• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | محاضرات وأنشطة دعوية   أخبار   تقارير وحوارات   مقالات  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    اختتام ندوة حول العلم والدين والأخلاق والذكاء ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    لقاءات دورية لحماية الشباب من المخاطر وتكريم حفظة ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    تزايد الإقبال السنوي على مسابقة القرآن الكريم في ...
    خاص شبكة الألوكة
شبكة الألوكة / المسلمون في العالم / مقالات
علامة باركود

وقفات مع حادثة شارلي إيبدو

محمد بن حسين حداد الجزائري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 18/3/2015 ميلادي - 27/5/1436 هجري

الزيارات: 6281

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

وَقَفَاتٌ مَعَ حَادِثَةِ "شَارْلِي إِيبْدُو"


الحمدُ للهِ ناصرِ النبيِّين ومُعزِّ المؤمنين، قاهرِ المُعتدين ومُذلِّ الكافرين؛ والصّلاةُ والسّلام على سيّدِ المُرسلين وإمامِ المتّقين، رحمةُ اللهِ للعالمين وحُجَّتُه على الهالِكين. أمّا بعد:

فتعدّدت اعتداءات الكفّار على مقدّسات المسلمين وتَكرّرت، فقابلتْها أمّةُ الإسلامِ بمواقف اختَلفَت وتَنوَّعت؛ لكنْ تبقى رُسومات صحيفة "شارلي إيبدو (Charlie Hebdo)" الفرنسية السّاخرة -في ظنّي-الأعظم جِنايةً والأكبر فُحشًا والأبْعد أثَرًا، لظهورِ العنادِ فيها ظُهورًا دَفع أصحابُه حياتَهم ثمنًا له، ولانْقسامِ العالم اتّجاه آثارِها إلى فَسَاطِيط: فُسْطاطٌ تَضامنَ مع الصّحيفةِ واسْتَنكر عمليّةَ الانتقام مِن أصحابها بالقتل، وفُسطاطٌ اسْتنكر كلاًّ مِن صنيعِ الصّحيفةِ وعملية الانتقام، وفُسطاطٌ اسْتنكر الصّنيعَ وأيّدَ العمليّة انتصارًا لنبيّ الإسلام -عليه الصّلاة والسّـلام-.

 

لذلك أحببتُ الوقوفَ عند الحادثةِ وآثارِها وقفاتٍ أَضعُ مِن خلالها النِّقاط على الحروف؛ فأُذكِّر وأبيِّن ما ينبغي التَّذكير به وبَيانه، قبل أن يمضي بِي الزّمانُ فتُصبح الحادِثة تاريخًا بعدما كانت واقعًا، لا سيّما وأنّ هزّاتِها الارْتداديّة لا تزال مُستمرّةً مُتواليةً على جميع الصُّعُد[1].


الوقفةُ الأولى: التّذكيرُ بعداوةِ أعداءِ الإسلام لأهلِ التّوحيد:

ما صَنيعُ صحيفةِ "شارلي إيبدو" مِن خلالِ رُسوماتِها الكاريكاتوريّة إلاّ طريقةٌ مِنَ الطّرائِقِ العدائيّة؛ رُسوماتٌ تصوّر إلَهَ المسلمين ورسولَهم ومقدّساتهم كأشياء جديرةٍ بالكراهيّة والسّخرية والازْدراء -تعالى الله عمّا يقولون عُلوًّا كبيرا-، وهي طريقةٌ ظهرت في عصرِنا مع تطوّرِ وسائلِ الإعلام وتنوّعِها، لتَنْضاف إلى سجلِّ الكفّار الإجراميّ فتُؤكِّد بقاءَ أصلِ عداواتِهم للمسلمين وديمومتَها، وأنّهم لا يدّخرون في سبيل ذلك جُهدا.

 

فلا يزال الكفرةُ وأعداءُ الدّين عامِلين على محاربةِ الإسلام وأهلِه، وساعين لذلك بشتّى السُّبلِ والوسائل، لِردِّ المسلمين عن دينِ التّوحيد الّذي أَنزلَ الله -تعالى- به الكتبَ وأَرسلَ مِنْ أجْله الرّسل؛ بالتّرغيبِ تارةً، وبالتّرهيبِ تارةً، وبالتّشكيكِ تارةً، وبالتّشويهِ تارةً أخرى، وهذا مصداقُ قولِ الله -عزّ وجلّ-: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [2]، وقوله -سبحانه-: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [3].


قال فضيلة الشّيخ سفر بن عبدالرّحمن الحوالي -حفظه الله تعالى-: "فعداوةُ أهل الكتاب مِنَ اليهودِ عُبّاد العِجل، ومِن النّصارى عُبّاد الصّليب، وعداوةُ المنافقين المندسّين في هذه الأمّة ممّا لا يخفى على مَن تَدبَّرَ كتابَ الله وسنّةَ رسولِه صلّى الله عليه وسلم.


هذه العداوةُ الحاقدة الآثمة مَرجِعُها إلى أنَّ الشّيطانَ يَؤُزُّ أولياءَه أزًّا، ويَدفعُهم لمحاربةِ الحقِّ دفعًا، فالباطلُ يَكرهُ الحقَّ ويترصّدُ له، حتّى وإنْ غَفلَ أهلُ الحقِّ أو تَعامَوْا عنْ عداوةِ الباطل، والشّيطانُ وأعوانُه يوحِي بعضُهم إلى بعضٍ زُخرُفَ القولِ غرورًا، ولا يَكفُّون لحظةً واحدةً عن الكيدِ لهذا الدّينِ وأهلِه، بكلِّ ما يستطيعون مِنَ الوسائل"[4]. اهـ.


الوقفةُ الثّانية: جِنايةُ صَحافيِّي "شارلي إيبدو" على أنفسِهم:

حَدثَ أنْ أُلجِأَتْ هذه الصّحيفة إلى المحاكم مِنْ طرف بعض المسلمين إثْر رسومٍ كاريكاتوريّة سابقةٍ تستهزأُ بالإسلام ونبيِّ الله محمّد -صلى الله عليه وسلّم-، ممّا يَكشفُ تَعنّتَها وعنادَها وإصرارَها على أَذيَّةِ الإسلامِ والمسلمين، قبل أنْ ينتهي بها المطاف إلى الهلاكِ يوم الأربعاء الموافق 07 / 01 / 2015م [5].


وقد أفادَ الأمينُ العام السّابق للمجلس الإسلامي في فرنسا "حيدر دمير يوريك"، أنّه في فترةِ تَولّيه مَنصب الأمانة العامّة للمجلس، سبقَ أنْ تقدَّمت الهيئة عدّة مرّات بدعاوى قضائيّة ضدّ الصّحيفة بسبب إساءتِها للرّموز والشّخصيات الدّينية؛ وأَوْضَح أنّهم لم يحصلوا على شيءٍ كنتيجةٍ لهذه الدّعاوى، بسبب فراغٍ في القوانين الفرنسية؛ وبَيَّنَ أنَّ المجلس رَفع دعوتَيْن قضائيَّتَين عامَي 2006 و2007م، بسبب نَشرِ الصّحيفة لرسومٍ كاريكاتوريّة تُجسّدُ شخصيّةَ الرّسولِ محمّد -صلّى الله عليه وسلّم-، بَيْدَ أنّها انتهت بتبرئةِ الصّحيفة ورفضِ الدّعوى بذريعةِ حريّة التّعبير[6].

 

وهكذا حَمَتْ علمانيةُ فرنسا أصحابَ الرُّسوماتِ مِنْ رَدْعٍ قضائيٍّ على فعلتِهم، وغَرَّت هؤلاء لتَماديهم الّذي أَرْداهُم صَرْعَى.


يقول "هنري روسل (Henri Roussel)" أحد مُؤسِّسي صحيفة "شارلي إيبدو" الفرنسية في العام الموافق 1970م، والبالغ من العمر 80 سنة، مُلقيًا باللّومِ على مديرِ تحريرِها الّذي كان أحد القَتْلى وواصفًا إيّاه بالغباء وعدم الوعي: أنّه هو المسؤول عن مقتلِ زملائِه بجرِّهِم إلى القتل، لعدم اتّعاظِه مِن مضايقتِه عبر المحاكم منذ سنواتٍ بسبب بثِّ صحيفة "شارلي إيبدو" رسوماتٍ كاريكاتوريّة استِفزازيّة لـ"محمّد"، ثمّ إصرارِه وإفراطِهِ في اسْتخدامِها بتهوّرٍ واسْتصغارٍ لعواقبِها على زملائِه في الصّحيفة [7].

 

وشهِد شاهدٌ مِن أهلِها...

 

الوقفةُ الثّالثة: عُقوبةُ شاتِمِ خَيْرِ الأنامِ-عليه الصّلاة والسّلام-:

يقول شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- مبيّنًا وُجوبَ قتلِ مَن سبَّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- مِن مسلمٍ أو كافر: "هذا مذهب عامّة أهل العلم، قال ابن المنذر: ((أجمع عوامّ أهل العلم على أنَّ حدَّ مَن سبّ النَّبي صلّى الله عليه وسلم القتل، وممّن قاله مالك واللّيث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي))، قال: ((وحُكي عن النّعمان لا يُقتل -يعني الذّمي- ما هم عليه من الشّرك أعظم)).


وقد حَكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشّافعي إجماع المسلمين على أنَّ حدَّ من يسب النَّبي صلى الله عليه وسلّم القتل كما أنَّ حدَّ مَن سبّ غيره الجلد. وهذا الإجماع الذي حكاه هذا محمول على إجماع الصّدر الأوّل مِن الصّحابة والتّابعين، أو أنّه أراد به إجماعهم على أنّ سابّ النَّبي صلى الله عليه وسلم يجب قتله إذا كان مسلمًا، وكذلك قيّده القاضي عياض، فقال: ((أجمعت الأمّة على قتل متنقّصه مِن المسلمين وسابّه))، وكذلك حَكَى عن غير واحدٍ الإجماع على قتله وتكفيره. وقال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمّة الأعلام: ((أجمع المسلمون على أنّ مَنْ سبّ الله، أو سبّ رسولَه صلى الله عليه وسلّم، أو دفعَ شيئًا ممّا أنزل اللهُ عزّ وجلّ، أو قتلَ نبيًّا مِنْ أنبياء الله عزّ وجلّ، أنّه كافرٌ بذلك وإنْ كان مقرًّا بكلّ ما أنزل الله)).


وقال الخطّابي: ((لا أعلم أحدًا مِن المسلمين اختلف في وجوب قتله)). وقال محمّد بن سحنون: ((أجمع العلماء على أنّ شاتم النَّبي صلى الله عليه وسلّم المتنقّص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمّة القتل، ومن شكّ في كفره وعذابه كفر)).


وتحرير القول فيها: أنّ السابَّ إنْ كان مسلمًا فإنّه يكفر ويُقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمّة الأربعة وغيرهم، وقد تقدّم مِمّن حكى الإجماع على ذلك مِن الأئمّة مثل إسحاق بن راهويه وغيره، وإنْ كان ذميًّا فإنّه يُقتل أيضا في مذهب مالك وأهل المدينة، وسيأتي حكاية ألفاظهم، وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث وقد نصّ أحمد على ذلك في مواضع متعدّدة. قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: ((كلّ من شتم النَّبي صلى الله عليه وسلم أو تنقّصه -مسلمًا كان أو كافرًا- فعليه القتل، وأرى أنْ يُقتل ولا يُستتاب)). قال:وسمعتُ أبا عبد الله يقول: ((كلّ من نقض العهد وأحدث في الإسلام حدثًا مثل هذا رأيتُ عليه القتل، ليس على هذا أُعْطُوا العهد والذِمّة))، وكذلك قال أبو الصّقر: سألت أبا عبد الله عنْ رجلٍ مِنْ أهل الذمّة شتم النَّبي صلى الله عليه وسلم، ماذا عليه؟ قال: إذا قامت عليه البيّنة يُقتل من شتم النَّبي صلى الله عليه وسلم، مسلمًا كان أو كافرًا))، رواهما الخلال...


وقد نصّ على هذا في غير هذه الجوابات.


فأقواله كلّها نصٌّ في وجوب قتله، وفي أنّه قد نقض العهد، وليس عنه في هذا اختلاف.


وكذلك ذكر عامّة أصحابه متقدّمهم ومتأخّرهم، لم يختلفوا في ذلك.


... والّذي عليه عامّة المتقدّمين مِن أصحابنا ومن تبعهم من المتأخّرين: إقرار نصوص أحمد على حالها، وهو قد نصَّ في مسائل سبِّ الله ورسوله على انتقاض العهد في غير مَوْضع، وعلى أنّه يُقتل، وكذلك فيمن جسّس على المسلمين أو زنى بمسلمة على انتقاضِ عهده وقتْلِه في غير مَوْضع. وكذلك نقله الخرقي فيمن قتل مسلمًا، وقَطْعُ الطّريق أولى...


وأمّا الشّافعي فالمنصوص عنه نفسه أنّ عهده ينتقض بسبِّ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأنّه يُقتل...


وأمّا اصحابه فذكروا -فيما إذا ذَكَر الله أو كتابه أو رسوله بسوء- وجهين:

أحدهما: يُنتقض عهدُه بذلك، سواءٌ شُرط عليه تركُه أو لم يُشرط، بمنزلة ما لو قاتلوا المسلمين وامتنعوا مِنْ التزام الحكمِ كطريقة أبي الحسين مِن أصحابنا، وهذه طريقة أبي إسحاق المرْوِزِيّ، ومنهم من خَصَّ سبَّ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم وحده بأنّه يوجِبُ القتل.


والثّاني: أنَّ السبَّ كالأفعال الّتي على المسلمين فيها ضررٌ من قتلِ المسلمِ والزّنى بالمسلمة والجسِّ وما ذُكر معه...


وأمّا أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: لا يُنتقض العهد بالسبّ، ولا يُقتل الذّمي بذلك، لكن يُعزَّرُ على إظهار ذلك كما يعزّر على إظهار المنكرات التي ليس لهم فعلها مِنْ إظهارِ أصواتهم بكتابهم ونحو ذلك، وحكاه الطحاويّ عن الثوريّ، ومن أصولهم أن ما لا قتل فيه عندهم مثل القتل بالمُثَقَّل والجماع في غير القُبُل إذا تكرر فللإمام أنْ يقتل فاعله، وكذلك له أنْ يزيد على الحدِّ المقدَّر إذا رأى المصلحة في ذلك، ويحملون ما جاء عن الرّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مِنَ القتل في مثلِ هذه الجرائم على أنّه رأي المصلحة في ذلك، ويسمّونه القتل سياسةً، وكان حاصله أنَّ له أنْ يُعزِّرَ بالقتل في الجرائم التي تَغَلَّظَت بالتّكرار، وشرع القتلُ في جنسِها، ولهذا أفتى أكثرهم بقتل مَنْ أكثر مِنْ سبِّ النّبي صلى الله عليه وسلم مِنْ أهل الذمّة وإنْ أسلم بعد أخذِه، وقالوا: يُقتل سياسةً، وهذا متوجهٌ على أصولهم"[8]. اهـ.


ثمّ ساق -رحمه الله- الأدلّة من الكتاب والسنّة والإجماع والقياس، على انتقاض عهد الذميّ بسبّ الله أو كتابه أو دينه أو رسوله، ووجوبِ قتلِه وقتلِ المسلم إذا أتى ذلك.


الوقفةُ الرّابعة: ضرورةُ تقديرِ المصالحِ والمفاسدِ في إنزالِ العقوبةِ على مُستحقّيها:

لا ينبغي أنْ يُكتفى في أمر اسْتِحقاق العقوبة بالتّركيز على إنزالِها فقط، ثمّ يُهمَل النّظر إلى مآلاتِها ضمن ميزانِ المصالح والمفاسد؛ لا سيما إذا كانت العقوبةُ عظيمةً في سببِها شديدةً في نوعِها، وكان المستحقُّ لها ذا شوكةٍ وقوّةٍ عسكريّة، تُوجَّه مِن أجلِه أفواهُ عتادِها ضدّ آلافِ المسلمين انتقامًا، أو كان مِنْ بلدٍ يُقيم فيه المسلمون كأقليّةٍ ربّما يحمِل بعضُ نُخبِها مشروعًا دعويًّا ورسالةً خيريّة فيها نصرةٌ للإسلام ورِفعةٌ للتّوحيد، ثمّ يتمُّ التّضييقُ على الجالية المسلمة في حياتِها اليوميّة، ووَضعُ العَقبات أمام رجالِ الدّعوةِ وأئمّةِ الدّين بعدما أصبح الإسلامُ -نفسُه- مُتّهَمًا إثْر عمليّةٍ لم تُدرس عواقبُها.


يقول الأستاذ إبراهيم الأزرق بعد تبيينِه أنّ العقوبة الشّرعية التي ينبغي أن يسعى لإنزالها بمنتقِّص النّبي -صلّى الله عليه وسلم- هي القتل، سواء كان السابُّ مسلمًا أو كافرًا أصليًّا: "لكنْ إنْ تحقَّقَ حُصول مفسدةٍ تتعدّى تلفَ نفسِ المُنتصِرِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، إلى عمومِ المسلمين والإسلام، كالتّضييق عليهم مع التّمادي في السبّ، فعندها يُمنعُ مِنْ قتلِ السابِّ في تلك الحال"[9]. اهـ.


ومَن ألقى نظرةً –على الأقلّ- في علمِ المقاصد وفقهِ المآلات فهِم ما قدّمتُه واطمئنَّ إلى ما أسْبقتُه؛ وما أكثر ما ورد في كتابِ الله-سبحانه- وسنّةِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم -وأثرِ الصّحابة -رضي الله عنهم- مثل هذا.


قال الإمام أبو إسحاق الشّاطبي المُلقَّب بأبي المقاصد –رحمه الله-: "النّظرُ في مآلات الأفعال مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا، كانت الأفعال موافِقَةً أو مخالِفَةً، وذلك أنَّ المجتهدَ لا يحكم على فعلٍ من الأفعال الصّادرةِ عن المكلَّفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نَظَرِهِ إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعًا لمصلحةٍ فيه تُسْتَجْلَبُ، أو لمفسدةٍ تُدْرَأ، ولكن له مآل على خلافِ ما قُصِدَ فيه، وقد يكون غيرَ مشروعٍ لمفسدةٍ تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أُطْلِقَ القول في الأوّل بالمشروعية؛ فربّما أدّى اسْتجلابُ المصلحةِ فيه إلى مفسدةٍ تُساوي المصلحةَ أو تزيد عليها؛ فيكون هذا مانعًا مِن إطلاق القولِ بالمشروعيّة، وكذلك إذا أُطْلِق القولُ في الثّاني بعدم المشروعيّة، ربما أدّى استدفاعُ المفسدةِ إلى مفسدةٍ تُساوي أو تزيد؛ فلا يصحُّ إطلاق القولِ بعدم المشروعيّة، وهو مجالٌ للمجتهد صَعْبُ الْمَوْرِد؛ إلا أنّه عَذْبُ المَذاقِ، مَحْمُودُ الغبِّ، جارٍ على مقاصدِ الشّريعة"[10]. اهـ.


الوقفةُ الخامسة: خروجُ المنافقين مِن جحورِهِم كعادةِ أسلافِهم:

"أنا شارلي (Je suis Charlie)": العبارةُ الشّهيرة التي انْتشرت انتشارًا واسعًا في الكثير من البلدان الغربيّة إثْر حادثة صحيفة "شارلي إيبدو"، حيث كُتبت على أغلب اللاّفتات في المظاهرات التي أعقبت الحادثة، وكذلك اتّخذتها مختلف وسائل الإعلام شعارًا بارزًا على الشّاشات والصّفحات؛ بل أُلصقت بالأوراق وأُسقطت عبر الأضواء على أبرز الأحياء والمعالم الغربية...؛ كلّ هذا للتّعبيرِ عن التّضامنِ مع الصّحيفة وقتلاها، والإعلانِ عن الوقوفِ بشدّةٍ ضدّ كلِّ مَن يَتعرّض إلى حرّيةِ التّعبير ويُهدِّدُها.


في الحقيقة لم أستغربْ اجتماعَ القوم على تلك العبارة بشتّى الوسائل ومختلف التّبريرات، فبعضهم أولياء بعض، وإنّما المُستغرَب أنْ يتفوّه مُسلمٌ بجملةِ "أنا شارلي" أو يُشارك في مظاهرةٍ رُفع فيها شعار "أنا شارلي"!


فبالنّظرِ إلى معنى الجملةِ ومفهومِ العبارة على ضوءِ واقعِ الحادثة وظرفِها، يكون الموقفُ موالاةً لكفّارٍ قد أَجرَموا في حقّ الله ورسولِه والمؤمنين، وهذا مِن نواقض الإسلام لقول الله -عزّ وجلّ-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾[11].


أمّا المسلمُ الّذي برَّرَ موقفَه بالخوفِ مِن أَذيّةِ القومِ، وأنّه ما خَرجَ معهم إلاّ بمظهرٍ قد خالفه المخبرُ الثّابتُ على الإيمانِ والولاءِ للإسلام؛ فلا حجّة له في ما أقدمَ عليه وقد وسِعَه بيتُه عنْ مشاركةٍ لم يَضطرّه إليها أحد، والتّوبةُ بعد المراجعةِ خيرُ سبيلٍ لمثل هذا الأخ؛ والتّائبُ مِن الذّنبِ كمَن لا ذنب له وخيرُ الخطّائين التَوّابون[12].


أمّا المنافقون الّذين تفوّهوا بالعبارةِ أو اتّخذوها شعارًا، فهم مِن أهلِها دون اسْتغراب، قد أظهروا مِن خلالِها كفرًا دفينًا وشرًّا أعياهُم كِتمانه، فتأتيهم المناسبةُ بين الفَيْنَةِ والأخرى -كهذه- ليُنفِّسوا عمّا في قلوبِهم تَنْفيسَ الأرضِ عن بركانِها؛ ولا أَصْدقَ مِن القرآن في فضحِهِم وتعريّتِهِم وبيانِ خُذلانِهم لأهل الإيمان، لمّا قَصَّ علينا حالَهم الدّنيء وكَشفَ لنا موقفَهم الخَسيس، عند اشْتدادِ الأمورِ على المؤمنين في عزِّ المعارِك بين حِزب الله وأحزابِ الشّيطانِ؛ مِن ذلك قولُه -تعالى- فيهم: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُون ﴾ [13]، وقولُه -عزّ وجلّ-: ﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ [14]، وقولُه -سبحانه-: ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِين﴾ [15].


وهكذا كان المُنافقون الأوائل؛ "فلم يكنْ يسع الّذين ظلّت تغلبُهم نَزعةُ الشّرك، ويَتحكَّمُ فيهم مرض القلب والمكابرة والحِقد ويحملُهم ذلك على مُناوأةِ النّبيِ صلّى الله عليه وسلّم ودعوتِه ونفوذِه - أنْ يَظهروا علنًا في نَزعتِهم وعدائهم، ولم يكن أمامهم إلاّ التَّظاهر بالإسلام والقيام بأركانه، والتّضامن مع قبائلهم، وجعْل مكرِهم وكيدِهم ودسّهم ومؤامراتهم بأسلوب المُراوغةِ والمواربة والخِداع والتّمويه؛ وإذا كانوا وَقفوا أحيانًا مواقف علنية فيها كَيْدٌ ودسٌّ وعليها طابعٌ مِن النّفاق بارز؛ فإنّما هذا منهم في بعض الظّروف والأزمات الحادّة الّتي كانت تحدِقُ بالنّبي والمسلمين، والّتي كانوا يتّخذونها حجّةً لتلك المواقف بداعي المصلحةِ والمنطق والاحتياط، ولم يكونوا على كلّ حالٍ يعترفون بالكفرِ أو بالنّفاق، غير أنّ نفاقَهم وكفرَهم ومواقفهم في الكيدِ والدَسِّ والتّآمرِ لم تكن لتَخفَى على النّبي صلّى الله عليه وسلّم والمخلصين مِنْ أصحابِه مِن المهاجرين والأنصار، كما أنّ تلك المواقف العلنية الّتي كانوا يَقِفونَها في فُرصِ الأزمات كانت ممّا تَزيد كفرهم ونفاقهم فضيحةً ومقتًا؛ وقد كانت الآيات القرآنية توجّه إليهم كذلك الفضائح المرّة بعد المرّة، وتدلّ عليهم بما يفعلون أو يَمكرون، وتدمغهم بِشُرورهم وخبثِهم ومكايدهم، وتحذّر النّبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين منهم في كلّ ظَرفٍ ومناسبة"[16].


فلا ينبغي لمؤمنٍ بالله واليوم الآخرِ مُصدّقٍ بموعودِ ربِّه بنَصرِ عبادِه المُوحِّدين، أنْ ييأسَ أو يجْزَع لما قد يراهُ مِن اجتماعٍ لأعداء المِلّة على المسلمين، يُظهرُ الكفّارُ فيه عَديدَه ويُكثِّرُ المُنافقون له سوادَه، فإنّما هو اجتماعٌ واهِنٌ قد تشتّت قلوبُ أصحابِه، وإنّ نصرَ الله لواقِعٌ وسيفرحُ به المؤمنون المُتّخِذون لأسبابِه.


يقول سيد قطب -رحمه الله-: "والمَظاهرُ قد تَخدَع فنَرى تضامنَ الّذين كفروا مِن أهلِ الكتاب فيما بينهم، ونرى عصبيَّتَهم بعضهم لبعض، كما نرى تجمُّعَ المنافقين أحيانًا في مُعَسْكرٍ واحد. ولكن الخبرَ الصّادق مِن السّماءِ يأتينا بأنَّهم ليسُوا كذلك في حقيقتِهم؛ إنّما هو مظهرٌ خارجيٌّ خادع. وبين الحينِ والحين ينكشفُ هذا السّتارُ الخدّاع. فيبدو مِن ورائِه صدقُ الخبرِ في دنيا الواقعِ المنظور، وينكشف الحال عنْ نِزاعٍ في داخل المعسكر الواحد، قائمٌ على اختلافِ المصالح وتَفرُّقِ الأهواءِ، وتَصادمِ الاتّجاهات. وما صَدَقَ المؤمنون مَرَّة، وتَجمَّعت قلوبُهم على الله حقًّا إلاّ وانْكشف المعسكرُ الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات وهذا التّضارب وهذا الرِيّاء الّذي لا يُمثِّلُ حقيقة الحال. وما صَبَرَ المؤمنون وثَبتُوا إلا وشَهدوا مَظهرَ التَّماسكِ بين أهلِ الباطلِ يَتفسَّخُ وينْهار، وينْكشف عن الخلاف الحادِّ والشِّقاقِ والكيْدِ والدَسِّ في القلوب الشَّتيتةِ المتفرقة!


إنّما يَنال المنافقون والّذين كَفروا مِن أهلِ الكتاب.. مِن المسلمين.. عندما تتفرَّق قلوبُ المسلمين، فلا يعودون يُمثّلون حقيقةَ المؤمنين الّتي عرضتها الآية في المقطع السّابق في هذه السّورة[17]. فأمّا في غيرِ هذه الحالة فالمنافقون أَضعَف وأَعجز، وهم والّذين كفروا مِن أهل الكتاب متفرّقو الأهواء والمصالح والقلوب ((بأسُهم بينهم شديد)).. ((تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتّى))"[18].


الوقفةُ السّادسة: مسيرةُ باريس التّضامنية ومشاركةُ بعض حكّام المسلمين فيها:

ما كان لبعضِ حُكّامِ المسلمين أن يُشاركوا في تلك المسيرة مِن أجل التّضامن المزعوم مع صحيفة "شارلي إيبدو"، فضلاً عن تقديمِ التّعازي الرّسمية لفرنسا، إذْ كيف يُتضامن على فقدِ قتيلٍ وتُقدَّمُ التّعزيةُ فيه، وهو في التعدّي الفَظيعِ قد بادرَ وقرّر، وعلى الجُرْمِ الشَّنيعِ قد أَصرَّ وكَرّر، فلم تَتَضامنْ معنا دولةٌ مِن الدّول الّتي مثّلها المشاركون في المسيرة على شَيءٍ، ولم يُعزّونا في شيء!

 

إنّه لإِقدامٌ مَخزِيٌّ تأباه عِزّةُ الأشْراف، وإنّه لَموقفٌ مَهينٌ ترفضه سياسةُ الأسْياد؛ كيف ولم يُعلَمْ مِن أصحابِ الإقدامِ والموقفِ صُدورُ إدانةٍ رسميّةٍ -ولو بصوتٍ خافت- لتلك الرّسوم الكاريكاتوريّة، تَحفظُ شيئًا مِن كرامةِ المسلمين؟!

 

ولم يَكتف بعض هؤلاء بالتِزام الصّمتِ عنْ اسْتِنكار الرّسوم؛ بل وقع مِنهم ما زاد الطّينَ بلّة، فراحوا يضعون الحواجز الأمنية أمام شعوبهم الّتي خرجت تَجوب الشّوارِع بمظاهراتٍ سلميّةٍ حاشدة، رافعةً شعاراتِ الانتصار للرّسول محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- ضدّ صنيعِ المجرمين، فعلى أيِّ اعتِبارٍ يُدبّر هؤلاء وبأيّ مِعيارٍ يُفكّرون؟ أم أنّ مسيرات المعتدين في باريس وأخواتِها، أولى بالتّسهيل والتنظيم والتّضامُن مِنْ مسيرات المنتصرين في عواصم الإسلام؟!


إضافةٌ إلى ما تضمّنتهُ تلك المُشاركة مِنْ قدحٍ صريحٍ في الإيمان، ومُخالفةٍ واضحةٍ لما تَسْتلزمُه عقيدةُ الولاء والبراء؛ فقد وَقَعت مِن خلالها المُداهنةُ والمجاملةُ على حِساب الدّين، قال الله -تعالى-: ﴿ فَلاَ تُطِعِ المُكَذِّبِينَ *وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾ [19]، وقال -سبحانه-: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا ويُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ [20].


الوقفةُ السّابعة: الأُنموذَج الفرنسي لزَيْفِ الدّيمقراطيّةِ الغَربِيّة:

قد أشرتُ إلى احْتِماءِ صحفيّي "شارلي إيبدو" بشِعارِ حُريّة التّعبيرِ واحترامِ مبادئِ العلمانيّةِ مِنْ رَدْعٍ قَضائيٍّ بعد محاكماتٍ أَلجأهُم إليها بعض المسلمين؛ وهو الشّعارُ ذاته الذي تمَّ التضييقُ مِن خلاله على الجاليّةِ الإسلامّية في شعائرِها وعباداتِها! والجميع يتذكّرُ -مثلاً- مَسارات منْعِ النّقاب في فرنسا وكذلك رفع المآذن في سويسرا، وكيف انتهت بقَراراتٍ ظالمةٍ في حقّ المسلمين؛ بل وبتَقنيناتٍ تَهدمُ العلمانيّةَ نفسها! على اعتِبارِ قيامِ هذه الأخيرة على مبدأ الدّيمقراطيّةِ والمُساواةِ بين جميع المواطنين وكفالةِ الحريّات العامّة -ومنها حريّة المعتقد-.

 

ومِن المفارقات أنْ تَبرزَ خرجةُ الفكاهي الفرنسي "ديودوني (Dieudonné)" في عَرضِه الشّهير "الجدار (Le mur)" الّذي استخدم خلاله ألفاظًا وعباراتٍ تَسْخر مِن اليهود، متزامنةً مع تجرّأ الصّحيفة الشّنيع في حقِّ الإسلامِ والمسلمين، لتَكشف الزّيْفَ كَشْفًا واضحًا، وتَفضَح الظّلمَ فَضحًا مُعلَنًا؛ بعد أنْ جعلها كبارُ السّاسةِ ورجالُ الإعلامِ الفرنسيِّين قضيةً كبرى لا يجوزُ السّكوت عنها، وهي نفس الأصوات التي دافعت عن الرّسومات المسيئة بحجّة دخولِها في مجال حرّية التّعبير!

 

فقد اصطفّ هؤلاء المتغنّون بالحرّيةِ المزعومة للسّعي في منعِ العرض الفكاهي؛ بل قد سُخِّرت في سبيل منعِه كلّ إمكانيّات الدّولة وتحت إشرافِ وزير الدّاخلية نفسه! ثمّ جاء حكمُ العدالةِ مُدينًا "ديودوني" بمنعه مِن تقديم عرضِه في كامل التّراب الفرنسي، قبل أن يَعقبه قرارُ مجلسِ الدّولة الفرنسي بالتّأييد؛ جَرَى كلُّ هذا بِاسمِ الحِفاظ على الأمنِ العام، وتحت حجّةِ معاداةِ الرّجلِ للسّامية في عَرضِه!


ليَنْكشف بهذا -ومثله كثير- زيفُ ديمقراطيّةِ الغَرْبِ وكذِبُ المُتغنّين بها ونفاقُهم؛ فهي ديمقراطيّةٌ على المقاسِ يُخالفُ باطنُها ظاهرَها، فواقعُها هو الإفسادُ بحجّةِ الإصلاح والاسْتعبادُ باسمِ الحريّـة؛ وإلاّ فكيـف يُدينُ القومُ -بساستِهم وقُضاتِهم- عرضًا فكاهيًا بسيطًا لمجرّدِ تعرّضِه لليهودِ سياسيًّا لا دينيًّا، ثمّ يستمرؤون -في الوقت نفسِه- تَعدّيًا صارخًا على المقدَّساتِ الإسلامية؟!

 

إنّها ديمقراطيةٌ تُمجِّدُ الرّذيلةَ وتُحاربُ الفَضيلة، تُكرِمُ الوضيعَ وتُهينُ الرَّفيع، تَحمي الرّأيَ المَردودَ وتَرفضُ القولَ المحمود؛ فكم مِنْ مُنْكَرٍ تحت مُمارساتِها أصبح معروفًا، وكم مِن مَعْروفٍ بسياساتِها صار مُنكَرًا!

 

ديمقراطيّةٌ تُبيحُ الكُفرَ والإلحادَ و عبادةَ الشّيطان، ثمّ تضعُ خطوطًا حمراء أمامَ شعائر توحيدِ ربِّ العالمين؛ بِاسْمِ حرّيةِ المُعتقد!

 

ديمقراطيّةٌ تَنشرُ حرّيتَها على ظَهْرِ الدَبّاباتِ وتُسمعُ بشائرَها بهديرِ الطّائرات، ثمّ تَرمي كلَّ حُرٍّ مجاهدٍ مُقاومٍ لها بالإرهاب؛ باسم الحضارة!

 

ديمقراطيّةٌ تَسْتضعفُ العبادَ وتَسْدْمرُ البلاد، ثمّ تُسفّهُ المطالبين بالاعتذار عنْ الجرائِم؛ باسم الكرامة!

 

ديمقراطيّةٌ تُقرُّ حكمَ الطّغاة العُملاء لها في بلادِ أهل الإسلام وتُوفّر لهم الرّعاية والحماية، ثمّ تتورّط في كلِّ قطعٍ للطّريق أو انْقِلابٍ على حُكمِ جماعةٍ لا تُعلن لها بالخُضوعِ والولاء؛ باسم حماية الدّيمقراطية!

 

ديمقراطيّةٌ تُقَنِّنُ للانْحلالِ والشّذوذِ بكلِّ أنواعه، ثمّ تُجرِّمُ تعدّدَ الزّوجات وتَعدُّه تخلّفًا؛ باسم الحرّيةِ الجنسيّة!

ديمقراطيّةٌ تُشجّعُ على العُريِ، وتخُصّصُ شواطئَ يُشترط على مُرتاديها إبداء السّوءات، وتُقرُّ هؤلاء على اتّخاذِ مناسبةٍ سنويّةٍ يحتفلون فيها بالتَعرّي، ثمّ تَمنعُ النِّقاب وتُضيّقُ على الحجاب؛ باسم احترام العلمانيّة!

 

ديمقراطيّةٌ تتعامَل مع المرأةِ كمادّةٍ للتّرويجِ أو الاسْتهلاك في عالمِ الإعلامِ والتّجارَةِ والجِنس، ثمّ تُصوِّرُها تحت ظلِّ الإسلام والفضيلةِ ككائنٍ مُتخَلِّفٍ ونِصفٍ للمجتمَعِ قد عُطّل؛ باسم الدّفاع عن حقوقِ المرأة!

 

إنّها ديمقراطيّةٌ تتّخذُ دينَ إبليس شِرْعةً ومنهاجًا، تَمكرُ كَمَكرِه وتُخادعُ كخِداعه حين قال: ﴿ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى ﴾ [21].

 

فلا نطمعُ بعد ذلك في اعتذارِ أهلِ الزَّيْفِ على إساءةٍ قد رُسمت على وَرَق، وإنّما نرجو يقظةَ أمّة الإسلامِ بانْتهاجِها صراط الله المستقيم، واستبانتِها لسبيلِ المغضوب عليهم والضّالّين.

 

الوقفةُ الثّامنة: الازْدواجيّة الفرنسية في التّعامل مع عبارة: "لستُ شارلي":

في الوقتِ الّذي اشْتهرَت فيه عبارة "أنا شارلي (Je suis Charlie)" وانْتشرَت ذلك الانتشار الواسِع للأسباب الّتي ذكرتُها قبل هذه الوقفة، اشْتهَرَت في مُقابلِها عبارة "لستُ شارلي (Je ne suis pas Charlie)"، لم تَشْتهِرْ العبارةُ بانْتِشارِها وإنّما بشُذوذِها على قاعِدةِ: "خالِف تُعرَف"!


فلم تَكُنْ النّفسيات الّتي شحنها الإعلام الغربي عمومًا والفرنسي خُصوصًا بالعواطِف المَكذوبة والأحقاد المَعمِيّة في أعقابِ الحادثة[22]، مُسْتَعِدّةً لتَوَقُّعِ سِباحةٍ ضدّ التيّار في أوساطِها، مع ذلك سارَ البعض على خِلافِ الظّنون مُعلنين: "لستُ شارلي"؛ منهم شخصيّات فرنسية مَرموقة، عبارةٌ قالها -مثلاً- أمير أورليان "شارل فيليب (Charles-Philippe)" عبر مقال له نشره على صفحته الخاصّة في الفيسبوك، وكذلك فعل "جون ماري لو بان (Jean-Marie Le Pen)" عبر مادّة مرئية بُثّت عبر موقعه، وقد برّرت كِلتا الشّخصيتيْن موقفَيهما بعدم استحقاق صحيفةٍ تَمْتهنُ الشّتيمةَ في مادّتِها والفُحشَ في أسلوبِها للاحترامِ والتَّأييد، وإنْ اتَّفقَتا على اسْتهجانِ عمليّة الهجومِ على مقرّ الصّحيفة والتّعزيةِ في قتلاها.


موقفٌ حاولَت تلك الأوساط استغلاله بتصديرِ صورةٍ إيجابيةٍ عن واقع الدّيمقراطية في فرنسا؛ فزَعمَ الزّاعمون أنَّ حريّةَ التّعبيرِ وإبداءِ الرّأي عندهم بلغ مبلغًا مِنَ المثاليّةِ لا يُضاهى، مهما اشْتَدَّتْ مُخرجاتُها أو شَذَّت.


والحَقيقةُ أنَّ هذه المَزاعِم كاذبةٌ، ليس لصورتِها وجودٌ بذلك البَريق الّذي أرادوه لها أصحابُها وَصفًا؛ بل هي فرعٌ لزَيْفِ ديمقراطيّةٍ مَفضوحَةٍ -سَبق الحديث عنها-؛ فعندما تُعاقبُ العنصريّةُ صغارَ المُسلمين ويُهدَّدُون في حياتِهم على قولِ أشياءٍ يُمتحنون فيها امتحانًا، قد وسِع كُبراء القومِ أخذها وردّها على مَشيئتِهِم، هُنا ينْقشع الضّباب عن الازْدواجيّة المَقيتةِ والكذب المُبَرَّق!


حيث كَشَفَ مَرْصَد مُناهضةِ الإسلاموفوبيا في فرنسا (CCIF) في شريطِ فيديو بثَّه عبر موقعِه، وقائع قضيةِ الطّفل "أحمد" صاحب الثّماني سنوات؛ الطّفلُ الّذي اتّهمه مديرُ المدرسة بمدينة نِيس الفرنسيّة نهاية شهر جانفي ضمن شكوى تَقدّمَ بها إلى الشّرطة، بتَمجيدِ الأعمالِ الإرهابيّةِ ومُساندتِه للإخوةِ "كواشي" لقَتلهِما الصّحفيّين، ورفضِه الوقوف دقيقة صمتٍ على ضحايا "شارلي إيبدو"؛ وقد دَحضَ الطّفل بعفويّتِه ادّعاءاتِ مديرِ المدرسة بعد تَبيينِه ما حَصَل له بالضّبط؛ فقد تعرّضَ للضّربِ والمنعِ مِنْ كَشفِ نِسبةِ السّكرِ في دمه رغم معاناتِه مِنْ مرض السّكري، وهو أمرٌ كان بإمكانه أن يودي بحياته.

 

قال "أحمد" كما في المادّةِ المرئيّة المنشورة له وهو يتكلّمُ ببراءتِه وألعابُه بين يديه: "في يومِ الواقعة سَألَنا المعلّمُ عن رأيِنا في وفاةِ الصّحفيين وإن كُنّا مع شارلي؟ فقلتُ له: لستُ مع شارلي.. ليقوم الأستاذ بإرسالي إلى مكتبِ المدير". والأدهى في القضيّةِ أنّه لم يتمّ الإعلان في الشّكوى عمّا قام به المدير مِنْ عنفٍ ضدّ الطّفل، حيث تمّ إخفاء الحقيقةِ المتعلّقةِ بتعنيفِ التّلميذ وكلّ ما يُدين المدير، إلاّ أنّ الطّفل في شهادته أكّد أنّ المديرَ عنّفه؛ قال "أحمد": "لقد عنّفَني المدير بشدّةٍ وأَخذَ رأسي وضربَه ثلاثَ مرّاتٍ على السبّورة..."، وتابع الطّفل: "في الاسْتراحةِ التي تمّ تخصيصها لدقيقة الصّمت، ترَكني المديرُ بعيدًا ومَنَعني مِنَ المُشاركةِ عن قَصْد".

 

وقد مُنعَ الطّفلُ مِن استعمالِ الكاشف عن نسبةِ السّكرِ في الدّم -باعتباره مريضًا بالسّكري-، حيث أرسلَه الأستاذُ إلى المطعم ومَنعَه مِن استعمالِه؛ بل واسْتفزَّه بالقول: "إذا مَنعناك من الأنسولين ستموت!"، ليسأله الطّفل: "لماذا؟" فردّ عليه الأستاذ: "أنت تَمنّيتَ الموتَ للصحفيّين فلا تَسْتحِقّ العيش!" غير أنّ الطّفل قال بكلّ عفويّة: "أنا لم أتمنّ الموت للآخرين".

 

ثمّ يأتي التّلفيقُ الرّسمي للأكاذيب على لسانِ وزيرة التّربية الفرنسية الّتي زعمت أنّ المُتَّهَمَ هو والد الطّفل وليس هذا الأخير! بحُجّةِ أنّه اسْتَعمل العنفَ داخل مؤسّسةٍ تربويّةٍ ضدّ المعلّم والمدير؛ لكنْ جاءت الفضيحةُ وتأكّدت الحقيقةُ بعد شهادة محامي الطّفل "سيفن غياز غياز (GuezSefen Guez)" على تناقضِ تصريحات الوزيرة بخصوصِ القضيّة، مُؤكِّدًا أنّ الطفلَ "أحمد" هو المُتابَع قضائيًا بتُهمةِ تمجيدِ الأعمالِ الإرهابيّة، وأنّه كان حاضرًا معه عندما استمعت إليه الشّرطةُ على محضرٍ رسميّ، مُشيرًا إلى أنّ المدير قدّمَ شكوى ضدّ الطّفل لا ضدّ والدِه، وهو عكس ما ادّعته وزيرة التّربية للتستّر على الفضيحة [23].

 

أَحَرَامٌ عَلَى بَلاَبِلِهِ الدَّوْحُ حَلاَلٌ لِلطَّيْرِ مِنْ كُلِّ جِنْسِ؟![24].

 

لم تكنْ هذه القصّة إلا حلقةً من حلقاتِ مسلسلٍ أسودٍ طالَ المسلمين منذ مدّة، لتزيد وتيرتَها حادثة "شارلي إيبدو" لا سيّما في فرنسا؛ التعدّي الجسدي[25]، الاعتداءُ على المساجد، الطّردُ مِنَ العمل[26]، التّفتيشُ التعسُّفي، التّضييقُ على الحجاب، وغيرُها مِن ألوانِ الظُّلمِ الجاهِرِ في حقِّ إخوانِنا؛ ظلمٌ يَكشفُ الازْدواجيّةَ وسياسةَ الكَيْلِ بمكيالَيْن، رغم أنوفِ المُتستِّرين عليها بدعاوٍ زادتها قُبحًا.

 

إنَّ زيفَ الشعاراتِ والازْدواجيّةَ في المعاملات وَجهَان لعملَةٍ واحدة، ويأبى اللهُ إلاّ أنْ تَظهرَ حقيقةُ الكذّاب، ظُهورَ المَعدنِ الفاسِدِ بانْجِرافِ الزُّخرفِ الّذي واراه.

 

الوقفةُ التّاسعة: تَراشقُ المُسلمين فيما بينهم حول تَكيِيفِ المواقفِ مِنَ الشَّتيمَةِ والشَّاتِمين:

مِن الأشياءِ المُحزِنةِ المُؤلِمة، أنْ يَتكرّرَ بَغيُ أعداءِ الدّين على عقيدةِ المُوحِّدين ومحمّدٍ سيّد المُرسلين، فيتكرّر معه بغيُ المُسلمين بعضهم على بعض! حيث تُوقعُ البغضاءُ وتُثار الشّحناءُ بسبب اختلافٍ لم يُراع فيه أدبٌ ولم يُلتزَم بعده بتقوى، ليس في مسائل معلومةٍ بالضّرورةِ مِنَ الدّينِ أو مَعروفةٍ بالمَنْصوصِ مِن التّنزيل، فاشتُدَّ مِنْ أجلِها على المُنكِرِ لها والمُخالِف؛ بل في الموقفِ مِن جِنايةِ الكفرةِ والمُنافقين في حقِّ الدّينِ ونبيّ الإسلام!


فهذا -مثلاً- يصفُ مَن اكتفى بالكتابةِ أو الخُطبةِ في الإنْكارِ بالجُبنِ والخِيانَة، وذاك يصفُ مَنْ مَشَى في المَسيرات ورَفعَ اللاّفتات للاحْتِجاجِ بالفَوْضى والغَوْغائيَّة؛ والحقيقةُ أنّ في هذا افتراقٌ بلا داعٍ على شيءٍ قد أدّى فيه الجميع ما ينْبغي وقاموا فيه بالمطلوب، الأخُ قد جَبَر النَّقصَ مِن أخيه واسْتدْركَ التّقصير، والكلُّ ينصرُ الحقَّ ويرجو ثوابَ السّميع البصير.

 

فالكتابةُ أو الخُطبةُ تُجسّدُ الجانبَ العِلميَّ وتُنظِّرُ للعَمل، وهو أمرٌ لا بدّ منه أساسًا وابتِداءً؛ إذْ لا يَصلُح إقدامٌ على عَملٍ بلا عِلمٍ يَهديهِ ويَضبِطُهُ.

 

والمُظاهَرتُ والمَسيرات مِن مجَسِّداتِ الجانبِ العَمَلّي للقضيَّةِ، متى تَيَسَّرَت على النّاسِ وغَلَب على الظنِّ سلامتها مِن المخالفات الشّرعية؛ فإنَّها مِن أنجعِ السُّبلِ لإيصالِ رسائلِ الاسْتِنكار.


يقول العلاّمة ابن قيم –رحمه الله-: "وهنا نوعٌ آخر من الاختلاف وهو وفاقٌ في الحقيقة، وهو اختلافٌ في الاختيار والأولى، بعد الاتّفاقِ على جوازِ الجميعِ، كالاختلافِ في أنواع الأذان والإقامة وصفات التشهّد والاسْتفتاح وأنواعِ النّسك الّذي يحرم به قاصد الحج والعمرة، وأنواع صلاة الخوف، والأفضل من القنوت أو تركه ومن الجهر بالبسملة أو إخفائها ونحو ذلك، فهذا وإنْ كان صورتُه صورة اختلاف فهو اتّفاقٌ في الحقيقة.

 

ووقوعُ الاختلاف بين النّاس أمرٌ ضروريٌّ لا بدّ منه لتفاوتِ إراداتِهم وأفهامِهم وقوى إدراكِهم، ولكنْ المذموم بغيُ بعضِهم على بعضٍ وعدوانُه، وإلاّ فإذا كان الاختلافُ على وجهٍ لا يؤدِّي إلى التّباينِ والتحزُّب وكلٌّ مِن المختلفين قصده طاعة الله ورسوله، لم يضرّ ذلك الاختلاف، فإنّه أمرٌ لا بدّ منه في النّشأةِ الإنسانية، ولكن إذا كان الأصلُ واحدًا والغايةُ المطلوبةُ واحدةً والطّريقةُ المسلوكة واحدةً، لم يكدْ يقع اختلافٌ وإنْ وقع كان اختلافًا لا يضرّ كما تَقدّم مِن اختلافِ الصّحابة، فإنَّ الأصلَ الّذي بَنَوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنّة رسوله، والطّريق واحد وهو النّظر في أدلّةِ القرآن والسنّة وتقديمها على كلّ قولٍ ورأيٍ وقياسٍ وذوقٍ وسياسة"[27]. اهـ.

 

الوقفةُ العاشرة: "أنا أتبع محمّد صلّى الله عليه وسلّم" بين اللاّفتة والاتّباع:

مِن الأشياءِ الّتي أَثلجت صدورَ المؤمنين، وأَغاظت الكفّارَ واسودّت لها وجوهُ المنافقين، انتشارُ تلك اللاّفتات التي كُتب عليها: "أنا أتبع محمّد صلّى الله عليه وسلّم" أو "كلُّنا مع محمّد صلّى الله عليه وسلّم" ونحوها، الّتي أُبدِعت ردًّا على العبارة الشّهيرة "أنا شارلي"، وانتصارًا لمحمّد بن عبد الله -عليه الصّلاة والسّلام-؛ فرأيناها مَرفوعةً في المظاهرات، ومعلّقةً في البيوتِ والدّكاكين والحافلات، وبارِزَةً في المدارسِ والمقاهي والمُستشفيات، كما اختارتها بعض القنوات الفضائية شعارًا استثنائِيًّا على شاشاتِها مواكَبةً للحَدث.


إنّه تجديدٌ لإعلانِ الانتماء لهذا الدّين، وتأكيدٌ على متابعةِ محمّد خاتَم النبيّين، ورفضٌ ظاهِرٌ لخذلانِ الرّحمة المُهداة وموالاةِ الضّالّين.


مع ذلك لا ينبغي لمُؤمِنٍ قد صَدقَ في غضبتِه وهبّتِه لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنْ تَمرَّ عليه الأيّام فتطوي لافتَتَه الّتي أعلنَ مِن خلالِها عن الانْتصار، وتَمحُو حِبرَه الّذي عبّر به عن الانتماء؛ بل يجب أنْ يجعلَ مِن موقفهِ محطّةً لتجديدِ العهد مع نبيّه -عليه الصّلاة والسّلام- باتّباعِ هديِه والتمسُّكِ بسنّتِه، وهذا مِن مقتضى شهادةِ أنّ محمدًا رسول الله؛ فيُطيعُه فيما أمر، ويُصدِّقُه فيما أخبر، ويجتنِبُ ما نهى عنه وزَجَر، ولا يَعبد الله إلاّ بما شرع؛ حتّى يُحقّق المحبّةَ المطلوبةَ لله والمرجُوَّةَ منه –سبحانه-، قال –عزّ وجلّ-: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ﴾[28].

لا يَشْغَلَنَّكَ قَائِلٌ
بَعْدَ النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
وَاللهِ مَا صَدَقَ امْرُؤٌ
فِي الوَعْدِ مِثْلَ مُحَمَّدِ
كَلاَّ وَلا نَفَعَ امْرُؤٌ
نَفْعَ النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
إِنْ لَمْ تَكُنْ لِمُحَمَّدٍ
تَبَعًا فَقُلْ لَمْ أَرْشُدِ
دُنْيَاكَ مَاذَا بَعْدَهَا
مَا دُمْتَ غَيْرَ مُخَلَّدِ؟
هَلْ هَذِهِ دَارُ البَقَا
ءِ أَوِ النَّعِيمِ؟ أَلا ازْهَدِ
اصْبِرْ عَلَى أَهْوَالِهَا
وَاجْهَدْ لِتَنْعَمَ فِي الغَدِ
وَارْفُقْ بِنَفْسِكَ أَنْ تُعَذَّ
بَ فِي الجَحِيمِ بَلِ افْتَدِ
لا تَهْرُبَنَّ مِنَ الحَقِي
قَةِ لا تَكُنْ كَالمُلْحِدِ
وَاسْأَلْ إِلَهَكَ أَنْ يُدِي
مَكَ فِي اليَقِينِ لِتَهْتَدِي
وَعَنِ الغَوَايَةِ يَا إِلَ
هِي رُدَّنِي أَقْصِرْ يَدِي
لا تَسْمَعَنَّ لِقَائِلٍ
مُتَحَذْلِقٍ أَوْ تَقْتَدِي
خُذْ مَا أَرَدْتَ مِنَ الأَنَا
مِ وَدَعْ وَلا تَتَشَدَّدِ
أَمَّا إِذَا ذُكِرَ النَّبِيُّ
فَغُضَّ طَرْفَكَ تَسْعَدِ
مَا اخْتَارَ رَبُّكَ أُسْوَةً
غَيْرَ النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
كَلاَّ وَلا عُصِمَ امْرُؤٌ
مِثْلَ النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
لَكِنْ إِذَا ثَبَتَتْ لَدَيْ
كَ شَرِيعَةٌ فَلْتَجْهَدِ
لا تَكْسَلَنَّ وَلا تَكُنْ
كَالعَارِفِ المُتَرَدِّدِ
إِنَّ النِّفَاقَ هُوَ التَّرَدُّ
دُ فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدِ
مَنْ ذَا تُدَاهِنُ يَا أَخِي؟
أَوْ مَنْ تُخَادِعُ فِي الغَدِ؟
اللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّ
فَصَفِّ نَفْسَكَ وَاعْبُدِ[29]

 

والحَمدُ للهِ ربِّ العالَمين، وصَلِّ اللّهمَّ وسَلِّم على نبيِّكَ محمَّدٍ خاتَمِ المُرْسَلين.



[1] قد كتبتُ بعض الخواطر والتّعليقات المُختصرة حول الحادثة، لكنّني أعتبرها غير معبِّرةٍ عن كلّ ما أردت قوله.

أمّا بخصوص الإساءة إلى ذاتِ النبيّ محمّد -عليه الصّلاة والسّلام- نفسها، فقد سبق لي أن رقمتُ حول مثلها شيئًا وسمتُه بـ "المنحة في الإساءة إلى الرحمة المهداة"، فأسأل الله القبول. هذا رابطه:

www.alukah.net/ culture/ 0/ 44800

[2] سورة البقرة: الآية 217.

[3] سورة البقرة: الآية 120.

[4] في محاضرة له بعنوان: "الحرب الصّليبية ودعوى تحرير المرأة المسلمة".

[5]وقد كانت هذه الصّحيفة المشؤومة مِن السبّاقات إلى إعادة نشر الرّسوم الدّانماركية المسيئة الّتي اهتزّ لها العالم الإسلامي، تضامنًا -كما زَعمَت- مع زميلتها في الحقارة باسم حريّة التّعبير!

[6] تناقلت الإفادة عدّة مصادر إعلامية.

[7] الكلام ترجمتُه مختصَرًا ممّا ورد على موقع اليوميّة الفرنسية (LE FIGARO). وهذا رابط أصله:

www.lefigaro.fr/ culture/ 2015/ 01/ 15/ 03004-20150115ARTFIG00094--charlie-hebdo-delfeil-de-ton-lance-une-polemique-sur-charb.php

[8] الصّارم المسلول على شاتِم الرّسول -مُختصرًا-: 2/ 13-32.

[9] في مقال له بعنوان: "دمُ مَن سبَّ رسولَ الله هَدَر".

[10] الموافقات: 5/ 177-178.

[11] سورة المائدة: الآية 51.

[12] الجملة مُقتبسةٌ مِن صحيح السنّة.

[13] سورة الحشر: الآيتان 11-12.

[14] سورة النّساء: الآية 141.

[15] سورة المائدة: الآية 52.

[16] "سيرة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم - صُور مُقتبَسة مِن القرآن الكريم"، لمحمّد عزة دَروزة: 5/ 74-75.

[17] أشار -رحمه الله- إلى قوله -تعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ (سورة الحشر: الآية 10).

[18] في ظلال القرآن: 6 / 3529.

[19] سورة القلم: الآيتان 8-9.

[20] سورة النّساء: الآية 140.

[21] سورة طه: الآية 120.

[22] حتّى أنّ صحفًا كثيرة قد أبرزت على غلافها عبارة "أنا شارلي" بالخطّ العريض؛ بل ومنها من تجرّأت على إعادة نشر الرّسومات المسيئة الّتي بثّتها صحيفة "شارلي إيبدو"، وبلغ لؤم بعضها إلى حدّ تخصيص مكتبٍ للصّحيفة في مقرّها الإعلامي كما فعلت جريدة "ليبيراسيون (Libération)" الفرنسيّة، لضمان استِمرار الجرم وعدم انقطاعه بعد تشميع مقرّ الصّحيفة إثر الحادثة، وفعلاً قد تمّ إصدار سبعة ملايين نُسخة من "شارلي إيبدو" يُعلن كلّاً منها إصرارًا على الجريمةِ!

وقد تولّت كِبَر هذا الشّحنَ الإعلامي القناة الثّانية الفرنسية (Antenne 2)، لمّا بثّت إحدى برامجها الخاصّة بالحادثة والمُعنونة بـ (JE SUIS CHARLIE)، حوارًا تمثيليّا استُهزِأ خلاله بنبيّ الهدى محمّد –بأبي هو وأمّي عليه الصّلاة والسّلام-، أدارته إعلاميّةٌ ساقطةٌ فاجرة مع قرينٍ لها في الصفّ والوصف يُجسّد شخصية الرّسول بصوته المُتواري، فكانت تُحاورُه وهو يُجيب وسط ضحكاتٍ متعاليّةٍ للحضور...، بثّت هذا قناة فضائيّة تُعتبر مِن المؤسّسات الرّسمية والقطاع العمومي في فرنسا!

وحسبنا الله ونعم الوكيل، هو نِعم المولى ونِعم النّصير.

 

[23] بالإمكان الاطّلاع على شهاداتٍ مرئية حول القصة بتفاصيل أكثر عبر الرّابط التالي:

www.islamophobie.net/ articles/ 2015/ 02/ 04/ ahmed-8-ans-temoignage-video

[24] البيت لأحمد شوقي.

[25]حتّى وصل التعدّي -أحيانًا- إلى حدّ القتل العَمد، منه -حَديثًا- مَقتل ثلاثة طلبة جامعيّين في ولاية "نورث كارولينا" بالولايات المتّحدة الأمريكيّة على يد مواطن أمريكي، وهم أفراد مِن عائلة فلسطينيّة مسلمة.

[26] تمّ مُؤخَّرًا –مثلاً- طرد لاعب كرة السلّة النَّيجيري "أكين أكنغبالا (AkinAkingbala)" مِن ناديه رُوان (Rouen) الفرنسي، لا لشيء، إلاّ لأنّه غرّد عبر حسابِه الخاص على تويتر بعبارة: "لستُ شارلي...".

[27] الصّواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة: 2/ 518-519.

[28] سورة آل عمران: الآية 31.

[29] أبيات للأستاذ أحمد محمّد سليمان، عنوانها: "في اتّباعِ السنّة".





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • صناعة الكراهية
  • جرائم الكراهية ضد المسلمين في العالم تزداد بشكل مقلق
  • وقفات مع نهاية العام وتقارب الزمان، والتذكير بفضل شهر الله المحرم (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (10)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (9)(مقالة - ملفات خاصة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (8)(مقالة - ملفات خاصة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (7)(مقالة - ملفات خاصة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (6)(مقالة - ملفات خاصة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (5)(مقالة - ملفات خاصة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (4)(مقالة - ملفات خاصة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (3)(مقالة - ملفات خاصة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (2)(مقالة - ملفات خاصة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (1)(مقالة - ملفات خاصة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب