• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
شبكة الألوكة / مكتبة الألوكة / المكتبة المقروءة / كتب / كتب العقيدة والتوحيد
علامة باركود

هل ثبت عن شيخ الإسلام ابن تيمية طعنه في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه والزعم أنه أخطأ في مواضع كثيرة؟ (PDF)

محمد زياد التكلة

عدد الصفحات:64
عدد المجلدات:1

تاريخ الإضافة: 10/12/2025 ميلادي - 20/6/1447 هجري

الزيارات: 1013

 نسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تحميل ملف الكتاب
تحميل ملف آخر للكتاب

 

الحمدُ لله، وسَلَامٌ على عباده الّذين اصْطَفى.

أمّا بعد:

فقد طََلَب منّي أحد مَشَايخي العلماء الأَجِلّاء -حفظه الله تعالى- غير مرّةٍ أن أبحثَ له عن أصل القِيل الذي يتداوله بعضُ النَّقَلة مِنْ زَعْمِ أنَّ شيخَ الإسلام أحمد ابنَ تيميّة طَعَنَ في سيّدنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه وأرضاه، والزَّعْمِ أنّه خَطّأهُ في مواضعَ كثيرةٍ!

 

فلبَّيْتُه مع قلّة البضاعة وزحمةِ الأشغال، وتشتُّتِ البال، وما استطعتُ أن أكتبَ معظمَه إلا اقتناصًا حال الأَسفار، وتالله لقد كان من السَّهل اختصارُ الجوابِ بأنَّ الزّعْمَ المذكورَ فريةٌ وبهتانٌ على شيخ الإسلام، لكنّي أعرفُ شيخيَ الموقَّر لا يَقْنَع إلا بالتَّحقيق المبيَّن، ويريدُه لإرشاد من يَلْهَج بنَقْلِ هذا الزَّعم ولهدايته، فرأيتُ أن أذكر شيئًا من التَّفصيل، مقدِّمًا بين يدي الجوابِ التذكيرَ بمسألتَيْن عامَّتَيْن مهمِّتَيْن:

أولاهما: من القواعد الواضحة في الدِّين الأمرُ بالتّثبُّت والتّبيُّن، وعدمُ جواز اتّهام المسلم بجهالةٍ، فكيف إن كان المتَّهَمُ من أئمّة العلماء؟ وما زال الناسُ في هذا الشأن يتفاوتون ما بين المحقِّق المدقِّق، إلى من يحدِّث بكلِّ ما سَمِعَ ويصدِّق، وكذا ما بين المحرِّر اليَقِظ الحاذق، والنُّقَلَة المغفَّل المائق، وكذا ما بين صاحب العَدْل والإنصاف، وصاحب العصبيّة والاعتساف.

 

فإذا كان لا يجوز لأحدٍ أن يَتكلّم في أيِّ شأنٍ بلا عِلْم، فكيف بمن يَطْعَنُ في كبار العلماء بمجرَّد القيل والقال؟ دون تمحيصٍ للمَقَال؟ ولا بحُجّةٍ ليوم العَرْض والسُّؤال؟

 

فلْيَحْذَر المسلمُ من الخوضِ في أعراض النّاس -ولا سيّما العلماء- بلا بيِّنةٍ وحُجّة، فالخَطْبُ جسيمٌ في الدُّنيا قبل الآخرة. قال الحافظُ ابنُ عَسَاكر في تَبيين كَذِب المفتري (ص29): «إنّ لحوم العلماء -رحمةُ الله عليهم- مسمومة، وعادةُ الله في هَتْكِ أستار مُنتَقِصيهم معلومة، لأنَّ الوقيعةَ فيهم بما هُم منه بَراءٌ أَمْرُه عظيم، والتناولُ لأعراضهم بالزُّور والافتراء مَرْتَعٌ وَخيم، والاختلاقُ على من اختاره اللهُ منهم لنَعْشِ العِلْم خُلُقٌ ذَميم».

 

وقال الحافظ الذَّهبيُّ في تاريخه (4/1140) بعد سياق قَدْحِ العلماء في أحد الرُّواة ممَّنْ لم يَصُنْ لسانَه: «قلت: كان يستخفُّ بالأئمّة، قال: يَكذبُ سُفْيان! وتكلَّم في غُنْدَر. وقال عن القَطّان: ذاك الأحول. وكذا سُنّةُ الله في كلِّ من ازدرى بالعُلماء بَقِيَ حقيرًا». والكلامُ من مؤرِّخَيْن من أهلِ الاسْتقراء التامّ.

 

وقال العلّامةُ الشِّهابُ الأَذْرَعيّ في فتوى له عن ابن تيميّة؛ منشورة بآخر الرَّدِّ الوافر (ص283) وضمن الجامع في سيرة ابن تيميّة (ص576): «والوقيعةُ في أهل العلم -ولا سيَّما أكابرهم- من كَبَائرِ الذُّنوب».

 

والثانية: في الحديث المتَّفَقِ عليه: «من كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فلْيَقُلْ خيرًا أو ليَصْمُتْ». فإنّما هُما خياران للمؤمن لا ثالثَ لهما.

 

ومِنْ دَلَائلِ كَمَال عَقْلِ الكاتب والمتحدِّثِ أن يَصرَفَ جُهدَه فيما ينفعُ الناسَ، ويسخِّرَ عِلْمَه لما فيه خيرٌ، ويجمعَ كلمةَ المسلمين وقلوبَهم، ويكون كالنَّحْلة لا تَقَعُ إلّا على الطَّيِّب، ولا تُنتِج إلّا ما هو أطيب، والعَكْسُ بالعكس. وروى ابن المفضَّل المقدسيّ في الأربعين على الطَّبَقات (ص505) عن الخطيب البَغْدادي أنّه قال: «مَنْ صَنَّفَ فقد جَعَلَ عَقْلَه على طَبَقٍ يَعرِضُه على النّاس».

 

وحدّثنا شيخُنا مؤرّخ الشام محمد مُطيع الحافظ مرارًا عن عمِّه فقيه الحنفية في دِمَشْق عبد الوهاب دِبْس وزَيْت أنّه كان يقول: «دِرْهَم العِلْم يحتاجُ إلى قِنْطار عَقْلٍ».

 

بل مفهومُ قولِه تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ أنَّ من حُرِمَها حُرِمَ خيرًا كثيرًا.

 

لكنْ من كان شُغْلُه الشاغلُ إشاعةَ الخلاف، ونَبْشَ الـمَقابر، وإذكاءَ الخُصومات، والتَّحريشَ بين المسلمين، والطَّيَرانَ بالشُّبَه دون أدنى تثبُّت، والمجادلةَ في ذلك: فهذا محرومُ العَقْل والحِكْمة، وما أَسْعَدَ إبليسَ وأتباعَه بخدماته لهم، وفي الحديث المتَّفق عليه: «أبغضُ الرِّجال إلى الله الأَلَدُّ الخَصِمُ».

 

بعد هاتين التَّذكرتَيْن ممّا ينفعُ المؤمنين أقول:

إنّ التحقُّق في النَّقل المزعوم عن ابن تَيميّة ليس شيئًا عسيرًا على من يمتلك الأبجديّات البَحْثيّة؛ لأسبابٍ، منها:

أ-وَفْرةُ نتاجِ هذا العالم وانتشارُه، وكثرةُ ما وَصَلنا من كَلَامه في الموضوع.

 

ب- غَزارةُ مَصادر تراجمه المفصّلة الأصليّة العالية، ثم الطَّبقة الفَرْعيّة التالية لها.

 

ج- الكثرةُ الكاثرة من الكتابات والأبحاث حول شيخ الإسلام ابن تيميّة، بحيث قال علّامة التُّراث المطَّلع، مؤرِّخ الحنابلة في عصرنا، الدكتور عبد الرحمن العُثيمين، في حاشيته على ذيل طَبَقات الحنابلة لابن رَجَب (4/492): «ولا أظنُّ أنَّ عالـمًا حَظِيَ بما حَظِيَ به الشيخُ من الدِّراسات والاهتمام الظاهر من العلماء والباحثين الموافِقين والمخالِفين». هذا عمومًا، فضلًا عن تعدُّدِ الأبحاث الخاصّة في موضوعنا؛ كما سيأتي.

 

د- وكلُّ هذا في زمن الانفجار المعلوماتي الرَّقَميّ، ووجود المحرِّكات البَحْثيّة الواسعة، وتيسُّرِ الحصولِ على المصادر عبر الشابكة، والوصولِ إلى النتائج البَحثيّة بضغطة زِرّ: فلا مجال لإعْذار أحد الباحثين اليومَ بما كان يُعذرُ به السابقون من شُحِّ الـمَصَادر وعُسْرِ الوُصول إليها.

 

هذا؛ والقاعدةُ العلميّةُ المشهورة:

«إن كنتَ ناقِلًا فالصِّحّة، أو كنتَ مُدَّعيًا فالدَّليل». وعليه: فالإثباتُ مطلوبٌ أساسًا على المدَّعي، وهو المكلَّفُ بإبرازه -لو وُجد- ما دام يتحَجَّجُ به وينشرُه ويَبْني عليه، لكنَّ تَرْكَه فرعٌ عن ضَعْفِ التثبُّت من الأصل.

 

والخَطْوةُ الأولى للتثبُّت: تكونُ بالبَحْثِ في كلامِ المصنِّف المباشر من نتاجه الغَزير، ومنه في كتابه الحافل «منهاج السُّنّة» في الردِّ على ابن المطهَّر الرافضيّ.

 

ولم أجد للزَّعم أثرًا بالبَحْثِ الموضوعيّ والكَلِمي عبر الكلمات المفتاحية المتعدِّدة وبتقليب الاحتمالات.

 

وهذا ليس كلامي وَحْدي، بل كلامُ غير واحدٍ ممَّن بَحَث المسألة، ولم أجد نَقْلًا نصّيًّا مباشرًا لذلك من مصدرٍ أصليٍّ حتّى عند من ادّعى أنَّ ابن تيميّة يَطْعَنُ -حاشاه- في سيّدنا عليٍّ رضي الله عنه وأرضاه.

 

ثمَّ إذْ لَـمْ نجدْ نصًّا عنده: رَجَعْنا إلى أصحاب التَّراجم العالية من أصحابه ومعاصريه ممّن لَقِيَه ونَقَل أخباره معاينةً وسماعًا، مثل ابن سيِّد الناس، والجَزَري، والبِرْزالي، والشَّمس ابن عبد الهادي، وابن فَضْل الله، والذَّهَبي، والبَزّار، وابن قَيِّم الجوزيّة، وابن كَثير، والصَّفَدي، لعلّ أحدًا منهم نَقَل ذلك مشافهةً؟ وأيضًا لا نجدُ لهذا عندهم أثرًا.

 

وقبل أن أتجاوز هاتين الخَطوتَيْن أَزيدُ: نَجِدُ من كلام ابن تيميّة المباشر والمنقولِ كلامًا كثيرًا صريحًا ومستفيضًا يعاكسُ هذا الزَّعْم، من تبجيلٍ لسيّدنا عليٍّ رضي الله عنه، وإجلالٍ ودِفاعٍ، قولًا وفعلًا، ويأتي بعضُه.

 

وأيضًا: حتّى من نَقَده بأشياءَ عامّةٍ يسيرةٍ كالذَّهبي والصَّفَدي، أو ناصَبَه الردَّ من مُخالفيه المعاصرين مثل التّقيّ السُّبْكي وغيره -رحمنا الله وإياهم جميعًا- فقد ردّوا عليه في مسائلَ جلُّها أقلُّ أهميّةً من هذا الزَّعم، وتوسّعوا في جملةٍ من ذلك، وكذا عُقدتْ له مناظراتٌ مشهورةٌ حول عَقَائده؛ مثل الواسطيّة والحَمَويّة، وحرص مُخالِفوه أن يَظفروا عليه بأيِّ مَأْخَذٍ آنَذَاك، وقد كان أولى بهم الاهتمامُ بهذا الزَّعْمِ لو كان موجودًا، وإلّا لعُدّ مثلبةً فيهم جميعًا: أن يَعلموه ويَسكتوا عنه! ولو كان لطَارَ به أعداؤه من وَقْته، وتشبَّث به مُناظِروه ومتتبِّعو عَثَراته.

 

وفي حينِ ليس لهذا النَّصِّ أَثَرٌ في المصادر الأصليّة، سواء في كلام ابن تَيميّة المباشر على كثرته، ولا المصادر المباشرة عنه؛ من الموافق والمخالف، فمن أين جاء؟

 

أقول: أَشهر مَصْدَرٍ قديمٍ وجدتُ فيه هذا الزَّعم هو مصدرٌ فرعيّ، وهو الدُّرَر الكامنة في أعيان المئة الثامنة للحافظ ابن حَجَر ناقًلا عن مصدرٍ فرعيٍّ آخَر، فإنَّ ابنَ حَجَر سَرَد ترجمةً طويلةً لابن تيميّة من أطول تراجمه في الكتاب، أثنى عليه في مَطْلَعها، ثم َّ سَرَد النُّقول عنه، وأورد مطوّلًا ما جرى لابن تيميّة من مِحَنٍ من خُصُومه، ثمّ طوّل فيمَن أثنى عليه ورَثَاه. وجُلُّ التَّرجمة نُقولٌ، جملةٌ منها مطوَّل، مثل نُقوله عن الذَّهبي، ونَقْلِه الـمُطوَّل عن رحلة الآقْشَهْريِّ، فممّا نَقَلَ عنه هنالك (1/179) قوله: «وقال في حقِّ عليٍّ: أخطأ في سبعة عشر شيئًا؛ ثم خالف فيها نصَّ الكتاب، منها: اعتدادُ المتوفَّى عنها زوجُها أطولَ الأجلين».

 

فهذا هو المصدرُ الأشهرُ للقِيل، وحوله عدّةُ وقفات:

فمنها في حال المصدر:

القائل لهذا هو أمين الدين محمد بن أحمد بن أمين الآقْشَهْريّ، من آقْشَهْر -أي المدينة البيضاء- قُرب قُونِيَة. وهو رحّالةٌ وَصَل إلى الأَنْدَلُس، كان مشتغلًا بالحديث وسماعه وإسماعه، وعُني به، وله إلمامٌ بالأدب، وتَخَاريجُ وتعَاَليق، ورحلةٌ في عدّة أسفار. وُلد سنة 664، وجاور بالحرمين طويلًا، وتوفي بالمدينة سنة 739 على الأصحّ. له ترجمة في العِقْد الثَّمين (2/8) وذيل التَّقييد (1/39) والمقفّى الكبير (5/82) والدُّرر الكامنة (5/36)، وغيرها.

 

وحول ما نقله ملاحظاتٌ عدّة:

أ‌- الآقْشَهْري هذا قال عنه الحافظ المؤرِّخ تقيُّ الفاسي في العقد الثَّمين: «وله عنايةٌ كبيرةٌ بهذا الشَّأن، إلّا أنّه لم يكن فيه نَجيبًا؛ لأنَّ له تعاليقَ مشتملةً على أوهامٍ فاحشة». ويبدو أنَّ هذا منها، لما سيأتي.

 

ب‌- لم يَذكُر الآقْشَهْريُّ أنّه شَهِدَ هذا الكلام، فلا يُعلم عمَّن أَخَذَه، وليس له متابعٌ صحيحٌ فيما تتبّعتُ وقرأتُ لأجله كلَّ ما استطعتُه من تراجم ابنِ تيميّة، ولي فيها عنايةٌ، وسَبَقَ لي أن أخرجتُ نصًّا نادرًا في ترجمته من معجم الناصر ابن زُريق الصالحيّ[1].

 

وأيضًا: صرَّح صاحبا الجَمْعِ الحافل المسمّى: «الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيميّة خلال سبعة قرون» (ص543) الشيخان محمد عُزَير شَمْس وعلي العِمْران أنّهما لم يجدا هذا الزَّعْمَ في المصادر ولا كتب شيخ الإسلام، وهما من المختصِّين بتتبُّع تراث شيخ الإسلام وتَرَاجمه وإخراجها.

 

ج- كتب الرِّحْلات يحصلُ فيها كثيرًا التَّسمُّحُ في النُّقول عن الآخِرين لمن لم يُطِلِ الـمُكْثَ في بَلَدٍ ويتوخّى التثبُّت والتبيُّن، فقد يكون نَقْلُه عن مجهولِ عَيْنٍ، أو عدوٍّ مُغْرِض، وقد يكون مجازِفًا أو حتى مفتريًا، وقد ينقلُ عمّن يَنْقُل عن أمثال من سَبَق، وقد تُسجَّل المعلومات على التَّراخي بعد مدَّةٍ من الزِّيارة، أو يَتعذُّر التثبُّت والمقابلةُ لاحقًا، فتكثرُ فيها الأوهام والغرائب والتَّقميش، ويقلُّ الضَّبط، وتشبه المذكّرات التي يكثر فيها الانطباعات، وما كلُّ أصحابها سواءٌ، ولكنْ نصُّ التقيّ الفاسيِّ واضحٌ في حال صاحبِ الرِّحلةِ عَيْنِه.

 

د- وممّا يؤكِّد أن الآقْشَهْري كتب الرِّحلة على التَّراخي ونَقَلَ الأحداث عمّن لم يُسَمِّ: أنّه في ترجمة ابنِ تيميّة ذاتِها ذَكَرَ له عدّةَ أحداثٍ بينها سنواتٌ طوال، فمثلًا: ذكر فيها مقابلته لغازان ملك التَّتَار، وهي سنة 699، وذكر المحنة؛ وهي سنة 705، ثم ذكر شيئًا بعدها بأربع سنوات، وذكر أخبارًا له بالشام، وأخرى بمصر، وذكر إطلاقه منها للشام، وذلك سنة 712، وذكر حادثة البَكري؛ وهي سََنتها أيضًا. والآقْشَهريُّ قَطْعًا لم يَكُن تلك المدد الطِّوال هنالك، ولم يشهد جلَّها أو كلَّها، ولا ذُكِرَ طولُ مُكثه بالشام، خلافًا للحَرَمَيْن، بل لم أجد في نَقْلِه برِحْلَتِه التَّصريحَ بأنّه لقيَ ابن تيميّة وشافَهَهُ أصلًا، ولا أنّه صرَّح بشهوده أيًّا من الحوادث التي نَقَل عنه.

 

هـ- تظهر في نقول الآقْشَهْري عن ابن تيميّة عدّة مخالفات للمعروفِ المشهورِ عنه؛ سواء من كلامه المباشر أو من تراجمه الأصلية العالية معًا، ومنها مخالفته في أمر لقائه بغازان. وتَفرَّد بأشياء عدّة غاية في النَّكَارة، مثل دعاوى طَعْنِه على أبي بكر وعُمر رضي الله عنهما! وأنه كان يسعى للإمامة الكبرى! وغير ذلك من المناكير التي تدلُّ على كونه حاطبَ لَيْلٍ فيما يَنْقُل، والعَجيبُ أنّه يأتي بالـمَدْحِ ونَقيضه معًا! وممّن نبّه على مخالفاته وتفرُّداته صاحبا الجامع في سيرة ابن تيميّة (ص542-545).

 

وأزيد بأنّه تُستَظْهَر من نُقولِه بعضُ مصادره المنتقدَة، فمنها زَعْمُه أن ابن تيميّة كان يَلْهَج بذِكْر المهدي ابن تُومَرْت ويُطْريه، وهذه فريةٌ نَشَرها عَدُوُّه نَصْر الـمَنْبِجي المعظِّم لابن عَرَبي، فقد نصَّ مصدرٌ متقدِّمٌ زمنًا ورُتبة أنّه مَن كان يخوِّف الأمراء بذلك تأليبًا على ابن تيميّة، فذَكَر ابنُ فَضل الله العُمَريُّ -وكان صاحب ديوان الإنشاء؛ من كبار رجالات الدَّولة- في المسالك (5/300) أنّ الـمَنْبِجيَّ قال للقاضي ابنِ مَخْلوف: «قُلْ للأُمَراء: إنَّ هذا يُخشى على الدَّولة منه، كما جَرَى لابن تُومَرت في بلاد المغرب»! وقال بعد أن ذَكَر فَشَلَ محاوَلة الإثارةِ على ابن تيميّة: «ثمَّ سَكَنَتْ القضيّةُ إلى أيّام الجاشْنَكِيْر، فأوهمَه الشّيخُ نَصْرٌ أنَّ ابنَ تيميّة يُخْرِجُهُم من الـمُلْك ويُقيمُ غيرَهم، فطُلب إلى الدِّيار المِصْرِيّة». وكلامُ الـمَنْبِجي هذا وغيرُه يَظهرُ أنَّه من تَصديقه لسَعْي بعض الأَوْباش -كما وَصَفَهم الذَّهبيُّ في تكملة السِّيَر (30/186)-، وإلّا فكَيف يُطري ابنُ تيميّة ابنَ تُومَرْت وقد ردّ عليه وذمَّ ضَلالَه وكَذِبَه في مواضع من كُتُبه؟ ومنها: المنهاج (3/297 و4/98 و167 و6/189)، وبيان تَلبيس الجهميّة (3/102)، ودَرْء تعارض العَقْل والنَّقل (3/438)، بل له فتوى مستقلّة عنه وعن كتابه الـمُرْشِدة، تراها في مجموع الفتاوى (11/476)، ويُنظر فيه: (13/386 و19/158 و35/142).

 

ومنها في أمر تطلُّب الملك! فتقدّم الكلام عن محاولة الـمَنْبِجي، وقد سَبَقه إلى ذلك بعضُ أعداء ابنِ تيميّة سنة 702 حيث تَمالَأَ جماعةٌ منهم، وحَمَلوا صوفيَّيْنِ وهما اليَعْفوري وأحمد القباريّ على تزوير كتابٍ بأنّ ابنَ تيميّةَ ومن معه يَسْعَونَ في إزالة نائب السَّلْطَنة وإبدالِه! وذلك لقَصْد الإيقاع بهم وإهلاكهم، لكن كُشفت المؤامرة. يُنظر: تاريخ البِرْزالي (4/115) والبداية والنِّهاية (18/18).

 

ومنها ما يَظْهَر أنّ الآقْشَهْرِيَّ أَخَذه عن ابنِ بَطُّوطة في قضية النُّزُول الإلهيّ، فهو الذي زَعَم حضورَه بنَفْسِه أنَّ ابنَ تيميّة ذَكَر على مِنْبَر الجامع حديثَ النُّزول؛ فنَزَلَ درجةً، وقال: «كنُزولي هذا»! وهذه فريةٌ باطلةٌ بالأدلّة النَّقْليّة والتاريخيّة؛ وأفرد بيانَ ذلك جماعةٌ، منهم السادة العلماء: أحمد بن إبراهيم بن عيسى، ومحمد رَشيد رِضا، ومحمد راغب الطَّبّاخ، ومحمد حامد الفَقي، ومحمد بَهْجة البَيْطار، وعبد الله كَنُّون، وعلي بن المنتصر الكَتّاني، وأحمد بن حجر آل طامي، وشيخنا عبد الهادي التّازي، في آخرين. على أنّه قد تكلّم في ابنِ بَطّوطة عددٌ من علماء عَصْرِه ومِصْرِه، وكذا في كاتب رحلته لاحقًا ابنِ جُزَيّ الكَلْبي. فهذا أحدُ الموارد المحتملة جِدًّا؛ لكنَّ ابنَ بَطّوطة أفاد بالزَّمان وتحديد المكان والتَّفاصيل للحادثة بما عُلم بُطلانه عند مَن بَحثَه؛ لأنّه في وقت زيارة ابن بَطُّوطة لدمشق -الّتي حدَّدها في رمضان سنة 726- كان ابنُ تيميّة في سِجْنه الأخير الذي ماتَ فيه، مع مخالفة المعروف من كونه يدرّس على كرسيٍّ؛ لا على منبر الجامع كما زَعَم ابن بَطّوطة، مع غرائبَ ومناكيرَ أخرى أوردها يعرفها أهلُ دمشق، مثل زَعْمه أنَّ القَبْرَ المنسوبَ الّذي في الجامع الأُموي هو لزكريّا عليه السلام! وأنَّ ابنَ تيميّة ألّف في سجنه التَّفسيرَ المحيط في أربعين مجلَّدًا!

 

فظَهَرتْ بعضُ مَوَارِد الآقْشَهْري وأنّها ليستْ بعُمدة، بل من مفتَرَيات أعداء ابنِ تيميّة البيِّنةِ، فكيف بغيرها ممّا لم يُعرف أساسًا؛ وهو واضح التأثُّر بأعداء الرَّجُل؟ فهل بمَصْدَر كهذا تُثبَت نسبةُ الأقوال لأهل العلم؟ وإن كان الآقْشَهْريُّ أَخَذَ فِرْيَة النُّزول مباشرةً أو بالواسطة من عصريِّه ابن بَطُّوطة فيُضاف هذا لما سَبَق من تأخُّر الآقْشَهْري وتَرَاخيه في تدوين التَّفاصيل وعَدَمِ شُهودِه لها.

 

و- ما دام الآقْشَهْريُّ يَنْقُل عمّن يُعرَف ومن لا يُعرَف، ويظهرُ جليًّا أن فيهم من أعداء شيخ الإسلام ممّن يَفْتَري عليه: فينبغي التَّأكيد على أمرٍ سجَّله المؤرِّخون في حياة ابن تيميّة وبعدها من تزويرِ أعدائه الأقوالَ عليه والمواقفَ بل المكاتَبات، وتغييرِهم لكلامه، وتعمُّدِهم الافتراءَ والتَّشنيعَ عليه إرادةَ قَتْلِه وصَدِّ الناس وتَنفيرهم عنه، وثمّة نقولٌ عدّةٌ في ذلك للعَلَم البِرْزالي وابنِ عبد الهادي والذَّهَبي وابن فضل الله وابن كَثير وأمثالهم من المصادر الأصليّة العالية، وذَكَروها للمعرفة والتَّنبيه، بل ذَكَرَ ابنُ تيميّةَ بنفسِه أشياءَ من ذلك! ومَنْ كان حالُه كذلك فيتأكَّدُ فيه على الباحث مَزيدُ اليَقَظة في التثبُّت؛ لئلّا تُسقِطَه الغَفْلةُ فيَقَع في شَرَك الـمُفْتَرين، ويُصيبَ قومًا بجهالة، فيُصبحَ على فِعْلَتِه من النادِمين يوم الدِّين. ويبدو أنَّ الزَّعم المنقول وأمثاله من آثار إشاعات أعداءِ الشَّيخ ومفتَرَياتهم عليه، ووَصَلَ لبعض من سَجَّله بلا تثبُّت، وجاء بعدُ من زاد فجعلَه في غفلةٍ من الحقائق!

 

ز- لَـمّا كان الحافظُ ابن حَجَر رحمه الله مجرَّد ناقلٍ لهذا ولغيره، وأَبْرَأَ العُهدةَ بالإحالة: هل نراه اعتدَّ بهذه الدعاوى والمناكير في حقِّ ابنِ تيميّة، ممّا هو أشدُّ من مجرَّد دعوى تخطئة سيِّدنا عليّ رضي الله عنه؟

 

أمّا على العُموم؛ فالواقع معروفٌ لكلِّ من يطالعُ تقريظَه للردِّ الوافر لابن ناصر الدين، والنُّقولاتِ الكثيرةَ التي ينقلُها عنه راوِيَتُه الحافظُ السَّخَاويُّ من مواقفه مع أتْباعِ ابنِ تيميّة وخُصومه، فيدلُّ أنّه هو نفسه لم يكترث بالمنقول، ولا اعتدَّ به، وإلّا لَرَجَعَ النَّقدُ عليه هو! وهو الذي دعا في تقريظه المذكور إلى طريقة التثبُّت السَّليمة قائلًا: «فالواجبُ على من تلبَّس بالعلم، وكان له عقلٌ، أن يتأمَّل كلامَ الرَّجُلِ من كُتبه المشتهرة، أو من أَلْسِنة مَنْ يوثَقُ به من أهلِ النَّقل». فمن طبّق كلامَه الذي أوجَبَه على ما نَقَلَه: ظَهَرَ له الحالُ في عَيْنِ ما أَمَرَ به الناقلَ للزَّعم عنه، والذي أَخَذَه بعضُهم بالتَّسليم دون تمحيصٍ. وابنُ حَجَر هو القائل: «وشهرةُ إمامة الشيخ تقيِّ الدّين ابنِ تيميّة أَشْهَرُ من الشَّمس، وتلقيبُه بشيخ الإسلام باقٍ إلى الآن على الألسنة الزَّكيّة ويستمرُّ غدًا كما كان بالأمس، ولا يُنكرُ ذلك إلّا مَنْ جَهِلَ مقدارَه، وتجنَّب الإنصافَ؛ فما أكثرَ غَلَط مَنْ تعاطى ذلك وأكثرَ غُبارَه، فاللهُ تعالى هو المسؤولُ أن يَقينا شرورَ أنفسنا وحصائدَ ألسنتنا بمَنِّه وفَضْلِه».

 

وهو الذي كَتَب من نَظْمِه على كتاب الفُرقان لابن تيميّة؛ فيما نَقَله العُليمي في تاريخه (2/339):

لله دَرُّكَ مِنْ إمامٍ مُفْرَد
لم يَثْنَهِ عن قولِ حَقٍّ ثانِ
نَظَرَ الهُدى والزَّيغَ مُشْتَبِهَينِ في
نَظَرِ الجَهولِ فجاءَ بالفُرْقانِ

 

وأمّا على الخصوص؛ فلابن حَجَر كلامٌ خاصٌّ في ترجمة ابن المطهَّر الحِلّي في لسان الميزان؛ ويأتي الكلامُ عنه.

 

ومن الوقفات حول دقّة النقل:

تقدَّم أنّي لم أجد النصَّ المذكور، لكن: هل يُمكن أن يكون منقولًا بصياغةٍ محرَّفةِ المعنى؟ فيكون نقلًا مُخِلًّا غير دَقيق؟ ولا سيّما مع ما في الآقْشَهْري من كلامٍ في أوهامٍ فاحشة، ممّا تبيّن بجلاءٍ في بعض نُقوله الآنفة عن شيخ الإسلام؟

 

نُعيد نَقْلَ كلام الآقْشَهْريِّ عن ابن تيميّة لهذه الجزئيّة، ثم ننظرُ في ذلك: «وقال في حقِّ عليٍّ: أخطأ في سبعة عشر شيئًا؛ ثمّ خالفَ فيها نصَّ الكتاب؛ منها: اعتدادُ المتوفَّى عنها زوجُها أطولَ الأجلَيْن».

 

من يَبْحَثْ في كلام شيخ الإسلام في مسألة عِدَّة المتوفّى عنها زوجُها -وأنّه أطولُ الأجلَيْن- يُظهر ما يُمكن أن يكون أصلَ الكلام، ولكن حوَّره الناقلُ بفَهْمِه، وأحال المعنى وغيَّره.

 

فقال ابنُ تيميّة في منهاج السُّنّة (4/182-184) ضمن نقاط ردِّه على طَعْن ابنِ المطهَّر الرافضي في سيِّدنا عُمر رضي الله عنه في مَنْعِه لـمُتعة الحَجّ، فجاء ضمن كلامه الطَّويل: «وما ذَكَرَه عن عُمر رضي الله عنه.

 

فجَوابُه أن يُقال:

أولًا: هَبْ أنّ عُمر قال قولًا خالفَه فيه غيرُه من الصَّحابة والتابعين -حّتى قال عِمْرانُ بن حُصين رضي الله عنه: تمتَّعْنا على عَهْدِ رَسول الله صلى الله عليه وسلم، ونَزَلَ بها القرآن، قال فيها رَجُلٌ برَأْيِه ما شاء. أخرجاه في الصَّحيحَيْن.- فأهلُ السُّنّة متّفقون على أنَّ كلَّ واحدٍ من الناس يُؤخَذُ من قوله ويُتْرَك إلّا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنْ كان مقصودُه الطَّعْنَ في أهل السُّنَّة مطلَقًا فهذا لا يَرِدُُ عليهم، وإن كان مقصودُه أنَّ عُمرَ أخطأ في مسألةٍ فهُمْ لا يُنَزِّهُونَ عن الإقرار على الخَطَأ إلّا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم. وعُمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه أقلُّ خَطَأً من عليٍّ رضي الله عنه.

 

وقد جَمَعَ العُلماء مسائل الفِقْه التي ضُعِّفَ فيها قولُ أحدِهما فوَجدوا الضَّعيف في أقوال عليٍّ رضي الله عنه أكثرَ؛ مثل إفتائه أنَّ المتوفّى عنها زوجُها تعتدُّ أبْعَدَ الأَجَلَيْن، مع أنَّ سُنّةَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الثابتةَ عنه الموافقةَ لكتاب الله تقتضي أنَّها تَحِلُّ بوَضْعِ الحَمْلِ. وبذلك أفتى عُمَرُ وابنُ مَسْعودٍ رضي الله عنهما. ومثل إفتائه بأنَّ المفوَّضة يسقطُ مَهْرُها بالموت، وقد أفتى ابنُ مسعود وغيرُه بأنّ لها مَهْرَ نسائها، كما رواه الأَشْجَعِيُّون عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في بَرْوَعَ بنتِ واشِق.

 

وقد وُجد من أقوال عليّ المتناقضة في مسائل الطَّلاق وأمِّ الوَلَد والفرائض وغير ذلك أكثر ممّا وُجد من أقوال عُمر المتناقضة.

 

وإن أرادَ بالتمتعُّ فسخَ الحجِّ إلى العمرة، فهذه المسألة نزاعٌ بين الفقهاء»... الخ.

 

ثم انتقل للنُّقطة الثانية في ردّه.

فتأمَّل النَّقْلَ من مَصْدره الأصليّ كيف هو، وكيف صار بعد التَّحوير والتَّغيير والاقتصاصِ من السِّياق بإخلالٍ يُحيل المعنى. فالكلامُ جاء ضمن أوجُه إلزامِ الرافضيِّ في مسائل الاجتهاد المرجوح في هذه المسألة أنّه إنْ كانَ طَعْنًا في عُمر فيلزمُ الطاعنَ مثلُه وأكثرُ في عليٍّ بغيرها، ذلك لأنَّ الرافضي يعدُّه إمامًا معصومًا، أمّا أهلُ السُّنّة فلا يدَّعون العِصْمَة لأيٍّ من الصحابة الكرام بأفرادهم، ولكنّهم يَعُدُّون ذلك من الاجتهاد المأجور والخَطَأ المغفور، ولا يخطُرُ ببالِ أحدِهم أنّه طَعْنٌ! ولا فاه أحدٌ معتَبَرٌ أنَّ عائشةَ وغيرَها من الصَّحابة يَطعنُ في نَظيرِه عندما يَستدركُ عليه، ويُجِلُّون الجميع، فجاءَ من اختَصَر النَّصَّ بإخلالِ فَهْمٍ شَديد، وجَعَله طَعْنًا! وليس كذلك، وجَعَله يزعمُ مخالفته للقرآن في سبعةَ عَشرَ موضعًا، وليس كذلك لا نصًّا، ولا حتى عَدَدًا، فإنّما ذَكَر مسألتَيْنِ من الخلافيّات الاجتهاديّات، ثمّ أَجْمَلَ في ثلاثة أبوابٍ أخرى، ولم يذكر في أيٍّ منها مخالفةَ القرآن! زِدْ أنَّ الزاعمَ جعله من كلام ابن تيميّة الخاصِّ به، وهو كما ترى ينقلُ الأمرَ عَمَّن جَمَع المخالفاتِ من العلماء! فأين الدِّقّةُ والإنصاف؟

 

وقد صَرَّح في موضعٍ آخَرَ من منهاج السُّنّة (6/440-441) بما يُجلّي مرادَه بمَنْ جَمَع هذه المخالفات من العُلماء، وكذا بمفهومه للاجتهادات فيما خُولف، وأنَّ القَصْدَ بإيراد ذلك ضَرْبُ دعوى الرافضة بعِصْمة عليٍّ رضي الله عنه، فأنقلُ ذلك لما فيه من فائدةٍ وتجليةٍ، فإنَّ من مبادئ التثبُّتِ جَمْعَ كلامِ العالِـم الذي يُبيِّن بعضُه بعضًا، وردَّ الـمُجْمَل الذي قد يَشْتَبِه إلى المفصَّلِ الواضح، فقال: «وهذا جوابٌ خامسٌ: وهو أنه إذا لم تكن الحُجَّةُ على العِصْمَة إلّا قول المعصوم: إنّي معصوم؛ فنَحْنُ راضونَ بقول عليٍّ في هذه المسألة، فلا يُمكن أحدٌ أن ينقلَ عنه بإسنادٍ ثابتٍ أنّه قال ذلك، بل النُّقولُ المتواترةُ عنه تنفي اعتقادَه في نفسه العِصْمةَ.

 

وهذا جوابٌ سادسٌ: فإنَّ إقراره لقُضاته على أن يحكموا بخلاف رأيه دليلٌ على أنّه لم يَعُدَّ نفسَه معصومًا.

 

وقد ثَبَت بالإسناد الصَّحيح أن عليًّا قال: «اجتمعَ رَأْيي ورأيُ عُمرَ في أُمّهاتِ الأولاد أن لا يُبَعْنَ. وقد رأيتُ الآن أن يُبَعْنَ». فقال له عَبيدةُ السَّلْمانيُّ قاضيه: «رأيُكَ مع عُمر في الجماعة أحبُّ إلينا من رأيك وَحْدَك في الفُرْقة».

 

وكان شُريح يحكم باجتهاده؛ ولا يراجعُه ولا يشاورُه، وعليٌّ يُقِرُّه على ذلك. وكان يقول: «اقْضُوا كما كنتم تَقضون». وكان يُفتي ويَحكُم باجتهاده، ثم يرجعُ عن ذلك باجتهاده؛ كأمثاله من الصَّحابة. وهذه أقوالُه المنقولة عنه بالأسانيد الصِّحاحِ موجودةٌ. ثمَّ قد وُجد من أقواله التي تخالفُ النُّصوصَ أكثرَ ممّا وُجد من أقوال عُمرَ وعُثمانَ. وقد جَمَع الشافعيُّ من ذلك كتابًا فيه خلافُ عليٍّ وابن مَسْعود، لـمّا كان أهلُ العراق يناظرونه في المسألة، فيقولون: قال عليّ وابن مَسْعود؛ ويحتجّون بقولهما. فجَمَع الشافعيُّ كتابًا ذَكَر فيه ما تَركوه من قول عليٍّ وابن مَسْعود. وجَمَع بعده محمدُ بن نَصْرٍ الـمَرْوَزيُّ كتابًا أكبرَ من ذلك بكثيرٍ؛ ذَكَره في مسألة رَفْع اليَدَيْن في الصَّلاة، لـمّا احتُجَّ عليه فيها بقَوْلِ ابنِ مَسْعود».. الخ.

