم»[5].

 

وروى أبوداود في سننه قول الحَسَن بن علِيٍّ رضي الله عنهما: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ قَال: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ..»[6].

 

والهدى من جملة رزق الله تعالى لخاصته وأوليائه؛ كما قال جل وعز: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: 175]، وقال سبحانه: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 16]، والمؤمن يلهج بسؤال الله تعالى الهدى في كل ركعة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6]؛ أي: أرشدنا إليه أوَّلًا وبصَّرنا به وفقِّهنا فيه، ثم وفِّقنا سلوكَه والسير فيه دون سواه ثانيًا، ثم ثبِّتنا عليه حتى الموافاة ثالثًا.

 

والذكاء ليس بمستقلٍّ للهُدى، فهو سببٌ محتاج لجملةِ أسباب، وحجْبِ موانع، وجامع ذلك توفيق الله لمن شاء هداه، «وقد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدّهم نظرًا، ويعميه عن أظهر الأشياء! وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظرًا، ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به.

 

فمن اتَّكل على نظره واستدلاله أو عقله ومعرفته خُذِل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كثيرًا ما يقول: «يا مقلِّب القلوب ثبت قلبي على دينك»[7]، ويقول في يمينه: «لا ومقلب القلوب»[8]، ويقول: «والذي نفسي بيده»[9]، ويقول: «ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، وإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه»[10].

 

وكان إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»[11]، وكان يقول هو وأصحابه في ارتجازهم:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا

 

وهذا في العلم كالإرادات في الأعمال، فإن العبد مفتقر إلى الله في أن يحبِّب إليه الإيمان ويبغِّض إليه الكفر، وإلا فقد يعلم الحق وهو لا يحبه ولا يريده، فيكون من المعاندين الجاحدين؛ قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: 14] [12].

 

«وحقيقٌ بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»، وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: «يا معلم إبراهيم علِّمني»، ويُكثر الاستعانة بذلك اقتداءً بمعاذ بن جبل رضي الله عنه؛ حيث قال لمالك بن يخامر السكسكي عند موته وقد رآه يبكي، فقال: والله ما أبكي على دنيا كنت أُصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما.

 

اطلب العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذكر الرابع، فإن عجز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعجز، فعليك بمعلم إبراهيم»[13].

 

وقال ابن تيمية رحمه الله منبهًا لأهمية الافتقار التام لله وعظمة دعاء الفاتحة ومبيّنًا أن معنى ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6]، هو الإرشاد والتوفيق للعمل والتثبيت عليه حتى الموافاة: «الإنسان وإن كان أقرَّ بأن محمدًا رسول الله وأن القرآن حق على سبيل الإجمال، فأكثر ما يحتاج إليه من العلم بما ينفعه ويضره وما أمر به وما نهى عنه في تفاصيل الأمور وجزئياتها لم يعرفْه، وما عرفه فكثير منه لم يعمل بعلمه، ولو قدر أنه بلغه كل أمر ونهي في القرآن والسنة، فالقرآن والسنة إنما تذكر فيهما الأمور العامة الكلية لا يمكن غير ذلك، لا تذكر ما يخص به كل عبد، ولهذا أمر الإنسان في مثل ذلك بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم، والهدى إلى الصراط المستقيم يتناول هذا كله، يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفصلًا، ويتناول التعريف بما يدخل في أوامره الكليات، ويتناول إلهام العمل بعلمه، فإن مجرد العلم بالحق لا يحصل به الاهتداء إن لم يعمل بعلمه، ولهذا قال لنبيه بعد صلح الحديبية: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [الفتح: 1، 2]، وقال في حق موسى وهارون: ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الصافات: 117، 118].

 

والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء الله من الأمور الخبرية والعلمية الاعتقادية والعملية، مع أنهم كلهم متفقون على أن محمدًا حق والقرآن حق، فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا، ثم الذين علموا ما أمر الله به أكثرهم يعصونه ولا يحتذون حذوه، فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك الأعمال، لفعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهوا عنه، والذين هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين، كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائمًا في أن يهديهم الصراط المستقيم، فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء الله المتقين؛ قال سهل بن عبد الله التستري: «ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار».

 

وما حصل فيه الهدى في الماضي، فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل، وهذا حقيقة قول من يقول: ثبتنا واهدنا لزوم الصراط، وقول من قال: زدنا هدى يتناول ما تقدم، لكن هذا كله هدى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم، فإن العمل في المستقبل بالعلم لم يحصل بعد، ولا يكون مهتديًا حتى يعمل في المستقبل بالعلم، وقد لا يحصل العلم في المستقبل بل يزول عن القلب، وإن حصل فقد لا يحصل العمل.

 

فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء، ولهذا فرضه الله عليهم في كل صلاة، فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه، وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة»[14].

 

هذا وإن من تصدَّى لهداية الناس، فهو محتاج لمزيد هدى وتثبيت، فأفهامهم وبصائرهم ومواردهم تختلف، وحقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء لنفسه بالتوفيق.

 

وكان بعض السلف يقول عند الافتاء: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32].

 

وكان مكحول يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، وكان مالك يقول: «ما شاء الله، لا قوة إلا بالله العلي العظيم»، وكان بعضهم يقول: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [طه: 25 - 28]، وكان بعضهم يقول: «اللهم وفِّقني واهدني وسددني، واجمع لي بين الصواب والثواب، وأعذني من الخطأ»[15].

 

«وينبغي للمفتي المُوفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد، إلى مُلهِم الصواب ومعلم الخير وهادي القلوب - أن يُلهمه الصواب، ويفتح له طريق السداد، ويدلُّه على حُكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر من أمَّل فضل ربه ألا يحرمه إيَّاه، فإذا وجد من قلبه هذه الهمَّة، فهي طلائع بشرى التوفيق، فعليه أن يوجِّه وَجْهه ويحدِّق نظره إلى منبع الهدى ومعدن الصواب، ومطلع الرشد وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة، فيستفرغ وسعه في تعرُّف حكم تلك النازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبَر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله، فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح عاصفة تُطفئ ذلك النور أو تكاد، ولا بد أن تضعفه.

 

وشهدت شيخ الإسلام - قدس الله روحه - إذا أعيته المسائل واستصعبت عليه، فرَّ منها إلى التوبة والاستغفار، والاستغاثة بالله، واللجأ اليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلَّما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًّا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ.

 

ولا ريب أن من وُفِّق لهذا الافتقار علمًا وحالًا، وسار قلبُه في ميادينه بحقيقة وقصد، فقد أُعطي حظَّه من التوفيق، ومن حُرمه فقد مُنع الطريق والرفيق، فمتى أُعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق، فقد سُلِكَ به الصراط المستقيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم»[16].

 

وتأمَّل قصة موسى عليه السلام مع الخضر، وما فيها من أبواب العلوم ومن أخصها افتقار العالم - مهما علا شأنه وارتفع كعبه - إلى علم الله وتوفيقه وتسديده.

 

وقد بوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه[17]: باب ما يُستحب للعالِم إذا سُئل: أيُّ الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله.

 

وأسندَ حديثَ أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قام موسى النبي خطيبًا في بني إسرائيل، فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعَتب الله عليه إذ لم يردَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه: أن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: يا رب وكيف به، فقيل له: احمل حوتًا في مكتل، فإذا فقدته فهو ثمَّ [18] فانطلق، وانطلق بفتاه يوشع بن نون، وحملا حوتًا في مكتل، حتى كانا عند الصخرة، وضعا رؤوسهما وناما، فانسل الحوت من المكتل، فاتخذ سبيله في البحر سربًا، وكان لموسى وفتاه عجبًا، فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما، فلمَّا أصبح، قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا، لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا، ولم يجد موسى مسًّا من النَّصَب حتى جاوز المكان الذي أُمر به، فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، قال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصًا، فلما انتهيا إلى الصخرة، إذا رجل مُسجًّى بثوب (أو قال: تسجَّى بثوبه)، فسلَّم موسى، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام [19]، فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: هل أتبعك على أن تعلِّمني مما عُلمت رشدًا؟ قال: إنك لن تستطيع معي صبرًا، يا موسى إني على علم من علم الله علِّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علمٍ علمكه لا أعلمه، قال: ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا.

 

فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، ليس لهما سفينةٌ فمرَّت بهما سفينة، فكلَّموهم أن يحملوهما، فعرف الخضر، فحملوهما بغير نَولٍ[20]، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر، فعمَد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه، فقال موسى: قومٌ حملونا بغير نَول، عمدتَ إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟! قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرًا؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيتُ، فكانت الأولى من موسى نسيانًا.

