فتوى في روسيا!

"إلينور" شابٌّ في الثلاثين من عُمره، طلَب شيئًا من العلم الشرعي، وحمَل همَّ أُمَّته منذ صباه، فعاش في بلدته الصغيرة في بلاد روسيا، يدعو إلى الله بكلِّ ما يستطيع، يَدرس ويَنصح ويَعِظ، وأحيانًا يُفتي، ومن هنا كانت القصة.

بدأَت القصة حين سألتْه امرأة متوسِّطة العمر محافظة على حجابها، ظاهرة التديُّن - أتَت إليه تسأله عن حُكم العيش مع زوج كافرٍ، وبما أنَّ السؤال كان عامًّا، فقد أجابَ أخونا في الله جوابًا عامًّا، وقال لها: لا يجوز للمرأة المسلمة أن تعيشَ مع زوجها إذا كان كافرًا، دون أن يستفسرَ عن حال زوجها.

في الحقيقة لَم يكن زوجها نصرانيًّا، لكنَّه كان من مسلمي روسيا الذين وَرِثوا من الإسلام الاسم والشهادتين، ولكنَّه لَم يكن يُصلِّي، وقد منَّ الله على زوجته بالهداية منذ ست سنوات، وهي منذ أن عرَفت دينها وما عليها تُجاه ربِّها، وهي صابرة عليه؛ لعلَّه يضعَ لله جَبهته، ويَلتزم ببعض أصول الإسلام، وحين نَفِد صبرُها، أخَذت هذه الفتوى التي كانت كالقشَّة التي قصَمت ظهر البعير،  وخرَجت من البيت، وذهبَت إلى حيث لا تكون مع هذا الزوج الذي أصبَح بالنسبة إليها كافرًا!

لَم يَكترث المستشار ورجل البرلمان - صاحب النفوذ والسلطة والمال - بقرار زوجته المغادرة، ففي روسيا إذا كنتَ تَملك المال، فلن يُعجزك العثورُ عليها في أيِّ وقتٍ، ورَدها رغم أنفها إلى بيت الزوجية، فالأمور هناك تُدار بالمال، وبالمال فقط.

طالَ الأمرُ وبَقِيت الزوجة مدَّة طويلة تتردَّد على المسجد، ثم قرَّرت قرارًا سيُغيِّر مجرى الأحداث، لقد قرَّرت أن تتزوَّج، فعلاقتها بهذا الزوج الكافر في نظرها لَم تَعُد تلزمها في شيء، وبما أنَّ المذهب الحنفي يُجيز لها الزواج بدون وَلِي، فإنَّ لها أن تختار مَن تراه مناسبًا! ودائمًا تَنسب الفتوى إلى أخينا "إلينور" مع أنَّ "إلينور" من كلِّ هذا بَراء.

استشاطَ "خاريس" غيظًا؛ فقد أحسَّ أنَّ زوجته طَعَنته طعنةً لا قِبَل له بها، وأحسَّ بأنه لا يستطيع أن يتحمَّل العيش دونها، فلقد كان يَحدوه الأمل في أن تعودَ إليه رغبةً في المال والجاه اللذين كانت تتمتَّع بهما وهي زوجة المستشار، خصوصًا أنَّ وَلَديها منه ما زالا في حاجة إلى رعايتها وحنانها.

لَم يكن "إلينور" يعرف حين سألتْه تلك المرأة ذلك السؤال العابر مَن هو خاريس؟ وما هي مكانته؟ وما هي سَطوته؟ ولَم يكن يظنُّ أنَّ فتوى عابرة قد تصلُ به إلى حدِّ أن تُصبح حياته ثمنًا لتلك الفتوى، فما أن وصَل خبرُ الزواج إلى "خاريس"، حتى قصَد هذا المفتي الذي كانت هي تَنسب إليه كلَّ شيء، وكلما سألَها زوجُها، قالت له: لقد أفتاني "إلينور"، فقرَّر الزوج أن يذهبَ إلى "إلينور" هذا الذي كان سببًا في التفريق بينه وبين زوجته.

لَم يَزِد "خاريس" على كلمتين: إذا لَم تَعُد زوجتي إلى البيت، فإني سأقطع لسانك، ثم أقتلك، وأعطاه مدة أسبوعين.

بَقِي "إلينور" حائرًا، وخاريس يغادر في سيارته الفخمة، فهو يعرف أن تهديدَ "خاريس" ليس كلمة عابرة، فالعادات الروسيَّة تُحتِّم على مثله أن يكون تهديده أكيدًا، وإلاَّ ذهبَت هَيْبته بين أقرانه.

أين يُمكن أن يعثرَ على المرأة التي اختَفَت في تلك البلاد الواسعة؟ وكيف يُمكنه أن يُعيدها إلى زوجها؟ ومَن يستطيع أن يَحميه من سطوة هذا الجبَّار؟ وهل سيتيتَّم أطفاله الخمسة بسبب هذه الفتوى!

ظلَّ أخونا "إلينور" مغتمًّا حائرًا، فهو يحسُّ أنَّ أيَّامه قد غدَت قليلة في هذه الحياة، وليس هناك أمامه من مَفرٍّ، وليس لَدَيه مَن يَحميه أو يُدافع عنه، فأجهزة الأمن نفسها تحت سطوة المال ونفوذه، وظلَّ مهمومًا إلى أن جاءَه أحدُ الإخوان بفِكرة غيَّرت مجرى الواقعة مائة وثمانين درجة.

لقد كانت الفكرةُ تقضي بأن يكتب أحدُ الإخوان مقالاً عنوانه: "مستشار يُهَدِّد أبًا لخمسة أطفال بالقتل، فما مصير أولئك الأطفال؟!".

كان الكاتب قادرًا على أن يُحرِّك هذا الوتر الحساس لدى الشعب الروسي، فأبٌ لخمسة أطفال التي تَكرَّرت في ثنايا المقال، هي الجملة التي أعْطَت للقضية رنة من نوع خاص، فمن النادر أن يكون لأب خمسة أطفال، والشعب رأى من المآسي - بسبب الحروب والتشتُّت الأُسري - ما جعَل قضيَّة مثل هذه تُلامس العاطفة الاجتماعية لدى كثيرٍ من الناس.

تطوَّع أحدُ الخُطباء وألقى خطبة عن الموضوع، فانتشَرَت الخطبة في اليوتيوب، وأصبَحت القضية حديث الناس في المدينة، فأتى خاريس من أجل التفاوض.

استمرَّت الجلسة ثلاث ساعات، ثم تَفرَّق الجمع، ولكن "خاريس وإلينور" لَم يتفرَّقا، لقد رَكِبا معًا، واتَّجها إلى مدينة تَبعد ستمائة كيلو متر؛ حيث توجد زوجته، وأصبَح الأمل كله معقودًا على إلينور؛ كي يردَّ على خاريس زوجته، بعد أن تعهَّد له بأنه سيُصَلِّي صلاتين كلَّ يومٍ؛ لأنه لا يُطيق أكثر من ذلك، وطوال الطريق كان إلينور يُحدِّث هذا الرجل المُعرض عن الله، يَنصحه ويَعِظه، ثم ناما معًا في سرير واحدٍ.

أدرَك "خاريس" أنَّ هذا الشخص - الذي كان يظنُّ أنه من المفسدين والمُضللين - إنسان صادق مُخلص، محبٌّ خلوق، فتأثَّر به كثيرًا، خصوصًا بعد أن انتَهَت رحلتهما بعودة زوجة خاريس التي أخبَرته بأنها لَم تتزوَّج، وإنما أثارَت هذه الإشاعة؛ كي تغيظ زوجها.

وجَد "خاريس" أنَّ الصلاة ليست بتلك الصعوبة التي كان يتصوَّرها، فأصبَح ملازمًا لصلاة الفجر في المسجد، وأصبَح في طريقه إلى المسجد يمرُّ بسيارته الفارهة؛ ليأخذ صديقه الجديد إلينور، وأصبح سدادًا لكلِّ ما يحتاج إليه الناس في المسجد، فاشتَرى لهم شاشة كبيرة؛ كي يبثوا من خلالها الدروس، وأصبَح خادمًا للدين والمسلمين.

وهنا نقف وقفات دعوية:

الوقفة الأولى:

أنَّ الإخلاص سبيل النجاة، وأنَّ المؤمن المخلص لا بدَّ أن ينصرَه الله - عز وجل - وأنَّ الأزمات وإن تراكمَت، والحلول وإن تلاشَت وتبخَّرت، فإن الله - عز وجل - فعَّال لما يريد، وهو لا يَخذل عبده المؤمن، فالعاقبة للتقوى، والعاقبة للمتقين.

الوقفة الثانية:

أنَّ المفتي يجب أن ينظرَ في حال السائل ويَستبين منه، وأن بعض الفتاوى  التي ندرسها في كتب الفقه ومسائل الشريعة لا تَصلح لكلِّ المجتمعات، فعندما يَضْعُف الدين يجب على المفتي أن يُخَفِّف على الناس في أمور الفتوى، وألا يأخذهم بالأشد والأحوط، وإنما ينظر في الأقوال مما يشهد له الدليل، فيختار ما هو الأقرب للشرع والأصلح لأولئك القوم، ولا يَحملهم على أشقِّ الأقوال، فيُنَفِّرهم من دين الله.

الوقفة الثالثة:

وهي الأهم، وذلك أنَّ معرفة أحوال الواقع، والأسباب المؤثرة في الرأي العام، والقدرة على استخدام الوسائل المتاحة من أجْل تحقيق الأهداف الدعوية - هو أمر بالغ الأهميَّة، ولا ينبغي للداعية إغفاله، فلو قدَّر الله أنَّ إخواننا هناك لَم يَنتبهوا لقدرة الإنترنت على الوصول للناس، لَما كان للقصة هذه النهاية الجميلة.

وأخيرًا، فإنَّ مهمة الداعية - في بلاد مثل روسيا - مهمة عظيمة، فهو إمام ومعلِّم، ومُفتٍ وقاضٍ ومُربٍّ، فعلينا أن نسعى جاهدين من أجل رَفْع مستوى الأئمة والدُّعاة في بلدان الأقليَّات الإسلاميَّة، وأُهيب بالمؤسَّسات الدعوية أن تُخصِّص لهم برامجَ سنويَّة يلتقون فيها ببعضهم، ويتبادلون الخبرات والنصائح والتوجيهات، ويتعلَّمون شيئًا من أمور السياسة الشرعية وأحوال الفتوى، وما إلى ذلك، والحمد لله ربِّ العالمين.