تخريج أثر أبي الدرداء في شراء العصافير من الصبيان، وذكر مسائله

تخريج أثر أبي الدرداء في شراء العصافير من الصبيان

وذكر مسائله

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الحمد لله، وبعد

فقد استدلَّ كثيرٌ من فقهاء الحنابلة رحمهم الله بأثرٍ عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه: «أنَّه اشترى عصفورًا من صبيٍّ فأطلقه»، وهذا تخريجٌ له، وكلامٌ في إسناده، مع ذكر بعض المسائل المتعلِّقة به، ومن الله أستمدُّ العون.

تخريجه:

أخرجه ابن سعدٍ في «الطَّبقات» (4/ 354) - ومن طريقه ابن الجوزيِّ في «المنتظم» (5/ 17)-، عن يحيى بن عبَّاد [هو الضبعي].

وعلَّقه أبو نُعيمٍ في «تاريخ أصبهان» (2/ 137)[1]، والسَّمعاني في «الأنساب» (1/ 161)، في ترجمة (كثير بن زِرٍّ الأردستاني)، قالا: روى عن إسماعيل بن آدم الجرجاني.

كلاهما (يحيى، وإسماعيل)، عن فرَجِ بن فَضَالة، عن لقمان بن عامرٍ، عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنَّه كان يشتري العصافير من الصِّبيان، فيرسلهنَّ، ويقول: «اذهبنَ، فعشنَ».

هذا لفظ يحيى، وليس في رواية الجرجاني الجملةَ الأخيرة «اذهبن فعشن».

الكلام في إسناده:

وإسناد هذا الأثر فيه علَّتان:

1- أنَّ مداره على «فَرَج بن فَضَالة»، قال الذَّهبيُّ في «الكاشف» (2/ 120): «ضعَّفه الدَّارقطني وغيره[2]، وقوَّاه أحمد»[3]، وقد نصَّ الإمام أحمد على توثيقه بقوله: «ثقةٌ» -كما في «الكنى» للدُّولابيِّ (2/ 902)، و«تاريخ بغداد» للخطيب (14/ 377)، و«تهذيب الكمال» للمزِّي (23/ 158)-، وفصَّل القول -فيما نقله أبو داود في «مسائله» (ص265)- فقال: «إذا حدَّث عن الشَّاميين فليس به بأس، ولكن حديثه عن يحيى بن سعيد مضطرب»، ونحوه ما نقله ابن هانئ في «مسائله» (2/ 215) عنه: «ما روى عن الشَّاميين فصالح الحديث، وما روى عن يحيى بن سعيد فمضطرب الحديث»، وشيخه في هذا الأثر «لقمان بن عامر» كذلك، فكلاهما «شاميٌّ حمصيٌّ»، فهذا يقوِّي جانب روايته، لكن ذكر ابن عَديٍّ في «الكامل» (7/ 143) في ترجمته أنَّه تفرَّد بأحاديث منكرة عن «لقمان بن عامرٍ».

2- أنَّه منقطع؛ فـ«لقمان بن عامرٍ» -مع أنَّه صدوق- إلا أنَّه لم يسمع من أبي الدَّرداء، قال أبو حاتم - كما في «الجرح والتَّعديل» لابنه (7/ 182)- : «رَوَى عن أبي الدَّرداء مرسلًا».

الاحتجاج به:

♦ احتجَّ به إسحاق بن راهويه -فيما نقله الكوسج في «مسائله» (6/ 2856)، وعنه ابن المنذر في الأوسط» (10/ 358)-، في مسألة بيع الصَّبيِّ، وقال: «اشترى أبو الدَّرداء العصافير من الصِّبيان».

♦ وأوَّل من ذكر هذا الأثر من علماء الحنابلة –فيما علمتُ- : ابن أبي موسى (ت428هـ) في «الإرشاد» (ص192).

وعنه سرى ذكره في مصنَّفات فقهاء الحنابلة معزوًّا إليه، بقولهم: «ذكره ابن أبي موسى»، كما في «المغني» (6/ 347)، و«الشَّرح الكبير» (11/ 20)، و«المبدع» (4/ 8)، و«كشَّاف القناع» (7/ 307)[4]، و«منار السَّبيل» (1/ 307)، وغيرها.

♦ وبهذا العزو اكتفى الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (5/ 126) ، ولم يستدركه أحدٌ ممن ذيَّل عليه[5].

♦ وممَّن ذكره من فقهاء الحنابلة غير معزوٍّ: ابن قدامة في «الكافي» (2/ 111)، وابن المنجَّى في «الممتع» (2/ 378).

من مسائل الأثر:

يستدلُّ به الفقهاء على مسائل[6]، وإليك ذكرها بإيجازٍ:

المسألة الأولى: في كتاب «البيوع»، في حكم تصرُّف الصَّبيِّ بيعًا وشراءً في الشيء اليسير، كما في «الإرشاد» (ص192)، و«المغني» (6/ 347)، و«الشَّرح الكبير» (11/ 20)، و«الممتع في شرح المقنع» (2/ 378)، و«المبدع في شرح المقنع» (4/ 8)، و«كشَّاف القناع عن متن الإقناع» (7/ 307)، و«منار السَّبيل في شرح الدَّليل» (1/ 307)، و«حاشية الرَّوض المربع» لابن قاسم (4/ 334).

المسألة الثَّانية: في «باب الحجر»، في تصرُّفات الصَّبيِّ، ويذكرون المسألة الأولى فيه، كما في «الكافي» (2/ 111).

المسألة الثَّالثة: إذا أرسل طيرًا أو صيدًا، وقال: «أعتقتك»، ويبحثها الفقهاء من جهتين:

أ- يبحثها الحنابلة في كتاب «الصَّيدِ والذَّبائح»، من جهة: زوال الملك، هل يزول بمجرَّد إرساله، ويملكه غيره بأخذه؟ أم لا؟ كما في «المغني» (13/ 288)، و«الشَّرح الكبير» (27/ 414)، و«المبدع» (8/ 55).

ب- يبحثها الشَّافعية في أوَّل «كتاب العتق»، من جهة صحَّة عتق غير الآدميِّ وسريانه فيه؟ أيصحُّ أم لا؟ واستدلَّ فيها بهذا الأثر: الدَّميري في «النجم الوهَّاج» (10/ 461)، والهيتمي في «تحفة المحتاج» (10/ 351)، ولم أره عند غيرهما.

فائدة لطيفة:

قال الشَّيخ ابن عثيمين في تعليقه على «الكافي» (5/ 524): «لعلَّ أبا الدرداء رضي الله عنه وجد هذا الصَّبيَّ يلعب بالعصفور لعبًا يؤذيه، فاشتراه فداءً له، ولذلك اشتراه وأرسله ولم ينتفع به، وهذا يُسمَّى "استنقاذًا".

وعليه: فإذا وجدتَ مع صبيٍّ طيرًا أو شيئًا يلعب به من الحيوانات ويؤذيه، فمن الخير أن تشتريَه منه وتطلقه، إلا إذا خفت أنَّك إذا أطلقته تبعه الصبيُّ وأخذه مرة أخرى»[7].

ولهذا المأخذ: أورد السَّمرقنديُّ الأثرَ - غير مسندٍ - في «تنبيه الغافلين» (ص386)، في «باب الرَّحمة والشَّفقة».

وممَّا يتَّصل ذكره بهذا ما أسنده الرُّوْيَانِيُّ في «مسنده» (ح1411)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (25/ 26)، على إثر حديثٍ في طلب الرَّحمة من الله عز وجل، «قال[8]: فكان أصحاب النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومن مضى من سلف هذه الأمَّة يتبايعون العصافير، فيعتقونها».

والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين[9]

وكتبه/ عبد الله بن محمَّد السّحيم

ليلة عرفة 1439هـ