 

فانطلقا، فإذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسَه بيده، فقال موسى: أقتلتَ نفسًا زكيةً بغير نفس؟! قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا؟!

 

فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها، فأبوا أن يضيِّفوهما، فوجدا فيها جدارًا يُريد أن ينقض فأقامه، قال الخضر بيده فأقامه، فقال له موسى: لو شئتَ لاتَّخذتَ عليه أجرًا، قال: هذا فراقُ بيني وبينك».

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله موسى، لوددنا لو صبر حتى يقصَّ علينا من أمرهما»[21].

 

ومن لم يكن له من ربه عاصم توفيق وحارس هدى، هجمت عليه عاديات الضلال ولا بدَّ، واعتبر ذلك بفحول الأذكياء وأكابر أهل العلوم لما رفع الله عنهم توفيقه، طاشت بهم الأحلام وضاعت بهم الفهوم، ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأحقاف: 26]، وكما قال الأول:

إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى
فأول ما يجني عليه اجتهادُهُ

 

وقلَّب أسفار ذوي الابتداع وقف عند نهاياتهم طرحى في مهامه الحيرة وصرعى على شواطئ الندم! كما قال ابن رشد الحفيد - وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم - في كتابه «تهافت التهافت»: «ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يُعتدُّ به؟»، وكذلك الآمدي - وهو من أذكى أهل زمانه - وقف في المسائل الكبار حائرًا مضطربًا، وكذلك الغزالي حيث انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عنها للطرقية ودقائقهم وخيالاتهم، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فمات وصحيح البخاري على صدره، وكذلك محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات:

نهايةُ إقدام العقول عقالُ
وغايةُ سعيِ العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل دنيانا أذى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فكم قد رأينا من رجال ودولة
فبادوا جميعًا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها
رجالٌ فزالوا والجبال جبالُ



ثم قال: «لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: 10]، واقرأ في النفي: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110]، ثم قال: ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي».

 

وكذلك قال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني نادمًا على سلوكه طرائق المبتدعة من الفلاسفة وأهل الكلام، حائرًا:

لعمري لقد طفتُ المعاهد كلَّها
وسيَّرت طرْفي بين تلك المعالمِ
فلم أر إلا واضعًا كفَّ حائرٍ
على ذقن أو قارعًا سنَّ نادمِ

 

وكذلك قال أبو المعالي الجويني: «يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به»، وقال عند موته: «لقد خُضت البحر الخضم، وخلَّيت أهل الإسلام وعلومهم[22]، ودخلت في الذي نهوني عنه[23]، والآن، فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور»، ويقصد الفطرة الأولى التي لم تلوثها تهوُّكات المتكلمين وأغلوطات الفلاسفة.

 

وكذلك قال شمس الدين الخسرو شاهي ــ وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي ــ لبعض الفضلاء، وقد دخل عليه يومًا، فقال: ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟ فقال: نعم، فقال: «اشكرِ الله على هذه النعمة، لكنَّي والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد!»، وبكى حتى أخضل لحيته.

 

ذلك أن الشبهات تضعف اليقين في المُعتَقَد، فالقلوب ضعيفة والشبه خطَّافة، فإن أزالها الله بالعلم المتلقى عن نبيه صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، وإلا تقطَّع القلب بين شُعب الضلال! ولابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق:

حار أمري وانقـضى عمري
ربحت إلا أذى السفر
أنك المعروف بالنظر[24]
خارج عن قوة البـشر

وهو يصف حاله وحال أشباهه الحيارى، أما الموفقون المهتدون، فقد أثلج برد اليقين صدورهم وسكَّن نفوسهم، وأروى عطش لهفهم، هم كما قال ربهم: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 125].

 

وقال الخوفجي عند موته: «ما عرفت مما حصَّلته شيئًا سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح، ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموتُ وما عرفت شيئًا!».

 

وقال آخر: «أضطجعُ على فراشي، وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء»، ويقصد حجج المبتدعة في مقابل بعضها، فما من باطل لدى طائفة منهم إلا وقد شِيب ببعض الحق ليروج، حتى ينقسم الحق مِزَعًا بين الطوائف، فيرى هؤلاء طرفًا منه، ويرون معه باطلًا وغثاءً كثيرًا، فيضغطون على أنفسهم لقبوله جملة واحتمال ما أبَته فطرُهم ونبتْ عنه عقولهم، لكنهم بدلًا من الاشتغال بتكميل الحق لديهم شُغلوا بهدم ما لدى غيرهم من حق وباطل، حتى إذا ناداهم منادي الرحيل تأمَّلوا حينذاك صفقتهم، فإذا هم لم يقبضوا سوى الريح!

شبه تهافت كالزجاج تخالها
حقًّا وكلٌّ كاسرٌ مكسورُ

 

عياذًا واستغاثة بالله واستجارة به من مضلات الفتن.

ومن وصل لمثل هذا الحال إن لم يتداركه الله برحمته، فقد يتزندق، كما قال أبو يوسف رحمه الله: «من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب»، وقال الإمام الشافعي رحمه الله: «حُكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام»، وقال: «لقد اطَّلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلمًا يقوله، ولأن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ــ ما خلا الشرك بالله ــ خير له من أن يبتلى بالكلام»؛ لأن كثيرًا من اللوازم الكلامية مفضية عند الأخذ بها لمسبَّة الله تعالى والقدح فيه، وتعطيله من صفات كماله، وهذا غاية الضلال والشناعة.

 

قال ابن القيم رحمه الله: «قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأنعام: 55]، وقال: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115]، والله تعالى قد بيَّن في كتابه سبيل المؤمنين مفصَّلة، وسبيل المجرمين مفصَّلة، وعاقبة هؤلاء مفصَّلة وعاقبة هؤلاء مفصَّلة، وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء، وخِذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وَفَّقَ بها هؤلاء والأسباب التي خَذَل بها هؤلاء، وجلَّى سبحانه الأمرين في كتابه، وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان، حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام.

 

فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيليَّة، وسبيلَ المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة، فهؤلاء أعلم الخلق، وأنفعهم للناس، وأنصحهم لهم، وهم الأدلاء الهداة.

 

برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشؤوا في سبيل الظلال والكفر والشرك، والسبل الموصلة إلى الهلاك، وعرفوها مفصَّلة، ثم جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به ومقدار ما كانوا فيه، فإن الضدَّ يظهر حسنَه الضدُّ، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها، فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه، ونُفرةً وبغضًا لما انتقلوا عنه، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والاسلام، وأبغض الناس في ضدِّه، عالمين بالسبيل على التفصيل.

 

وأما من جاء بعد الصحابة، فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده، فالتبست عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين، فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما؛ كما قال عمر بن الخطاب: «إنما تُنقض عُرَى الإسلام عروة عروة؛ إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية»، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها - وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو من الجهل - فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له، أوشَكَ أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين.

 

كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يَعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها وكفَّر مَن خالفها، واستحلَّ منه ما حرمه الله ورسوله، كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ممن ابتدع بدعة ودعا إليها، وكفَّر من خالفها[25].

 

والناس في هذا الموضع أربع فرق:

الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علمًا وعملًا[26]، وهؤلاء أعلم الخلق.

 

الفرقة الثانية: من عميت عن معرفة السبيلين من أشباه الأنعام، وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر، ولها أسلك.

 

الفرقة الثالثة:من صَرفَ عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدِّها، فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة، وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين، فهو باطل وإن لم يتصوَّره على التفصيل، بل إذا سمع شيئًا مما خالف سبيل المؤمنين، صرف سمعه عنه، ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه، وهو بمنزلة من سلمت نفسه من إرادة الشهوات، فلم تخطر بقلبه ولم تدعه إليها نفسه، بخلاف الفرقة الأولى فإنهم يعرفونها، وتميل إليها نفوسهم، ويجاهدونها على تركها لله[27].

 

وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسالة: أيُّما أفضل رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: إن الذى تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل، فهو من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم.

 

وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه، فأبغضها لله وحذرَها وحذَّر منها، ودفعها عن نفسه، ولم يدعها تخدش وجه إيمانه، ولا تورثه شبهة ولا شكًّا، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لها ونفرة عنها، أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه، فإنه كلما مرَّت بقلبه وتصوَّرت له، ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورًا به، فيقوى إيمانُه به.

 

كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلَّما مرَّت به، فرغب عنها إلى ضدِّها ازداد محبةً لضدِّها ورغبة فيه، وطلبًا له وحرصًا عليه، فما ابتلى الله سبحانه عبدَه المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي، وميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها، وأنفع له وأدوم، وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه، فتورثه تلك المجاهدة الوصول إلى المحبوب الأعلى، فكلما نازعته نفسه إلى تلك الشهوات واشتدت إرادته لها، وشوقه إليها، صرَف ذلك الشوقَ والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم، فكان طلبه له أشدَّ وحرصه عليه أَتَمَّ، بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك، فإنها - وإن كانت طالبة للأعلى - لكن بين الطلبين فرق عظيم، ألا ترى أن من مشى إلى محبوبة على الجمر والشوك أعظم ممن مشى إليه راكبًا على النجائب، فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه، كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره.

 

فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات إما حجابًا له عنه، أو حاجِبًا له يوصله إلى رضاه وقربه وكرامته.

 

الفرقة الرابعة:فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصَّلة وسبيل المؤمنين مجملة، وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع، فعرفها على التفصيل، ولم يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، بل عرفه معرفة مجملة وإن تفصَّلت له في بعض الأشياء، ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانًا. وكذلك من كان عارفًا بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكًا لها، إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملًا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها.

 

والمقصود: أن الله سبحانه يحب أن تُعرَف سبيلُ أعدائه لتُجْتَنَبَ وتُبغَض، ويُحبَّ أن تُعرفَ سبيلُ أوليائه لتحب وتسلك، وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار ما لا يعلمه إلا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته، وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها، واقتضائها لآثارها وموجباتها، وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلهيته، وحبه وبغضه وثوابه وعقابه»[28].

 

وبالله التوفيق، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان.



[1] أبو داود (850)، والترمذي (284)، وابن ماجه (898)، والحاكم (1/ 262/ 271) والحديث صحيح.

[2] أبو داود (1510) والترمذي (3551) وأحمد (1/ 227) (1997) وابن ماجه (3830) والحديث صحيح.

[3] مسلم (770).

[4] أخرجه أبو داود (832) وسكت عنه، وما سكت عنه فهو صالح عنده، وحسنه الألباني، وأخرجه أحمد (4/ 382) والحميدي (717) والنسائي (2/ 143).

[5] مسلم (8/ 83) (2725) (78) قال النووي رحمه الله: «سددني: وفقني واجعلني منتصبًا في جميع أموري مستقيمًا» شرح صحيح مسلم (9/ 38).

[6] سنن أبى داود (1/ 536) وصححه الألباني.

[7] الترمذي (3/ 304).

[8] البخاري (8/ 128).

[9] وهي كثيرة، ومنها ما جاء عند مسلم (222).

[10] المسند (4/ 182) وسنن النسائي الكبرى (7738) وسنن ابن ماجه (199). ورواه ابن منده في الرد على الجهمية (87 وقال: «ثابت رواه الأئمة المشاهير ممن لا يمكن الطعن على واحد منهم».

[11] مسلم (770).

[12] درء تعارض العقل والنقل: (9/ 34-35).

[13] المستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 150) وانظر: إعلام الموقعين (4/ 257)، (2/ 410).

[14] مجموع الفتاوى (10/ 107-110) وانظره في: أمراض القلوب (1/ 12) وما بعدها.

[15] إعلام الموقعين للحافظ ابن القيم (4/ 257) الفائدة الحادية والستون.

[16] إعلام الموقعين (4/ 173).

[17] ومن افتقار أبي عبد الله البخاري ؒ ما نقله الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح (ص:7): عن الحافظ أبي ذر الهروي: «سمعت أبا الهيثم محمد بن مكي الكشميهني يقول: سمعت محمد بن يوسف الفربري يقول: قال البخاري: ما كتبت في كتاب (الصحيح) حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين» استعانة واستهداءً وافتقارًا.

[18] أي: هناك.

[19] تعجّبًا من وجود من يُسلّم عليه في ذلك المكان.

[20] أي: بلا أجرة.

[21] أخرجه البخاري في كتاب العلم: باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فيكل العلم إلى الله، ومسلم (2380).

[22] أي: القرآن والسنة وآثار السلف الصالح.

[23] أي: من علم الكلام المذموم.

[24] ينعى على المتكلمين الذين أوجبوا معرفة الله عن طريق مقدماتهم الطويلة العقيمة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

[25] أما أهل السنة فهم أرحم الناس بالناس، وأعذرهم لهم، وأنصحهم وأرفقهم بهم.

[26] فلم يكتفوا بالتنظير عن التطبيق، ولا بالتطبيق عن حسن الاتّباع، بل هم هدًى يمشي على رِجْلين.

[27] ثَمّ محددات لوزن المسألة:

أوّلًا: الحق كثير، والعلم غزير، ولو صرف المؤمن عمره في تحصيله لم يحط به.

ثانيًا: على قدر سيره في الباطل -ولو لأجل إحسان تصوّره لأجل دحضه - فلا بد أن يؤثر ذلك على حظ وقته من نفيس العلم الصحيح دون الدخيل الزائف. وهذا من جهة الوقت وصرف العمر.

ثالثًا: أن طرق الباطل للقلب مؤذن بقسوة ويجد هذا من عانى سبل أهل الضلال ولو للرد عليهم وكشف شبهاتهم، بخلاف من سبح بقلبه وفكره في بحور الحق الصافية.

رابعًا: أن شُعب الباطل لا تنتهي، ولا تقف عند حدّ مانع جامع، فهي قُلّبٌ خاتلة متجددة، ومهما تتبعها محاربها وأزهقها فلا بد لرأسها من طلوع في مكان وزمان آخر، فهذه من سنن الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتحوّل، واعتبر ذلك بما جاءت به المرسلين وبأضداده.

خامسًا: السلامة لا يعدلها شيء، والعافية غاية كل ناصح لنفسه، ويخشى على القلب إن خاض الباطل ولو لقصد حسن من خذلان أو ضعف أو عجز، فماله وللمخاطرة بيقينه وإيمانه وصفاء قلبه وزكاء نفسه؟!

فهذه مرجحات للاكتفاء بالحق والاشتغال به كمًّا وكيفًا، وللرأي الآخر مرجِّحاته كذلك، فمنها:

أولًا: أن تتبع الباطل لحربه وكشفه وإزهاقه هو من أنفس الجهاد وأعلى رُتَبه ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52]، فهو وظيفة المرسلين، وكيف يجاهد الباطلَ من لم يعرف مطاعن قلبه ومكامن هتكه ومغامز ضلاله ومقاتل باطله ومهادم بنيانه؟! فلا يكفي أن تقول لمخالف الحق: إن الحق في كذا، بل بيّن له مواطن زيف باطله وفساد رأيه ومعتقده حتى يكون باطله الساقط من عينيه بمنزلة المعين لك على بناء الحق في قلبه بإذن ربه. وتأمل طريقة القرآن في كشف زيوف المشركين وكيف أظهر عجز آلهتهم وبكمها وخرسها وموتها وفناءها وفقرها بتفصيل وبرهان وتكرار وتنويع.

ثانيًا: يعرف الشيء بضده، فمن عرف الباطل والضلال فهو له أبغضٌ وبه أعلمٌ، وهو للحق أحبّ وبحدوده أعلم، إذ الشعور يتبع العلم.

ولعل الصواب أن نقول: إن الجادّة القويمة هي الانشغال بالحق وتفاصيله، وعمارة العمر به دونما سواه، فمن احتاج لبيان باطل ومجاهدته فإنه يأخذ في تصوّره ودراسة مطاعنه على قدر الحاجة لكشفه دون ما زاد، كل ذلك إن غلب على ظنِّه الأمن من دخول الشبهات على قلبه، وإلا فالنجاء والوحا، وكل ذلك مع تمام الافتقار واللجأ والانكسار والانطراح بين يدي من نواصي الخلائق بيده، ﴿يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 142]، وبالله التوفيق.

[28] الفوائد (1/ 109- 111).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الافتقار إلى الله
  • من شعائر الحج الافتقار إلى الله
  • معنى الافتقار
  • الافتقار إلى الله
  • الافتقار للهدى (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (2) (الإقرار بالافتقار)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة: ثمرات الافتقار إلى الله تعالى (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الافتقار إلى تسجيل ما تبقى من روايات القراءات العشر(مقالة - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • الافتقار وشهود القدر (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • آفات على طريق الافتقار(مقالة - آفاق الشريعة)
  • التعليقات المختصرة على المنظومة التائية لابن تيمية (ت: 728هـ) في الافتقار إلى الله تعالى (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الافتقار إلى الله (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (11) (التوكل والخلوة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (10): (المجاهدة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (9) (عز القناعة)(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب