الإنهاءات (1)

فقه التقاضي

الحلقة (85)

الإنهاءات (1)

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وكنا في حلقات مضت أنهينا الحديث عن القضاء المستعجل، الذي خُصص له الباب الثالث عشر من نظام المرافعات السعودي الصادر عام 1421هـ.

وفي هذه الحلقة نشرع في الباب الرابع عشر من نظام المرافعات، الذي يتحدث عن تسجيل الأوقاف والإنهاءات، في ثلاثة فصول، أولها: "تسجيل الأوقاف والإنهاءات".

وثانيها: "الاستحكام".

وثالثها: "إثبات الوفاة وحصر الورثة"، وواضح من عناوين هذا الباب وفصوله أنه مخصص للحديث عن الإنهاءات.

والإنهاءات: مصطلح قضائي دارج بكثرة في محاكم المملكة العربية السعودية، فما أصله اللغوي؟ وما المراد به؟ وماذا يدخل تحت هذا المصطلح؟ وهل الإنهاءات محصورة أم لا؟

أما الأصل اللغوي للإنهاء: فهو مصدرٌ فعلُه: "أنهى"، بمعنى: أبلغ وأوصل، جاء في مختار الصحاح (1/321): "(الإنهاء) الإبلاغ، و(أنهى) إليه الخبر (فانتهى) و(تناهى)؛ أي: بلغ".

فيقال: أنهى الشكوى إلى المسؤولين: أوصلها وأبلغها إليهم، وبلغهم بها؛ {معجم الصواب اللغوي (1/86)}.

والمراد بالإنهاء: الطلب الذي يقدمه الشخص إلى المحكمة، طالبًا فيه إعطاءه وثيقة إثبات في غير مواجهة الخصم غالبًا.

ومثاله: لو تقدم إلى المحكمة طالبًا استخراج حصر وراثة لوالده المتوفى، فهو هنا يطلب من المحكمة إصدار وثيقة تثبت وفاة والده، وانحصار إرثه في أبنائه فلان وفلان، وبناته فلانة وفلانة، وزوجته فلانة... وهكذا، والأصل ألا يكون في هذا خصمٌ يعترض على هذا الطلب، ومع ذلك قد تقع خصومة في هذا الإنهاء، حينما يعترض طرف آخر ويطلب إثبات دخوله في الورثة، أو إخراج بعض الورثة.

وماذا يدخل تحت مصطلح الإنهاءات؟

يدخل تحت مصطلح "الإنهاءات" صور كثيرة، تتجاوز أربعين نوعًا، فمنها: حصر الورثة، وإقامة الولي والوصي، وإثبات النكاح والطلاق، وإثبات الإعالة، وإثبات التملك (حجج الاستحكام)، وغيرها.

ولكل نوع من هذه الأنواع متطلبات وإجراءات، ولكنها تشترك في الجملة بمتطلبات معينة، مثل: حضور صاحب الطلب أو وكيله، وإثبات الشخصية، وملء النموذج المخصص في المحكمة، وإحضار البينة (الشاهدين مع المعدلين لهم)، وما تطلبه المحكمة من مستندات حسب كل نوع.

وقد تضمن الباب الرابع عشر من نظام المرافعات الشرعية ولائحته التنفيذية أحكام وإجراءات حجج الاستحكام، وتسجيل الأوقاف، وحصر الورثة، كما تضمنت التعليمات الصادرة من الجهات المشرفة على القضاء أحكام الإنهاءات الأخرى.

{انظر: مقال: "مفاهيم نظـامية" (الإنهاءات) للقاضي يوسف الفراج}.

وهل الإنهاءات محصورة أم لا؟

والجواب: أن الإنهاءات غير محصورة، بمعنى أن لها صورًا كثيرة متجددة، ولكن أصولها معلومة، وأركانها معروفة، وقد فصَّل نظامُ المرافعات أحكامَ ثلاثة أنواع من الإنهاءات؛ لكثرة الاحتياج إليها، وهي تسجيل الأوقاف، وإثبات تملك العقار بحجة استحكام، وإثبات الوفاة، وحصر الوراثة.

وقد يُطلب من بعض المحاكم إنهاءات لا تُطلب في محاكم أخرى؛ لظروف اقتضتها الأحوال والظروف؛ كوثائق التملك المؤقتة، وإثبات التضرر من السيول ونحوها.

ولنشرع فيما ورد في الفصل الأول من الباب الرابع عشر من نظام المرافعات، وعنوانه: "تسجيل الأوقاف والإنهاءات".

جاء في المادة السادسة والأربعين بعد المائتين:

(لا يجوز للقاضي تسجيل إنشاء - أي: وقف - إلا بعد ثبوت تملُّك واقفه إياه، وبعد التأكد من خلو سجله مما يمنع من إجراء التسجيل).

وتوضح اللائحة التنفيذية للمادة أنه يجوز توثيق الوقف في بلد الموقف، ولو كان العقار في بلد آخر؛ لأنه لا يُشترط في توثيق الوقف ولاية مكانية للمحكمة، ولكن قبل تسجيل الوقف لا بد من التأكد من سريان مفعول صكِّ تملُّك العقار المرادِ وقفُه من واقع سجله.

وإذا أثبت القاضي الوقفية سجل ذلك على صك العقار، ثم بعثه بصفة رسمية إلى الجهة التي صدر منها للتهميش على سجله.

وتوضح اللائحة أيضًا أن (تسجيل) الأراضي المخصصة مساجدَ في المخططات المعتمدة من اختصاص كاتب العدل، سواء أكانت المخططات مِنحًا أم مملوكة لأشخاص، أما الأراضي التي لم تخصص مساجد ويراد وقفُها فتوثيقها من اختصاص المحاكم.

والأوقاف التي انقرض مستحقوها، وآلت إلى جهات خيرية، تتولى نظارتها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.

وإذا عزَل القاضي ناظرًا على وقف، أو قَبِل عزْلَه لنفسه، تعيَّن على القاضي إقامةُ ناظرٍ بدلاً عنه.

وتوضح اللائحة أيضًا أن المعارضة على النظارة تنظرها المحكمة مصدرة الصك.

فمثلًا: لو اعترض شخص مستفيد من الوقف على الناظر الذي أقامته المحكمة ناظرًا على الوقف، وطالب بتوليته النظارة؛ لكونه أحق بها، أو لكون الناظر غير كفؤ - فإن هذه الدعوى تنظر فيها المحكمة التي أصدرت صك النظارة.

وتوضح المادة السابعة والأربعون بعد المائتين الطلبات التي يلزم توفرها لمن أراد تسجيل الوقف، ونصها:

(على طالب تسجيل الوقف أن يقدم طلبًا بذلك إلى المحكمة المختصة مشفوعًا بوثيقة رسمية تثبت تملُّكه لما يريد إيقافه).

وتوضح اللائحة التنفيذية للمادة أن المراد بالوثيقة الرسمية هنا هو: صك الملكية المستكمل للإجراءات الشرعية والنظامية.

وذلك لأن الوقف يتضمن نقل الملكية من الشخص الموقِف، فاستلزم ذلك توفرَ وثيقة تثبت التملك؛ لأن تصرف الإنسان فيما لا يملِكه غير مقبول.

وفي المادة الثامنة والأربعين بعد المائتين معالجة للأوقاف التي لا يوجد لها صكوك تملُّك، ونصها:

(الأوقاف التي ليس لها حجج مسجلة يجري إثبات وقفيتها وَفْق القواعد والإجراءات المقررة لإجراء الاستحكام).

وذلك لأنه قد يكون الوقف مثبَتًا بأوراق عادية على مِلك ثابت للموقف دون استخراج وثيقةٍ تثبت التملك، ففي هذه الحالة تتولى المحكمة استخراج وثيقةٍ تثبت العقار الموقوف.

وتوضح اللائحة التنفيذية للمادة أن إخراج حجة استحكام على الأرض التي أقيم عليها مسجد يكون بطلب من وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.

وأن إخراج صكوك استحكام المقابر يكون بطلب رسمي من البلدية.

كما توضح أن صكوك الأوقاف الخيرية العامة تسلم إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، أو أحد فروعها، ويسلم للموقِف صورةٌ عنها.

وأما المادة التاسعة والأربعون بعد المائتين من نظام المرافعات فتوضح الشروط التي يلزم توفرها عند تسجيل وقفية عقارٍ في المملكة مملوكٍ لأجنبي، وبه تكون بداية حديثنا بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة.

وحتى ذلك الحين أستودعكم الله تعالى!