 

ويُنظر أيضًا (6/113 و7/502، و8/281 و299) ومجموع الفتاوى (20/314 و35/124). فهل فَهِمَ أحدٌ من العُقلاء المنصفين أنَّ الشافعيَّ أو ابنَ نَصْرٍ المروزيَّ يطعن في هذين الصَّحَابيَّيْن الجليلَيْن؟

 

فإذا تَبيّنَ هذا، فلعلّه يظهر أصلُ ما ادّعاه الآقْشَهْريُّ أيضًا في النصِّ نفسِه من تخطئة ابنِ تيميّةَ لعُمر، وأصلُ غيره من النُّقول المبتورة المبتسرة عنده، والتي يتصرَّف الناقلُ إمّا من تلقاء نفسه أو عن غيره؛ بما لا يَرضى دِقَّتَهُ وصِحَّتَه أهلُ العلم، فقد نصّوا: «إن كنتَ ناقلًا فالصِّحّةَ»، ومنعوا من الرِّواية بما يُحيل المعنى، وهاك أجلى مثالٍ للتصرُّف الـمُحيل أعلاه!

 

ولستُ أتخرّصُ في الدعوى، فهذا الآقْشَهْريُّ زعَم أيضًا -فيما نقل عنه ابنُ حَجَر- أنَّ ابنَ تيميّة قال عن عليٍّ: «إنّما قاتَلَ للرِّياسَة لا للدِّيانة»! فمن يراجعُ هذه العبارةَ في كَلَامِ ابنِ تيميّة يجدُ أصلَها في منهاج السُّنّة (2/60) في سياق إلزاماته للرّافضةِ الطاعنينَ بأبي بكر وعمرَ رضي الله عنهما بأنّهما تطَلَّبا الرِّئاسة، فقال: «فإنْ جازَ للرافضيِّ أن يقول: إنَّ هذا كان طالبًا للمال ‌والرِّياسة، أمكنَ الناصبيَّ أن يقول: كان عليٌّ ظالـمًا طالبًا للمال ‌والرِّياسة! قاتَلَ على الولاية حتى قتل المسلمون بعضهم بعضًا، ولم يقاتل كافرًا، ولم يحصُل للمسلمين في مُدّة ولايته إلّا شَرٌّ وفتنةٌ في دينهم ودنياهم!

 

فإن جاز أن يُقال: عليٌّ كان مُريدًا لوجه الله، والتَّقصيرُ من غيره من الصَّحابة، أو يقال: كان مجتهدًا مُصيبًا وغيرُه مخطئًا مع هذه الحال، فأَنْ يُقال: كان أبو بكر وعُمر مُريدَيْن وجهَ الله مُصيبَيْن، والرافضةُ مُقصِّرون في معرفة حقِّهم، مخطئون في ذَمِّهِم بطَريق الأَوْلى والأَحْرى، فإنَّ أبا بكر وعمرَ كان بُعْدُهما عن شُبهة طَلَبِ الرِّياسة والمال أشدَّ من بُعْدِ عليٍّ عن ذلك، وشُبهةُ الخوارج الذين ذَمُّوا عليًّا وعثمان وكفّروهما أقربُ من شُبهةِ الرافضة الذين ذَمّوا أبا بكر وعُمر». وله كلامٌ متعدِّدٌ مشابهٌ له.

 

فانظر رعاك الله كيف يكون اقتصاصُ الكلامِ الذي يُساق للإلزامِ على لسان خَصْم الرافضي من النَّواصِبِ: فيُجعل باعتسافٍ شديدٍ كأنّه كلامُ ابنِ تيميّة ورأيُه؛ ثم يُؤاخَذُ عليه، وإنّما المؤاخَذُ صاحبُ الفَهْمِ السَّقيم!

 

وانظر مثالًا آخر من نَقْلِ الآقْشَهْريِّ أنَّ ابنَ تيميّة قال عن عليٍّ: «إنّه كان مخذولًا حيثما توجَّه»! فوازِنْ بين هذا التَّقويل الشَّنيع عبر النَّقل المقتطَع الـمُخِلّ وبين ما أورَدَه ابنُ تيميّة في المنهاج (7/20) في إبطال الحديثِ المكذوب: «مَنْصورٌ من نَصَره مخذولٌ من خَذَلَه»، وانظر للبَوْن الشاسع.

 

ومثلُه في الكلام عن حُكْمِ إسلام الصَّبِيِّ على قولٍ! جاء به ابنُ تيميَّة في المنهاج (8/286) ضمن الإلزامات والأوجه المتعدِّدة على الرافضيِّ في تقديمه لعليٍّ بالإمامة على الخلفاء الثلاثة بدعوى أنَّهم أسلموا بعد شِرْكٍ؛ وأنّهم ظَلَموا أنفسهم -على زَعْمِه-. فاقتُطع السِّياق، واتَّجه الـمَلَامُ على الناقل دون المنقول عنه؛ وهو الإمام الشافعيّ!

 

واكتفيتُ بهذه الأمثلة لمعرفة حال الباقي، وهذا كُلُّه فيما ظَهَر أصلُه! فكيف بغيره ممّا لعلّه ليس له أصلٌ إلا الافتراءُ من الأعداء؟

 

وما سبق التَّمثيل به:

هو بابٌ كبير ممّا يَغلطُ فيه الغالِطون على ابن تيميّة وأمثاله؛ من اقتطاع الكلام عن سِيَاقه، والتصرُّفِ فيه، وقد يكونُ فيه ناقلًا عن غيره، أو أَوردَه ضِمْنَ إلزامِ الخَصْم، ونحوه، ولا سيّما أنّه طويلُ الاستطراد والنَّفَس، فيحصُل للمتعجِّل عدمُ التَّفريق بين القائل والناقل، وبين إيرادِ الإلزام وبين تبنِّيه، ثمّ تتمُّ محاكمةُ ابنِ تيميّة إلى فَهْم الغالِط عليه، وإنّما الخَلَلُ من فَهْمه وصَنيعه هو! ولو نُقِلت النُّصوصَ بأمانةٍ دون تَعَجُّلٍ وتصرُّفٍ لطُوِيَ خلافٌ كثيرٌ! وما آفةُ الأخبارِ إلّا رُواتُها.

 

هذا؛ ولم يقُل أحدٌ معتبَرٌ أنَّ من يُناظِر يُؤاخَذ بإلزاماته للخَصم وكأنّه يتبنّاها! كأنْ يزعم أنَّ إبراهيم عليه السَّلام تعمَّد الكذبَ -حاشاه- لـمّا قال ضمن إلزام الـمُشْرِكين: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾.

 

أو أنّ الباقَلّانيَّ تنقَّصَ مريم عَليها السَّلام في مناظرته المشهورة مع النَّصارى حال إلزامِه لهم.

 

ومن اللَّطيف ههنا أنّ ممّا نقله الآقْشَهْري عن الطُّوفي أنه سمع ابنَ تيميّةَ يقول: «من سَأَلني مستفيدًا حقَّقْتُ له، ومن سَأَلني مُتعَنِّتًا ناقضتُه؛ فلا يلبثُ أن يَنقطعَ؛ فأُكفى مؤنتَه».

 

◘ وهنا يناسبُ أن أعود إلى الحافظ ابن حَجَر؛ فإنّه وإنْ كان من الـمُنْصِفين والمعظِّمين لشيخ الإسلام ومدرسته عامّة؛ فقد جاء في كتابه لسان الميزان (6/319-320 الهندية، 8/551 أبي غُدّة) في ترجمة ابن المطهَّر الرافضي قوله: «ولَزِمَ من مُبالَغتِه لتوهينِ كلامِ الرافضيِّ الإِفضاءُ أحيانًا إلى تنقيصِ عليٍّ، وهذه الترجمةُ لا تحتملُ إيضاحَ ذلك وإبرازَ أمثلته».

 

قلت: ليتَه بيَّن؛ لأنّ الكلامَ مُجمَلٌ، والكتابَ كبيرٌ، والكلامَ عن الأحاديث فيه كثير، كما أنَّ عبارةَ ابن حَجَر فيها تقليلٌ للمواضع، وأنَّها من اللَّوَازم، ولو كان أمكنَ النَّظرُ فيها؛ لجَرَى البَحْثُ والتَّحقيق: هل المواضع مُسَلَّمةٌ أم لها جوابٌ من جِنْسِ ما سَبَق؟ وهل كلُّ الأمثلةِ التي أشار لها الحافظُ من نَظَرِه المستَقِلِّ، أم فيها النَّقلُ الخاصُّ أو العامُّ عن الآخَرين؛ كما في كتابه الآخر الدُّرر الكامِنة من النُّقول عن الآقْشَهْري؟ ولا يُقضى على غائبٍ.

 

نعم؛ قد رأيتُ الحافظ ينقلُ مرارًا من المنهاج، وله استدراكاتٌ حديثيَّةٌ عليه في فتح الباري؛ لكن لم أَرَ منها ما ذُكر فيه التنقُّصُ لعليٍّ رضي الله عنه. وأمّا نَقْدُه في الحديثِ فقد أَجمَل حالَه بما ذَكَره في ترجمة ابن المطهَّر في الدُّرر الكامنة (2/189)، فقال: «وله كتابٌ في الإمامة ردَّ عليه فيه ابنُ تيميّة بالكتاب المشهور، المسمّى بالردِّ على الرافضيّ، وقد أَطْنَب فيه وأَسْهَبَ، وأجاد في الرَّدِّ، إلّا أنّه تحاملَ في مواضعَ عديدة، وردّ أحاديث موجودة -وإن كانت ضعيفةً- بأنها مختلَقة». وقال في اللِّسان: «وقد طالعتُ الردَّ المذكور، فوجدتُه كما قال السُّبكيُّ في الاستيفاء، لكنْ وجدتُه كثير التَّحَامل إلى الغاية في ردِّ الأحاديث التي يوردُها ابنُ المطهَّر، وإن كان معظمُ ذلك من الواهيات والموضوعات، لكنّه رَدَّ في رَدِّه كثيرًا من الأحاديث الجِيَاد التي لم يَسْتَحضرْ حالةَ تصنيفه مَظانََّها، لأنه كان لاتِّساعِه في الحفظِ يتَّكلُ على ما في صَدْرِه، والإِنسانُ قابلٌ للنِّسيان».

 

والنَّقدُ الحديثيِّ وقوّةُ النَّفَسِ فيه متفاوتٌ بين الحُفاّظ؛ ولا سيّما المتأخِّرين، ولكلٍّ اجتهادُه الدائر بين الأَجْرِ والأجرَيْن، والباحثُ الحديثيّ يَلحظ أنَّ ابنَ تَيميّة يُركّز في كثيرٍ من نَقْدِه على النَّظرِ في الـمُتون، بينما ابنُ حَجَر يركّز أكثر على رُواة الأسانيد، وسمعتُ شيخَنا المحدِّث المحقِّق محمد يونُس الجَوْنْفُوريّ يفضِّل ابنَ تيميّة على ابنِ حَجَر في النَّقْد الحديثيّ -رغم شدّة تعظيمه لابن حَجَر؛ حتى كان يقولُ عنه: هو عَمِّي في الحديث!-.

 

ولَدَيَّ أمثلةٌ ممّا اختلفَ فيه قولُ الحافظَيْنِ ابنِ تَيميّة وابنِ حَجَر ممّا لعلَّ الصَّنعة الحديثيّة فيها تَقِفُ بجانب ابنِ تيميّة، ومن ذلك جملةٌ ممّا عُدَّ من موضوعات مُسنَد أحمد، على أنَّ ابنَ تيميّة مسبوقٌ في كثير منها؛ فلا يتّجه إفرادُه بالنَّقد أصلًا. ومع كَوْنِ الكلام عن المنهاج ههنا أطولَ من الدُّرر الكامنة لكنّه ما أشار أيَّ إشارة لأَمْرِ التَّنَقُّص؛ مع كونه أهمَّ بكثيرٍ من اختلاف النَّظَرِ الحديثيّ، وفيه مخالفةٌ مع وَصْفِه له ههنا بالإجادة.

 

وبالأحوالِ كافّة؛ فقد أبدى الحافظُ ابنُ حَجَر -لإنْصافِه- العُذْرَ في جملةٍ من الأوهامِ التي رآها، لكنْ محلُّ بَحْثِنا هو أَمْرُ التَّنقُّصِ.

 

ومن يَنْظُر في المنهاج، وفي المنتقى منه للناقد المتجرِّدِ الذَّهبيِّ -وقد مَرّ على جميع أصلِه-، وكلامِه عنه؛ لا يكاد يَجِدُ ما ذُكر، ولا سيّما المواضع التي ذكرَها بعضُهم أنّها انتقاصٌ، وإذا بها ممّا تقدّمتْ الإشارةُ إليه. والله أعلم.

 

وأيضًا فقد أثنى على الكتاب جملةٌ من الأكابر دون أن يَذْكروا فيه هذا الأمر، ومن ذلك قولُ ابنِ كَثير في تاريخه (18/271) ضمن ترجمة ابنِ المطهَّر: «وله كتابُ منهاج الاستقامة في إثبات الإمامة، خَبَطَ فيه في المعقول والمنقول، ولم يَدْرِ كيف يتوجّه، إذ خَرَج عن الاستقامة، وقد انتدبَ للرَّدِّ عليه في ذلك الشيخُ الإمام العلّامة شيخُ الإسلام أبو العباس ابن تيميّة في مجلَّدات، أتى فيها بما يَبْهَرُ العُقولَ من الأشياء الـمَليحة الحَسَنة، وهو كتابٌ حافلٌ».

 

وهكذا في ردِّ السُّرَّمَرِّي على أبيات التَّقيّ السُّبْكيّ الّتي انتقد فيها منهاج السُّنّة ومؤلِّفَها ابنَ تيميّة بنَقْدٍ مُجمَلٍ تظهرُ فيه آثار العصبيّة المذهبيَّة المجرَّدة[2]، وإن كان ليس فيها أدنى إشارةٍ لمزاعم تنقُّصِ عليِّ رضي الله عنه، ولو وَجَد ذلك لكان أَوْرَدَه. وهكذا الأمرُ أيضًا في ردِّ اليافعي على السُّبْكيّ.

 

ويُنظر بعضُ ثَنَاءات ناسخ المنهاج بخطِّه؛ وهو الشيخ البدر محمد بن عبد العزيز المارِديني؛ فيما نقله متملِّكُ النُّسخة الحافظُ ابنُ ناصر الدّين الدِّمشقيُّ في الردِّ الوافر (ص117)، وقد أتى على الكتاب بكماله نَسْخًا.

 

وقال أبو الحَسَنات عبد الحيّ اللَّكْنَوي في التَّعليقات السَّنِيّة على الفوائد البهيّة في تراجم الحنفيّة (ص34): «وقد طالعتُ من تصانيفه: الفتوى الحَمَويّة، والواسطيّة، وغير ذلك من رسائله، ومنهاجَ السُّنّة؛ وهو أجلُّ تصانيفه، ردَّ فيه على منهاج الكرامة للحِلّي الشيعي، لم يُصنَّف في بابه مثله؛ لا قَبْلَه ولا بعده».

 

هل هناك مصدرٌ آخر يتابع هذا الزَّعم؟

رأيتُ غالبَ مَنْ رَدَّد هذا الزَّعمَ أَخَذَه من نَقْلِ الحافظ ابن حَجَر عن رحلة الآقْشَهْري، وهو المصدرُ الأشهر للزَّعم، لكنْ ثمَّةَ نقلٌ آخَرُ من مصدرٍ فرعيٍّ بالوجادة لدعوى أَعْرَضَ بأضعافٍ وأَغْرَبَ!

 

فثمّةَ رسالةٌ تُنسب وجادةً للشيخ الصّالح محمد بن إبراهيم الأُرْمَوي (ت711) فيها سبٌّ وتهكُّم بابن تيميَّة، وأنّه كتبها سنة 705، وفيها الزَّعمُ بأنَّ ابنَ تيميّة قال إنَّ عليًّا رضي الله عنه أخطأ في ثلاثمئة موضعٍ!

 

وساق الرِّسالةَ البَرْزليُّ التُّونُسيُّ في فتاويه (6/204-205)، مصرِّحًا أنه كَتَب عن خطِّ أبي مَهْدي عيسى الغِبْريني (ت816) كتابًا نُسختُه: «كَتَبَ الشيخ الصالح العارف الكبير أبو عبد الله محمد ابن الشيخ إبراهيم الأُرْمَوي إلى الشيخ تقيِّ الدين ابن تيميّة سنة خمسٍ وسبعمائة: من الفقيه محمد بن إبراهيم إلى الشيخ الكبير.. الخ». فساقها بتحريفاتٍ كثيرة في المطبوعة وسقوطٍ؛ تُستدرَك من الفتاوى الحديثيّة (ص84-85) لابن حَجَر الهَيْتَمي (ت974) -على أنّه أبهمَ نِسْبَتها-، فقال ضمن كلامه الطَّويل ضدّ ابن تيميّة: «وقد كَتَب إليه بعضُ أجلّاء أهل عَصْرِه عِلمًا ومعرفةً سنة خمسٍ وسبعمائة: من فلانٍ إلى الشَّيخ الكبير العالم إمام أهل عَصْرِه بزَعْمه!..» إلى أن قال: «واللهُ أعلمُ بقَصْدِك ونيَّتِك! ولكنَّ الإخلاصَ مع العمل يُنتِجُ ظُهورَ القَبول، وما رأينا آلَ أمرُك إلّا إلى هَتْكِ الأَسْتار والأَعْراض، باتِّباع من لا يوثَقُ بقَوله من أهل الأَهْواء والأغراض، فهو سائرَ زمانه يَسُبُّ الأوصافَ والذَّوات، ولم يَقْنَع بسبِّ الأحياء حتى حَكَم بتكفير الأموات، ولم يَكْفِه التعرُّض على من تأخَّر من صالحي السَّلَف، حتى تعدَّى إلى الصَّدر الأوّل، ومن له أعلى المراتب في الفَضْل، فيا وَيْحَ من هؤلاء خُصَماؤه يوم القيامة، وهَيْهات أن لا ينالَه غضبٌ؛ وأنّى له بالسَّلَامة؛ وكنتُ ممّن سَمِعَه وهو على مِنْبَر جامع الجَبَل بالصالحيّة، وقد ذَكَرَ عُمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه، فقال: إنَّ عمر له غَلَطات وبَليّات وأيُّ بليّات! وأخبر عنه بعض السَّلَف أنه ذَكَر عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه في مجلسٍ آخرَ فقال: إن عليًّا أخطأ في أكثر من ثلاثمائة مكان! فيا ليتَ شِعْري من أين يحصُلُ لكَ الصَّواب؟ إذا أخطأ عليٌّ بزَعْمِك كرَّم الله وجهه وعمرُ بنُ الخطّاب...» إلى آخر ما نقل.

 

وأشار ابنُ قاضي شُهبة إلى الرِّسالة في ترجمة الأُرْمَويّ من الإعلام بتاريخ أهل الإسلام -مستفادًا من كتاب: المنثور من سيرة شيخ الإسلام ابن تَيميّة للبَرّاك (ص155)-، فقال: «وقد وقفتُ على نسخةِ كتابٍ كَتَبه إلى ابن تيميّة، وفيه إنكارٌ عليه وسبٌّ، وشهادةٌ عليه بنِسْبَتِه الصَّحابةَ بل خواصَّهم إلى الخطأ، وذلك في سنة خمسٍ وسبعمائة، نقلتُه من خطّ الشيخ صلاح الدين العَلَائي».

 

قلت:

وهذا نقلٌ فيه نكارةٌ شديدة، وفي ثُبوت الرِّسالة نَظَرٌ من أصلها، وبَيَان ذلك في نُقاط:

أ‌- فالرِّسالةُ منقولةٌ بالوجادة، والأُرْمَوي لم أَرَه من شُيوخ العَلَائيِّ؛ أقدمِ من ذُكر بنَقْلها، وفي النَّفْسِ من ثُبوت نِسْبَتِها للأُرْمَويِّ تاريخًا وموضوعًا، فجاء في أول الرِّسالة تسميةُ الكاتب لنفسه بمحمد بن إبراهيم؛ دون النِّسبة للأُرْمَوي، ومصدِّرًا اسمَه بلقب الفقيه! وهو أمرٌ غير معتاد من تزكية النَّفس، خاصَّة أن الأُرْمَوي مذكورٌ بالصَّلَاح وأنّه شيخٌ قُدوة، ولم أَرَ في تَرَاجمه الاشتهارَ بلَقَب الفَقيه أو التَّعريف به بذلك، فقد قال عنه تلميذُه الذَّهبيُّ في معجم شُيُوخه (2/132): «شيخٌ حَسَنُ البِشْر، مقصودٌ بالزِّيارة، وله اشتغالٌ وفضيلة». واقتصر ابنُ حَجَر على بعض هذه الأوصاف في الدُّرَر الكامنة (5/12).

 

◘ وقال البِرْزاليُّ في تاريخه (4/492): «الشيخ الجليل، السيّد، العالم، الفاضل، القُدوة... وكان رجلًا مسنًّا، عنده فضيلةٌ وخير، فيه تودُّدٌ ومواظبة على المشيخة وإكرام من يزوره. وكانت شفاعتُه مقبولةً، وكلمتُه نافذةً... وله نَظْمٌ حسن، وجَمَع جُزْءًا في السَّماع، وجمع جزءًا فيه أخبار جَدِّه».

 

◘وقال ابن كَثير في البداية والنِّهاية (18/117): «الشّيخُ الصالحُ الجليل القُدوة... وكانت له وجاهةٌ عند الناس، وشفاعةٌ مقبولة، وكان عنده فَضيلةٌ، وفيه تودُّد، وجَمَع أجزاء في أخبار جدِّه».

 

◘وقال الـمَقريزي في المقفّى الكبير (5/60-61): «من بَيْت المَشْيَخة والصَّلاح... وله شِعْرٌ وتَصَانيف».

وأطنب فيه من عُني بالجانب الأدبي في التَّراجم لعذوبة شِعْرِه وأدبه، مثل ابن فضل الله العُمَري في المسالك (8/279) والصَّفَدي في أعيان العَصْر (4/215).

 

ولم أرَ أحدًا منهم نَسَب له الرِّسالة التَّيميّة، اللهم إلّا ابن قاضي شُهْبة المتأخِّر عنهم،ّ وهو معروفٌ بالانحراف عن ابن تيميّة.

 

نعم، الأُرْمَويُّ المعروف بالفقيه هو الصَّدْر محمد بن حسن، المتوفى سنة 700، ووفاتُه قبل تاريخ الرِّسالة. وقد يحتملُ لديّ أنَّ «الفقيه» تحرَّف من «الفقير»، وإنّما أحاكمُ النَّصَّ الذي تحت اليَد، والذي يَحتجُّ به المخاصِم.

 

◘ ويُلاحَظ أنَّ من نَقَلَ الرِّسالة إنّما أَورَد أنّه نَقَلها من خطِّ فلانٍ غير الشَّخص ِالمنسوبة إليه، ولم يَرِدْ عندهم ذِكْرٌ من أنَّ ناقلَها المسمَّى نَقَلَها من خَطِّ الأُرموي لِتَثْبُتَ عنه، فبانَ بما تقدَّم أنَّ الاحتمال قائمٌ من الاستناد بالظنّ في نسبةِ كاتبها محمد بن إبراهيم بأنّه الأُرْمَوي، أو أن تكون منحولةً عليه من الأساس. فلا غرابة أن شكَّك علّامةُ العراق النُّعمان الأَلُوسي بصحّة الرِّسالة من أصلها في كتابه «جلاء العَيْنَيْن» (ص73).

 

ب- جاء في الرِّسالة أنَّ الأُرْمَويَّ كان يحضرُ عند ابن تيميّة في منبر جامع الجَبَل بالصّالحيّة، وهذا متضمِّنٌ لغرائبَ مركَّبةٍ؛ أوّلُها أنَّ الأمرَ معكوسٌ، لأنَّ الأُرْمَويَّ شيخٌ لابن تيميّة، وقد قرأ ابنُ تيميّة عقيدةَ الأُرْمَويِّ عليه، وصرَّح بموافقته للأُرْمَوي؛ كما كَتَبَ الشيخُ عليُّ ابن الأُرْمَويِّ هذا بآخر مخطوطتها؛ ممّا نقلَه حفيدُه الشيخُ محمد بن أحمد بن عليّ من خطِّ جدِّه؛ ويأتي، والمذكور في ترجمة الأُرْمَويِّ أنه كان يُزار ويُقصَد.

 

ثمّ إنّي لم أهتدِ لكون ابن تيميّة كان يَخطبُ في جامع الجَبَل -المعروف بالجامع المظفّري أو جامع الحنابلة-، ولا أنّه كان يدرّس على المنبر أصلًا، على كثرة تَرَاجِمه وتواريخِ الشامِيِّين تلك الحقبة، ولا رأيتُ ذِكْرَه في تاريخ الصالحيّة لابن طُولون، ولا ذَكَر شيئًا من ذلك شيخُنا مؤرِّخُ الشام محمد مطيع الحافظ في كتابه الوثائقيّ الحافل والمستَقْصى عن تاريخ الجامع المذكور، فقد أورد فصلَيْن كبيرَين عن خطباء الجامع، والمدرِّسين فيه، وإنّما أورد لابن تيميّة سماعَين حديثيَّيْن في الجامع وقت شبابه سنتَي 675 و682 (ص581 و582).

 

والجامع مشهورٌ، وأخبارُه وأخبار خُطبائه ومدرِّسيه منتشرة، فقد كان من مراكز العلم وعواصم الحديث في الدُّنيا آنذاك، وشيءٌ كهذا من تدريس ابن تيميّة وخَطَابته في هذا الجامع لو حَصَل لذُكر له أصلٌ في الأخبار، ومن الصَّعْب أن يكون كاتبُ الرِّسالة حَضَرَ شيئًا منفردًا لم يحصُل إلّا له، وهو يقول: كنتُ ممّن سمعه على المنبر!

 

ج- من أدلة النَّكارة الجليّة جَعْلُ الرِّسالة مؤرَّخة سنة 705، وهي سنة محنة ابن تيميّة المشهورة، عندما أجلب عليه أعداؤه لسَجْنِه وأَذِيَّته، ونَبَشُوا عمّا قد يُؤاخَذُ به، وناظَرُوه في اعتقاده، وباحَثوه في الرِّسالة الواسطيّة، وما نَقلوا عنه شيئًا من هذا الزَّعم الباطل، بل فيها تَعظيم الصَّحابة وإجلالُهم، وصرَّح ابنُ عبد الهادي والذَّهبيُّ وابنُ كَثير وجمعٌ أنّ المشايخ المجتمعين انفصلوا على موافقته والرِّضا عنها.

 

ومن لطائف التَّقدير أنّ الأُرْمَويَّ نفسه كان أحد من استُدعي لمجلس مناظرة ابن تيميّة في هذا الاعتقاد -كما تراه في مجموع الفتاوى (3/203)-، ثامن رجب سنة 705، وقُرئتْ الرِّسالة الواسطيّة أمامه كلمةً كلمةً، وبُحثت مواضع منها، ثم اجتمعوا 12 رجب، فسابع شعبان، فلِمَ سَكَت حينها عن هذا المنسوب إليه بالرِّسالة إن كان يَعلمُ ما ذُكر فيها من عظائم؟ فلا يخلو أن يكون قد حَصَل ما يُزعم أنّه شَهِدَه قبل المحنةِ أو بعدَها، فأمّا قَبْلَها فبَعيدٌ للغاية، ولا سيّما أن ابنَ الأُرْمَويِّ ذكر قراءةَ ابن تيميّة لعقيدة الأب عليه سنة 704، وثناءه عليها أمام الناس، وأمّا بعد المناظرة فيَنْتَفي تاريخيًّا بأنَّ ابن تيميّة طُلب إلى مصر بُعيد المناظرة بيسيرٍ في كتابٍ من السلطان خامس رمضان سنة 705، وازدحم الناس لوداعه -والتفاصيلُ في تاريخ ابن كثير (18/55) وغيره-، ووصلها 22 رمضان، وبقي فيها إلى سنة 712 أي بعد وفاة شيخه الأُرْمَوي، فأنّى شَهِدَه على منبر جامع الصالحيّة؟

 

وهما إلى قبل سَفَر ابن تيميّة بأيّام كلاهما مصرِّحٌ بمُوافَقَته لعقيدة الآخر، ولعلّه آخرُ اجتماعٍ بينهما في الدُّنيا؟ وابنُ الأُرْمَويِّ ينقل الأمرَ بآخر عقيدة والده وينوِّه مغتبطًا بقراءةِ ابن تيميّة وبتصريحه بالموافقة -وفيها أيضًا تعظيمُ الصَّحابة-، ويلقِّبُه الابنُ بشيخ الإسلام؛ ولا عنده خبرٌ بموقف أبيه المزعوم في الرِّسالة؟! بل إنّ الأُرْمَويَّ كَتَب بخطّه مع القضاة والعلماء ممّن حضر مناظرة الواسطيّة وغيرهم في إنصافه، وأرسله نائبُ الشام إلى مصر.

 

ويوجد النصُّ على أنَّ الأُرْمَويّ ومحمد بن قِوَام والعلاءَ ابنَ العطّار صاحب النَّووي وغيرَهم كتبوا كتابًا مع ابن تيميّة لما سافر إلى مصر: «وأثنوا عليه بكلِّ وصفٍ جميلٍ؛ في دينه، وزُهده، وعِلْمِه، وحُسن عقيدته السالمة من التَّشبيه والتَّعطيل بثَناءٍ لم يُثْنَ على أحدٍ مثلُه، ووَقَفَ على ذلك أعيانُ أهل مصر». كما في مُلحق مختصر العقود الدُّرِّية لابن عبد الهادي، في مكتبة باريس الوطنية (رقم 2104 ق37/ب) [3].

 

وقد ذكر أمرَ هذه الشَّهادةِ أيضًا بالإجمال: ابنُ فضل الله العُمريُّ في المسالك (5/701)، وهو مصدرٌ رسميٌّ مطَّلِعٌ على تلك المرحلة؛ فقد كان من كبار رجالات الدَّولة وصاحب ديوان الإنشاء؛ كما تقدَّم ذكرُه.

 

فإلى مغادرة ابنِ تيميّةَ دِمَشْقَ -وهو آخر لُقِيٍّ بالأُرْمَويّ تذكره المصادرُ- وهو يُثني عليه ديانةً واعتقادًا، ويذكرُه غيرُ واحد، ثمّ يأتي مصدرٌ منكر ويزعم الضِّدَّ في السَّنة نفسِها؛ معاكسًا كلَّ الحقائق!

 

د- صرّح ابنُ تيميّة بعد سَرْدِه لأحداث مناظرة الواسطيّة -كما في مجموع الفتاوى (3/210)- أنّه جَرَى من أحد الموجودين وغيرِه بعد المناظرة: «من الكذب والاختلاق والتَّناقُضِ بما عليه الحالُ ما لا يوصَفُ! فجميعُ ما يَرِدُ إليك ممّا يناقضُ ما ذكرتُ: من الأكاذيب والاختلاقات، فتَعْلَمُ ذلك». بل إنّه صرَّح هنالك لنائب الشام في حضور القُضاة والمشايخ أنّه قد كُذِبَ عليه مرارًا في اعتقاده، ولهذا طَلَب إحضارَ ما كتبه بنَفْسِه في الاعتقاد لقاضي واسِط، ومن ثَمَّ أُحضرتْ؛ وحَصَلَتْ مناظرةُ الواسِطيّة.

 

وهذا ضمنَ مواطنَ كثيرةٍ صرَّح فيها هو ومترجِموه -مثل الشَّمس ابن عبد الهادي في سَرْدِه لأحداث المناظرة- بأنّ أعداءه كَذَبوا عليه. ومن كَذَبَ عليه فلا فَرْقَ عندَه ولا وازعَ أن يجعل كَذِبَه على لسان ابنِ تيميّة نفسه، أو لسانِ غيرِه ضدَّه. وقد تقدَّمت أمثلةٌ من الكذب الصَّريح على ابن تيميّة.

 

هـ- هل تتَّسِق النِّسْبةُ إلى الأُرْموي -المذكورِ بالصَّلاح والقُدوة، وصاحبِ المنزلة بين الحنابلة، وأنّه صاحبُ تودُّد، وعلوّ السِّنِّ والوَجَاهة- مع ما وَرَد في الرِّسالة من الإساءة العَريضة؛ مثل ظاهر الاتِّهام بهَتْكِ الأعراض! ومداومة السَّبِّ، وتكفير الأموات! والتعرُّضِ للصَّدْر الأوّل، وغيره ممّا هو ظاهرٌ في العداوة؛ من التَّهكُّم بأنه إمام العصر بزَعْمه! وتقحُّم النِّيّات، والتَّألِّي عليه بالغَضَب وغيره! حتّى وَصَف الرِّسالة ابنُ قاضي شُهبة بأنّها إنكارٌ وسَبٌّ؟

 

و- وابنُ قاضي شُهْبة ذَكَر أنّه نَقَلَ الرِّسالة من خَطّ العَلَائيّ، وأين التَّصريح بأنَّ العَلَائيَّ يصحِّح الرِّسالة؟ ولعلّه مجرَّد ناقلٍ لشيءٍ وَجَدَه دون اعتمادٍ بمثل ما تقدَّم في نَقْل ابنِ حَجَر عن الآقْشَهْريّ.

 

وتجدُ بالمناسبة نَقْلَ ابنِ حَجَر لثَنَاءِ العَلَائيِّ الرَّفيعِ من خطِّه على ابنِ تيميّة في الدُّرَر الكامنة (1/186)، وأوّلُه: «شيخنا وسيّدنا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى، شيخ التَّحقيق، السّالك بمن اتَّبعه أَحْسَنَ طَريق..» الخ. فهلّا احتجّ الناقلُ عنه بخطِّه المباشر بالـمَدْح؛ كما احتجَّ بخطِّه -لكنْ بالوجادة نقلًا عن غيره- بالقَدْح؟

 

ز- من أراد أن يُصَدَّق فعليه أن يحكي ما يُعقَل! فكيف يتفوَّهُ ابن تيميّة بكلامٍ كهذا على أكبر منبرٍ عامٍّ في عُقر الحنابلة، وهو أحد أكبر المراكز العلميّة في المنطقة، ثمّ لا يكون له أَثارةُ نقلٍ صَحيحٍ إلّا بهذه الوجادة المبتوتة؟ وكيف كانت لِتَغيبَ عن مخالفي ابنِ تيميّة ومُتَتَبِّعي أخطائه في وقته؟ مثل التَّقيّ السُّبْكي -وهو الذي أقرّ بأبياته استيفاءَ ابن تيميّة في الردّ على الرافضيِّ بأمر الصَّحابة، وصرَّح ابن حَجَر بموافقته له فيه- وغيرِه؟ ولماذا لم تظهر الإشاراتُ لهذه الرسالة إلّا بعد وفاة ابن تيميّة وكذا الأُرْمَويّ بمُدّةٍ مديدة؟ وأهملَتْه جميعُ المصادر الأصليّة التي رأيتُها على كثرتها؟

 

ح- ثمّ إنّ موضع الشاهد من نَقْلِ التخطئة لعَلِْيٍّ جاء في الرسالة بإخبارِ مُبْهَمٍ لم يُسَّمَّ أصلًا، فليس بحجَّة حتى لو ثَبَتَتْ نِسْبةُ الرِّسالة؛ رغم ما سقتُه من أدلّة نَكارتها وبُطلانها.

 

ط- ثمّ إنَّ من يتأمّل الكلام أوائل الرِّسالة: «ولكنّ الإخلاص مع العمل يُنتج ظُهور القَبول» لَيَجِدُه ينقضُ ما تلاه بعدها من سبٍّ واتّهاماتٍ وتألٍّ! وجنازةُ ابن تيميّة التاريخيّة وما كُتب له من قَبول كافيان في نَقْضِها!

 

ي- بعد أن نقل هذا النَّصَّ البَرْزليُّ ذَكَر عَقيبه مباشرة: «وبعد هذا ما نَصُّه: المسائلُ التي خالفَ فيها ابنُ تيميّة الناسَ في الفُروع والأُصولِ ممّا ذكرَه عبدُ الوهاب السُّبْكيُّ..»، فساق مسائل من فقهيّات وعقائد، لم يُذكر بينها أَمْرُ تنقُّصِ الصَّحابة مطلقًا، ثم قال البَرْزَلي (ص206): «لا خَفاءَ أنّ مَنْ نَظَرَ كلامَ الرَّجل ممّا نُسب إليه من التَّواليف يقتضي نَفْيَ أكثرِ ما نُسب إليه من هذه المسائل؛ غير أنّه من القائلين بالجِهَة، وله في إثباتها جزءٌ، وهو من الحنابلة، وعلى هذا المذهبِ عامّةُ المحدّثين..» إلى آخر كلامه، وهو يحتملُ الجوابَ عن نُقول التاج السُّبكي وحَسْبُ، ويحتملُ أنّه يشمل أيضًا النَّصَّ المتَّصِلَ به كاملًا ممّا نَقَله قبلُ بلا فاصلٍ، وكلاهما مأخوذٌ في الظاهر عن مُعادٍ لابن تيميّة، والله أعلم.

 

وقولُه عن الموازنة بين دعاوى المخالفات والنَّظَر في تآليف ابنِ تيميّة يجرُّنا للحديث عنها:

فمن الوقفات:

الموازنة مع أقوالِ ابن تيميّة الصَّحيحة الصَّريحة في الباب:

ممّا يَزيدُ من نَكَارة الزَّعم -مع عدم ثُبوته أصلًا عن ابنِ تيميّة-: أنّه معاكسٌ لكلامه الكثير الواضح المبيَّن في الباب، من تعظيم قدر عليّ رضي الله عنه، والدِّفاع عنه في مقابل أهل الإفراط والتَّفريط، من الرافضة والناصِبَة معًا، وذمِّهما الكثير، وصرَّح به في عَقائده التي كَتَبها وناظَر عليها، وثمّة من جَمَع في ذلك وأفرَدَه برسائلَ لكثرته، وهكذا كان كلامُه أحدَ أدلّة النُّعمان الألوسي البارزة في ردِّ الرسالة المنسوبة آنفًا في الإنكار على ابن تيميّة، فقال في جلاء العَيْنَيْن: «اعْلَمْ أوّلًا أنَّ عقيدة الشيخ ابن تيميّة الموافقة للكتاب والسُّنَّة وأقوال سَلَفِ الأُمّة مستفيضةٌ مفصّلةٌ في تَصنيفاته، وحُبُّه وتعظيمُه للصَّحابة الكرام -لاسيّما الشَّيخَيْن- طافحةٌ به عباراتُه، وذلك أَظْهَرُ من الشَّمْس في رابعة النَّهار خصوًصا لمن تتبَّعها في تأليفاته، ونَقْلُها بأَسْرِها يُفضي إلى الـمَلَلْ، إلّا أنّي أُحَرِّر لكَ البَعضَ؛ وعن البَحْرِ اكتفاءٌ بالوَشَلْ».

 

فابنُ تيميّة هو القائل في العقيدة الواسطيّة -التي أقرّها الأُرْمَويُّ-: «ويَتَبرَّؤون من طريقة الرَّوافض الّذين يُبغضون الصَّحابة ويسبُّونَهم، ومن طريقة ‌النَّواصب الّذين يُؤذون أهلَ البَيْتِ بقَوْلٍ أو عَمَلٍ». فيُنظَر إلى تَعريفه للنَّواصب؛ وكيف جَعَل التبرُّؤَ من أذيّة أهل البَيْت -حتّى بالقَول- من الاعتقاد. وذَكَر قبلَ ذلك أنّ من أُصولِ عقائد أهلِ السُّنّة سَلَامةَ صُدورهم للصَّحابة كافّة، وتفضيلَ الخلفاء الأربعة على سِوَاهم، وأنَّ من طَعَن في خِلَافَةِ أَحَدِهم فهو أضلُّ من حمار أهله، وأنّ أهل السُّنّة يُحبّون أهل البَيْت، ويحفظون فيهم الوصيّة النبويّة. إلى آخر كلامه الرَّفيع عنهم.

 

◘ ومن أقواله الكثيرة في منهاج السُّنَّة (8/165): «فَضْلُ عَليٍّ وولايتُه لله وعُلُوُّ مَنْزلتِه عند الله معلومٌ -ولله الحمدُ- من طُرُقٍ ثابتةٍ أفادتنا العلمَ اليَقينيَّ، لا يُحتاجُ معها إلى كَذِبٍ، ولا إلى ما لا يُعلَمُ صِدْقُه».

 

◘ وقال أيضًا (8/76): «لا رَيْبَ أنَّ عليًّا رضي الله عنه كان من شُجْعان الصَّحابة، وممّن نَصَر اللهُ الإسلامَ بجهاده، ومن كبار السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، ومِنْ سادات مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، وممّن قَتَل بسَيْفه عددًا من الكُفّار».

 

◘ وقال أيضًا (4/396): «وكُتُب أهل السُّنّة من جميع الطَّوائف مملوءةٌ بذِكْر فَضَائله ومَنَاقبه، وبذَمِّ الذين يَظْلِمونه من جميع الفِرَق، وهم يُنكرون على مَنْ سَبَّه، وكارهونَ لذلك، وما جَرَى من التَّسَابِّ والتَّلاعُنِ بين العَسْكَرَيْن من جِنْسِ ما جرى من القِتَال. وأهلُ السُّنّة من أشدِّ الناس بُغضًا وكراهةً لأنْ يُتعرَّضَ له بقتالٍ أو سبٍّ، بل هم كلُّهم متّفقون على أنّه أجلُّ قَدْرًا، وأحقُّ بالإمامة، وأفضلُ عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من مُعاويةَ وأبيه وأخيه -الذي كان خيرًا منه-، وعليٌّ أفضلُ ممّن هو أفضلُ من مُعاوية رضي الله عنه، فالسّابقون الأوّلون الذين بايَعوا تحت الشَّجَرة كلُّهم أفضلُ من الذين أسلموا عام الفَتْح، وفي هؤلاء خَلْقٌ كثيرٌ أفضل من مُعاوية، وأهلُ الشَّجَرة أفضلُ من هؤلاء كلِّهم، وعليٌّ أفضلُ جُمهورِ الّذين بايعوا تحت الشَّجرة، بل هو أفضلُ منهم كلِّهم إلّا الثَّلاثةَ، فليس في أهل السُّنّة من يُقَدِّم عليه أحدًا غيرَ الثَّلاثة، بل يفضّلونه على جمهور أهل بَدْر وأهل بَيعة الرِّضوان، وعلى السّابقين الأَوّلين من المهاجرين والأنصار».

 

◘ وقال بعد أن ذَكَر اتّفاق الصَّدْر الأوّل: «بأنّه ليس مُعاويةُ كفؤًا لعَليٍّ بالخلافة، ولا يجوزُ أن يكون خليفةً مع إمكان استخلاف عليٍّ رضي الله عنه، فإنَّ فضلَ عليٍّ، وسابِقِيَّتَه، وعِلْمَه، ودينَه، وشَجَاعَتَه، وسائرَ فَضَائله: كانت عندهم ظاهرةً معروفةً، كفَضْل إخوانه: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وغيرهم؛ رضي الله عنهم، ولم يكن بَقِيَ من أهلِ الشُّورى غيرُه وغيرُ سَعْدٍ، وسعدٌ كان قد تَرَكَ هذا الأمر، وكان الأمرُ قد انحَصَرَ في عثمان وعليٍّ؛ فلمّا توفّي عثمانُ لم يَبْقَ لها مُعَيَّن إلّا عليٌّ رضي الله عنه». يُنظر مجموع الفتاوى (35/73).

 

فهذا نَزْر يسيرٌ من كتاباته الزاخرة بالثَّناء عليه، وأمّا أقواله ومواقفه:

فمنها لما اجتمعَ مع وَزير الـمَغول بولاي[4] ومَنْ معه مِنْ مقدَّمي التَّتَار، لـمّا زارَهم بشأن افتكاك أُسارى المسلمين، في حادثةٍ ذَكَرها المؤرِّخون، فذَكَر بنفسِه بعضَ ماجريَات ذلك، وجوابَه حول تأليبِ الرافضةِ لهم على أهل السُّنّة في الشام، فقال -كما في مجموع الفتاوى (4/487-488)- ضمن سياق القِصّة والكلامِ عن يَزيد بن مُعاوية: «قال: فما تحبّون أهلَ البَيْت؟ قلت: محبَّتُهم عندنا فَرْضٌ واجبٌ يُؤجَرُ عليه، فإنّه قد ثَبَتَ عندنا في صَحيح مُسلم عن زَيْد بن أَرْقم، قال: «خَطَبنا رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بغَديرٍ يُدعى خُمًّا بين مكّة والمدينة، فقال: أيُّها الناس! إنّي تاركٌ فيكم الثَّقَلَيْن: كتابَ الله... فذَكَر كتابَ الله وحَضّ عليه، ثم قال: وعِتْرَتي أهل بَيْتي، أُذكِّرُكم الله في أهل بيتي، أذكّرُكم الله في أهل بَيتي». قلتُ لمقدَّمٍ: ونحن نَقولُ في صَلَاتنا كلَّ يَوْمٍ: «اللّهمَّ صَلِّ على محمّدٍ وعلى آل محمّد، كما صلَّيتَ على إبراهيم إنّك حَميدٌ مَجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّدٍ كما باركتَ على آل إبراهيم، إنّك حَميد مَجيد».

 

قال مُقدَّمٌ: فمَنْ يُبغضُ أهلَ البيت؟ قلتُ: مَنْ أبغضَهم فعليه لعنةُ الله والملائكة والناسِ أجمعين، لا يَقبلُ اللهُ منه صَرْفًا ولا عَدْلا.

 

ثم قلتُ للوَزير الـمَغوليّ: لأيِّ شيءٍ قال عن يَزيد وهذا تَتَريٌّ؟ قال: قد قالوا له إنَّ أهل دِمَشْقَ نَوَاصِب! قلتُ بصوتٍ عالٍ: يَكْذِبُ الذي قال هذا! ومَنْ قال هذا: فعليه لعنةُ الله، واللهِ ما في أهل دِمَشْقَ نَوَاصب! وما علمتُ فيهم ناصبيًّا، ولو تَنَقَّصَ أحدٌ عَليًّا بدِمَشْقَ لقام المسلمون عليه، لكن كان قديمًا -لـمّا كان بنو أُمَيّةَ وُلاةَ البلادِ- بعضُ بني أُمِيَّةَ يَنْصِبُ العداوةَ لعليٍّ ويَسُبُّه، وأمّا اليومَ فما بقيَ من أولئك أحدٌ»[5].

 

فهذا مثالٌ عمليٌّ صريحٌ منه كان بمَرْأى الأعيان يَزيدُ على مقاله الكثير في الذبِّ عن عليٍّ رضي الله عنه، والتَّبَرِّي من النَّصْبِ وأهله.

 

وقد عَرَفَ منه كبارُ أصحابه ذلك ونَقَلوه، فمنه قولُ ابنِ القَيِّم في الصَّوَاعق المرسَلة (1/585): «ورضي الله عن شيخِنا إذ يقول:

فإنْ كان نَصْبًا وَلَاءُ الصِّحابِ
فإنِّي كما زَعَموا ناصِبِي
وإنْ كان رَفْضًا وَلَا آلِهِ
فلا بَرِحَ الرَّفْضُ مِنْ جانبي»

 

وللفائدة:

فقد قال ابنُ القيِّم أيضًا في خطبة القَصيدة النُّونيّة؛ المعروفة بالكافية الشافية (1/29)، وبنحوه في مَدَارج السّالكين (2/342): «وقدَّس الله روحَ القائل -وهو شيخُ الإسلام ابن تيميّة- إذ يقول:

إنْ كان نَصْبًا حُبُّ صَحْبِ محمّدٍ
فَلْيَشَهَدِ الثَّقَلانِ أنّي ناصِبي»

 

واعلَمْ أخي القارئ:

أنّي مسبوقٌ بكتاباتٍ متعدِّدة في إنصافِ شيخ الإسلام ابنِ تيميّة في هذا الباب، ورَدِّ دعوى تنقُّصِه لسيِّدنا عليّ رضي الله عنه، ولكنّي أردتُ أن أساهم في رَدِّ الغِيبة عن عِرْضِ هذا الإمام الجليل، وأُلَبّي السؤال المكرَّر من شيخنا النَّبيل، على أنّي ألزمتُ نَفْسي أن أبحثَ مستقلًّا متجرِّدًا قبلَ أن أطالعَ تلك الكتابات؛ دَفْعًا للتأثُّرِ والتوارُدِ على الخطأ؛ أو المتابعةِ بالتَّقليد الـمَحْض، ثمّ رجعتُ إليها آخِرًا للتأكُّد إنْ كان فاتَني شيءٌ من المهمّات، داعيًا لأصحابها، وشاكرًا، ومُعتَرِفًا لهم بالسَّبْق، ومُحيلًا عليهم لمن يريد الاستفادةَ والاستزادة، ففي كلٍّ ما ليس عند الآخَر.

 

فمنهم الشيخ علاء بن إبراهيم عبد الرحيم في رسالته: «طَعْنُ ابن تَيميّة في الإمام عليّ فريةٌ بَتْراء».

 

ومنهم الشيخ سليمان بن صالح الخَرَاشي رحمه الله في رسالته: «ابنُ تيميّة ليس ناصِبِيًّا».

 

ومنهم الشيخ أبو خَليفة علي بن محمد القُضيبي -وهو مهتدٍ من التَّشَيُّع- في رسالته: «ثَنَاء ابنِ تيميّة رحمه الله على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأهلِ البَيْت رحمهم الله».

 

ومنهم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البَرّاك في كتابه المتميِّز: «المنثور من سيرة شيخ الإسلام ابن تيميّة»، وأفدتُ منه كثيرًا؛ ومن مباحثته، وكذا مباحثةِ الشيخ أحمد بن عبد الملك عاشور في مبحث ما نُسِبَ للأُرْمَويِّ، فيُنظر منه (ص154-157)، ففيه فَوائدُ زوائد.

 

◘ وأختم بكلامٍ لابن تيميّةَ نفسِه، وكأنّه يتحدَّث عن هذا البُهتان عليه وأمثاله؛ مما تكرَّر في حياته وبعدها، فقال في جوابٍ له ضمنَ مجموع الفتاوى (28/55): «تَعلمونَ كثرة ما وَقَعَ في هذه القضيّة من الأَكاذيب المفتَرَاة، والأَغاليط المظنونَة، والأهواء الفاسدة، وأنَّ ذلك أمرٌ يَجِلُّ عن الوَصْف. وكلُّ ما قيل من كَذِبٍ وزُورٍ فهو في حقِّنا خيرٌ ونِعمةٌ. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم؛ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.

 

وقد أَظهرَ اللهُ من نُورِ الحقِّ وبُرهانه ما رَدَّ به إفكَ الكاذب وبهتانَه. فلا أُحبُّ أن يُنتصَرَ من أحدٍ بسبَبِ كَذِبِه عَلَيَّ أو ظُلْمِه وعُدوانه؛ فإنّي قد أحللتُ كلَّ مسلمٍ. وأنا أُحِبُّ الخيرَ لكلِّ المسلمين، وأريدُ لكلِّ مؤمنٍ من الخير ما أُحبُّه لنَفسي. والذين كَذَبوا وظَلَموا فهُم في حِلٍّ من جِهَتي. وأمّا ما يتعلَّقُ بحقوق الله فإنْ تابوا تابَ الله عليهم، وإلا فحُكْمُ الله نافذٌ فيهم..» إلى آخر كلامه رحمه الله.

 

فخُلاصة البَحْث:

أنّ الزَّعْم الذي جرى السُّؤال عنه منكرٌ لا يَثبُتُ عن ابن تيميّة على التحقيق البيِّن، مَصْدَرُه الأشهرُ رحلةُ الآقْشَهْري، وهو مَصْدَرٌ فرعيٌّ قَمّاش؛ عليه مؤاخذاتٌ عدّة، وذُكر صاحبُه بالأوهام الفاحشة، ولا يُعلم عمّن أَخَذ عنه الزَّعمَ، وقد اقترنَ فيه باتِّهاماتٍ أخرى ظاهرةِ البُطْلانِ لدى الموازَنة بكلام ابن تيميّة الثّابت عنه، فجاءت فيه عدّةُ أشياء مخالفةٌ لِـمَا هو معلومٌ عند المؤرِّخين والمصادر الأصليّة، وأشياءُ مبتورةٌ مُتْنَزَعةُ السِّياق من كُتُبِ ابنِ تيميّة بفهمٍ مغلوط، ومنه ما ظَهَر أَخْذُه من مَصْادر غيرِ مُعْتَمدة، بل معروفة بالبُهتان والعَدَاوة.

 

وثمّة مصدرٌ آخر زاد في المبالَغة، وهو رسالةٌ منسوبةٌ للأُرْمَويّ، وهي في غاية النَّكارة في الثُّبوت إليه نسبةً وتاريخًا ومادّة، وممّا يَردُّها ثُبوتُ ثَنَاء كليهما -الأُرْمَويِّ وابن تيميّة- على الآخَر إلى أواخر لقائهما المعروف في الدُّنيا، على أنّ الكلامَ الّذي فيها من ذِكْرِ الطَّعْن على سيدّنا عليٍّ مُسنَدٌ إلى مُبْهَمٍ لم يُسَمَّ!

 

ثمّ إنَّ الزَّعم في المصدَرَيْن مخالفٌ لموقفِ ابنِ تيميّةَ قولًا وفعلًا، تحريرًا وتقريرًا، بما لا يَدَعُ مجالًا للشَّكِّ في أنّها فِرْيةٌ من أعدائه، وإحدى الأكاذيب الكثيرةِ الّتي زُوِّرَتْ عليه، ونَبَّه هو ومُتَرجِموه على حُصول أمثالها من بعضِ خُصومه.

 

فهذا ما يسَّر اللهُ تحريرَه في الموضوع بمَنِّه وكَرَمِه، شاكرًا كلَّ مَنْ أفادني فيه، وأشكرُ شكرًا خاصًّا الشَّيخَ المكرَّم محمد بن علي عَوَض الغَزِّي على تَصحيحاته، داعيًا اللهَ أن يتقَبَّلَ من الجميع، ويَنْفعَ به ويُبارك.

 

واللهُ يَعصمُنا من الزَّلَل والخَطَل والاعتساف، ويرزقنا التثبُّت والأدَبَ مع الأكابر والإنصاف. ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.

 

وصلّى الله وسلَّم على محمّد وآله وصَحْبِه وأتْباعهم بإحسانٍ أجمعين.

 

كَتَبه أفقرُ العباد

محمد زياد بن عُمر التُّكْلَة

ما بين دارْبي، ولَنْدَن، ومَكّة، والرِّياض، والدَّوْحَة، وبِرْمِنْغهام، والأسفار فيما بينها.

وختمتُه ليلة الأربعاء 12 جمادى الآخرة سنة 1447

حامدًا مُصلِّيًا مُسلِّما

 

قائمة بأهمّ المراجع

◘الأُرْمَوي، محمد بن إبراهيم: العقيدة، تحقيق: عبد المجيد جمعة، نُشرت في مجلة الإصلاح، السنة 11، العدد 54، جمادى الأولى/جمادى الآخرة 1438 (2017م)، الجزائر.

 

والمخطوط في مكتبة طوكيو، على الرابط:

https://www.scribd.com/document/482462950

 

◘الأَلُوسي، النُّعمان بن محمود: جلاء العَيْنَيْن في محاكمة الأحمدَيْن، 1401 (1981م)، مطبعة المدني، القاهرة.

 

◘البَرّاك، عبد الله بن عبد الرحمن: المنثور من سيرة شيخ الإسلام ابن تيميّة، ط2، 1443 (2022م)، دار المحدّث، الرّياض.

 

◘البِرْزالي، القاسم بن محمد: التاريخ، ت: عبد الرحمن العُثيمين، وتركي بن فهد آل سُعود، وبشّار عوّاد معروف، ط1، 1440 (2019)، دار الآثار الشرقية، عَمّان، ودار ابن حزم، بيروت.

 

◘البَرْزَلي، أبو القاسم بن أحمد: الفتاوى؛ جامع مسائل الأحكام، تحقيق: محمد الحبيب الهيلة، ط1، 2002م، دار الغرب الإسلامي، بيروت.

 

◘ابن بَطّوطة، محمد بن عبد الله: الرِّحلة المسمّاة تحفة النُّظّار، تحقيق: عبد الهادي التازي، ط1، 1417 (1996م)، أكاديميّة المملكة المغربيّة، الرِّباط.

 

◘ابن تَيْميّة، أحمد بن عبد الحليم: مجموع الفتاوى، جمع عبد الرحمن ابن قاسم وابنه محمد، 1425 (2004م)، مجمّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنوّرة.

 

◘ منهاج السُّنّة النبويّة، تحقيق: د. محمد رَشَاد سالم، ط1، 1406 (1986م)، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة، الرياض.

 

◘ الحافظ، محمد مُطيع: جامع الحنابلة «المظفَّري» بصالحية جَبَل قاسيون، ط1، 1423 (2002م)، دار البشائر الإسلاميّة، بيروت.

 

◘ ابن حَجَر، أحمد بن علي: الدُّرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ط2، 1392 (1972م)، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد.

 

◘ لسان الميزان، ط2، 1390 (1971م) دائرة المعارف العثمانية، تصوير مؤسسة الأعلمي، بيروت. وطبعة أخرى بتحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ط1، 1423 (2002م) دار البشائر الإسلامية، بيروت.

 

◘الخَرَاشي، سليمان بن صالح: شيخ الإسلام ابن تيميّة لم يكن ناصبيًّا، ط1، 1419 (1998م)، دار الوطن للنشر، الرّياض.

 

◘ الذَّهبي، محمد بن أحمد: تاريخ الإسلام، تحقيق: د. بَشّار عوّاد، ط1، 1423 (2003م)، دار الغرب الإسلامي، بيروت.

 

◘ الدُّرَّة اليَتيميّة في السّيرة التَّيْميّة، طُبع ضمن مجموع: ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: خالد بن سليمان الرّبعيّ، ط1، 1434 (2013م)، دار الرِّسالة العالميّة، دمشق.

 

◘ تكملة سير أعلام النُّبلاء، تحقيق عادل مرشد ومن معه، ط2، 1440 (2019م)، دار الرِّسالة العالميّة.

 

◘ شَمس، محمد عُزير، والعِمْران، علي: الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيميّة خلال سبعة قرون، ط1، 1440 (2019م)، دار عطاءات العلم، الرِّياض، ودار ابن حَزْم، بَيْروت.

 

◘الصَّفَدي، خليل بن أَيْبَك: أعيان العَصْر وأعوان النَّصْر، تحقيق: علي أبو زيد ومن معه، ط1، 1418 (1998م)، دار الفكر المعاصر، بيروت.

 

◘ ابن عيسى، أحمد بن إبراهيم: توضيح الكافية الشافية، تحقيق: زهير الشاويش، ط3، 1406، المكتب الإسلامي، بيروت.

 

◘ الفاسي، التَّقيّ أحمد بن محمد: ذيل التَّقييد، تحقيق: كمال الحوت، ط1، 1410 (1990م)، دار الكتب العلميّة، بيروت.

 

◘ العقد الثَّمين في تاريخ البلد الأمين، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ط1، 1998م، دار الكتب العلميّة، بيروت.

 

◘ابن فضل الله العُمري، أحمد بن يحيى: مَسَالك الأبصار في ممالك الأمصار، ط1، 1423، المجمع الثقافي، أبو ظبي.

 

◘ ابن قَيِّم الجَوْزية، محمد بن أبي بكر: الصّواعق المرسَلة، تحقيق: حسين بن عكاشة، ط1، 1442 (2020م)، دار عطاءات العلم، الرِّياض، ودار ابن حَزْم، بَيْروت.

 

◘ الكافية الشافية، وهي القصيدة النُّونيّة، ط1، 1440 (2019م)، دار عطاءات العلم، الرِّياض، ودار ابن حَزْم، بَيْروت.

 

◘ مَدَارج السالكين، تحقيق: نَبيل بن نَصّار السِّنْدي، ط1، 1441 (2019م)، دار عطاءات العلم، الرِّياض، ودار ابن حَزْم، بَيْروت.

 

◘ ابن كَثير، إسماعيل بن عمر: البداية والنهاية، تحقيق بإشراف د. عبد الله التركي، ط1، 1417، دار هَجَر، القاهرة.

 

◘اللَّكْنَوي، أبو الحسنات عبد الحيّ: التعليقات السَّنِيّة على الفوائد البهيّة في تراجم الحنفيّة، صحّحه محمد بدر الدين النَّعْساني، ط1، 1324، مطبعة السَّعادة، القاهرة.

 

◘ ابن ناصر الدين، محمد بن عبد الله: الرَّدّ الوافر، ومعه تقريظات وملاحق، تحقيق: زُهير الشاويش، ط1، 1400 (1980م) المكتب الإسلامي، بيروت.

 

◘ الهَيْتَمي، أحمد بن محمد ابن حَجَر: الفتاوى الحديثيّة، دار الفكر، بيروت.



[1] نشرتُه بتعليقاتٍ ضافية مع فَصْلٍ في مناقب الشام وأهلِه لابن تيميّة، على الرابط:

https://t.me/Darulathar_tripoli/596

[2] لـمّا وقفَ التقيُّ السُّبكيُّ على منهاج السُّنّة، أنشأ أبياتًا؛ ذمَّ فيها الرافضةَ ببيتَيْن مُجْمَلَيْن، ثمّ ذمَّ ابنَ المطهَّر وكتابَه ببَيْتَينِ أيضًا، ثمّ قال: «وَلابْنِ تَيْمِية رَدٌّ عَلَيْهِ وَفَى … بمَقْصِدِ الرَّدِّ وَاسْتِيفَاءِ أَضْرُبِهِ لكنّه..» فأقحمَ 15 بيتًا في ذمِّ ابنِ تيميّة فيما يَعيبه بالعَقائد بما ليس من مادة الكتاب! فوازِن وتأمّل. يُنظر: أعيان العصر (3/433). ويُلاحظ أنَّ ابن حَجَر أضرب عن نَقْلِ أبيات الذمِّ في الموضع الآنف من لسان الميزان، وفي الدُّرَر الكامنة (2/189).

[3]رابطها:https://gallica.bnf.fr/ark:/12148/btv1b11001896p/f42.item

[4] من الطَّريف قول الصَّفَدي في أعيان العَصْر (2/70): «‌‌بولاي النُّوين التَّتَري: أحد مُقَدَّمي التَّتار الذين حضروا مع غازان، اسمُه على الصَّحيح مولاي، وإنّما النّاسُ يُحَرِّفونه تَهَكُّمًَا به وبأمثاله، كما يقولون في خداي بندا: خَربندا».

[5] هذا مثالٌ يتكرَّرُ في التاريخ لـمَسَاعي أعداء السُّنّة لإبادتهم عبر تحريض أعدائهم بالمكائد والفِرَى! لكنّ الله أفشلَ سَعْيَهم في أهل دِمَشق آنذاك برحمته، وتَسخيره لابن تيميّةَ رحمه الله في المناضَلَة عنهم، مع مواقف تَثْبيته لهم قولًا وفعلًا. وفي ذلك دراساتٌ مفردة، وأشرتُ لأشياء من ذلك في مقدمة تحقيقي لرسالته في مناقب الشام وأهله.





 نسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


مختارات من الشبكة

  • ثبت لطائف الوجدان في مرويات أبي فارس الوزان (ثبت مرويات الدكتور إبراهيم عبد القادر الوزان) (PDF)(كتاب - آفاق الشريعة)
  • مخطوطة ثبت الأثبات الشهيرة(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • قاعدة فقهية: ما ثبت بالشرع مقدم على ما ثبت بالشرط(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الأثبات في مخطوطات الأئمة: شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والحافظ ابن رجب (PDF)(كتاب - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • الأثبات في مخطوطات الأئمة: شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والحافظ ابن رجب (WORD)(كتاب - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • شرح حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف تأليف: شيخ الإسلام ابن تيمية (661 - 728 هـ) (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • لطائف من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (تمهيد)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تعلم الفروسية(مقالة - موقع الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض)
  • مخطوطة ثبت ابن حجر الهيتمي(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مقروءات العلامة ابن الشماع على العلامة السيوطي من ثبته الكبير(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • دورة علمية في مودريتشا تعزز الوعي الإسلامي والنفسي لدى الشباب
  • مبادرة إسلامية خيرية في مدينة برمنغهام الأمريكية تجهز 42 ألف وجبة للمحتاجين
  • أكثر من 40 مسجدا يشاركون في حملة التبرع بالدم في أستراليا
  • 150 مشاركا ينالون شهادات دورة مكثفة في أصول الإسلام بقازان
  • فاريش تستضيف ندوة نسائية بعنوان: "طريق الفتنة - الإيمان سندا وأملا وقوة"
  • بحث مخاطر المهدئات وسوء استخدامها في ضوء الطب النفسي والشريعة الإسلامية
  • مسلمات سراييفو يشاركن في ندوة علمية عن أحكام زكاة الذهب والفضة
  • مؤتمر علمي يناقش تحديات الجيل المسلم لشباب أستراليا ونيوزيلندا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 22/6/1447هـ - الساعة: 2:9
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب