• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    خطبة: فما عذرهم
    أحمد بن علوان السهيمي
  •  
    خطبة: وسائل السلامة في الحج وسبل الوقاية من ...
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    العشر من ذي الحجة وآفاق الروح (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    فضائل الأيام العشر (خطبة)
    رمضان صالح العجرمي
  •  
    أفضل أيام الدنيا (خطبة)
    د. محمد بن مجدوع الشهري
  •  
    أحكام عشر ذي الحجة (خطبة)
    الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري
  •  
    أحكام عشر ذي الحجة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    أدلة الأحكام المتفق عليها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    الأنثى كالذكر في الأحكام الشرعية
    الشيخ أحمد الزومان
  •  
    الإنفاق في سبيل الله من صفات المتقين
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    النهي عن أكل ما نسي المسلم تذكيته
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    الحج: آداب وأخلاق (خطبة)
    الشيخ محمد بن إبراهيم السبر
  •  
    يصلح القصد في أصل الحكم وليس في وصفه أو نتيجته
    ياسر جابر الجمال
  •  
    المرأة في القرآن (1)
    قاسم عاشور
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (11)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    الإنصاف من صفات الكرام ذوي الذمم والهمم
    د. ضياء الدين عبدالله الصالح
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / عقيدة وتوحيد
علامة باركود

شرح اسم الباطن

الشيخ وحيد عبدالسلام بالي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 29/10/2017 ميلادي - 8/2/1439 هجري

الزيارات: 32136

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

شرح اسم الباطن

 

الدِّلالاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (الْبَاطِنِ)[1]:

البَاطِنُ اسْمُ فَاعِلٍ لمَنِ اتَّصَفَ بالبُطُونِ، والبُطُونُ خِلَافُ الظُّهُورِ، فِعْلُه بَطَنَ يَبْطُنُ بُطُونًا، والبَطْنُ مِنَ الإِنْسَانِ وسَائِرِ الحَيَوانِ خِلَافُ الظَهْرِ، والبَطْنُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ جَوْفُهُ، قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ [النحل: 78]، وقَالَ: ﴿ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ﴾ [الأنعام: 139]، والبُطُونُ أَيْضًا الخَفَاءُ والاحْتِجَابُ وعَدَمُ الظُّهُورِ، ومِنْهُ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ [الأنعام: 151]، وبَطْنُ الشَّيْءِ أَسَاسُهُ المحْتَجِبُ الذِي تَسْتَقِرُّ بِهِ وعَلَيهِ الأَشْيَاءُ، وعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ فاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الوَادِي فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا"[2]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ ﴾ [الفتح: 24]، قَالَ ابنُ مَنْظُورٍ: "وذَلِكَ أَنَّ بني هَاشِمٍ وبني أُمَيَّةَ وَسَادَةَ قُرَيْشٍ نُزُولٌ بِبَطْنِ مَكَّةَ، ومَنْ كَانَ دُونهم فَهُمْ نُزُولٌ بِظَوَاهِرِ جِبَالِها"[3].

 

والبَاطِنُ سُبْحَانَهُ هو المحْتَجِبُ عَنْ أَبْصَارِ الخَلْقِ، الذِي لا يُرَى في الدُّنْيَا، ولا يُدْرَكُ في الآخِرَةِ، وفَرْقٌ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ والإدْرَاكِ، فاللهُ عز وجل لا يُرَى في الدُّنْيَا، ويُرَى في الآخِرَةِ، أَمَّا الإدْرَاكُ فإنَّهُ لا يُدْرَكُ في الدُّنْيَا ولا في الآخِرَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا ﴾ [الشعراء: 61، 62]، فَمُوسَى نَفَى الإدْرَاكَ، ولَمْ يَنْفِ الرُّؤْيَةَ؛ لأنَّ الإدْرَاكَ هُوَ الإحَاطَةُ بالمدْرَكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَمَّا الرُّؤْيَةُ فَهِي أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، فَكُلُّ إدْرَاكٍ يَشْمَلُ الرُّؤْيَةَ، ولَيْسَ كُلُّ رُؤْيَةٍ تَشْمَلُ الإدْرَاكَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103][4].

 

واللهُ عز وجل بَاطِنٌ احْتَجَبَ بِذَاتِهِ عَنْ أَبْصَارِ النَّاظِرِينَ لحِكْمَةٍ أَرَادَها في الخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ، فَاللهُ يُرَى في الآخِرَةِ، ولا يُرَى في الدُّنْيَا؛ لأنَّهُ شَاءَ أَنْ تَقُومَ الخَلَائِقُ عَلَى مَعْنَى الابْتِلَاءِ، وَلَوْ رأَيْنَاهُ في الدُّنْيَا وانْكَشَفَ الحِجَابُ والغِطَاءُ لَتَعَطَّلَتْ حِكْمَةُ اللهِ في تَدْبِيرِهِ الأشْيَاءَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ [إبراهيم: 19]، فَالعِلَّةُ في احْتِجَابِهِ وعَدَمِ رُؤْيَتِهِ هِي الامْتِحَانُ والابْتِلَاءُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، ومِنْ هُنَا كَانَ البُطُونُ، ووضْعُ الغِطَاءِ عَلَى أَهْلِ الابْتِلَاءِ، أَوْ كَشْفُ الحِجَابِ عِنْدَ الانْتِقَالِ لِدَارِ الجَزَاءِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق: 22]، فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ الإيمَانُ باللهِ ونَحْنُ نَرَاهُ؟ وكَيْفَ تَسْتَقِيمُ الشَّرَائِعُ في مُخَالَفَةِ الإنْسَانِ هَوَاهُ[5]؟

 

وإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَا يُرَى في الدُّنْيَا ابْتِلَاءً، فإنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرَى في الآخِرَةِ إكْرَامًا وجَزَاءً، إكْرَامًا لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، وزِيَادَةً في النَّعِيمِ لِأَهْلِ مَحَبَّتِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، وقَدْ تَوَاتَرَتِ الأَحَادِيثُ في إثْبَاتِ رُؤْيَةِ المؤْمِنِينَ لِرَبهِم يَومَ القِيَامَةِ، فَالْعِلَّةُ إذًا في احْتِجَابِهِ، وعَدَمِ إدْرَاكِ كَيْفِيَّةِ أَوْصَافِهِ لَيْسَتْ عَدَمُ وُجُودِها، ولا اسْتِحَالَةِ رُؤْيَةِ اللهِ تَعَالَى، ولَكِنَّ العِلَّةَ قُصُورُ الجِهَازِ الإدْرَاكِي في الحَيَاةِ الدُّنْيَا عَنْ إدْرَاكِ حَقَائِقِ الغَيْبِ؛ لأنَّ اللهَ عليه تعالى خَلَقَ الإنْسَانَ بِمَدَارِكَ مَحْدُودَةٍ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الابْتِلَاءِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [الإنسان: 2]، فَمِنَ الصَّعْبِ أَنْ يَرَى الإنْسَانُ مَا بَطَنَ مِنَ الغَيْبِيَّاتِ، أَوْ يَرَى كَيْفِيَّةَ الذَّاتِ والصِّفَاتِ، فَالشَّيْءُ لا يُرَى إلّا لِسَبَبَينِ: الأَوَّلُ خَفَاءُ المَرْئِي وهو مُمْتَنِعٌ في حَقِّ اللهِ، والثَّانِي ضَعْفُ الجِهَازِ الإدْرَاكِي للرَّائِي وهَذَا شَأْنُ الإنْسَانِ[6].

 

فَمِنَ الخَطَأِ البَحْثُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الحَقَائِقِ الغَيْبِيَّةِ، أَوْ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ والصِّفَاتِ الإلَهِيَّةِ؛ لأنَّ اللهَ بَاطِنٌ احْتَجَبَ عَنْ خَلْقِهِ في عَالَمِ الشَّهَادَةِ بالنَّوَامِيسِ الكَوْنِيَّةِ، أَمَّا في الآخِرَةِ عِنْدَ لِقَائِهِ فَالأَمْرُ يَخْتَلِفُ؛ إذْ إِنَّ مُدْرَكَاتِ الإنْسَانِ ووَقْتَها تَتَغَيَّرُ بالكَيْفِيَّةِ التي تُنَاسِبُ أُمُورَ الآخِرَةِ وأَحْدَاثها، كَمَا ثَبَتَ في السُّنَّةِ أَنَّ الإنْسَانَ سَيَكُونُ عِنْدَ دُخُولِ الجَنَّةِ عَلَى صُورَةِ آدِمَ عليه السلام طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا[7]، واللهُ عز وجل مَعَ أنَّهُ البَاطِنُ الذِي احْتَجَبَ عَنْ أَبْصَارِ النَّاظِرِينَ لِجَلَالِهِ وحِكْمَتِهِ، وكَمَالِ عِزَّتِهِ وعَظَمَتِهِ، إلّا أَنَّ حَقِيقَةَ وُجُودِهِ، وكَمَالَ أَوْصَافِهِ نُورٌ يُضِيءُ بَصَائِرَ المؤْمِنِينَ، فَهُوَ القَرِيبُ المجِيبُ الذِي يَسْمَعُ الخَلَائِقَ أَجْمَعِينَ.

 

وُرُودُهُ في القُرْآنِ الكَرِيمِ[8]:

وَرَدَ مَرَّةً وَاحِدَةً في قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3].

 

مَعْنَى الاسْمِ في حَقِّ اللهِ تَعَالَى:

تَقَدَّمَ في مَعْنَى اسْمِهِ (الظَّاهِرِ) قَوْلُ الفَرَّاءِ والزَّجَّاجِي.

وقَالَ ابنُ جَرِيرٍ: "و (البَاطِنُ) يَقُولُ: وهو البَاطِنُ لِجَمِيعِ الأَشْيَاءِ، فَلَا شَيْءَ أَقْرَبُ إلى شَيْءٍ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تعَالَى: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]"[9].

وقَالَ الزَّجَّاجُ: "(البَاطِنُ) هُوَ العَالِمُ بِبِطَانَةِ الشَّيْءِ، يُقَالُ: بَطَنْتُ فُلَانًا وخَبَرْتُهُ: إذا عَرَفْتَ بَاطِنَهُ وظَاهِرَهُ.

واللهُ تَعَالَى عَارِفٌ بِبَوَاطِنِ الأُمُورِ وظَوَاهِرِها، فهو ذُو الظَّاهِرِ، وذُو البَاطِنِ"[10].

وقَالَ الخَطَّابِيُّ: "(البَاطِنُ) هو المُحْتَجِبُ عَنْ أَبْصَارِ الخَلْقِ، وهو الذِي لا يَسْتَوْلي عَلَيهِ تَوَهُّمُ الكَيْفِيَّةِ، وقَدْ يَكُونُ مَعْنَى الظُّهُورِ والبُطُونِ احْتِجَابُهُ عَنْ أَبْصَارِ النَّاظِرِينَ، وتَجَلِّيهِ لِبَصَائِرِ المُتَفَكِّرِينَ، ويَكُونُ مَعْنَاهُ: العَالِمُ بِمَا ظَهَرَ مِنَ الأُمُورِ، والمُطَّلِعُ عَلَى مَا بَطَنَ مِنَ الغُيُوبِ"[11].

وقَالَ الحُلَيْمِيُّ: "(البَاطِنُ) وهو الذِي لا يُحَسُّ، وإنَّمَا يُدْرَكُ بآثَارِهِ وأَفْعَالِهِ"[12].

 

ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بهذا الاسْمِ:

1- اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى أَعْظَمُ الغَيْبِ، مُحْتَجِبٌ عَنِ الخَلْقِ، لا يَرَاهُ أَحَدٌ في الدُّنْيَا، ولا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ في الآخِرَةِ[13]، ولا نُحِيطُ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلا بِمَا شَاءَ لَنَا أَنْ نَعْلَمَهُ عَنْهُ، مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ في كِتَابِهِ، أَوْ مَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم.

وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ ذَلِكَ ظَاهِرٌ لِخَلْقِهِ بِأَفْعَالِهِ وآيَاتِهِ المَتْلُوَّةِ والعَيَانِيَّةِ، فَمَنْ تَأَمَّلَ وتَفَكَّرَ في السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ ومَا فِيها، عَلِمَ عِلْمَ اليَقِينِ أنَّ لَهُ خَالِقًا مُدَبِّرًا ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].

ولَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:

فيا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَهُ
وفي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ
أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الجَاحِدُ
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ

وكَذَا الآيَاتُ المَتْلُوَّةُ وهي كِتَابُهُ؛ فإنَّها بِنَفْسِها تَدُلُّ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ لأنَّها لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ البَشَرِ، لأنْوَاعِ الإعْجَازِ التي فِيها.

 

2- اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى هو العَلِيمُ بِبَوَاطِنِ الأمُورِ وظَوَاهِرِها، يَسْتَوِي عِنْدَهُ هَذَا وهَذَا ﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: 10]، فَيَسْتَوِي عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مَنْ هُوَ مُخْتَفٍ في قَعْرِ بَيْتِهِ في ظَلَامِ الليلِ، ومَنْ هُوَ سَائِرٌ في سَرْبِهِ (طرِيقِهِ) في بَيَاضِ النَّهَارِ وضِيَائِهِ.

 

3- فَسَّرَ بَعْضُ السَّلَفِ (البَاطِنَ) بِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا تَقَدَّمَ في كَلَامِ ابنِ جَرِيرٍ والنَّحَّاسِ.

وحَكَى شَيْخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَةَ رحمه الله - كَمَا في فَتَاوِيهِ - عَنِ مُقَاتِلِ بنِ سُلَيْمَانَ أنَّهُ فَسَّرَه كَذَلِكَ، فَقَالَ نَاقِلًا عَنْهُ: "و (البَاطِنُ) أَقْرَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وإنَّمَا نَعْنِي بالقُرْبِ بِعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وهو فَوْقَ عَرْشِهِ".

فَضَعْفُ هَذَا القَوْلِ بِكَوْنِهِ لَيْسَ مَشْهُورًا عَنْ مُقَاتِلٍ، وأَنَّهُ فَسَّرَ البَاطِنَ بالقَرِيبِ، ثَمَّ فَسَّرَ القُرْبَ بالْعِلْمِ والقُدْرَةِ ولا حَاجَةَ إلى هَذَا.

ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى (البَاطِنِ) أَنَّهُ القُرْبُ، ولا لَفْظُ (البَاطِنِ) يَدُلُّ عَلَيهِ، ولَا لَفْظُ القُرْبِ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ عَلَى جِهَةِ العُمُومِ كَلَفْظِ المَعِيَّةِ، فَإنَّهُ إذَا قَالَ: هَذَا مَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ المُجَامَعَةَ والمُقَارَنَةَ والمُصَاحَبَةَ، ولا يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ إحْدَى الذَّاتَينِ مِنَ الأخْرَى ولا اخْتِلَاطِها بِها، فَلِهَذَا كَانَ إذا قِيلَ: هو مَعَهم، دَلَّ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ وقُدْرَتَهُ وسُلْطَانَهُ مُحِيطٌ بِهم وهو مَعَ ذَلِكَ فَوْقَ عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ القُرْآنُ والسُّنَّةُ بِهَذَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَعَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا يَمْنَعُهُ عُلُوُّهُ عَنِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الأَشْيَاءِ.

 

ولَمْ يَأْتِ في لَفْظِ "القُرْبِ" مِثْلُ ذَلِكَ، أَنَّهُ قَالَ: هُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ وهُوَ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ قَالَ: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]، وقَالَ: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]، وقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّكم لا تَدْعُونَ أَصَمَّ ولا غَائِبًا، إنَّ الذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ".

 

قَالَ: ولا يُقَالُ في هَذَا: قَرِيبٌ بِعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ، فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهُم لَمْ يَشُكُّوا في ذَلِكَ، ولَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ، وإنَّمَا سَأَلُوا عَنْ قُرْبِهِ إلى مَنْ يَدْعُوهُ ويُنَاجِيهِ، ولِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾؛ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.

 

وطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ تُفَسِّرُ (القُرْبَ) في الآيَةِ والحَدِيثِ بالْعِلْمِ لِكَوْنِهِ هُوَ المَقْصُودُ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَعْلَمُ ويَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِي حَصَلَ مَقْصُودُهُ، وهَذَا هُوَ الذِي اقْتَضَى أَنْ يَقُولَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِمَعْنَى الْعِلْمِ والقُدْرَةِ، فَإنَّ هَذَا قَدْ قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ مُقَاتِلِ بنِ حَيَّانَ، وكَثِيرٍ مِنَ الخَلَفِ، لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهم إنَّ نَفْسَ ذَاتِهِ قَرِيبَةٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وهَذَا المَعْنَى يُقِرُّ بِهِ جَمِيعُ المُسْلِمِينَ، مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ، ومَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ العَرْشِ[14].

 

المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ:

1- حَقِيقَةُ الافْتِقَارِ إلى اللهِ:

قَالَ ابنُ القيمِ رحمه الله: ولمَّا كَانَ مُوجَبُ الدَّرَجَةِ الأُولَى مِنَ الفَقْرِ الرُّجُوعَ إلى الآخِرَةِ، فَأَوْجَبَ الاسْتِغْرَاق في هَمِّ الآخِرَةِ نَفْضَ اليَدَينِ مِنَ الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا، وإسْكَاتَ اللِّسَانِ عَنْها مَدْحًا أَوْ ذَمًّا، وكَذَلِكَ كَانَ مُوجَبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ الرُّجُوعَ إلى فَضْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ، ومُطَالَعَةَ سَبْقِهِ الأَسْبَابَ والوَسَائِطَ فَبِفَضْلِ اللهِ ورَحْمَتِهِ وجدت مِنْهُ الأَقْوَال الشَّرِيفَة، والمَقَامَات العَلِيَّة، وبِفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ وَصَلُوا إلى رِضَاهُ ورَحْمَتِهِ، وقُرْبِهِ وكَرَامَتِهِ ومُوَالَاتِهِ، وكَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ (الأَوَّل) في ذَلِكَ كُلِّه كَمَا أَنَّهُ الأَوَّلُ في كُلِّ شَيْءٍ، وكَانَ هُوَ (الآخِر) في ذَلِكَ كَمَا هُوَ الآخِرُ في كُلِّ شَيْءٍ فَمَنْ عَبَدَهُ باسْمِهِ (الأَوَّلِ والآخِرِ) حَصَلَتْ لَهُ حَقِيقَةُ هَذَا الفَقْرِ، فَإِنِ انْضَافَ إلى ذَلِكَ عُبُودِيَّتُهُ باسْمِهِ (الظَّاهِرِ والبَاطِنِ) فَهَذَا هُوَ العَارِفُ الجَامِعُ لِمُتَفَرِّقَاتِ التَّعَبُّدِ ظَاهِرًا وبَاطِنًا.

 

فَعُبُودِيَّتُهُ باسْمِهِ (الأَوَّلِ) تَقْتَضِي التَّجَرُّدَ مِنْ مُطَالَعَةِ الأَسْبَابِ، والوُقُوفِ أَوِ الالْتِفَاتِ إلَيْها، وتَجْرِيد النَّظَرِ إلى مُجَرَّدِ سَبْقِ فَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ وأَنَّهُ هُوَ المُبْتَدِئُ بالإحْسَانِ مِنْ غَيْرِ وَسِيلَةٍ مِنَ العَبْدِ، إذْ لا وَسِيلَةَ لَهُ في العَدَمِ قَبْلَ وُجُودِهِ، وأَيْ وَسِيلَةٍ كَانَتْ هُنَاك؟ وإنَّمَا هُوَ عَدمٌ مَحْضٌ، وقَدْ أَتَى عَلَيهِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، فَمِنْهُ سُبْحَانَهُ الإعْدَادُ، ومِنْهُ الإِمْدَادُ، وفَضْلُهُ سَابِقٌ عَلَى الوَسَائِلِ، والوَسَائِلُ مِنْ مُجَرَّدِ فَضْلِهِ وَجُودِهِ لَمْ تَكُنْ بِوَسَائِلَ أُخْرَى، فَمَنْ نَزَّلَ اسْمَه (الأَوَّلَ) عَلَى هَذَا المَعْنَى أَوْجَبَ لَهُ فَقْرًا خَاصًّا وعُبُودِيَّةً خَاصَّةً.

 

وعُبُودِيَّتُهُ باسْمِهِ (الآخِرِ) تَقْتَضِي أَيْضًا عَدَمَ رُكُونِهِ وَوُثُوقِهِ بالأَسْبَابِ والوُقُوفِ مَعَها، فَإِنَّها تَنْعَدِمُ لَا مَحَالَةَ وتَنْقَضِي الآخِرِيَّةُ، ويَبْقَى الدَّائِمُ البَاقِي بَعْدَها، فَالتَّعَلُّقُ بِها تَعَلُّقٌ بِمَا يُعْدَمُ ويَنْقَضِي، والتَّعَلُّقُ بالآخِرِ سُبْحَانَهُ تَعَلُّقٌ بالحَي الذِي لَا يَمُوتُ ولَا يَزُولُ، فَالمُتَعَلِّقُ بِهِ حَقِيقٌ أَنْ لَا يَزُولَ ولَا يَنْقَطِعَ، بِخِلَافِ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِهِ مَمَّا لَهُ آخِرُ يَفْنَى بِهِ، كَذَا نَظَرُ العَارِفِ إليهِ بِسَبْقِ الأَوَّلِيَّةِ حَيْثُ كَانَ قَبْلَ الأَسْبَابِ كُلِّها، وكَذَلِكَ نَظَرُهُ إليهِ بِبَقَاءِ الآخِرِيَّةِ حَيْثُ يَبْقَى بَعْدَ الأَسْبَابِ كُلِّها، فَكَانَ اللهُ ولَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرَهُ، وكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهُهُ.

 

فَتأمَّلْ عُبُودِيَّةَ هَذَينِ الاسْمَينِ، وَمَا يُوجِبَانِهِ مِنْ صِحَّةِ الاضْطِرَارِ إلى اللهِ وَحْدَه، ودَوَامِ الفَقْرِ إليهِ دُونَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ، وأَنَّ الأَمْرَ ابْتَدَأَ مِنْهُ وإليهِ يَرْجِعُ، فَهُوَ أَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ وآخِرُهُ، وكَمَا أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وفَاعِلُهُ وخَالِقُهُ وبَارِئُهُ، فَهُوَ إلَهُهُ وغَايَتُهُ التي لَا صَلَاحَ لَهُ ولَا فَلَاحَ ولَا كَمَالَ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ وَحْدُه غَايَتَهُ ونِهَايَتَهُ ومَقْصُودَهُ، فَهُوَ (الأَوَّلُ) الذِي ابْتَدَأَتْ مِنْهُ المَخْلُوقَاتُ، و (الآخِرُ) الذِي انْتَهَتْ إليهِ عُبُودِيَّاتُها وإرَادَتُها ومَحَبَّتُها، فَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ شَيْءٌ يُقْصَدُ ويُعْبَدُ ويُتَأَلَّهُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ يَخْلُقُ ويَبْرَأُ، فَكَمَا كَانَ وَاحِدًا في إيجَادِكَ فاجْعَلْهُ وَاحِدًا في تَأَلُّهِكَ إليهِ لِتَصِحَّ عُبُودِيَّتُكَ، وكَمَا ابْتَدَأَ وُجُودُكَ وخَلْقُكَ مِنْهُ فاجْعَلْهُ نِهَايَةَ حُبِّكَ وإرَادَتِكَ وتَأَلُّهِكَ إليهِ لِتَصِحَّ لَكَ عُبُودِيَّتُهُ باسْمِهِ (الأوَّلِ والآخِرِ).

 

وأَكْثَرُ الخَلْقِ تَعَبَّدُوا لَهُ باسْمِهِ (الأَوَّلِ)، وإنَّمَا الشَّأْنُ في التَّعَبُّدِ لَهُ باسْمِهِ (الآخِرِ)؛ فَهَذِهِ عُبُودِيَّةُ الرُّسُلِ وأَتْبَاعِهم، فَهُوَ رَبُّ العَالَمِينَ، وإِلَهُ المُرْسَلِينَ سُبْحَانَهُ وبِحَمْدِهِ.

 

وأَمَّا عُبُودِيَّتُهُ باسْمِهِ (الظَّاهِرِ) فَكَمَا فَسَّرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: "وأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ".

 

فَإِذَا تَحَقَّقَ العَبْدُ عُلُوَّهُ المُطْلَقَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ، وأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ البَتَّةَ، وأَنَّهُ قَاهِرٌ فَوْقَ عِبَادِهِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْضِ ثُمَّ يُعْرَجُ إليهِ، ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10]، صَارَ لِقَلْبِهِ أَمَمًا يَقْصُدُه، ورَبًّا يَعْبُدُهُ، وإِلَهًا يَتَوَجَّهُ إليهِ، بِخِلَافِ مَنْ لَا يَدْرِي أَيْنَ رَبُّهُ فَإِنَّهُ ضَائِعٌ مُشَتَّتُ القَلْبِ، لَيْسَ لِقَلْبِهِ قِبْلَةٌ يَتَوَجَّهُ نَحْوَها ولَا مَعْبُودٌ يَتَوَجَّهُ إليهِ قَصْدُهُ، وصَاحِبُ هَذِهِ الحَالِ إذَا سَلَكَ وتَأَلَّهَ وتَعَبَّدَ طَلَبَ قَلْبُهُ إلَهًا يَسْكُنُ إليهِ ويَتَوَجَّهُ إليهِ، وقَدِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ العَرْشِ شَيْءٌ إلَّا العَدَمُ، وأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ العَالَمِ إِلَهٌ يُعْبَدُ ويُصَلَّى لَهُ ويُسْجَدُ، وأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى العَرْشِ مَنْ يَصْعَدُ إليهِ الكَلِمُ الطَّيِّبُ ولَا يُرْفَعُ إليهِ العَمَلُ الصَّالِحُ، جَالَ قَلْبُهُ في الوُجُودِ جَمِيعِهِ فَوَقَعَ في الاتِّحَادِ ولَا بُدَّ! وتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بالوُجُودِ المُطْلَقِ السَّارِي في المعيناتِ، فاتَّخَذَ إِلَهَهُ مِنْ دُونِ إِلَهِ الحَقِّ وظَنَّ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ على عَيْنِ الحَقِيقَةِ! وإنَّمَا تَأَلَّهَ وتَعَبَّدَ لِمَخْلُوقٍ مِثْلِهِ، ولِخَيَالٍ نَحَتَهُ بِفِكْرِهِ واتَّخَذَهُ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وإلَهُ الرُّسُلِ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [يونس: 3، 4].

 

وقَالَ: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة: 4 - 9].

فَقَدْ تَعَرَّفَ سُبْحَانَهُ إلى عِبَادِهِ بِكَلَامِهِ مَعْرِفَةً لَا يَجْحَدُها إلَّا مَنْ أَنْكَرَهُ سُبْحَانَهُ، وإنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِهِ.

 

2- التَّعَبُّدُ للهِ باسْمَيهِ الظَّاهِرِ والبَاطِنِ:

المَقْصُودُ أَنَّ التَّعَبُّدَ باسْمِهِ (الظَّاهِرِ) يَجْمَعُ القَلْبَ عَلَى المَعْبُودِ، ويَجْعَلُ لَهُ رَبًّا يَقْصدُهُ وصَمَدًا يَصْمُدُ إليهِ في حَوائِجِهِ، ومَلْجَأً يَلْجَأُ إليهِ، فإذَا اسْتَقَرَّ ذَلِكَ في قَلْبِهِ وَعَرَفَ رَبَّهُ باسْمِهِ (الظَّاهِرِ) اسْتَقَامَتْ لَهُ عُبُودِيَّتُهُ، وصَارَ لَهُ مَعْقِلٌ ومَوْئِلٌ يَلْجَأُ إليهِ ويَهْرُبُ إليهِ ويَفِرُّ كُلَّ وَقْتٍ إليهِ.

وأَمَّا تَعَبُّدُهُ باسْمِهِ (البَاطِنِ) فَأَمْرٌ يَضِيقُ نِطَاقُ التَّعْبِيرِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، ويَكَلُّ اللِّسَانُ عَنْ وَصْفِهِ، وتَصْطَلِمُ[15] الإشَارَةُ إليهِ، وتَجْفُو العِبَارَةُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةً بَرِيئَةً مِنْ شَوَائِبِ التَّعْطِيلِ، مُخْلَّصَةً مِنْ فَرْثِ التَّشْبِيهِ، مُنَزَّهَةً عَنْ رِجْسِ الحُلُولِ والاتِّحَادِ، وعِبَارَةً مُؤدِّيَةً للمَعْنَى كَاشِفَةً عَنْهُ، وذَوْقًا صَحِيحًا سَلِيمًا مِنْ أَذْوَاقِ أَهْلِ الانْحِرَافِ، فَمَنْ رُزِقَ هَذَا فَهِمَ مَعْنَى اسْمِهِ (البَاطِنِ) وَوَضَحَ لَهُ التَّعَبُّدُ بِهِ.

 

وسُبْحَانَ اللهِ كَم زَلَّتْ في هَذَا المَقَامِ أَقْدَامٌ، وضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، وتَكَلَّمَ فِيهِ الزِّنْدِيقُ بِلِسَانِ الصِّدِّيقِ، واشْتَبَهَ فِيهِ إخْوَانُ النَّصَارَى بالحُنَفَاءِ المُخْلِصِينَ، لنُبُوِّ الأَفْهَامِ عَنْهُ، وعِزَّةِ تَخَلُّصِ الحَقِّ مِنَ البَاطِلِ فِيهِ، والْتِبَاسِ مَا في الذِّهْنِ بِمَا في الخَارِجِ إلَّا عَلَى مَنْ رَزَقَهُ اللهُ بَصِيرَةً في الحَقِّ، ونُورًا يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الهُدَى والضَّلَالِ، وفُرْقَانًا يُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقِّ والبَاطِلِ، ورُزِقَ مَعَ ذَلِكَ اطِّلَاعًا عَلَى أَسْبَابِ الخَطَأِ وتَفَرُّقِ الطُّرِقِ ومَثَارِ الغَلَطِ، وكَانَ لَهُ بَصِيرَةٌ في الحَقِّ والبَاطِلِ، وذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، واللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.

 

وبَابُ هَذِهِ المَعْرِفَةِ والتَّعَبُّدِ إِحَاطَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالعَالَمِ وعَظَمَتِهِ، وأَنَّ العَوَالِمَ كُلَّها في قَبْضَتِهِ، وأَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ والأَرْضِينَ السَّبْعَ في يَدِهِ كَخَرْدَلَةٍ في يَدِ العَبْدِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ﴾ [الإسراء: 60]، وقَالَ: ﴿ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴾ [البروج: 20]، ولِهَذَا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هَذَينِ الاسْمَينِ الدَّالَّينِ عَلَى هَذَينِ المَعْنَيينِ: اسْمِ العُلُوِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ (الظَّاهِرُ) وأَنَّهُ لَا شَيْءَ فَوْقَهُ، واسْمِ العَظَمَةِ الدَّالِّ عَلَى الإحَاطَةِ، وأَنَّهُ لَا شَيْءَ دُونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]، [الشورى: 4]، وقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: 23]، وقَالَ: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 115]، وهُوَ تَبَارَكَ وتَعَالَى كَمَا أَنَّهُ العَالِي عَلَى خَلْقِهِ بِذَاتِهِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، فَهُوَ (البَاطِنُ) بِذَاتِهِ فَلَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ، بَلْ ظَهَرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَكَانَ فَوْقَهُ، وَبَطَنَ فَكَانَ أَقْرَبَ إلى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ نَفْسِهِ، فَهَذَا أَقْرَبُ لإحَاطَةِ العَامَّةِ.

 

3- اسْتِشْعَارُ قُرْبِ اللهِ مِنْك:

وأَمَّا (القُرْبُ) المَذْكُورُ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ فَقُرْبٌ خَاصٌّ مِنْ عَابِدِيهِ وسَائِلِيهِ ودَاعِيهِ، وَهُوَ مِنْ ثَمَرَةِ التَّعَبُّدِ باسْمِهِ (البَاطِنِ)، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ﴾ [البقرة: 186]، فَهَذَا قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيهِ، وقَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]، فَذَكَرَ الخَبَرَ وَهُوَ (قَرِيبٌ) عَنْ لَفْظِ "الرَّحْمَةِ" وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ إيذَانًا بِقُرْبِهِ تَعَالَى مِنَ المُحْسِنِينَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ بِرَحْمَتِهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ.

وفي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ"[16]، و "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ في جَوْفِ اللَّيْلِ"[17]، فَهَذَا قُرْبٌ خَاصٌّ غَيْرُ قُرْبِ الإحَاطَةِ وقُرْبِ البُطُونِ.

وفي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أبي مُوسَى؛ أَنَّهم كَانُوا مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهم بالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ: "أيُّها النَّاسُ ارْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُم فَإنَّكم لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ ولَا غَائِبًا، إنَّ الذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إلى أَحَدِكم مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ"[18]، فَهَذَا قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيهِ وذَاكِرِهِ، يَعْنِي فَأَيُ حَاجَةٍ بِكُم إلى رَفْعِ الأَصْوَاتِ وَهُوَ لِقُرْبِهِ يَسْمَعُها وإنْ خُفِضَتْ، كَمَا يَسْمَعُها إذا رُفِعَتْ، فإنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ.

 

وهَذَا القُرْبُ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ المَحَبَّةِ، فَكُلَّمَا كَانَ الحُبُّ أَعْظَمَ كَانَ القُربُ أَكْثَرَ، وقَدِ اسْتَوْلَتْ مَحَبَّةُ المَحْبُوبِ عَلَى قَلْبِ مُحِبِّهِ بِحَيْثُ يَفْنَى بِها عَنْ غَيْرِها، ويَغْلِبُ مَحْبُوبُهُ عَلَى قَلْبِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ ويُشَاهِدُهُ، فإنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَعْرِفَةٌ صَحِيحَةٌ باللهِ ومَا يَجِبُ لَهُ ومَا يَسْتَحِيلُ عَلَيهِ، وإلَّا طَرَقَ بَابَ الحُلُولِ إنْ لَمْ يَلِجْهُ، وسَبَبُهُ ضَعْفُ تَمْيِيزِهِ، وقُوَّةُ سُلْطَانِ المَحَبَّةِ، واسْتِيلَاءُ المَحْبُوبِ عَلَى قَلْبِهِ بِحَيْثُ يَغِيبُ عَنْ مُلَاحَظَةِ مَا سِوَاهُ، وفي مِثْلِ هَذِهِ الحَالِ يَقُولُ: سُبْحَانِي! أَوْ: مَا في الجُبَّةِ إلَّا اللهُ!! ونَحْوَ هَذَا مِنَ الشَّطَحَاتِ التي نِهَايَتُها أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَيُعْذَرَ لِسُكْرِهِ وعَدَمِ تَمْيِيزِهِ في تِلْكَ الأَحْوَالِ[19].

 

فالتَّعَبُّدُ بِهَذَا الاسْمِ هُوَ التَّعَبُّدُ بِخَالِصِ المَحَبَّةِ وصَفْوِ الوِدَادِ، وأَنْ يَكُونَ الإلَهُ أَقْرَبَ إليهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وأَقْرَبَ إليهِ مِنْ نَفْسِهِ، مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، ومَنْ كَثُفَ ذِهْنُهُ وغَلُظَ طَبْعُهُ عَنْ فَهْمِ هَذَا، فَلْيَضْرِبْ عَنْهُ صَفْحًا إلى مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ، فَقَدْ قِيلَ:

إذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ ♦♦♦ وَجَـاوِزْهُ إلى مَا تَسْتَطِيعُ

فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَوْقٌ مِنْ قُرْبِ المَحَبَّةِ، ومَعْرِفَة بْقُرْبِ المَحْبُوبِ مِنْ مُحِبِّهِ غَايَة القُرْبِ وإنْ كَانَ بَيْنَهما غَايَةُ المَسَافَةِ - ولَا سِيَّمَا إذَا كَانَتِ المَحَبَّةُ مِنَ الطَّرَفَينِ، وهِيَ مَحَبَّةٌ بَرِيئَةٌ مِنَ العِلَلِ والشَّوائِبِ والأَعْرَاضِ القَادِحَةِ فِيها - فإنَّ المُحِبَّ كَثِيرًا مَا يَسْتَوْلِي مَحْبُوبُهُ عَلَى قَلْبِهِ وذِكْرِهِ، ويَفْنَى عَنْ غَيْرِهِ ويَرِّقُ قَلْبُهُ وتَتَجَرَّدُ نَفْسُهُ، فَيُشَاهِدُ مَحْبُوبَهُ كَالْحَاضِرِ مَعَهُ القَرِيبِ إليهِ وبَيْنَهما مِنَ البُعْدِ مَا بَيْنَهما، وفي هَذِهِ الحَالِ يَكُونُ في قَلْبِهِ وُجُودُهُ العِلْمِي، وفي لِسَانِهِ وُجُودُهُ اللَّفْظِيُّ، فَيَسْتَوْلِي هَذَا الشُّهُودُ عَلَيهِ ويَغِيبُ بِهِ، فَيَظُنُّ أَنَّ في عَيْنِهِ وُجُودَهُ الخَارِجِيَّ لِغَلَبَةِ حُكْمِ القَلْبِ والرُّوحِ، كَمَا قِيلَ:

خَيَالُكَ في عَيْنَي وذِكْرُكَ في فَمِي ♦♦♦ ومَثْوَاكَ في قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ

 

هَذَا ويَكُونُ ذَلِكَ المَحْبُوبُ بِعَيْنِهِ بَيْنَهُ وبَيْنَ عَدُوِّهِ ومَا بَيْنَهُمَا مِنَ البُعْدِ وإنْ قَرُبَتِ الأَبْدَانُ وتَلَاصَقَتِ الدِّيَارُ، والمَقْصُودُ أَنَّ المِثَالَ العِلْمِيَّ غَيْرُ الحَقِيقَةِ الخَارِجِيَّةِ وإنْ كَانَ مُطَابِقًا لَهَا، لَكِنَّ المِثَالَ العِلْمِي مَحِلُّهُ القَلْبُ، والحَقِيقَةُ الخَارِجِيَّةُ مَحِلُّها الخَارِجُ، فَمَعْرِفَةُ الأَسْمَاءِ الأرْبَعَةِ وَهِيَ: الأَوَّلُ والآخِرُ، والظَّاهِرُ والبَاطِنُ، وَهِيَ أَرْكَانُ العِلْمِ والمَعْرِفَةِ، فَحَقِيقٌ بالْعَبْدِ أَنْ يَبْلُغَ في مَعْرِفَتِها إلى حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ قُوَاهُ وفَهْمُهُ.

 

4- لِكُلِّ شَيْءٍ أَوَّلٌ وآخِرٌ وَظَاهِرٌ وبَاطِنٌ:

واعْلَمْ أَنَّ لَكَ أَنْتَ أَوَّلًا وآخِرًا وظَاهِرًا وبَاطِنًا، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ فَلَهُ أَوَّلٌ وآخِرٌ وظَاهِرٌ وبَاطِنٌ، حَتَّى الخَطْرَةُ واللَّحْظَةُ والنَّفَسُ وأَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وأَكْثَرُ، فَأَوَّلِيَّةُ اللهِ عز وجل سَابِقَةٌ عَلَى أَوَّلِيَّةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وآخِرِيَّتُهُ ثَابِتَةٌ بَعْدَ آخِرِيَّةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَأَوَّلِيَّتُهُ سَبْقُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وآخِرِيَّتُهُ بَقَاؤُهُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وظَاهِرِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ فَوْقِيَّتُهُ وعُلُوُّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، ومَعْنَى الظُّهُورِ يَقْتَضِي العُلُوَّ، وظَاهِرُ الشَّيْءِ هُوَ مَا عَلَا مِنْهُ وأَحَاطَ بِبَاطِنِهِ، وبُطُونُهُ سُبْحَانَهُ إِحَاطَتُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إليهِ مِنْ نَفْسِهِ، وهَذَا قُرْبٌ غَيْرُ قُرْبِ المُحِبِّ مِنْ حَبِيبِهِ، هَذَا لَوْنٌ وهَذَا لَوْنٌ.

 

5- مَدَارُ هَذِهِ الأَسْمَاءِ عَلَى الإِحَاطَةِ:

فَمَدَارُ هَذِهِ الأَسْمَاءِ الأَرْبَعَةِ عَلَى الإِحَاطَةِ، وَهِيَ إِحَاطَتَانِ: زَمَانِيَّةٌ ومَكَانِيَّةٌ، فَإِحَاطَةُ أَوَّلِيَّتِهِ وآخِرِيَّتِهِ بالقَبْلِ والبَعْدِ، فَكُلُّ سَابِقٍ انْتَهَى إلى أَوَّلِيَّتِهِ وكُلُّ آخِرٍ انْتَهَى إلى آخِرِيَّتِهِ، فأَحَاطَتْ أَوَّلِيَّتُهُ وآخِرِيَّتُهُ بالأَوَائِلِ والأَوَاخِرِ، وأَحَاطَتْ ظَاهِرِيَّتُهُ وبَاطِنِيَّتُهُ بِكُلِّ ظَاهِرٍ وبَاطِنٍ، فَمَا مِنْ ظَاهِرٍ إلَّا واللهُ فَوْقَهُ، ومَا مِنْ بَاطِنٍ إلَّا واللهُ دُونَهُ، ومَا مِنْ أَوَّلٍ إلَّا واللهُ قَبْلَهُ، ومَا مِنْ آخِرٍ إلَّا واللهُ بَعْدَهُ: فَالأَوَّلُ قِدَمُهُ، والآخِرُ دَوَامُهُ وبَقَاؤُهُ، والظَّاهِرُ عُلُوُّهُ وعَظَمَتُهُ، والبَاطِنُ قُرْبُهُ ودُنُوُّهُ، فَسَبَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِأَوَّلِيَّتِهِ، وبَقِيَ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ بآخِرِيَّتِهِ، وعَلَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِظُهُورِهِ، ودَنَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِبُطُونِهِ، فَلَا تُوارِى مِنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً ولَا أَرْضٌ أَرْضًا، ولَا يَحْجِبُ عَنْهُ ظَاهِرٌ بَاطِنًا بَلِ البَاطِنُ لَهُ ظَاهِرٌ، والغَيْبُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، والبَعِيدُ مِنْهُ قَرِيبٌ، والسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ.

فَهَذِهِ الأَسْمَاءُ الأَرْبَعَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانِ التَّوْحِيدِ، فَهُوَ الأَوَّلُ في آخِرِيَّتِهِ والآخِرُ في أَوَّلِيَّتِهِ، والظَّاهِرُ في بُطُونِهِ والبَاطِنُ في ظُهورِهِ، لَمْ يَزَلْ أَوَّلًا وآخِرًا وظَاهِرًا وبَاطِنًا.

 

6- لِلتَّعَبُّدِ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ رُتْبَتَانِ:

والتَّعَبُّدُ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ رُتْبَتَانِ: الرُّتْبَةُ الأُولَى أَنْ تَشْهَدَ الأَوَّلِيَّةَ مِنْهُ تَعَالَى في كُلِّ شَيْءٍ، والآخِرِيَّةَ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، والعُلُوَّ والفَوْقِيَّةَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، والقُرْبَ والدُّنُوَّ دُونَ كُلِّ شَيْءٍ، فالمَخْلُوقُ يَحْجِبُهُ مِثْلُهُ عَمَّا هُوَ دُونَهُ فَيَصِيرُ الحَاجِبُ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَحْجُوبِ، والرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ أَقْرَبُ على الْخَلْقِ مِنْهُ.

 

والمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ التَّعَبُّدِ: أَنْ يُعَامِلَ كُلَّ اسْمٍ بمُقْتَضَاهُ؛ فَيُعَامِلُ سَبْقَهُ تَعَالَى بأَوَّلِيَّتِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ، وسَبْقَهُ بِفَضْلِهِ وإحْسَانِهِ الأَسْبَابَ كُلَّها بِمَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ؛ مِنْ إِفْرَادِهِ وعَدَمِ الالْتِفَاتِ إلى غَيْرِهِ والوُثُوقِ بِسِوَاهُ والتَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِهِ، فَمَنْ ذَا الذِي شَفَعَ لَكَ في الأَزَلِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا حَتَى سَمَّاكَ باسْمِ الإسْلَامِ، وَوَسَمَكَ بِسِمَةِ الإِيمَانِ، وجَعَلَكَ مِنْ أَهْلِ قَبْضَةِ اليَمِينِ، وأَقْطَعَكَ في ذَلِكَ الغَيْبِ عَمَالَاتِ المُؤْمِنِينَ، فَعَصَمَكَ عَنِ العِبَادَةِ للعَبِيدِ، وأَعْتَقَكَ مِنِ الْتِزَامِ الرِّقِّ لِمَنْ لَهُ شَكْلٌ ونَدِيدٌ، ثُمَّ وَجَّهَ وِجْهَةَ قَلْبِكَ إليهِ سُبْحَانَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ؟!

 

فَاضْرَعْ إلى الذِي عَصَمَكَ مِنَ السُّجُودِ للصَّنَمِ، وقَضَى لَكَ بِقَدَمِ الصِّدْقِ في القِدَمَ، أنْ يُتِمَّ عَلَيْكَ نِعْمَةً هُوَ ابْتَدَأَها، وكَانَتْ أَوَّلِيَّتُها مِنْهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْكَ، واسْمُ بِهِمَّتِكَ عَنْ مُلَاحَظَةِ الاخْتِيَارِ، ولَا تَرْكَنَنَّ إِلَى الرُّسُومِ والآثَارِ، ولَا تَقْنَعْ بالخَسِيسِ الدُّونِ، وعَلَيْكَ بالمَطَالِبِ العَالِيَةِ، والمَرَاتِبِ السَّامِيَةِ، التي لَا تُنَالُ إلَّا بِطَاعَةِ اللهِ، فَإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَضَى أَنْ لَا يُنَالَ مَا عِنْدَهُ إلَّا بِطَاعَتِهِ، ومَنْ كَانَ للهِ كَمَا يُرِيدُ كَانَ اللهُ لَهُ فَوْقَ مَا يُرِيدُ، فَمَنْ أَقْبَلَ إليهِ تَلَقَّاهُ مِنْ بَعِيدٍ، ومَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَلَانَ لَهُ الحَدِيدَ، ومَنْ تَرَكَ لِأَجْلِهِ أَعْطَاهُ فَوْقَ المَزِيدِ، ومَنْ أَرَادَ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ أَرَادَ مَا يُرِيدُ[20].

 

ثُمَّ اسْمُ بِسِرِّكَ إلى المَطْلَبِ الأَعْلَى، واقْصُرْ حُبَّكَ وتَقَرُّبَكَ عَلَى مَنْ سَبَقَ فَضْلُهُ وإحْسَانُهُ إلَيْكَ كُلَّ سَبَبٍ مِنْكَ، بَلْ هُوَ الذِي جَادَ عَلَيْكَ بالأَسْبَابِ، وهَيَّأَ لَكَ وصَرَفَ عَنْكَ مَوَانِعَها، وأَوْصَلَكَ بِها على غَايَتِكَ المَحْمُودَةِ، فَتَوَكَّلْ عَلَيهِ وَحْدَهُ، وعَامِلْهُ وَحْدَهُ، وآثِرْ رِضَاهُ وَحْدَهُ، واجْعَلْ حُبَّهُ ومَرْضَاتِهِ هُوَ كَعْبَةَ قَلْبِكَ التي لَا تَزَالُ طَائِفًا بِها، مُسْتَلِمًا لأَرْكَانِها، واقِفًا بمُلْتَزَمِها، فيَا فَوْزَكَ، ويَا سَعَادَتَكَ إِنِ اطَّلَعَ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَلْبِكَ، مَاذَا يُفِيضُ عَلَيْكَ مِنْ مَلَابِسِ نِعَمِهِ، وخِلَعِ أَفْضَالِهِ، "اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، ولَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، لَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ، سُبْحَانَكَ وبِحَمْدِكَ".

وأَصْلِحْ لَهُ غَيْبَكَ فإنَّهُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَزَكِّ لَهُ بَاطِنَكَ فإنَّهُ عِنْدَهُ ظَاهِرٌ.

 

7- الطَّرِيقُ إلى مَعْرِفَةِ اللهِ:

فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَتْ هَذِهِ الأَسْمَاءُ الأَرْبَعَةُ جِمَاعَ المعْرِفَةِ باللهِ، وجِمَاعَ العُبُودِيَّةِ لَهُ، فَهُنَا وَقَفَتْ شَهَادَةُ العَبْدِ مَعَ فَضْلِ خَالِقِهِ ومِنَّتِهِ، فَلَا يَرَى لِغَيْرِهِ شَيْئًا إلَّا بِهِ وبِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَغَابَ بِفَضْلِ مَوْلَاهُ الحَقِّ عَنْ جَمِيعِ مَا مِنْهُ هُوَ مِمَّا كَانَ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ، أَوْ يَتَحَلَّى بِهِ، أَوْ يَتَخِذُهُ عُقْدَةً، أَوْ يَرَاهُ لِيَوْمِ فَاقَتِهِ، أَوْ يَعْتَمِدُ عَلَيهِ في مُهِّمٍ مِنْ مُهِمَّاتِهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ قُصُورِ نَظَرِهِ وانْعِكَاسِهِ عَنِ الحَقَائِقِ والأُصُولِ إلى الأَسْبَابِ والفُرُوعِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الطَّبِيعَةِ والهَوَى، ومُوجِبُ الظُّلْمِ والجَهْلِ، والإنْسَانُ ظَلُومٌ جَهُولٌ.

 

فَمَنْ جَلَى اللهُ سُبْحَانَهُ صَدَأَ بَصِيرَتِهِ، وكَمَّلَ فِطْرَتَهُ، وأَوْقَفَهُ عَلَى مَبَادِئِ الأُمُورِ وغَايَاتِها ومَنَاطِها ومَصَادِرِها ومَوَارِدِها، أَصْبَحَ كَالمُفْلِسِ حَقًّا مِنْ عُلُومِهِ وأَعْمَالِهِ وأَحْوَالِهِ وأَذْواقِهِ، يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ عِلْمِي ومِنْ عَمَلِي؛ أَيْ: مِنَ انْتِسَابِي إلَيْهِمَا وغَيْبَتِي بِهِمَا عَنْ فَضْلِ مَنْ ذَكَرَنِي بِهِمَا، وابْتَدَأَنِي بإعْطَائِهما مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ سَبَبٍ مِني يُوجِبُ ذَلِكَ، فَهُوَ لَا يَشْهَدُ غَيْرَ فَضْلِ مَوْلَاهُ، وسَبْقَ مِنَّتِهِ ودَوَامِهِ، فَيُثِيبُهُ مَوْلَاهُ عَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ العَالِيَةِ بِحَقِيقَةِ الفَقْرِ الأَوْسَطِ بَيْنَ الفَقْرَينِ الأَدْنَى والأَعْلَى ثَوَابَينِ:

أَحَدُهما: الخَلَاصُ مِنْ رُؤْيَةِ الأَعْمَالِ حَيْثُ كَانَ يَرَاهَا ويَتَمَدَّحُ بِهَا ويَسْتَكْثِرُها، فَيَسْتَغْرِقُ بِمُطَالَعَةِ الفَضْلِ غَائِبًا عَنْها، فَانِيًا عَنْ رُؤْيَتِها.

الثَّوَابُ الثَّانِي: أَنْ يَقْطَعَهُ عَنْ شُهُودِ الأَحْوَالِ - أَيْ: عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ فِيها مُتَكَثِّرَةً بِهَا - فَإنَّ الحَالَ مَحِلُّهُ الصَّدْرُ، والصَّدْرُ بَيْتُ القَلْبِ والنَّفْسِ، فَإِذَا نَزَلَ العَطَاءُ في الصَّدْرِ للقَلْبِ، ثَبَتَتِ النَّفْسُ لِتَأْخُذَ نَصِيبَها مِنَ العَطَاءِ، فَتَتَمَدَّحَ بِهِ، وتَدُلَّ بِهِ، وتَزْهُوَ وتَسْتَطِيلَ، وتُقَرِّرَ إنْيَتَها؛ لأَنَّها جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ، وهَذَا مُقْتَضَى الجَهْلِ والظُّلْمِ.

 

فَإِذا وَصَلَ إلى القَلْبِ نُورُ صِفَةِ المِنَّةِ، وشَهِدَ مَعْنَى اسْمِهِ (المَنَّانِ) وتَجَلَّى سُبْحَانَهُ عَلَى قَلْبِ عَبْدِهِ بِهَذَا الاسْمِ مَعَ اسْمِهِ (الأَوَّلِ) ذَهَلَ القَلْبُ والنَّفْسُ بِهِ، وصَارَ العَبْدُ فَقِيرًا إلى مَوْلَاهُ بِمُطَالَعِةِ سَبْقِ فَضْلِهِ الأَوَّلِ، فَصَارَ مَقْطُوعًا عَنْ شُهُودِ أَمْرٍ أَوْ حَالٍ يَنْسِبُهُ إلى نَفْسِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بِشَهَادَتِهِ لِحَالِهِ مَفْصُومًا مَقْطُوعًا عَنْ رُؤْيَةِ عِزَّةِ مَوْلَاهُ وفَاطِرِهِ، ومُلَاحَظَةِ صِفَاتِهِ، فَصَاحِبُ شُهُودِ الأَحْوالِ مُنْقَطِعٌ عَنْ رُؤْيَةِ مِنَّةِ خَالِقِهِ وفَضْلِهِ، ومُشَاهَدَةِ سَبْقِ الأَوَّلِيِّةِ للأَسْبَابِ كُلِّها، وغَائِبٌ بمُشَاهَدَةِ عِزَّةِ نَفْسِهِ عَنْ عِزَّةِ مَوْلَاهُ، فَيَنْعَكِسُ هَذَا الأَمْرُ في حَقِّ هَذَا العَبْدِ الفَقِيرِ، وتَشْغَلُهُ رُؤْيَةُ عِزَّةِ مَوْلَاهُ ومِنَّتِهِ، ومُشَاهَدَةِ سَبْقِهِ بالأَوَّلِيِّةِ عَنْ حَالٍ يَعْتَزُّ بِها العَبْدُ أَوْ يَشْرُفُ بِهَا.

 

وكَذَلِكَ الرُّجُوعُ إلى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الفَضْلِ يُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَاتِ المَقَامَاتِ، فالمَقَامُ مَا كَانَ راسِخًا فِيهِ، والحَالُ مَا كَانَ عَارِضًا لَا يَدُومُ، فَمُطَالَعَاتُ المَقَامَةِ، وتَشَوُّفُه بِهَا، وكَوْنُهُ يَرَى نَفْسَهُ صَاحِبَ مَقَامٍ قَدْ حَقَقَّهُ وكَمَّلَهُ فَاسْتَحَقَّ أَنْ يُنْسَبَ إليهِ ويُوصَفَ بِهِ، مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: زَاهِدٌ صَابِرٌ خَائِفٌ رَاجٍ مُحِبٌّ رَاضٍ، فَكَوْنُهُ يَرَى نَفْسَهُ مُسْتَحِقًّا بأَنْ تُضَافَ المَقَامَاتُ إليهِ، وبِأَنْ يُوصَفَ بِهَا - عَلَى وَجْهِ الاسْتِحْقَاقِ لَهَا - خُرُوجٌ عَنِ الفَقْرِ إلى الغِنَى، وتَعَبُّدٌ لطَوْرِ العُبُودِيَّةِ، وجَهْلٌ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، فَالرُّجُوعُ إلى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الفَضْلِ يَسْتَغْرِقُ هِمَّةَ العَبْدِ ويُمَحِّصُهُ ويُطَهِّرُهُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الأَدْنَاسِ، فَيَصِيرُ مَصَفًّى بِنُورِ اللهِ سُبْحَانَهُ عَنْ رَذَائِلِ هَذِهِ الأَرْجَاسِ[21].

 

8- فَضْلُ هَذَا الاسْمِ في دَفْعِ الوَسْوَسَةِ:

والعِلْمُ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ الأَرْبَعَةِ ومَعَانِيها لَهُ أَثَرٌ عَظِيمٌ في دَفْعِ الوَسْوَسَةِ، وَرَدِّ كَيْدِها، أَشَارَ إلى ذَلِكَ حَبْرُ الأُمَّةِ ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبو داود، عَنْ أبي زُمَيْلٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ في صَدْرِي؟ قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: واللهِ مَا أَتَكَلَّمُ بِهِ، قَالَ: فَقَالَ لي: أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟ قَالَ: وَضَحِكَ قَالَ: مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ، قَالَ: حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [يونس: 94] قَالَ: فَقَالَ لي: إِذَا وَجَدْتَ في نَفْسِكَ شَيْئًا فَقُلْ: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3][22].



[1] أسماء الله الحسنى للرضواني (2/ 28 - 29).

[2] أخرجه مسلم (1/ 144)، كتاب الإيمان باب بدء الوحي.

[3] لسانُ العرب (1/ 136)، وانظرْ في المعنى اللغوي: النهاية في غريب الحديث (13/ 52)، ومفردات ألفاظ القرآن (ص: 130)، واشتقاق أسماء الله للزجاج (ص: 137).

[4] انظرْ في الفرْق بين الرؤية والإدراك: شرح العقيدة الطحاوية (ص: 208)، وبيان تلبيس الجهمية (1/ 553).

[5] انظرْ للمقارنة: كتاب التوحيد لابن منده (2/ 82).

[6] انظرْ: شرح العقيدة الطحاوية (ص: 211).

[7] انظرْ: حديث البخاري في كتابِ أحاديثِ الأنبياءِ، بابُ خَلْقِ آدمَ صلواتُ اللهِ عليه (3/ 1210) (3148).

[8] النهج الأسمى (2/ 153 - 169) للنجدي.

[9] جامِعُ البيانِ (27/ 124)، وبنحوه قَالَ النَّحَاسُ، إعراب القرآن (4/ 350)، وزَادَ: ويَدُلُّ على هذا أَنَّ بَعْدَه ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]؛ أي: لا يَخْفَى عليه شيءٌ.

[10] تفسيرُ الأسماءِ (ص: 61).

[11] شأنُ الدعاءِ (ص: 88)، ونَقَلَه البيهقيُّ في الاعتقادِ (ص: 64) مع اختصارٍ، وقَالَ: إنه مِنْ صِفَاتِ الذاتِ.

[12] المنهاج (1/ 196)، وذَكَرَه ضِمْنَ الأسماءِ التي تَتبعُ نَفْيَ التشبيهِ عن اللهِ تَعَالَى جَدُّهُ، ونَقَلَه البيهقيُّ في الأسماءِ (ص: 35).

[13] هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِنَا: لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ، وبَيْنَ قَوْلِ المعتزلةِ وأشباههم بِعَدَمِ رُؤْيَةِ المؤمنينَ لربهم في الآخرةِ، فإن الإدراكَ هو الإحاطةُ بالشيء، فأنْتَ تَرَى البَحْرَ لَكِنْ لَا تُدْرِكُ جَمِيعَهُ بِبَصَرِكَ وهو مَخْلُوقٌ! فالخَالِقُ أَعْظمُ وأَجَلُّ وأَكْبَرُ.

[14] مجموع الفتاوى (5/ 498-500) باختصار.

[15] الصَّلْمُ: القَطْعُ، واصْطَلَمه: استأصله. القاموس.

[16] صحيح: أخرجه مسلم (482).

[17] حسن: أخرجه الترمذي (3579)، وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

[18] صحيح: أخرجه البخاري (2992)، ومسلم (2704)، وأحمد (18774).

[19] قَدْ كَانَ السَّلَف ُرضي الله عنهم ورَحِمَهم اللهُ تَعَالَى أَشَّدَ النَّاسِ حُبًّا للهِ تَعَالَى، ولَمْ تَكُنِ الكَلِمَاتُ الكُفْرِيَّةُ تَجْرِي عَلَى لِسَانِهِم، نَسْأَلُ اللهَ العَافيَةَ...

[20] أخِي الخَطِيبَ: احْفَظْ هذه العباراتِ الرائعةَ ورَدِّدْها في خُطَبِكَ ومحاضراتِكَ، فبها تَرِّقُ القُلُوبُ، وتَقْتَرِبُ مِنْ علَّامِ الغُيُوبِ.

[21] طريق الهجرتين (ص 19-27).

[22] أبو داود في السنن (5/ 5101) قال: حدثنا عباسُ بنُ عبدِ العظيمِ، حدثنا النضرُ بنُ محمدٍ، حدثنا عِكرمةُ – يعني: ابنَ عمارٍ - حدثنا أبو زُميلٍ؛ فذَكَرَه.

قال المنذريُ: أبو زُميلٍ هو سماكُ بنُ الوليدِ الحنفي، وقد احْتَجَّ به مسلمٌ "مختصر السنن" (8/ 11).

قُلْتُ: وقَدْ وَثَّقَه أحمدُ، وابنُ معينٍ، والعجْلِيُّ، وقال أبو حاتمٍ: صَدُوقٌ لا بَأْسَ به، وعِكْرِمَةُ بنُ عمارٍ صَدُوقٌ يغلطُ، والنضرُ بنُ محمدٍ هو الجرشي ثِقَةٌ، وكذا ابنُ عباسِ العنبري. فالإسنادُ حَسَنٌ.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • شرح اسم الله ( الحكيم )
  • شرح اسم الله ( الشافي )
  • شرح اسم الله ( العزيز )
  • شرح اسم الله ( الحفيظ والحافظ )
  • معنى اسم الله القابض والباسط

مختارات من الشبكة

  • العناية بشروح كتب الحديث والسنة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • شرح أسماء الله الحسنى أو (إعلام اللبيبة الحسنا بمعاني أسماء الله الحسنى) (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • شرح الأسماء الحسنى معنى اسم الكريم(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • شرح الأسماء الحسنى معنى اسم الشاف(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • عناية العلماء بالعقيدة الواسطية(مقالة - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • حكم قول: باسم الشعب، باسم العروبة، باسم الوطن(مقالة - آفاق الشريعة)
  • المشتقات (اسم الفاعل - اسم المفعول - الصفة المشبهة - اسم التفضيل)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • شرح كتاب الأذان (الشرح الصوتي)(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • التمهيد شرح مختصر الأصول من علم الأصول (الشرح الصوتي)(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • إتحاف العباد بشرح كتاب الزاد: شرح كتاب الصلاة إلى باب الأذان والإقامة من زاد المستقنع (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الذكاء الاصطناعي تحت مجهر الدين والأخلاق في كلية العلوم الإسلامية بالبوسنة
  • مسابقة للأذان في منطقة أوليانوفسك بمشاركة شباب المسلمين
  • مركز إسلامي شامل على مشارف التنفيذ في بيتسفيلد بعد سنوات من التخطيط
  • مئات الزوار يشاركون في يوم المسجد المفتوح في نابرفيل
  • مشروع إسلامي ضخم بمقاطعة دوفين يقترب من الموافقة الرسمية
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 1/12/1446هـ - الساعة: 22:18
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب