الغناء (1)

الغِنَاء (1)

من أعظمِ حبائلِ الشيطان التي نصَبها على أهل الأرض: الغناء، وهو وإن كان الظاهرُ منه أنه ليس فيه إلا المعلوم، إلا أنَّ الذي أَمْعَنَ النظر فيه، ودقَّق في البحث فيه، ليجده السببَ الأكبر في منع المسلمين من الاستقامة، أو كثيرٍ منهم!

فتجد الرجلَ الذي يستمع إلى الغناء وقد طَعَنَ فيه، قد امتلأ قلبُه بحب الغناء الذي إليه يستمع، ولا يُمكنه مفارقته بحالٍ، بل البعضُ يستخدمه وسيلةً لطرد الهموم والغموم، فربما استمع إلى كلام رب العالمين ولم يجد الذي يجده عند استماعه للغناء؛ نعوذ بالله.

وهو والحال هذه لا يتحمل أن يفتح القرآن لأن يقرأ منه، وإن فعل ففي القليل النادر، بل لا يتجاوز الصفحة والصفحتين إلا وأغلق المصحف، وذهب إلى حبيبه المغني، وإلى صاحبه الذي حاول صرفَه عن كلامِ ربه، وأيُّ عبدٍ لله يمكنه السير إلى ربه دونما النظر في كلامه، والوقوف على أوامره ونواهيه، وهو في هذا الطريق الذي امتلأ بالشباك والحبال، وهو لا علمَ له ولا بصر به يميز بين الحق والباطل، فيعلم من ذلك أنَّ الذي طغى في الغناء على خطر عظيم، وجرمٍ كبير؛ إذ هو الصارف له عن كلام ربه الذي فيه الدواء للأمراض، والذي فيه الأوامر التي ما خُلق إلا لأجْل فعلها، والنواهي التي أُمِرَ باجتنابها، فكيف له الامتثال لذلك وهو بعيد عن القرآن، وإذا كانت الحال كذلك مع القرآن، فهو أشد بُعدًا عن السنة! فما مصير مثل هذا الرجل؟

ولله در العلامة ابن القيم الذي قال:

نزِّه سماعك إن أردت سماع ذيَّاك الغِنا عن هذه الألحان لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتحرم ذا وذا يا ذلة الحرمان إن اختيارك للسماع النازل الأدنى على الأعلى من النقصان والله إن سماعهم في القلبِ والإيمان مثل السُّمِّ في الأبدان والله ما انفكَّ الذي هو دأبه أبدًا من الإشراك بالرحمن فالقلب بيت الربِّ جل جلاله حُبًّا وإخلاصًا مع الإحسان فإذا تعلَّق بالسماع أصاره عبدًا لكل فلانة وفلان حب الكتاب وحب ألحان الغناء في قلب عبد ليس يجتمعان ثقل الكتاب عليهمو لَما رأوا تقييدَه بشرائع الإيمان واللهو خفَّ عليهمو لما رأوا ما فيه من طرب ومن ألحان

وقال في (مدارج السالكين ١/٥١٢): ما اعتاد أحد سماع الغناء إلا ونافق قلبُه وهو لا يشعر، ولو عرَف حقيقة النفاق لأبصره في قلبه، فإنه ما اجتمع في قلب عبد قطُّ محبةُ الغناء ومحبةُ القرآن، إلا وطردت إحداهما الأخرى؛ انتهى.

وقال ابن مسعود رضي الله عن-: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل، والذكر ينبت الإِيمان في القلب، كما ينبت الماء الزرع.

وقال القاسم بن محمد: الغناء باطل، والباطل في النار.

وقال شيخ الإسلام في (مجموع الفتاوى ١١/٥٧٥): ذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام؛ انتهى.

وقال ابن الصلاح: فليعلم أن الدُّف والشبابة والغناء إذا اجتمعت، فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحدٍ ممن يُعتد بقوله في الإجماع والخلاف أنه أباح هذا السماع؛ انتهى.

وقال ابن رجب في (فتح الباري 8/436): وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم، فمحرَّم مجمع على تحريمه، ولا يعلم عن أحد منه الرخصة في شيء من ذَلِكَ، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به، فقد كذب وافترى؛ انتهى.

قلت: كأنه أراد بقوله: ((ممن يعتد بقوله في الإجماع)) ابن حزم الظاهري، فإن المشهور عنه أنه أباح الغناء، وهو ممن لا يأخذ بالقياس، فلأجل ذلك صرَّح غير ما واحد من أهل العلم بعدم الاعتداد بقوله، وبقول داود الظاهري، قال الإمام النووي: ولا يُعْتَدُّ بقول داود؛ لأنه لا يرى القياس الذي أحد أركان الاجتهاد؛ انتهى.

وذهب البعض إلى الاعتداد برأيهم، وليس المحل للبحث في مثل هذه المسألة.

فالحاصل أنَّ العلامة ابن حزم - غفر الله له ورحمه - لا يرى القول بحرمة الغناء، فلأجل ذلك رَدَّ أحاديث الملاهي، وللعلة الحاصلة فيه، وهي الانقطاع، إلا أن الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - قام بوصلها في "التغليق".

قال الحافظ العراقي في الألفية:

وَلَوْ إلى آخِرِهِ، أمَّا الَّذِي لِشَيْخِهِ عَزَا ب (قالَ) فَكَذِي عَنْعَنَةٍ كخَبَرِ المْعَازِفِ لا تُصْغِ (لاِبْنِ حَزْمٍ) المُخَالِفِ

وقال ابن صلاح ( فتح الباقي ٢/٨٠ للأنصاري): ولا التفات إليه في ذلك، بل أخطأ فيه من وجه، والحديث صحيح معروف الاتصال؛ انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر: ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري؛ انتهى.

وللحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الفتح، بعض الإشارات التي يحسن الوقوف عليها، فقف عليها - رحمك الله - قلت: أما حديث الملاهي، فهو الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في الصحيح ( ٧/١٠٦ رقم ٥٥٩٠) معلقًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ - يَعْنِي الفَقِيرَ - لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ).

وإنَّ الفتنة بالغناء في العصر أشدُّ من الفتنة به في أي عصر مضى؛ إذ وُجدت فيه الآلات التي أعانت أهله على تزيينه وتحسينه وتجميله، مما لم يوجد له نظير في العصور السابقة، والله المستعان.

فعليك أيها الأب الناصح المريد للخير لفروعه وأبنائه، وما له من الذرية، وما رزَقه الله رب العالمين من الزوجة - أن تُرشد أهلَك إلى الخير، وأن تَسلُك بهم الطرقَ المفضية إلى تحبيب الخير إليهم بالتي هي أحسن، والخير كله في الطاعة لله رب العالمين، والطاعة لرسوله الكريم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلّا مَن أَبى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبى؟ قالَ: مَن أَطاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصانِي فقَدْ أَبى))؛ أخرجه البخاري.

فلا تظنُّنَّ أيها الأب الفاضل أن الغناء الذي اعتاد أهلك على سماعه، والتلذذ بما تضمَّنه مما لا يرضي ربَّ العالمين من الأمور الهينة التي لا أثرَ لها، بل الأثر له ليس بالديني فقط، بل الأثر دنيوي قطعًا أيضًا، ومَن تأمَّل القضية لخرَج بما لا يَصِحُّ من المفاسد، والله المستعان، ولعل رب العالمين أن يُيسِّر لأحد عباده التدوين في ذلك، وأرجو أن أكون هو، فاللهم حقِّق لعبدك الضعيف ذلك، والمحل يضيق للتطويل، وأنا على استعداد للصلاة الآن، ولي عمل بعد الصلاة، فلعلي لا أعود إلى الكتابة في الباب، فأكتفي بذلك على أمل المواصلة في الكتابة في التبرك في البحث الجاري "التبرك بين المنع والجواز"، وعلى أمل العود إلى الكتابة في الباب، فأسأل الله الكريم الرحمن الرحيم أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.