• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    اللغات العروبية: دراسة في الخصائص
    د. عدنان عبدالحميد
  •  
    الفلسفة الاقتصادية للتسخير في منظور الاقتصاد ...
    د. عبدالله محمد قادر جبرائيل
  •  
    منهج التنافس والتدافع
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الاستشراق والعقلانيون المعاصرون
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    عجائب الأشعار وغرائب الأخبار لمسلم بن محمود ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    صحة الفم والأسنان في السنة النبوية
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    الإعلام المرئي والمسموع والمقروء وعملية الترجمة
    أسامة طبش
  •  
    منهج التعارف بين الأمم
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الإسلام يدعو لحرية التملك
    الشيخ ندا أبو أحمد
  •  
    آثار مدارس الاستشراق على الفكر العربي والإسلامي
    بشير شعيب
  •  
    إدارة المشاريع المعقدة في الموارد البشرية: ...
    بدر شاشا
  •  
    الاستشراق والقرآنيون
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    نبذة في التاريخ الإسلامي للأطفال
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    عقيدة التوحيد، وعمل شياطين الشرك
    أ. د. فؤاد محمد موسى
  •  
    الفلسفة الاقتصادية للاستخلاف في منظور الاقتصاد ...
    د. عبدالله محمد قادر جبرائيل
  •  
    منهج شياطين الإنس في الشرك
    أ. د. فؤاد محمد موسى
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

ذات غربة (3)

ذات غربة (3)
مأمون أحمد زيدان

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 14/4/2014 ميلادي - 13/6/1435 هجري

الزيارات: 4513

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ذات غربة


(3)

تخطَّينا الوطنَ، والوطن المزعوم، أرست الطائرة أنفاسها في مطار ميلانو، كانت ساعات وعلينا أن نَصعَد لامتطاء السُّحب وصولاً إلى مدريد، وصلنا أرضًا ذكَّرتنا بالأسى وثِقَل الدُّجى المغلِّف لقلوبنا بعد أن بصقتنا أوطاننا، هنا كان أجداد يتشابهون في الوجوه مع أهل مكة والمدينة ودمشق وبغداد والرباط والقيروان، وقفت أمام الجدران العالية، والقصور الشاهقة، والمآذن الصاخبة في العلو والارتفاع، أحسستُ خطوات المعتمد بن عباد وهو يرقص خوفًا وهلعًا من خطوات ابن تاشفين، أدركتُ من الوهلة العظمةَ والخُسُوء، عظمة الوَحدة، وخُسُوء الفُرْقة، كان هنا يومًا ملوك، ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا ملوكَ الطوائف، فزالوا وزالت طوائفهم.

 

تحت المآذن بكيتُ وانتحبتُ، وكان حقًّا عليَّ ولي أن أبكي وأنَتحِب، حسرةً على مئذنة لا تَملِك أن تَصدَح بأذان يُذكِّرنا ببلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه.

 

حملتنا الغيوم مرة أخرى، وهبطنا في مطار أوسلو، ومن هناك إلى شرطتها، قلنا لهم بأننا قدَّمنا طلبًا للأمن والأمان، فمنحونا ما طلبنا وكل ما يتعلَّق به.

 

وبدأت الرحلة، رحلة الاغتراب المفضي إلى الضياع والهزيمة والخروج من الذات، رحلة التناقضات والاختلافات والفزع والمفاجأة، والدوران في دوائر من الهلام، تدور هي في دوائر من مجهول وغامض.

 

وكان علينا أن نلتقي - أول ما نلتقي - مع الناس الذين أتوا من كل حَدَب وصوب، من كل فجٍّ ووادٍ، طالبين - كما عرفنا فيما بعد - أشياء لا تتعلَّق بالرزق أو الأمن والأمان.

 

وكان على اللقاء هذا الفوضوي الشتات والاجتماع، أن يكون - رغم أنوفنا - يَعِج بالازدحام والتناقضات، والاختلافات والمتفرِّقات، ازدحام يُثقِل العقل، ويُكدِّس المشاعر في بوتقة جديدة العهد في ملامسة التضاد، بين ثقافة وثقافة، وبين حضارة وحضارة، وبين عادات وتقاليد وعادات وتقاليد، لم تكن الرجرجات والخضخضات هي التي تُظهِر الصدمة، وإنما كانت النفوس ذاتها تَبعَث أسبابَ كلِّ ما يَنتُج عن ذلك، لتطفو على السطح أشياءُ وأشياء، تقود إلى انعقاد الدَّهشة وتمحور الانشداه.

 

هنا عرَفْنا كيف يتبرَّأ المسلمُ من دِينه، ليس بأمر دولة، أو شرطًا للحصول على لجوء، هنا أناس جاؤوا وهم يحملون غرائزهم كالدود والخنازير والكلاب، فتراهم وهم يتفرَّقون بين دنيئة ودنيئة، وبين انحطاط وانحطاط، وقلة كرامة، وانعدام عزة نَفْس، حملوا أنفسهم من الأوطان، من حضن الوالدين، وظلِّ الصَّنَوْبر، ورائحة الياسمين، لا تدفعهم حسرة أو غُصَّة، وحين وصلوا - بذات اليوم واللحظة - تحوَّلوا إلى مُهرِّجين بارعين أمام مَن منحوهم اللجوء، كانوا سعاديناً تُتقِن فنَّ اجتذاب عين لا تستطيع إخطاء كمِّ الذلِّ والهوان والعبودية التي تُقدَّم من أجل لفْت أنظار امرأة تَجاوزت كلَّ ما يُمكِن أن يقرِنها بوصف امرأة قادرة على اجتذاب نظر غوريلا أو بابون، وفي المقابل كانوا يتنصَّلون من أصولهم تنصُّل الحياة من الموت، وفي لحظات يُشهِرون أنيابَهم القاسية المشحوذة المغذَّاة بانتقام الذات من ذاتها، ليَغرِسوها بما تَحمِل من سمٍّ زُعاف في أبناء وطنهم ودِينهم، وكأن تغذية السم واجب مقدَّس.

 

هنا أيضًا عرفنا عن قُرب ودون الحاجة إلى مِجهَر أو مُكبِّر، معنى المَثَل الفلسطيني الذي ردَّده الأجداد وأجداد الأجداد: "ما أكذب من شابّ تَغرَّب إلاّ ختْيَار ماتت أجياله"، ومعناه بلُغَتِنا التي نكتبها: ليس هناك أكذب من شاب تَغرَّب، إلا عجوز تبقَّى في الحياة بعد أن مات الجيل الذي يعرف ماضيَه.

 

فما اقتربنا من مجلس إلا وسَمِعنا مَن يتحدَّث أنه حين ترَك وطنَه، لم يتركه لحاجة أو فاقة؛ لأنه حين غادر قدِم ومعه مبلغ من المال قادر على أن يُمِده بالبقاء في الوطن لأعوام طويلة، ولم يُدرِك وهو يتحدَّث بأن الشؤون الاجتماعية في البلد الذي هو فيه هي مَن تمنحه فُتات الفتات إلى اللحظة التي يتم التحقُّق فيها من أهليَّته لامتلاك اللجوء أم لا، وهناك من قال: بأنه ترك الوطن؛ لأن الوطن لم يُدرِك ما فيه من طاقات وقُدرات وخبرات ومعجزات، تستطيع أن تُصحِّح مسارَ الوطن والمواطنين، في حين أنه لم يُدرِك بأن لهثه فقط خلف فتاة تَعفَّن الخمرُ في فمها، وملأ البول سروالَها وهي تتنقل بين احتساء الخمر والحمام، هو تنقُّل العاجز الوضيع عن الاقتران بالعجز والوضاعة؛ لأنهما يرفضان انتسابه إليهما تَعفُّفًا من انهيار مدلولهما.

 

وهناك أيضًا، وهو الأخطر والأكثر سُمِّيَّة، مَن وجد نفسَه يَملِك قليلاً من قدرة التحدث، وحبوًا في إمساك القلم، فنظر إلى ذاته، فعرف أنها ذات خاوية فارغة، وتلمَّس قدراته، فأدرك يقينًا بأنه لا يَملِك من أمر غروره وغرور ذاته أيَّ مقوِّم من مقومات ما ظنَّ واعتقد، فلم يلجأ إلى الهدوء والركون والاعتراف بقيمة نفسه وما يَملِك من قدرات، فنظر كثعلبٍ رأى أن الالتصاق بمن يطلبون منه التنازل عن ذاته وتكوينه وكرامته ملجأٌ يمكن اللجوء إليه، فاندفع وهو يَعتقِد بأنه صاحب أمره، وقائد شخصيَّته نحوهم، وبأسلوب عصري استقبلوه ليُقدِّم فروضَ العبوديَّة وطقوس الولاء، وكان كلما قدَّم فرضًا رفعوه درجة، وكلما مارَس طقسًا أنزلوه درجة، ليبقى مراوحًا بين الصعود والنزول، ويبقى في دائرة تقديم الطاعة والعبودية وهو يَلهَث لُهاث كلب أحرقته الشمس وألهبته المسافات الطويلة.

 

ورأينا أيضًا، مَن باع ذاته في سوق مفتوحة، أمام الملأ وعلى أعين المارة، وحين عُوتِب، قال بفم يكاد يتفجَّر من امتلائه بالعَهْر، بأن العتاب يأتي من فمِ العَجَزة، ولو تمكَّنتم من ممارسة ما مارستُ من بيع لذاتي ووطني وكرامتي ونخوتي وشرفي، لَمَا تردَّدتم في ذلك، والغريب أن مِثْل هؤلاء وصلوا إلى مراتب يمكن من خلالها التأثيرُ في قرارات أوضاع دول وثورات وأوطان.

 

وكان علينا وسط هذا الازدحام، أن نَنظُر إلى اليمين واليسار، إلى الأعلى والأسفل، إلى الأمام والخلف، حتى نستطيع أن نأخذ نَفَسًا سريعًا مِن تَلاطُم الأمواج الناتجة عن الزلازل، وكان علينا أحيانًا - رغمًا عنا - وبسبب تَشابُك المعطيات والحياة أن نتعامل مع مِثْل هؤلاء في ظروف كثيرة، وحين كنا نضطرُّ إلى ذلك، كانت النفوس في ذواتنا تتأور وتتلظَّى، لكننا لم نَملِك شيئًا لنفعله، أو قرارًا لنتخِّذه، ليس لعَجْز فينا، بل لِما يَفرِضه المجتمع من تداخلات وتشابكات تُغطَّى بالقانون وطبيعة الحياة في الغُربة.

 

هنا أدركنا أيضًا قيمة المَثَل الذي ردَّده الأجداد وأجداد الأجداد:

"مَن خرج من داره ينقل مقداره"، وفي لغتِنا التي نكتب يكون المعنى: من خرج من داره - أي: وطنه وأرضه - يَقِل قَدْرُه وتَقِل قيمتُه، وهو عين الصواب، وبؤرة اليقين، وعين المُطلَق؛ لأن الوطن الذي عشتَ فيه، يَعرِفك وتعرفه، معرفة العادات والقِيَم والتقاليد والأعراف، يَعرِفك معرفةَ الدِّين والإسلام والسُّنة، يعرفك وتَعرِفه معرفة التفحص والتنقيب وسَبْر الأغوار، بل ويَزيد على ذلك أنه يمنحك وَفْق كلِّ تلك المعارف أن تختار وتُحدِّد بشكل قاطع وثابت مع مَن ستتعامل ومع من ستَفصِم العُرَى، بل ويمكنك هناك أن ترفعَ ذاتَك عن ملامسة أنفاس مَن يُمكِن أن يكونوا حِملاً أو ثِقلاً عليك.

 

ولكن، وقبل الانتقال إلى موضوع آخر ودَلالة أخرى، أحبُّ أن أؤكِّد، وربما أستعيد التأكيد بدَلالة قادمة على خير مُتفجِّر في الغربة التي أعيشها وأتنسَّمها، فأجد هواءها جافًّا جارحًا، للتأكيد على شعْبٍ رأيته قادمًا من الجوع، بل مِن قاع الجوع، وإصرارًا وتأكيدًا أزِيدُ: من الجوع الذي يُمسِك بالأحشاء لتَخُز الرُّوح فتُفرِغها عبر عذاب طويل يستمرُّ لأيام، وربما لأسابيعَ من الجسد الذي لو أمسكته قبل الموت جوعًا وبعده لتهشَّم بين يديك كقِشرة لحاء تَكالبت عليها الفصول لتُحوِّلها إلى هشيم ونثار لا يُمسَك ولا يُرى، أهل الخير والبركة، أهل القرآن الذي كان يُخالِط الجوع والعذاب والموت والتلظي، مخالطة الصديق والشفيع، أهل الصومال، ذوو البشرة المغطَّسة بالسواد، والقلوب المنقوعة بالفطرة والبراءة والنقاء والبياض، أولئك الموزَّعون بين سمرة لطيفة وسواد فاحم، وجوعٍ أجهزَ على الآلاف منهم، رأيتهم هنا في المساجد، شُبَّانًا وشِيبًا، يجلسون يتدارسون القرآن المحفوظ في صدورهم بالساعات حتى لا يتفلَّت من بين أيديهم، ورأيتهم وهم يبتسمون ابتسامةً تكاد ترقص الأنهر سعادة وهم يُنظِّفون المساجد، ويؤسِّسون مساجد، رأيتهم وهم يبحثون عن بعضهم؛ كي يتكاتفوا، فيسند قويهم ضعيفهم، رأيتهم وهم مفجوعون من العرب الذين كانوا يومًا يتمسَّحون بهم ظنًّا منهم بأنهم يحملون البركة، ورأيت الدَّهشة التي تَنعقِد كسحابةٍ مُثقَلة بالضباب والتشوش على تقاسيمهم وهم يُتابِعون تنصُّلَ العرب من ذاتهم المسلمة الخلاقة!

 

فانعطفتُ نحو الغرب محاولاً لَمَّ الصورة، فوجدت الغرب يُشكِّل خطرًا فعليًّا على الإسلام والمسلمين، لكنه الخطر الطبيعي ممن له إيمان واعتقاد مُغاير لاعتقاد المسلم وإيمانه، ومن الدعاية الإعلانية الوحشية التي تُشَنُّ على الإسلام كرسالة بصورة مشوَّهة مدروسة، فأدركت وبعد سنوات طويلة، بأن الشعوب الأوربيَّة لا تَحمِل فَهْمًا للإسلام ورسالته إلا من خلال تلك الدعاية، فإن خضعوا لنقاش جاد، ممنطق وهادئ، فإنهم - وإن رفضوا القَبُول والتسليم بما يُقدَّم لهم من صورة حقيقية عن الإسلام - يظلُّون مُدركين بأن هناك تفسيرًا وصورة أخرى غير التي تُقدَّم لهم من وسائل الدعاية والصحافة، فيُصبحون على أقل تقدير مُتحفِّظين مع المسلم، بدليل أنهم يُغيِّرون انتقاء المفردات التعصبية التي كانوا يَستخدِمونها قبل الخضوع للنقاش.

 

وهنا تَبرُز المشكلةُ الأكثر تأثيرًا، وهي المسلم ذاته الذي يعيش بالغرب، فهو منزوع الشخصية إلى درجة التشظي والتفتت، وهو أيضًا مبهور بما يُقدِّم الغربُ من صور للحرية التي يريدها هو كشخص منزوع من ذاته، هذا من جِهة، ومن جهة أخرى هناك الفئة التي تبحث عن الشهرة والظهور عن طريق ممارسة الانسياق مع تطلُّعات الفئة التي تُقدِّم الصورة الوحشية عن الإسلام، وهناك فئة الرويبضة الذين ظنُّوا أنفسهم قادرين على حَمْل القلم والحديث عبر الشاشات، فقدَّمهم الإعلام العربي ذاته، وإعلام دول أخرى، والغرب، كمتحدِّثين عن الإسلام وقضايا الأوطان والعروبة، فقدَّموا رؤيتهم القاصرة عن فَهْم شيء، وسانَدَهم الإعلان بذلك، فأصبحوا أمام الناس وكأنهم يُدرِكون ويعقِلون، وقد تحدَّثتُ إلى أحدهم مرة، وطلبت منه فقط أن يشرح لي مفهوم الجهاد في الإسلام، فلم يجد غيرَ السيف يقترن بهذا المفهوم، فطلبت منه فقط أن يُخبِرني عن تفسير قوله - جل شأنه - بالخُنَّس، والجواري الكُنَّس، فعجز، فتماديتُ وطلبت منه أن يُفسِّر لي معنى كلمة: ﴿ وَقَبَ ﴾، فعجز، فتماديت أكثر وطلبت منه أن يقول لي معنى: ﴿ الأبتر ﴾، فعجز أيضًا، فانتقلت به إلى الحديث، وطلبت منه أن يقرأ لي حديثًا قدسيًّا واحدًا، ليس بنصه الكامل ومحتواه الكامل، ولكن بصيغة تجعله يأتي بجملة واحدة كما هي حرفيًّا في الحديث، ففشل، وبعد أيام وجدتُه على إحدى الشاشات يُناقِش فكرة الإسلام والمسلمين، ويتنطَّع في العلماء تنطُّع الجاهل أمام المعرفة.

 

مِثل هذا كثير، وهم يظنون أنفسهم شيئًا، ويظنهم الناس شيئًا، بسبب انحطاط العلم والمعرفة، ليس فقط عند مَن مثله، بل عند المتلقي الذي يدور في رويبضة هؤلاء دون أن يَمتلِك القدرة على الفصل بين ما هو ناتج عن معرفة، أو ما هو ناتج عن بهلوانيَّة.

 

وليس هذا ما يعنيني كثيرًا، ولكن حقيقة واحدة من هذه الغُربة أُحِب نقلها، وإن كان في النقل حسرة، وفي الأحرف لَوعةٌ وعذاب، وفي الجُمَل حزنٌ وكآبة، وهي أن المسلمين بالغرب وفي الأوطان الإسلامية - إلا من رحِم ربي - هم مَن يتحمَّلون الوِزرَ الأكبر في تشويه الإسلام، بما يَحمِلون من مصالحَ فرديَّة ضيقة، أو مصالح حزبية لا تتعدَّى سَمَّ الإبرة، وهم المتفانون عن سَبْق إصرار وترصُّد، من أجل إرضاء الغرب، بحكوماته وأحزابه، ومن أجل إرضاء امرأة أضناها الجفافُ، وأرهقها الخريف المتمكِّن منها، تراهم أو تراه يَستبسِل في سَكْب كرامته وماء وجهه إمعانًا وإسرافًا، دون أن يُدير رأسه ليرى الرسولَ الكريم صلى الله عليه وسلم، ودون أن يتكلَّف التفاتة نحو الخلفاء والتابعين وتابعي التابعين، ودون أن يلحظ - أو أن يحاول أن يلحظ - من هم في عصرنا يُقدِّمون كل ما يَملِكون من أجل إعلاء راية من رايات الدِّين، أو شَعيرة من شعائره.

 

لم يُكلِّفوا أنفسهم أن ينظروا إلى الصومالي والإفريقي القادم من رِبْقة العبودية، التي أنهكت أجيالاً ممتدة من أجيال أجداده، ليَفترِش الرصيفَ، ويُصلِّي صلاة حتى لا تفوته وسط زحام عاصمة غربية أو مدينة مكتظَّة، ودون أن يتنبَّهوا لشباب خرجوا من بين أنياب الموت جوعًا، ليصلوا هنا وهم يحملون القرآنَ في صدورهم، ويتحلَّقون حلقات لساعات وهم يتلون القرآن؛ حتى لا تضيعَ الأمانةُ التي في صدورِهم.

 

على المسلمين أولاً أن يُطالِبوا أنفسهم، ليس بالاعتزاز فقط بتاريخهم، بل باحترام ذواتهم، والتحقق من شخصيَّتهم كم تبقَّى فيها من نماء وبناء، عليهم أن يُدرِكوا حقيقة يدركها الحيوان قبل الإنسان، بأن ما هو مِلْك يستحقُّ الدفاع عنه بكل ما تَملِك من قوى وطاقات؛ فالدجاجة تدافع عن حقها وما هو ملكها، النمل مثال لا يعلوه مثالٌ في الدفاع عن نفسه وشخصيته وملكه وتاريخه، حتى إنه لا يترك عمله والنيران تلفح جسده، بل يظل يعمل وهو يحترق حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، والنحل مثل أيضًا؛ فهو يُدرِك أن اللسعة تُكلِّفه حياته، لكنه ينقضُّ دفاعًا عن شرفه وعِرضه وشخصيته وملكه، مغادرًا الحياة دون أدنى ندم أو حسرة على المغادرة، بل هي مغادرة الشرف الرفيع الذي لا يَصِل إليه إلا قلةٌ من البشر، لكن النمل والنحل يَصِلون إليه يوميًّا بمحض الاختيار والرغبة والاندفاع بالمئات، بل الآلاف، فلا غرو أبدًا أن نقف أمام سورتين في الكتاب المكنون، واحدة باسم: النمل، وأخرى باسم: النحل.

 

علينا أن نتعلَّم أن بناء الشخصية التي تخرج مواد تأسيسها من المبدأ، يمكنها أن تُقدِّم صورة فاتنة، ليس للغير فقط، وإنما للتاريخ نفسه؛ فعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، انتقل من مُعاقِر للخمر - بسبب التأسيس المبدئي - إلى مصباحٍ يفُوق قوةً سطوعَ الشمس، فأرغم التاريخ والتأريخ للانصياع إلى المبدأ الذي تكون من عدالة السماء، وبلال بن رباح، لم يختلف كثيرًا عن ذلك، تمرَّد على العبودية والتقاليد والأعراف والسطوة والقوة والمَنَعة، حين تغلغل المبدأ بأعماقه؛ فهزم مكة وكلَّ سادتها، بدأب النمل وإصرار النحل المستمدة من المبدأ، وكانت قَدَم ابن مسعود أثقلَ من جبل أُحُد عند الله، بدفع المبدأ لتلك القدم، لتكون علامة من علامات التاريخ الخالد الذي سيدخل الأزل بإرادة الله جل شأنه.

 

كم كانت الأوطان علينا عسيرة، وكم وجدنا الغُرْبة مُحكَمة العسر والضيق حين التقينا بذواتنا التي تُنكِر ذواتها هنا، وكم فَرِحت وتشقَّقت فرحًا حين لامستُ يدَ صومالي أو إفريقي، فأحسستُ قوتها ومتانتها واعتدادها بذاتها، بعد أن خرجت من موت كان الجوع يُحكِم قبضته عليها، كم شممت رائحة اليد المعطرة بالمصحف محمولاً عليها وفي الصدور.

 

وكم تَمنيتُ لو أصِل أو أشعر بوصولي إلى نقطة اقتراب مع هؤلاء الذين نهضوا من الموت، وهم يتدارسون القرآن أثناء شعورهم بتغلغله فيهم، ليبقوا أقوياء الشخصية، مُتَناء الذات، في رخاء تَحقَّق بعد عدَمٍ.

 

كانوا سابقًا يتمسَّحون بقادم من القدس أو من مكة أو المدينة، ظنًّا بأنه يحمل بركة يريدون أن تَصِل إليهم، تَمسُّح فطرة مكتظَّة بالإيمان، وتمسح براءة لا يعرف فرقًا بين حلال وحرام ومستحب وغير مستحب، فهل علينا الآن أن نقمع تمسُّحهم بالفظاظة كي نُعلِّمهم الفرقَ بين حلال وحرام، أم علينا أن نَرفُق بأنفسنا كعرب وأصحاب رسالة خصَّنا الله باختيار لغتنا لغة القرآن، كي يتعلَّموا وحدهم وبفِطْنة الإيمان والاعتقاد الفرق بين الحلال والحرام، وكي نتعلَّم نحن من جوعهم المميت معنى الشخصية التي ثبتت، وهي في طريق الموت على المواصلة في حِفْظ الشخصية المتَّصِلة بالقرآن، وثبتت على ذات الشخصية حين مَنَّ الله عليها بالرخاء وسَعَة الحال؟

 

هنا نهاية دروس الغربة التي تعلَّمت، ولو كان الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه حيًّا، لقلت له: هناك في الغربة غير الفوائد الخمس التي أحصيتَ، هناك حسرات وانكسارات ومآزق، هناك قهر وكمد وضَنْك وكَبَد، هناك أيضًا ما يجعلنا نُغذِّي الأمل بمِثل أولئك الذين حاربوا الموت بالدعاء والثبات، وما زالوا يُعلِّموننا معنى الثبات على الشخصية التي تُربَّى بين أنامل المبدأ والعقيدة بكل ما فيها من عدلٍ وعدالة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • ذات غربة (1)
  • ذات غربة (2)
  • ذات فخر (1)

مختارات من الشبكة

  • طور ذاتك بذاتك(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • تفسير: (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • ذات تبارز ذاتها (شعر)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • موقف ابن تيمية من التمييز بين لذات الدنيا ولذات الآخرة(مقالة - موقع أ. د. مصطفى حلمي)
  • الغربة (1)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • غربة الإسلام بين المسلمين ( قصيدة )(مقالة - حضارة الكلمة)
  • غربة العقيدة غربة التوحيد(مقالة - موقع أ. د. فؤاد محمد موسى)
  • همسات في إدارة الذات ومعرفة النفس(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • من هي ذات الدين؟(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • تقدير الذات(مقالة - مجتمع وإصلاح)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • المرأة في المجتمع... نقاش مفتوح حول المسؤوليات والفرص بمدينة سراييفو
  • الذكاء الاصطناعي تحت مجهر الدين والأخلاق في كلية العلوم الإسلامية بالبوسنة
  • مسابقة للأذان في منطقة أوليانوفسك بمشاركة شباب المسلمين
  • مركز إسلامي شامل على مشارف التنفيذ في بيتسفيلد بعد سنوات من التخطيط
  • مئات الزوار يشاركون في يوم المسجد المفتوح في نابرفيل
  • مشروع إسلامي ضخم بمقاطعة دوفين يقترب من الموافقة الرسمية
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 3/12/1446هـ - الساعة: 23:30
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب