• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    واجب ولي المرأة
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (9)
    د. عبدالسلام حمود غالب
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

من سورة الأنعام: مكمن الخلل في تصورات المشركين

من سورة الأنعام: مكمن الخلل في تصورات المشركين
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 4/9/2018 ميلادي - 23/12/1439 هجري

الزيارات: 15924

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

من سورة الأنعام

مكمن الخلل في تصورات المشركين

 

قال الله تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾  [الأنعام: 91].

 

مدار القرآن الكريم على ثلاثة محاور:

أولها وأهمها وأولاها بوضوح الرؤية وسلامة التصوُّر هو عقيدة التوحيد، ألوهيةً وربوبيةً وأسماءً وصفاتٍ، وقد تناولته سورة الأنعام في المرحلة المكيَّة بما يُنير الطريق، ويُنقذ من الضلال ويملأ القلوب والعقول بالإيمان.

 

والمحور الثاني: إثبات النبوة حقيقةً واقعيةً اقتضتها حكمة الله عز وجل، ونموذجًا، فذا تجلَّت به قُدرتُه تعالى ورحمته للعالمين، وأُسْوةً رائعة في الفهم والطاعة والإخلاص وأمانة التبليغ، وصفاءِ النية وصِدْق القول والعمل، وقدوةً نيِّرة ومنهجَ تربية وتعليم، وأسلوبَ دعوة رشيدة لبناء أمة يُراد لها أن تكون شاهدةً على الناس في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

 

أما المحور الثالث: فهو التحذير من أخطر ما يُبعد المرء عن التوحيد والنبوة، وهو الشرك اعتقادًا قلبيًّا أو عمليًّا ظاهرًا أو خفيًّا، وسوء عاقبة في الدنيا والآخرة، فمَنْ عرَف ربَّه وآمن به، وعرَف النبوَّةَ، واتَّبَع ما بلَّغتْه عن ربِّها، وعرَف الشِّرْك وحذِر مزالقَه ومساربَه وتجنَّبَه - فقد فاز.

 

لذلك كان ترتيب هذه المحاور الثلاثة مُتتابعًا وموصولًا في هذه السورة الكريمة، من أول استهلالها ببيان حقيقة التوحيد؛ إذ قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ [الأنعام: 1]، واستمرَّ التركيز على ذلك في جميع مفاصلها إلى ما بيَّنه من أمر النبوة إلهامًا ووحْيًا ومعرفة وثباتًا وابتلاءً واتِّباعًا لمنهجها في بناء الشخصية المؤمنة، همةً عالية وتصوُّرًا سليمًا واستعلاءَ إيمانٍ لا ينهزم ولا يلين.

 

أما الشرك وهو أعظم الظلم وأشدُّه، فلم تخلُ سورة الأنعام من التحذير منه ومن شرح مزالقه وأصنافه، شأنها في ذلك شأن سور القرآن المكي ثم المدني بعده، سواء كان شركَ ربوبية يزعم للكون خالقًا أو مدبِّرًا مع الله أو من دونه، أو شركَ ألوهية يصرف العبادة لغير الله معه أو من دونه، أو شركًا في أسمائه تعالى وصفاته، يُضفيها المشرك على غيره أو يُضفي صفاتِ غيره عليه، أو شركَ عبادةٍ عملية، صلاةً وصيامًا وحجًّا وزكاةً ونُسُكًا ودعاءً وتوكُّلًا ورجاءً واستعانةً ونداءً واستشفاءً واستعطاءً ...

 

ولأن السياق في هذه الآية الكريمة كان حول الإيمان والتوحيدِ، وموقفِ المشركين منهما إنكارًا وجحودًا ومحاربةً، فقد كان مناسبًا ومتمِّمًا للمقصود أن توضح أشدَّ مبطلاتهما، وهو الشرك علنيُّه وخفيُّه، واضحُه ومشتبهُه، جزئياتُه وكلياتُه، بصِيَغ موجَزة ومجمَلة، جامعة مانعة، وأن تُبيِّن للناس ما يتَّقُون من بواباته؛ لذلك بادَأ الوحي الكريم المشركين بأول مداخله، وهو فساد تَصَوُّرِهم لخالقهم عز وجل، على رغم ادِّعائهم المعرفةَ به، فقال تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الأنعام: 91]، والفعل "قَدَر" في هذه الآية الكريمة من "التقدير"، كما في قولك: قدَر اللهُ الرزقَ لعباده يقدِره؛ أي: جعله بقَدْر، والقَدْر بسكون الدال وفتحها هو مبلغ الشيء ومقدارُه وقيمتُه ثمنًا أو كيلًا أو وزنًا، من باب ضرَب ونصَر؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقولِه عز وجل: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، ومنه قولهم: قَدَرَ البائعُ البضاعةَ إذا بيَّن ثمنَها، وقدَرْتُ عليه الثوب فانقدر؛ أي: جاء على مقاسه، كما يُقال لمن عرَف شيئًا إنه يقدره قدْرَه، وإذا لم يعرفه إنه لا يقدره، وفي الحديث: ((إذا غُمَّ عليكُمُ الهلالُ فاقْدُرُوا له))؛ أي: فقدِّرُوه التقدير الأصلي المعتاد ثلاثين يومًا، ثم استُعمِل اللفظ في غير المجالات المادية والحسيَّة على سبيل المجاز، لتقدير الدرجات والقِيَم المعنوية والاعتبارية، كتواطُئِهم على أن قَدْر الرجل هو مكانتُه ومنزلتُه في مجتمعه علمًا أو حلمًا أو مقامًا.

 

وحرف الواو في قوله تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الأنعام: 91]، حرف عطف على: ﴿ هَؤُلَاءِ ﴾ في قوله تعالى قبلها: ﴿ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 89]، مما يجعل الآيتين امتدادًا لبعضهما، وتأكيدًا لبُطلان تصوُّرات المشركين، وفساد معتقداتهم في كل عصر ولدى كل قوم؛ إذ سبب الشرك مطلقًا هو عماء المشركين عن معرفة الله وتقديره حقَّ قدرِه.

 

والآيتان معًا تتمة لما تعيبه سورة الأنعام مطلقًا على مشركي قريش، من تَجاهُلٍ لقَدْر الله الواجب له، وجحودٍ لما له من قوة وعظمة وفضل، وإنكارٍ لما تقتضيه الربوبية والأُلوهية من صفات الخَلْق والإبداع والقُدْرة والتدبير، والاختيار والاصطفاء، والمقصود فيهما هم الكفَّار مطلقًا؛ قال ابن عباس: "قوله تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الأنعام: 91] هم الكُفَّار، لم يؤمنوا بقُدْرة الله عليهم، فمَنْ آمَنَ أن الله على كل شيء قدير، فقد قدَر الله حقَّ قدرِه، ومَنْ لم يؤمن بذلك لم يقدر الله حقَّ قدرِه".

 

أما قوله تعالى: ﴿ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ فالأصل في تركيبه اللغوي: "ما قدروا الله قدرَه الحقِّ"، فلما أُضِيفَ النعت وهو لفظ: "الحق" إلى منعوته الذي هو: "القَدْر" صار التعبير القرآني: ﴿ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾، وانتصب النعتُ على ما كان منتصِبًا به المنعوت.

 

والحقُّ أن تقديره تعالى حقَّ قدرِه متعلِّقٌ بمعرفته سبحانه حقَّ معرفته، ولا تكون المعرفة إلَّا على قدر استيعاب العقل البشري؛ لأن قدره الحقيقي لا يُحيط به مخلوق أبدًا، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [آل عمران: 102]، إذ استصعب بعض الصحابة هذا التكليف وقال: "ومَنْ يقدر على ذلك؟"، فأنزل الله تعالى قولَه: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16].

 

إن تقدير الله حق قدره يقتضي الإيمان بأن الله لم يخلق الخَلْق عبثًا ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، وأنه خلَقهم لغاية واضحة ودقيقة ومحددة ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وأن من تمام رحمته بالخَلْق ورعايته لهم، أنه لا يغفل عنهم ﴿ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴾ [المؤمنون: 17]، ومن تمام عدله فيهم أن يُبيِّن لهم ما يتقون ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ﴾ [التوبة: 115]، ومن تمام بيانه لهم أن يبعث فيهم الرسل والرسالات: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، ومن تمام عدله فيهم ورحمته بهم أن يكون الحساب بعد البيان ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15].

 

إن لله تعالى أسماءً وصفاتٍ نزل بها الكتاب والسنة، لا يكفي أن نؤمن بها إلَّا أن تنعكس واضحة في نفوسنا وسلوكنا وعلاقاتنا، وسياسة أنفسنا وأُسَرنا وذُريَّتِنا، وهي بذلك منهج ونظام تزكو بهما حياتُنا بقدر تعظيمنا لربِّنا وتقديرنا له حقَّ التقدير، وتُثمِر به دُنيانا وآخرتنا بمقدار محبَّتنا له عز وجل وخوفنا وحيائنا منه؛ إذ من يقدر عَدْل الله حقَّ قَدْرِه لا يظلم أحدًا؛ لأن حقوق الغير، مضمونٌ أداؤها في الدنيا والآخرة، ومَنْ يقدر رحمته تعالى حَقَّ قَدْرِها لا يقنَط من قضائه ولا يَيْئَس من قدره ﴿ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56]، ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، ومن يقدر غضب الله حق قدره لا يجرؤ على معصيته؛ وإنما يلجأ إلى طاعته وعبادته، ومن يقدر قوة الله حق قدرها لا يخشى في الله لومة لائم، ولا يركَن لظالم يخافه أو فاسد يرجو الاستعانة به، ومن يقدر نُصرة الله أولياءَه حقَّ قدرها، لا يبيع آخرته بدنيا غيره؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [الأحزاب: 39].

 

ولا شكَّ أن المرء مهما بلغ من قوة الإيمان لا يستطيع أن يقدر الله حق قدره أو يُعظِّمه حقَّ تعظيمه، أو يتصوَّر سَعة ربوبيَّته ومطلقية أُلوهيته وواسع قُدْرته وعدد أسمائه وصفاته وأفعاله؛ كي يعبده حقَّ عبادته، ليس لامرئ سبيلٌ إلى ذلك إلَّا أن يكتفي بما بلَّغه إيَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنًا وسُنَّةً، متجنِّبًا الشِّرك خفيَّه وظاهرَه، مستعينًا في الاستيعاب والفهم والعمل بالصدق والإخلاص؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].

 

من قصَّر في إدراك ذلك أثِم، ومَنْ تخلَّف عن ركب السالكين خسِر، ومَنْ حاول تجاوُز الحدِّ إلى هرطقات المتصوِّفة والباطنية والمبتدعة خاب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه سلمان رضي الله عنه: ((يُوضَع الميزانُ يوم القيامة، فلو وُزن فيه السماوات والأرض لوَسِعَتْ، فتقول الملائكة: يا رب، لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانَكَ ما عبدناكَ حقَّ عبادتِكَ، ويُوضَع الصراط مثل حدِّ الموسى، فتقول الملائكة: يا رب، مَنْ تجيز على هذا؟ فيقول: مَنْ شِئتُ من خَلْقي، فتقول الملائكة: سبحانَكَ، ما عبدناكَ حقَّ عبادتِكَ))، وفي رواية للطبراني عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما في السَّماوات السبع موضعُ قَدَمٍ ولا شِبْرٍ ولا كَفٍّ، إلَّا وفيه ملَكٌ قائمٌ، أو ملَكٌ ساجدٌ، أو ملَكٌ راكِعٌ، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعًا: سبحانَكَ ما عبَدَناكَ حَقَّ عبادتِكَ، إلَّا أنَّا لم نُشرِكْ بِكَ شيئًا)).

 

ولأن تعظيم الله حقَّ تعظيمه وتقديره حقَّ قدره متعذَّر إلَّا في حدود المستطاع، فقد قيَّدَ الوحي المعنى وبيَّنَ مَكْمَنَ الشِّرْك في معتقد المشركين وسبَبَ تورُّطِهم فيه بقوله عز وجل عقب ذلك: ﴿ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 91]؛ أي: إنهم أنكروا على الله تعالى القدرة على إرسال الرسل من البشر، وعلى الوحي إليهم، فانتقصوا بذلك قدره، وهذا القول منهم هو مَكْمَن الشِّرْك في عقيدتهم؛ لأنهم نسبوا إليه تعالى العَجْزَ عن رعاية الخَلْق، وإهمالَ تربيتِهم وترشيدِهم وهدايتِهم إلى خير الدنيا والآخرة - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - وما كان قولهم هذا إلَّا ليُعَذِّروا به لأنفسهم بعد أن أفحمهم الوحي، ويُبرِّرُوا به انصرافَهم عن الإيمان ومعاندتَهم للرسول والرسالة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94]، وقوله عز وجل: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ﴾ [القمر: 23 - 25].

 

إن سياق الآية كلَّه خطابٌ لمشركي قريش وحديثٌ عنهم، ولكنه يعمُّ المشركين في الأرض جميعًا مَنْ مضى منهم ومَنْ يأتي بعدهم إلى يوم القيامة؛ ذلك لأن جهل السابقين واللاحقين بالله تعالى وتجاهلهم لقدره وعلمه وحكمته، جرَّأهم على إنكار قدرته على إرسال الرسل من البشر وإنزال الوحي عليهم، وهم بهذا الزَّعْم لا يقدرون الله حق قدره ولا يعظِّمُونه حقَّ تعظيمه.

 

نفس التقييد التوضيحي لمكْمَن الشِّرْك في عقيدة المشركين ورد في آيتين أُخرَيين بسياقين متشابهين، أولاهما: إذ شكَّكُوا في قدرته تعالى على الخَلْق والتدبير والقاهرية والتسيير، فنزل قوله عز وجل: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67].

 

والآية الثانية: إذ تنقص المشركون استحقاقَ الله العبادة والقدرةَ على استجابة الدعاء، واستعظموا قدرةَ الأوثان على ذلك؛ فقال لهم عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 73، 74]، وقريب من هذا الاعتقاد أن يزعم امرؤ تعذُّر شفاء مريض مهما اشتدَّ مرضه، أو انكشاف محنة مُبتلى مهما اشتدَّ بلاؤه، أو توبة مذنب أو إسلام كافر مهما لجَّ أحدُهما في المعاصي والآثام، كل ذلك انتقاصٌ من قَدْر الله وقُدْرته، وهو في كل الأحوال زَعْمٌ بعيد عن التصوُّر الإيماني السليم وظُلْم عظيم.

 

لقد وردت في الآثار روايات تزعم أن الذين قالوا: ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 91] هم اليهود، أو أحد رجلين منهم: مالك بن الصيف أو فِنْحاص بن عازوراء، وبنى بعض المفسرين على ذلك أن الآية مدنية، وأن سورة الأنعام فيها المدني والمكي، وذلك غير صحيح؛ لأن السورة مكية ونزلت دَفعةً واحدة، ولأن اليهود لا يُنكرون إنزال الله الكُتُب وإرسالَه الرسل من البَشَر، ولديهم موسى عليه السلام وعندهم التوراة.

 

وأما قريش ومشركو العرب قاطبة، فهم الذين كانوا يُنكرون إرسال الله الرسل من البَشَر وإنزاله الكتبَ عليهم، يُنكرون ذلك عنادًا ومكابرةً لا يقينًا قاطعًا، وهذا القول منهم هو نفس قول الملاحدة المعاصرين، الذين استفزَّتهم الدعوة فتَنَادَوا في كل نادٍ أن هلمُّوا إلى التشكيك في ثوابت الدين عقيدة ومنهجًا، وعلى إنكار الرسالات وتشويه الرسل، وابتداع تصوُّرات لا تتجاوز ما كانت عليه الوثنيات القديمة مهما أسبغوا عليها من محسِّنات لفظية مستحدثة وحذلقات بيانية، وأفاضوا على أتباعهم فيها من رشًا مادية ومعنوية.

 

لقد قالت قريش: ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 91]؛ أي: لم ينزل الله على أي إنسان شيئًا من الوحي ولو قليلًا، قالت ذلك عنادًا ومكابرةً من أجل أن تُنكر نبوَّتَه صلى الله عليه وسلم بعد أن أفحمها صِدْقُه وقوَّة الحجَّة فيما جاء به، وبهرتها صلابة المؤمنين بدعوته وثباتهم عليها، وهذه الدعوى من قريش زعم كاذب باطل؛ لأنهم كانوا يعرفون الله ويؤمنون به ولو على عِمِّيَّة من التصوُّر وغَبَش في الفَهم؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [العنكبوت: 61]، وكانوا يزعمون أنهم ما يعبدون الأوثان إلَّا ليتقرَّبُوا بها إليه عز وجل؛ كما قال عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3]، كما كانوا يعرفون النبوة، ويعتزُّون بنَسَبهم إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهما نبيَّان رسولان، ولم يكونوا في عُزْلة تامَّة عن محيطهم في الجزيرة العربية؛ لأن لهم رحلاتهم صيفًا وشتاءً للتجارة إلى شمالها وجنوبها قبل البعثة النبوية وبعدها، ويعرفون نصارى الشام[1] وما لهم من الإنجيل ويتزاورون معهم، ويعرفون يهود المدينة وديانتهم ورسلهم وكتابهم، ويحاورونهم ويُتاجرون معهم ويستشيرونهم في قضايا التجارة وغيرها، بل يلجؤون إليهم في قضايا متعلِّقة بالسِّحْر والكهانة والعرافة، فيُصدِّقونهم ويعملون بما يُشيرون به عليهم، وامتدَّ هذا التعاوُن والتواصُل بين الطرفين، فشمل المرحلة المكية من الدعوة الإسلامية والمرحلة المدنية، حتى إن قريشًا استفتت اليهود في أمر المسلمين وعقيدتهم عندما استقبلت وفدًا منهم للاستعانة بهم في حربها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب[2]، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ﴾ [النساء: 51]؛ بل إن ما دفعهم لجحود الرسالة والمرسل بها إلَّا الحسد والحَنَق لعدم نزولها على واحد من كُبرائهم، وقد كانوا من قبلُ يحسُدون أهل الكتاب على استئثارهم بالتوراة والإنجيل ويقولون: ﴿ لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ ﴾ [الأنعام: 157].

 

ولَمَّا كان المشركون يَعرِفون اليهود وتَوْراتَهم ومعتقداتِهم حقَّ المعرفة، فقد أَمَر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُواجههم بما يعرفونه ويُضمرونه، تسفيهًا لدعواهم ونقضًا لمزاعمهم، وكشفًا لفساد نواياهم وإفحامًا لهم باستفهام يُلجِئُهم إلى الاعتراف بالحقِّ، فقال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ﴾ [الأنعام: 91]؛ أي: قل لهم يا محمد: إذا كان الله تعالى لم يرسل بشرًا، ولم يُنزل كتابًا كما زعمتُم، فمَنْ أنزل التوراة على موسى، وأنتم تعرفون أتباعه وتُتاجِرون معهم وتستشيرونهم وتستعينون بسحرهم قبل البعثة النبوية وبعدها؟

 

وكي لا يختلط أمر التوراة الأصلي الصحيح بالتوراة المحرَّف المتداول بين اليهود حينئذٍ، عقب عز وجل مبينًا حقيقة التوراة في أصله الرباني الموحى به قبل تحريفه على يد الأحبار بقوله تعالى: ﴿ نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ﴾ [الأنعام: 91]؛ أي: أنزَل التوراة للناس، وجعلها نورًا يُضيء حياتهم، وهدايةً لهم إلى أرْضَى المعتقدات والتصرُّفات والأعمال والأقوال، والنور لغةً: هو الضياء في نفسه المضيء لغيره، يُنير العقول والقلوب، فتميز من الأقوال والأعمال والأفهام والتصرفات سليمها وسقيمها وصائبها وخاطئها.

 

هذا الوصف منه تعالى للتوراة مشترك بين جميع الكتب المنزَّلة على جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام، اختلفت ألفاظُه واتَّحَدَت معانيه، كلُّها من مشكاة واحدة ولهدف واحد؛ هو هداية الخَلْق واستنقاذهم من الضلال، وإقامة الحجة على من أصرَّ على الكفر والشرك.

 

وصف عز وجل التوراة في هذه الآية بالنور الهادي؛ كما وصفه أيضًا بقوله تعالى: ﴿ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً ﴾ [هود: 17]، والإمامة في جوهرها هداية وقيادة إلى الحق، والرحمة في معناها الواسع نور يهدي به الله من يشاء من عباده.

 

وهو نفس ما وصف به الإنجيل في قوله تعالى: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 46]، وهو أيضًا نفس ما وصف به القرآن الكريم؛ إذ قال عز وجل: ﴿ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [الشورى: 52]، وقال: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15]، وقال: ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 52].

 

إلا أن التوراة في زمن البعثة المحمدية كان قد دخلها التحريف، واستغلَّها الأحبار للمُتاجرة والنصب على الأتباع، ووصفُها بالنور والهدى إنما كان تزكيةً لأصلها الربَّاني غير المحرَّف، وليس لِما آل إليه حاله لدى بني إسرائيل؛ لذلك عقَّب الحقُّ عزَّ وجلَّ مُبينًا ما فعله اليهود به، فقال: ﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾ [الأنعام: 91]، وقد قرأ ابن كثير وابن عمرو الأفعال الثلاثة في هذه الآية الكريمة [﴿ تَجْعَلُونَهُ ﴾- ﴿ تُبْدُونَهَا ﴾- ﴿ وَتُخْفُونَ ﴾] بياء الغيبة: ﴿ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾، للحمل على ما تقدم بصيغة الغائب، أما باقي القرَّاء فصيغة الأفعال الثلاثة لديهم بالتاء على صيغة المخاطب: ﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾ [الأنعام: 91]، فمن قرأ بياء الغيبة: ﴿ يَجْعَلُونَهُ ... ﴾ حمله على قوله تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الأنعام: 91]؛ أي: يجعله أهله قراطيس، ومن قرأ بتاء الخطاب: ﴿ تَجْعَلُونَهُ ﴾، جعله خطابًا لليهود المعاصرين حملًا للالتفات في الآية إليهم وإلى مَنْ يأتي بعدهم في كل عصر، وقد كان أحبارهم يُحرِّفون التوراة ويلوون أحكامها، ويوظفون أدعيتها وأخبارها ويجزئونها في قراطيس وكراريس مستقلة يُفرِّقونها ويبعضونه بها، ويخلطون فيها الصحيح بالمنتحل والملفق والغث، فيكتمون بذلك بعض ما أنزل الله، ويضيفون إليه ما ليس منه، ثم يتاجرون بتلك الكراريس مع أتباعهم، إبداءً لما فيه فائدتهم وإخفاءً لما ليس فيه فائدة؛ كما قال تعالى عقب ذلك: ﴿ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾ [الأنعام: 91]؛ أي: تبدون بعض ما تكتبون في القراطيس وتخفون بعضه تبعًا لمصلحتكم ومصلحة مَنْ يستفتونكم من اليهود، كما في محاولة إخفائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الرجم في شريعتهم[3]، وكما شرح ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75]، وقوله عز وجل: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: 79].

 

ثم واصل الوحي الكريم التفاته لليهود يمنُّ عليهم بفضله ويعيب جحودهم وكُفْرانهم، وقد أشرك معهم في الخطاب قريشًا، مشركَها ومؤمنَها؛ فقال تعالى: ﴿ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ﴾ [الأنعام: 91] يمنُّ الله بهذه الآية الكريمة على اليهود وقد نقضوا عهده وحرَّفُوا كتابه فيُذكِّرهم بما علَّمهم من الكتاب والحكمة في التوراة الأصلية، كما يمنُّ تعريضًا على قريش مشركِها ومسلمِها بما يُعلِّمهم إيَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة والعلم، ومن أخبار الأوَّلين والآخرين وأحوال يوم القيامة عرضًا وحسابًا وشهادةً وجزاءً في الجنة أو في النار؛ قال عز وجل: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، قال مجاهد: "﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 91] قالها مشركو قريش، وقوله: ﴿ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾ [الأنعام: 91] هم اليهود الذين يبدونها ويخفون كثيرًا، وقوله: ﴿ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ﴾ [الأنعام: 91]، قال: هذه للمسلمين".

 

ولأن مشركي قريش كانوا يعرفون الله تعالى، ويتقرَّبُون إليه بعبادة الأوثان، ويتَّصلون باليهود والنصارى وهم أتباع رُسلٍ وأصحاب كُتبٍ مرسلةٍ، ثم يواجهون رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: ﴿ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 91]، وهذا منهم عين العبث والجهل والعناد والإصرار على الباطل؛ فإنه تعالى لم يترك لهم فرصة إغراق هذه القضية الإيمانية الواضحة في الجدل العقيم؛ بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحسم بتقرير الحق فيها بعد أن أقام عليهم الحجَّة، وبلغ في الإعذار إليهم والإنذار لهم مبلغًا عظيمًا، بقوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُ ﴾ [الأنعام: 91]، وهو جواب استفهام سبق في قوله تعالى للمشركين: ﴿ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ﴾ [الأنعام: 91]؛ أي: قل لهم يا محمد: إن الله تعالى هو الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام؛ كما في سؤاله تعالى المشركين من قبلُ في نفس السورة: ﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ [الأنعام: 63]، وقوله عز وجل جوابًا: ﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ﴾ [الأنعام: 64].

 

هذا هو الجواب القولي الحاسم، أما جواب الفعل والتصرُّف، فهو أمره تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عقب ذلك بالانصراف عن مماحكاتهم ولجاجهم بقوله عز وجل: ﴿ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: 91]؛ أي: بلِّغهم ما أُمِرتَ بتبليغه، ثم أعرض عنهم، واترُكْهم يخوضوا ويلعبوا ويجادلوا بالباطل حتى يُلاقوا يومَهم الذي يُوعدون، فما أنت عليهم بحفيظ: ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾ [الشورى: 48].

 

وفي هذا الجواب من الاستعلاء على باطل المشركين، ومن التهديد لهم بعاقبة الشرك بقدر ما فيه من الاستهانة بكل مَنْ أعماه الحقد أو الغيرة أو الحسد، ولج في الكذب، واستمرأ الجدال بالباطل والمراء الأهوج الأعمى.

 

ولئن رأى مَنْ يقولون بالنَّسْخ في القرآن أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، فإن في مذهبهم هذا شططًا؛ لأن ورودها بالتهديد للمشركين يُنافي النَّسْخ ولا يُنافي آية السيف، ولكل من الآيتين مجالها وسياقها.

 

إن ما أمر الله به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة، هو الجواب الأمثل الذي يليق بالمؤمن في حال مواجهة مرضى القلوب من الحاقدين والممارين والمجادلين بالباطل، أن يصابرهم حتى يُبلِّغ إليهم الحق ويجبههم به، فإن حاولوا استدراجه إلى الجَدَل العقيم والجحود الغبي، كان جوابه الحاسم: ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: 91]؛ ذلك لأن وقت المؤمن ثمين لا ينبغي إهداره فيما يستدرجه إليه التافهون والمعاندون بعد أن يُبيِّن لهم الحق، إنه الأسلوب الرباني الذي اختاره ربُّ العزَّة لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، في مواجهة ذوي النوايا السيئة بكل أصنافهم ومواقفهم في كل عصر:

إن كانوا غير مُنصفين ولا عقلاء، أن يُبلِّغهم الحقَّ ثم ينصرف... ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: 91]، أو كانوا يستدرجونه لما لا يرضى من القول والعمل، أن يبلغهم الحق ثم ينصرف ...: ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: 91]، أو كانوا يحاولون استفزازه أو إضاعة وقته أو صرفه عن دعوته أن يبلغهم الحق ثم ينصرف: ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: 91]، أو كانوا يشهِّرون به أو يستهزئون بنهجه، أو يحاولون تشويه سمعته، أو يغتابونه أو يبهتونه، أن يبلغهم الحق ثم ينصرف: ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [الأنعام: 91].

 

قل الله أيها المؤمن، عاليًا صوتك مطمئنًّا قلبُك واثقًا بربِّك: ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [الأحزاب: 48].

 

هذا الأسلوب القرآني في الرد على مشركي قريش هو نفس الرد على ورثة منهجهم الرديء في كل زمان وكل مكان، أن يدَّخر المؤمن وقته، فلا يصرفه في التفاهات والمماحكات ومجادلة التافهين، ويُوفِّر طاقته وجهده وقوته، فيصرفها في إنتاج العمل الصالح المفيد في الدنيا والآخرة، ويُوفِّر راحته النفسية، فيُقبل على عبادة ربِّه بقلب سليم وهدوء بال ونفس رضيَّة زكية.

 

وهو في نفس الوقت أسلوب يغيظ أعداء دعوته ممن يكرهونها أو يكيدونها أو يمكرون بها... يُسِفُّهم به الرماد، ويسقيهم به المرَّ والعلقم، ويوقد به في صدورهم نار الغيظ والحسرة.

 

بهذا الأسلوب الرباني الراقي يحفظ المؤمن عهده مع الله، وعهده مع نفسه والناس أجمعين، بهذا الأسلوب الحكيم يسعى لما شوَّقه الله إليه، ويحذر ممَّا خوَّفه منه، ويُوفي بما نذر نفسه له: ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].



[1] راجع قصة سفر أبي طالب بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام إلى الشام مع أشياخ من قريش، وما قاله راهب بصرى عنه، في سنن الترمذي وحسَّنه (4/ 496)، ودلائل النبوة؛ لأبي نعيم (1/ 53) والمستدرك؛ للحاكم (12/ 615 -616)، وتاريخ دمشق؛ لابن عساكر (6/ 187 -188/1) بأسانيد متعددة، وقد حسَّن الترمذي الحديث وصحَّحه الحاكم والجزري وقوَّاه العسقلاني والسيوطي.

[2] عن عكرمة، قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصِلُ الأرْحامَ، ونَنْحَر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفكُّ العناة، ونسقي الحجيج، ومحمد صُنْبُور قطع أرحامنا، واتَّبَعَه سُرَّاقُ الحجيج بنو غِفار، فنحن خيرٌ أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلًا، فأنزل الله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ﴾ [النساء: 51].

[3] عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد أحدثا فقال: ((ما تجدون في كتابكم؟))، قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميمَ الوجهِ والتَّجْبِيهَ (التَّجبيهُ: هو الإركاب على الدابة معكوسًا)، قال عبدالله بن سلام: ادعهم يا رسول الله بالتوراة، فأتي بها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبدالله بن سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم تحت يده.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • نفحات قرآنية .. في سورة الأنعام
  • مقاصد سورة الأنعام
  • من سورة الأنعام: أبلغ الحق ولا عليك ممن كفر به
  • من سورة الأنعام: لينظر كل امرئ لمن تكون طاعته
  • قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم
  • إن أتبع إلا ما يوحى إلي
  • قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون
  • هدايات سورة الأنعام

مختارات من الشبكة

  • موهم التعارض بين القرآن والسنة: (دراسة نظرية تطبيقية) من أول سورة الفاتحة حتى نهاية سورة الأنعام(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • ترجيحات الشنقيطي في أضواء البيان من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الأنعام جمعا ودراسة(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • قواعد ضبط الآيات المتشابهات (4)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • تفسير سورة الأنعام الآيات (165)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة الأنعام الآيات (161: 164)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة الأنعام الآيات (159: 160)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة الأنعام الآيات (157: 158)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة الأنعام الآيات (154: 156)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة الأنعام الآيات (152: 153)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة الأنعام الآيات (150: 151)(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب