• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

ذات غربة (1)

ذات غربة (1)
مأمون أحمد زيدان

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 5/11/2013 ميلادي - 1/1/1435 هجري

الزيارات: 5923

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ذات غربة (1)


قيل لنا ذاتَ مقام بأن في الغربةِ فوائد، أحصى الإمام الشافعيُّ منها خمسًا، وقالت العرب زيادة على ذلك.

 

ربما! وربما ذات قول فيه الكثير من الأمل والتمني والتَّوْق والتطلُّع، وربما فيه من تجربة الذاتِ ما يغني عن تجربة السمع وفهم الذوات الأخرى، وربما يكون لـ(ربما) الكثيرُ من التحليلات والاشتقاقات والاصطلاحات، ليس عندي فقط، وإنما عند الفلاسفة والشعراء والمفكِّرين والعلماء، كـ(حتَّى) التي حتحتت عقول أصحاب اللسان واللغة من علم ومعرفة.

 

وربما تكون (ربما) أكثر إعجازًا وحتحتةً لعقول العلماء والفلاسفة وأصحاب الرُّؤى والنظريات والقوانين، ليس لأني قائلها الآن وواضعها في مصافِّ المعجزة؛ بل لأنها تحمل الماضي والحاضر والمستقبل وما بينهما في نفس خمسة أحرف فقط، ولو جاء كل أصحاب العلم وادَّعوا أنهم يفهمون الماضي إمعانًا منهم وإصرارًا في تنفيذ منابت الوهم، لقلتُ لهم بجواب مُفحِم كلمةً واحدة تتكون من أحرف خمسة: "ربما"؛ لهذا "ربما" يمكنني القول بأن الفوائد التي أحملها للغربة هي منافية ومختلفة لما في القول من أثر، ففوائد الغربة عندي حطام فوق حطام.

 

كنت قبل الرحيل في ذات وطن، فيه نشأت، وعلى أعتاب حدقاته ومن بين رموشه انتصبتُ ومررتُ، وحين كان الصبح يُرسِلُ أول أنفاسه مع ندى مخضل برائحة السماء الممتدة، كان الحَمَام يهدلُ للخرير المتأنق في لمسة الموسيقا التي تُنشِدُها جدائلُ الشمس وضفائر القمر، كنت هناك ألعب مع الخرير لُعْبةَ المساء المشدود بين رحيل نهارٍ وتقدُّم ليلٍ يثغب دماءً تصل إلى حد إلهاب الامتدادات بلون أحمر، تتصاعد من سكونه ألسنةُ لهبٍ يكاد يشقُّ الآماد حتى نقطة النحر.

 

لم تكن فكرة الوطن، المربى، مسقط الرأس، بقعة الدوران المتواصل، قد تشوَّهت أو اقتربت من التشوُّه بفكرة الانتقال إلى أوطانٍ، ومساقطِ رأسٍ، وبُقَع دوران أخرى، فدوران يختلف عن دوران يُؤدِّي إلى دُوارٍ، لم أكن قد حزمت خبرتي وقدراتي، والأهم إنني لم أكن أودُّ أن أحزم قدراتي وخبراتي في البحث عن أشياء كنت أعرفها في الوطن، لكنني بسبب الهمس الرقيق بيني وبين حدود الأرض، وبسبب الماء الذي كان يتساقط من جبهتي إلى أرنبة أنفي لينقطَ فوق التراب، تراب فوَّاح يدفع الظل المنزوع من شواء الأرض نحو الماء الذي في طريقه من أرنبة الأنف إلى السر الكامن بين السقوط والالتقاط، قالت الروح: عليك أن تموت فوق هذه الأرض.

 

البقاء، الزوال، كلمتان عسيرتان، لا تفهمان فقط بمعنى الرؤية المادية لبقاء الجسد وزواله، بل تفهمان أيضًا بعمقِهما الروحي، النفسي، الداخلي، بعمق التاريخ الذي قضيتَه وأنت تكوِّن مشاعرك، إحساساتك، تركيبتَك العقلية والنفسية، التركيبة التي مرَّت بمليارات اللحظات والثواني المعبَّأة بزخم الاندماج والغوص في تيار متفاعل بتلاحق المحسوس واللامحسوس، الموصوف واللاموصوف، المرئي وغير المرئي.

 

خضرة الزيتون، حبات الزنزلخت، أشجار الدوم، السدر، الحور، رائحة البيارات، أصدقاء الطفولة، مناوشاتك مع أترابك، حزنك المفاجئ، فرحك المفاجئ، خوفك، شجاعتك، رضاك، سخطك، رائحة ثوب أمك، ضمتك لأختك، اندفاع النهار من قلب العتمة، المساجد، صوت الأذان، شكل المآذن، مدرستك، الزنزانة التي قبعت فيها، السجن، ميلاد أولادك، كل هذه، كل هذه يا ذاتي لحظاتٌ لا يمكن وصفُ كمِّ الانفعالات والأحاسيس التي سكنتك عبرَ مرورك بزمنِها الدافق، لكنها تسكنك، تتعمق جذورُها بأعماق أعماقك، لتتشكَّل في النهاية بشخصك الجسدي والنفسي، أنتِ في الحقيقة كتلةٌ هائلة، ضخمة، معجونة بتراب تاريخ هذه الأرض ومياهها.

 

قالت الذات: أنا أعلم بأن الرحيل ليس سهلاً، ولكني لا أملك خيارًا آخر، خيارًا أفضل، الظروف تحاصرني، تُضيِّق عليَّ بشدة هائلة، كل الأشياء، كل الظروف تعاكسني، تعاكس ذاتي.

 

قالت الروح: أعرفُ ذلك، ولكن حين تخلعُ قدميك لتوقف تدفُّق الإحساس والتلاحم، عليك أن تستعد - شِئْتَ أم أَبَيْتَ - للخروج من ذاتك، عليك أن تُمزِّق جلدك، تنتزعه عن عظامك؛ كي تضعَ مكانه جلدًا جديدًا، استشعاره للحرارة، للبرودة، للعطف، للحنان أقل، أقل بكثير من جلدِك الأصلي.

 

يوم تغادر قدميك الأرصفةُ والشوارعُ، ويوم تغيبُ الأشجارُ والجدران عن ناظريك، تلك الأرصفةُ والجدران والشوارع المسكونة بعمق رؤيتك للأشياء، للكون، للإحساس، للنبض.

 

يوم تغادر قدميك كلُّ هذه، عليك أن تعرف بلغة بسيطةٍ، بسيطة إلى حد الجنون، أنك تُسلِّم نفسك وروحك وذاتك لمجهول، مجهول غريب عنك، لا تعرفه ولا يعرفك، وستدخل دوَّامته دون إرادة منك، ودون أن يكون لك أي رأي أو خيار.

 

قالت الذات: وهل يوجد لي خيارٌ هنا أو رأي؟

هنا استعمار، مستعمِر، يُقرِّر حظر التجوال، متى أَخرُج ومتى عليَّ البقاء بالبيت، كيف أغادر مدينتي إلى مدينة أخرى، متى أعمل ومتى أكون عاطلاً عن العمل، هنا مستعمر يقتلع الشجر والحَجَر، يسحقُ الزهر والبرعم، يسمِّم الهواء والفضاء، يسفك أرواح الناس والبهائم، يُصادِرُ الأموال والأرض، هنا مستعمر لا يعرف عن الإنسان شيئًا، ومِن خلفه عالَمٌ يُصفِّق، يُنشِد لكل فَناءٍ يُحدِثُه هذا المستعمر.

 

قالت الروح: خيارُك أنك ثابتٌ فوق هذه الأرض، ثباتُك هو خيارُك، خروجك هو الهزيمة، بقاؤك فوق تراب الأرض التي عشقَتْك، يجعلُ منك شوكة، شوكة حادَّة قاسية لا تُكسَر، في حلق مَن تظن أنه يملك الخيار، بصورة أسهل بقاؤك هو في الحقيقة سلبٌ لإرادة المستعمر وخياره، ثباتك دليلٌ قوي على عجزِه وشلِّ قدرته، لكن إذا خرجت، عليك أن تستعدَّ لتناقض جديد، لا أستطيع وصفه، لا أستطيع شرحه لك الآن، لكنك ستعرفه تمامًا، ستُدرِكُه إدراكَ العاجز عن إقامة موازنة بين ما أنت وما يجبُ أن تكون.

 

عندها، عندها يا ذاتي، أفتح بيتًا للعزاء؛ لأني عندها فقط أكون قد مت تمامًا، عندها فقط تُقبَل حقيقةُ موتي؛ لأني وبكل بساطة أكون قد أحضرتُك للدنيا لأسلمَك لأرضٍ غير هذه الأرض، ولشعب غير هذا الشعب.

 

قالت الذات: وما هو الفرق؟ التناقض هو التناقض، والاختلاف هو الاختلاف، ففي هذه الأرض كما في غيرها تناقض وتخالف.

قالت الروح: لا، ليس الأمر كذلك، الأمر مختلف تمامًا، فاليد حين تختلفُ وتتناقضُ مع الجسدِ الذي سكنتْه وسكنها، تداوى بالعلاج، بالصبر، ولكن إذا تأزَّمت الأمور، فإنها تُبتَر، تُخلَع من الجسد؛ إحياءً للجسد، إبقاءً عليه في دورة الحياة بكل تناقضاتها، ولكن إذا انتشر الداء في الرأس، في الدماغ، ما الذي نستطيع فعله؟ هل نبترُ الرأس وندفنُه تحت رمال الأرض؟ لا، أنت تعلم أننا لا نستطيع ذلك، بل علينا فقط - وبعجز كامل مطلق، يغمرنا من أَخْمَص القدمين وحتى قمة الرأس - أن ننتظر البلاء، الألم، الألم بكل إرهاصاته، ضرباته، دون إرادة منا، ودون أي قدرة على أي شيء، غير رؤية الموت وهو يزحف بطريقته، بأسلوبه، بدقائقه هو، ثوانيه هو، يزحف منهِكًا الرأسَ، منهِكًا غرورَنا بزرع شعور العجز القاتل أمام قدرته على التحكم بعقولنا، قلوبنا، إرادتنا.

 

العجز شعور عظيم بالإهانة والتردِّي نحو هاوية العفن، والعجز أنواع، أشكال، ذو أوجه مختلفة، فالعجز أمام الطبيعة، أمام سطوتِها وقدرتها، مؤلِمٌ، مؤلم جدًّا، لكنه مفهوم، مستوعب، يمكن أن نُعزِّيَه لما لا نملكُ أن نقاوم، لقدرة تفوق قدرتنا، ولقوة لا نشعر أمامها بالذل والعار، ولا تدفعُنا أحاسيسُ الكرامة والأنفة أن نقفَ أمام المرآة لنُحدِّقَ بوجوهنا تحديقَ مَن يريد التأكُّد من سلامة تقاسيمه وتوازنِها مع ما يملأ صدره من اعتداد، هذا عجز نرده بسهولة، مع ما به من ألم، إلى قوة خارقة، غامضة، عاش معها البشر منذ بَدْء الخليقة، بنفس المشاعر والأحاسيس، تقبَّلوها كما هي، دون تزييف أو تجميل؛ لأنها لا تُزيَّفُ ولا تُجمَّل أصلاً؛ ولأننا لا نستطيع تزييفها وتجميلها أيضًا.

 

ولكن العجز الآخر، الذي يغمس الذَّات بالذل، بالهوان، بالضَّعةِ، هو الذي سيضعُك على رأس النصل، نصل الحقيقة المشحوذ إلى درجة عدم القدرة على التنصُّل منه، وحين يلمسك هذا النصل - وسوف يلمسك - عليك أن تستعدَّ للتزييف، للتجميل، للتبرير، للخروج من ذاتك، لتقول أشياء لم تكن تتصوَّر أنه يمكنك قولها من قبل، ولترضى بأشياء لم تكن ترضى بها أبدًا، وستصمت عن أشياءَ مثلُك لا يمكنُه الصمت عليها، وسيحاصرك مَن هم مثلُك بأفكار التبرير والتزييف والتجميل، وسترى مدى بسالتهم وفروسيتهم وهم يصوغون الذلَّ بجُمَل رائعة برَّاقة، لها رنين عذب ورائحة جميلة، وستراهم يدخلون من شقوقِ الهوان والضَّعةِ، دخولَ المنتصر من بوَّابات العزة والكرامة، عندئذٍ عليك أن تستعدَّ للانقسام بين ماضٍ أنت فيه شيء، وحاضر أنت فيه لا شيء على الإطلاق، وبين هذا وذاك ستبقى جسدًا، جسدًا مملوءًا بالطعام والشراب، مُفرَّغًا من الروح والإحساس، وفي هذه اللحظة عليك أن تُدرِك أنك لست سوى وَهمٍ في قالب سحري، يُرى لكنه لا يُلمس.

 

كانت الطائرة تقطع الآفاق، أُفُقًا تلو الآخر، ووجه والدي لا يزال أمامي، وجه رؤوف عطوف، فيه كل ملامح العرب والمسلمين، طيبتهم، رائحتهم الخالدة بأعماق أعماقي، وجه أبيض مُشرَب بحُمْرَة دم دافئ، وعينان خضراوان خضرة الزيتون، وجه عرَف ما تعنيه الغربة، البعد عن الأرض، عن العشيرة، عن مكوِّنات النفس وتوتُّراتها دون أن يُغادِر الوطن، عرَف ذلك فقط عندما غادر من الوطن إلى الوطن، حين غادر حيفا قاطعًا على قدميه مع أمي مسافة محدودة، تمتدُّ من حيفا وحتى طول كرم؛ حيث أقام هناك لاجئًا داخل الوطن.

 

حذَّرني كثيرًا من الانتقال قبل تحذير الروح، قلت له كثيرًا بأن في السفر فوائد، تجارب، خبرات، انفتاحات، حتى إن هناك مَن يقول بأن السفر يكشفُ الكثير من المستغلق، ويفتح الأبواب المُوصَدة في كهوف تَعِجُّ بالعتمة، وقلتُ له وجملت، وبررت، حتى وصلت يومًا إلى تصديق نفسي، وأيقنتُ بأن المبرِّرات والتجميلات هي حقائق من يقينٍ متَّصل بيقين، لكنه لم يُعلِّق كثيرًا، يبتسم ابتسامة تكاد تذيب الشفتينِ من شدة الشفقة والأسى، لماذا كان هذا الرجل العجوز المرسوم على رقعة الألم والضنك والعذاب يقف عند الابتسامة؟ ولماذا كان هذا الرجل العجوز المعجون بالتجربة وحكمةِ التقلُّب بين أزمان وأمكنة لا يزيد على البسمة شيئًا؟

 

سأقول لكم وللروح وللذات أقوالاً لا تُشبِه الأقوال، وسأُفصِّل لكم المفردات وأخيطها بسَمٍّ دقيقٍ يستطيع أن يَرْقُم حتى على سطح الماء رَقْمًا يمكن للأجيال أن تتساءل: كيف لم تستطع الأمواج أو الأنواء أو العواصف أو الفيضانات أن تمحوه أو تجعلَه يترجرج مع الموج المنتشر كنتوءات من صخر متحرِّك؟ وسأترك بين الحروف مسافات بيضاء وسوداء، وأخرى خضراء وحمراء، لا لشيء سوى أنني لم أملِك قدرة انتقاء المفردات والجُمَل التي يمكن أن تصل ببلاغة وخفَّة ورشاقة إلى القارئ؛ لهذا، فما هو مكتوب هو اللون الذي وصل عجزي وغروري إلى التصديق بأنه يُعبِّر عن شيء مما سأقول، وما لم تَرَوْه أو تستطيعوا قراءته، هو الفواصل التي تركتها لتبقى أقوى وأبلغ مما رقمت وقلتُ وكتبت.

 

لن أحدثكم عن الشوق والاشتياق، عن الرغبة العارمة الفيَّاضة السيَّالة لاحتضان الوطن من وريده إلى وريده، ولا عن اندفاع القلب من مكمنِه ليلتقطَ رائحة البرتقال والليمون، ولا عن العين المتحفِّزة بدهاء الأسود والنمور للقفز وإمساك لون زهر اللوز وجلنار الرمان.

 

لا لن أُحدِّثَكم عن ذلك، ولا عن العَلاقة الوطيدة بيني وبين النَّسمات المنسلَّة من بين شقوق الالتهابِ والاحتراق لتلامسَ مِفْأَدة الفؤاد المستطير لوعة على دودة كنت أربطها بفخٍّ لاصطياد دوري أو ديك سمين.

 

ولن أُحدِّثَكم عن عملية السطو المنظَّمة التي دبرت وتربي جمال كنعان على قِنِّ الدجاج الذي لا زال يسكن مخيِّلتي ونواة توقُّدي واشتعالي، فهذا أمر مفروغ منه ومحسوم، تمامًا كالحسام الحاسم أمر رقبة جزَّها فدحرج ما كان عليها من عَل.

 

لن أُحدِّثَكم عن تلك الليالي العميقة الغَوْر والسطوع، المكتظَّة بعتمة النور، حين كنت أتواعد مع القمر وضيائه لسمر بين عاشق ومعشوق، سمر يدفع بألم الخُمار للانفتاح على خفقات ترابٍ يُشكِّل قلب السمر، ليالٍ كنتُ أخرج فيها مع بَدْء ضراوةِ وشراسة المعركة بين غروبٍ ينازعُ للبقاء في قلب النور، وعتمة تمدُّ نصال أرمحتها في القلب المنازع لتتدفَّق الدماء صابغةً الأفق بشَفَق يكادُ يذهل الذهول من جمالِه وتميُّزه وتأنُّقه، تلك الليالي التي كنت أواعد معشوقتي لنلتقي بين جذوع أشجار البرتقال والليمون، لنتمدَّد فوق التراب، وننهل من رائحةِ التراب، معشوقتي التي كانت تخرجُ من مَرْبضِها وعَرِينها لتقولَ لي: أنا الروح التي أتت لتنام معك هنا على هذا التراب المتدفق بروائح الظل والشمس والندى والطَّلِّ والغروب وتنفس الصبح، وحين كنا نُفِيقُ كانت تنسل إلى أعماقي من جديد لتختفي في مكانٍ ما زلت أجهلُه حتى يومِنا هذا، مع أنها وحتى هذه اللحظات التي أكتب فيها خرجت لتحاورني الحوار الذي رُقم وسُجِّل على الصفحات السابقة.

 

سأحدثكم أولاً عن لحظات السحرِ الذي يفوقُ الوصف والخيال، عن إحساسي بوجود الخالق - جل شأنه - بقربي أينما تنقَّلت وحللت، بيوم كنت هناك، وقبل أن ألمس الغربة بوشاح الوهم والزيف.

 

صلاة الصبح في مسجد المخيم الشديد التواضع كان لها شأن، وكان لها مذاق، كان لها نكهة لاذعة قوية حارَّة، توتر اللحظات والأجواء برهبة تُداهِمُ الروحَ وتربط على الفؤاد، فينخلع القلب من فرط السكينة والهدوء والاطمئنان، حتى تكاد للحظاتٍ تشكُّ بأنك تتنقلُ على بساط من أثير أو ريح شديدة النعومة والحريرية، كانت لذَّة لا توصف ولا تُؤطر، لا تخضع لمقياسٍ أو علم، بل إلى عقيدة واعتقاد، إلى استيقانٍ ويقين، إلى حقٍّ يدفع نحو حق، ولن أكون مبالغًا إذا قلت بواقعية يعرِفُها مَن ذاق طعمَ اليقين والسكينة واللذَّة المقتحمة للذات، بأني لو امتلكتُ فقط حاسَّة بصر أقوى قليلاً من المعهود لشاهدت الملائكة - رضوان الله عليهم - وهم يُظلِّلون الناس والصلاة والإيمان بظلال من نورهم المتدفق.

 

لم تكن صلاة الصبح وحدَها هي التي تدفعُني للشعور بأني سأفقِدُ الحياة من حجمِ اللذَّة التي تترسَّخ بيقيني، وإن كانت هي الأعظمَ تأثيرًا، فبيني وبين الميضأة عَلاقة لا تنفك ولا تنحل ولا تنحسر، وكذلك بيني وبين الوَضوء والوُضوء، بيني وبين المراوح المتدلِّية من السقف، بيني وبين أسماء الخلفاء - رضوان الله عليهم - على أقواس الأعمدة الحاملة للقُبَّة، بيني وبين المصاحف الموزَّعة على الرفوف، بيني وبين المكتبة، وكذلك بيني وبين المِئْذَنة والجدران، وحتى مسامات الهواء الناعمة.

 

أتريدون مني أن أُحدِّثَكم عن صلاة العشاء؟ أم جلسات وحلقات العلم في المسجد المسكون بالحزن والإيمان؟ عن أصدقائي وأَتْرَابي؟ عن ملاعب الطفولة والصبا؟ عن الجبال والوديان والسهول والسهوب؟ عن الغدائر والجداول والينابيع والسواقي؟ عن رائحة الناس وهم يُعذِّبون الوقتَ بصبر الأولياء من أجل استلالِ لُقْمَةِ خُبْز؟ عن الموت المتربِّع فوق الرموش والأحداق والأهداب؟ عن خفقات الليل وهو يتمدَّد خوفًا ورعبًا من أنفاس الصبح؟

 

عن ماذا أُحدِّثُكم؟ فهناك الوطن الذبيح الحي الذي يستردُّ الدماء المهرقة إلى نحرِه ليواصل الابتسام والضحك والحبور، ابتسامات الصمود، وضحكات الشهداء، وحبور الفقراء بفقرٍ أورَثَهم كلَّ العزة والكرامة، لن أُحدِّثَكم عن شيءٍ من هذا، رغم أنه تاجُ الحديث، ودُرَّة الروايات، وهَيْبة الابتهالات، وخشوع الدعوات، فهناك كنتُ وكان الوطن، كنت معه، وكان معي، كنت في قبضتِه، وكان في قبضة يدي، حمَلني على عنقِه، وحملته على عنقي، زارني في كل صباحٍ وزرتُه، همس لي وهمستُ له، قال: أنت هنا في المكان والزمان، حيًّا كنت أو ميِّتًا، همستُ: أنت عندي بمنزلة الحلم والرؤى، والماضي والحاضر والمستقبل، سأبقى فيك وعليك وبك ومنك.

 

قلت ذلك، همست به، للوطن الذي يشدُّ أوتار الخلود إلى نوازع الاعتقاد والإيمان.

 

فهل صدقت؟


كان عليَّ - أو هكذا أَوْهمت ذاتي - الرحيلُ من العهد، من الوطن، من بين حنايا أرواح الشهداء، ومن بين ثنايا كرامة الفقراء؛ لأختبرَ الغربة وفوائدها، فهل اختبرت؟

 

نعم اختبرت، سأُحدِّثُكم عمَّا اختبرت في ذات غربة رقم اثنين، ولكني أنصحُكم أن تتبرَّؤوا من قراءتها منذ اللحظة، فإن كنت أنا أنانيًّا إلى درجة رقمها بثبات فوق ماء، فأولى بكم أن تكونوا كرماء بتركها حتى يستطيع الماء أن يطمسَها طمسًا لا يسمح بانتقالها إلى أزمان قادمة، يكون الزمن الذي كتبت به غابرًا.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الغربة والحربة
  • غربة
  • غربة واضطهاد (قصة قصيرة)
  • غربة الشباب إلى أين؟
  • غربة ( قصيدة )
  • ذات غربة (2)
  • ذات غربة (3)
  • ذات خديعة
  • غربة في وطننا
  • ذات فخر (1)
  • غربة (قصة)

مختارات من الشبكة

  • الغربة (1)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • غربة الإسلام بين المسلمين ( قصيدة )(مقالة - حضارة الكلمة)
  • غربة العقيدة غربة التوحيد(مقالة - موقع أ. د. فؤاد محمد موسى)
  • طور ذاتك بذاتك(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • تفسير: (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • ذات تبارز ذاتها (شعر)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • موقف ابن تيمية من التمييز بين لذات الدنيا ولذات الآخرة(مقالة - موقع أ. د. مصطفى حلمي)
  • في زمان الغربة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • غربة تسري في كياني(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • زمن الغربة.. النيل لا طعم له!(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 21/11/1446هـ - الساعة: 10:16
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب