• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
شبكة الألوكة / ملفات خاصة / رمضان / مواعظ وخواطر وآداب / خواطر صائم / مقالات
علامة باركود

الصيام الصحيح فرصة لاستجابة الدعاء

الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 30/8/2011 ميلادي - 30/9/1432 هجري

الزيارات: 42974

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ من سورة البقرة هذا إخبار من الله سبحانه عن قربه من عباده القرب اللائق بجلاله الذي وردت النصوص بإثباته، وهو نوعان:

 

(أحدهما) القرب من جميع خلقه بعلمه المحيط بهم ورقابته على جميع أحوالهم، فهو الرقيب على الخواطر واللواحظ، وهو العليم المحيط علمه بكل شيء (عالم الغيب والشهادة - يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)، فهو سبحانه بعلمه أقرب إلى الإنسان من حبل وريده، كما قال تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد). وكما قال: (ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا)[1]، يعني بعلمه المحيط بكل شيء، الشامل لكل شيء، ولهذا ختم الآية بقوله: (ثم ينبؤهم بما عملوا يوم القيامة، إن الله بكل شيء عليم).

 

و(ثانيهما) قربه من عابديه وداعيه بالمعونة والتوفيق والإجابة، كما ورد في الحديث القدسي الصحيح: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه).

 

وفي الحديث القدسي الآخر: (ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).

 

فهذا من قرب المعونة والتسديد واللطف والتوفيق، وليس شيء منهما قرب مكان كما توهمه المشبهة أو فرت منه الجهمية وفروعها خشية اعتقاد التجسيم والتحيز ونحوه من مصطلحات المنطق اليوناني الذي لا يجوز التعويل عليه، فضلاً عن إخضاع النصوص له والعياذ بالله.

 

ولما كان في الصيام إعداد لذكر الله وشكره، والتقرب إليه بمزيد الطاعات، والضراعة إليه بالدعاء لقوة الرجاء، ناسب أن يأتي الله العليم الحكيم بهذه الآية في غضون آيات الصيام كجواب عن سؤال يتوقعه الداعي الملح بالدعاء طلباً لسرعة الإجابة، فكانت واقعة في محلها، سواء صح ما ورد في أسباب نزولها أم لا، وذلك لقوة ارتباطها بحالة الصوم والصائمين.

 

ولا يخفى ما فيها من التشريف والرفعة لسيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لتوجيه الخطاب إليه.

 

وروى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما في سبب نزول هذه الآية أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه. فسكت عنه. فأنزل الله عليه الآية: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع...).

 

وأخرج عبدالرزاق عن الحسن قال: سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين ربنا؟ فنزلت. ورووا غير ذلك مما أعرضنا عنه لضعف سنده جداً. وصدور هذا السؤال من الصحابة بعيد. أما صدوره من الأعراب فليس ببعيد، لأنهم اعتادوا جعل وسائل ووسائط بينهم وبين الله، إما أشخاص وإما تماثيل أشخاص كالأصنام يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، ولم يهتدوا بأنفسهم إلى التجرد لمعرفة الإله العظيم الذي لا يحتاج عباده في الضراعة إليه وطلب شيء من رحمته إلى وسائط، بل هو السميع لأصواتهم على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم، وهو العليم بسرائر أحوالهم وخفاياها، فهم لا يعلمون بهذا حتى هداهم الله بوحيه المبارك إليه.

 

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع المسلمين في غزوة خيبر يدعون الله بأصوات عالية، فقال لهم: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً).

 

وعلى كل حال فإن هذه الآية الكريمة تفيد بأن طواعية الله والاستجابة لأوامره بصدق وإخلاص سبب عظيم من أسباب قبول الدعاء، لأن ذلك يستجلب القرب المعنوي من الله، كما أنها أيضاً تفيد حكماً شرعياً آخر وهو عدم رفع الصوت بالدعاء، وفي أي عبادة، إلا بالمقدار الذي حدده الشارع في الصلاة الجهرية بدون مبالغة إلا لحاجة.

 

وقد روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن من عدة طرق إلى أبي عثمان النهدي عن أبي موسى قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم). وفي رواية أخرى أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتهليل والتكبير إذا علوا عقبة أو ثنية.

 

ولا ريب أن الدعاء من أنفع الأدوية وأسرعها فرحاً ونجاحاً، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه حتى يمنع نزوله أحياناً، وأحياناً يخفف وطأته أو يرفعه بالكلية إذا نزل، وهو من أقوى الأسلحة المعنوية للمؤمنين، فقد روى الحاكم فيما صححه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض).

 

وقد ثبت بالاستقراء أن له مع البلايا والمصائب ثلاث حالات:

(أحدها) أن يكون أقوى منها فيدفعها وذلك كدعاء المضطر الخائف الضرير الوجل المشفق المخلص المحقق لطاعة الله، المنزه من معاصي الله، فإن أدعيته سهام نافذة صائبة تقضي على كل بلاء ومصيبة.

 

(ثانيها) أن يكون الدعاء أضعف من البلاء لضعف حال صاحبه في شيء مما ذكرناه، فلا تكون فيه المقاومة الكافية لدفع البلاء والمصيبة، ولكنه يخفف طأتها.

 

(ثالثها) أن يكون موازياً للبلاء، فيتقاومان ويمنع كل واحد منهما صاحبه، وهذه الحالة الوسطى. ومن المرغب فيه والمجرب نفعه الإلحاح في الدعاء، فقد ذكر الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الملحين في الدعاء).

 

وروى ابن ماجة في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه). وهذا من عظيم رحمته وجوده بخلاف البشر المخلوق، كما أحسن الشاعر قوله:

 

الله يغضب إن تركت سؤاله
وبني آدم حين يسأل يغضب

 

وروى الحاكم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع بما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة).

 

وأخرج أيضاً من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه). وأخرجه أيضاً من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجزعوا في الدعاء فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد).

 

وينبغي أن يعلم أن الأدعية والتعاويذ بمنزلة السلاح، ليس تأثيره بذاته فقط وإنما تأثيره بقوة مستعمله ومعرفته بحقيقة الاستعمال، ودون ذلك لا ينفع أو يكون نفعه ضعيفاً، فمتى كان السلاح سلاحاً تاماً صالحاً لا عيب فيه وكان ساعد الحامل له قوياً وجنانه أقوى من ساعده برباطة جأشه وثبات عزيمته ولم يحصل مانع يحول دون نفوذه، كان السلاح مجدياً نافعاً لتوفر أسباب مفعوله وفقدان المانع منه، ومتى تخلف واحد من ذلك أو وجد المانع من نفوذ السلاح فقد بطل مفعوله: وهكذا الدعاء إن كان صالحاً في نفسه والداعي قد جمع بين قلبه ولسانه في الضراعة والخشوع وقوة التعلق بالله وصدق اللجوء إليه وحسن العلاقة مع الله بالإخلاص في المقاصد وصلاح الأعمال والتوبة النصوح أو تقديم حسنة أو صدقة ولم يحصل مانع للقبول من الإصرار على ذنب أو أكل حرام أو تلبس بمظلمة فإنه يكون نافعاً ناجحاً. وإن خلا من الضراعة الصحيحة وصدق اللجوء وحسن العلاقة وصدق التوبة أو حصلت موانع الإجابة تخلفت منفعة الدعاء.

 

ولهذا كان بعض الداعين لله عند بعض القبور يستجاب لهم لما خالطهم من الذل والضراعة وصدق اللجوء إلى الله ونحو ذلك، فيظن المستجاب له أنه بتأثير القبر، وليس الأمر على ظنه، بل لو حصلت له هذه الحالة في المسجد لانتفع بالدعاء انتفاعاً أعظم وحصلت له فضيلة أكبر، وكذلك يظن بعض الناس إذا رأى الاستجابة لبعض الداعين بأنواع الدعوات أن السر في الإجابة من ألفاظ تلك الدعوات، فيدعو بها مجردة عن تلك الأمور التي قارنتها من الداعي غفلة منه عن السر الحقيقي الذي ذكرناه من ضرورة مقارنة تلك الأمور، فإذا لم يحصل له الإجابة التي حصلت لذاك أصابه الجزع والهلع والأوهام الباطلة لقلة فهمه بأسباب الإجابة، وجهله بغفلة قلبه، وعدم إقباله على الله، وجمع همته عليه، وعدم الخضوع والتملق أو عدم طهارة قلبه وجوارحه لله تعالى، ونحو ذلك من موجبات الإجابة وعدم موانعها.

 

ولهذا قال سبحانه وتعالى: ﴿ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ﴾ لأن الاستجابة لله يجب أن تتحقق، والإيمان الصحيح بالله يجب أن يحصل.

 

وقد قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) فحصول الإيمان الصحيح والاستجابة لأوامر الله من ضروريات إجابة الدعاء في أغلب الأحوال، وإن كان الله قد يلطف بالكافر الجاهل إذا دعاه مضطراً صادق الضراعة.

 

وقد حصل هذا فعلًا واعترفت به أوساط عليه، لأن كثيراً من الكفار ساروا في كفرهم على جهل وتقليد وقوة فتنة فكرية وتقصير من دعاة الإسلام أو من المسئولين عن الإسلام والتأليف عليه، ولم يكن كفرهم عن عناد وجحود واستكبار، فإن الله يحب دعوة المضطر منهم حسب ما اقتضته حكمته ورحمته.

 

وفي مسند الإمام أحمد من حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول: (لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم والحمدلله رب العالمين).

 

وفي مسنده أيضاً من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً، فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها قال: بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها).

 

وعن ابن عباس مرفوعاً: (من كثرت همومه وغمومه فليكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله). وثبت في الصحيحين أنها كنز من كنوز الجنة. وفي الترمذي أنها باب من أبواب الجنة.

 

وهذه الأدعية العظيمة فيها عدة فوائد:

(أحدها) إثبات توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية لله بما اشتملت عليه من اعتراف الداعي بالعبودية لله هو وأسلافه.

 

(ثانيها) التوحيد العلمي الاعتقادي بما اشتملت من حصر الحكم لله وأن نواصي الخلق بيده سبحانه.

 

(ثالثها) تنزيه الله تعالى عن الظلم وأنه لا يأخذ أحداً بلا زلة ولا تجرى عقوبة بلا سبب. ويدخل في هذا.

 

(رابعها) وهو اعتراف السائل بأنه الظالم حيث قال (عدل في قضاؤك) .

 

(خامسها) الاعتراف لله بكمال القدرة والإرادة والنفوذ بقول السائل: (ماض في حكمك).

 

(سادسها) التوسل إلى الله بأحب الأشياء إليه من أسمائه وصفاته المعلومة والخفية.

 

(سابعها) حصر الاستعانة به سبحانه واللجوء إليه وحده.

 

(ثامنها) حصر الرجاء والرغبة إليه دون ما سواه.

 

(تاسعها) تحقيق التوكل إليه وتفويض الأمر إليه.

 

(عاشرها) قصر علاجه على القرآن الذي هو أفضل ما تقرب المتقربون به إلى الله طالباً منه ألا يجعل قلبه يرتع إلا في رياض القرآن، ويجعل القرآن لقلبه كالربيع للحيوان، مستغنياً بشفاء القرآن عما سواه، طالباً من الله أن يجعله نور قلبه الذي يستضيء به في ظلمات الشبهات والشهوات لينجو من مهاويها، وأن يتسلى به عن كل فائت، ويتعزى به عن كل مصيبة، لينجلي حزنه وغمه، وأن يأنس بربيعه حتى لا تساوره الهموم على المستقبل من شأنه، فلا عجب إذا استجاب الله له وأذهب عنه الغم والهم والحزن وأبدله مكان ذلك فرحاً.

 

(حادي عشرها) البراءة من الحول والقوة، وتفويضهما إلى الله، لأنهما بيده يمد بهما من يشاء، وصاحب هذا المقام يستحق العون والمدد من الله.

 

وفي الحقيقة إن الإنسان ذو الحياة القلبية إذا قابل بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمنها دعاء الكرب وجدها في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور. قال ابن القيم رحمه الله: وهذه الأمور إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها وباشر قلبه حقائقها. انتهى.

 

وفي جامع الترمذي وصحيح الحاكم من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) أنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له). قال الترمذي: حديث صحيح.

 

وفي صحيح الحاكم أيضاً عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هل أدلكم على اسم الله الأعظم: دعاء يونس: فقال رجل: يا رسول الله هل كان ليونس خاصة؟ فقال: ألا تسمع قوله تعالى: (فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين). فأيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد، وإن برئ برئ مغفوراً له).

 

وفي جامع الترمذي من حديث أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث). قال ابن القيم: وفي تأثير قوله: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث في دفع هذا الداء - داء الكرب - مناسبة بديعة، فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال. ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، هو اسم الحي القيوم، والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام. ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شيء من الآفات. ونقصان الحياة يضر بالأفعال وينافي القيومية. فكمال القيومية لكمال الحياة. فالحي المطلق التام لا يفوته صفة الكمال البتة، والقيوم لا يتعذر عليه فعل البتة. فالتوسل بصفة الحياة والقيومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال. إلى أن قال: والمقصود أن لاسم الحي القيوم تأثيراً خاصاً في إجابة الدعوات وكشف الكربات.

 

وفي السنن وصحيح ابن أبي حاتم مرفوعاً: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم). وفاتحة آل عمران: (الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم) والتوسل إليه سبحانه بتوحيده مما له تأثير قوي في دفع داء الكرب والهم والحزن، وكذلك قوله: (الله ربي لا أشرك به أحداً) كما في حديث أسماء بنت عميس عند أبي داود.

 

وأما حديث ابن مسعود المتقدم ففيه من المعارف الإلهية وأسرار العبودية مالا يتسع له كتاب، فإنه يتضمن الاعتراف من الداعي بعبوديته وعبودية آبائه وأمهاته وأن ناصيته بيده يصرفها كيف يشاء فلا يملك العبد دونه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، لأن من ناصيته بيد غيره فليس إليه شيء من أمره، بل هو عان في قبضته، ذليل تحت سلطانه وقهره، وقوله: (ماض في حكمك، عدل في قضاؤك) متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد.

 

(أحدهما) إثبات القدر وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ماضية فيه، لا انفكاك له عنها ولا حيلة له في دفعها.

 

(ثانيهما) أنه سبحانه في هذه الأحكام غير ظالم لعبده، بل لا يخرج، عن موجب العدل والإحسان، فإن الظلم سببه حاجة الظالم أو جهله أو سفهه، فيستقبح صدوره ممن هو بكل شيء عليم، ومن هو غني عن كل شيء، وكل شيء فقير إليه، وهو أحكم الحاكمين، انتهى باختصار.

 

ووجه تأثير الدعاء الذي هو الدواء الروحي للأمراض الحسية هو أن الله في خلقته لابن آدم جعل لكل عضو من أعضائه كمالاً إذا فقده أحس بالألم، وخص ملكها وهو القلب بكمال روحي إذا فقده حضرته أسقامه وآلامه من الهموم والغموم والأحزان. فالعين إذا فقدت ما خلقت له من قوة الإبصار فقدت كمالها، وكذلك الأذن واللسان.

 

فالقلب خلقه الله لمعرفته ومحبته وصحة توحيده والسرور به، والابتهاج بحبه والرضى عنه، والتوكل عليه، والحب فيه، والموالاة فيه، والبغض فيه، والمعاداة من أجله، ودوام ذكره سبحانه وتعالى، وأن يكون أحب إليه مما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، وأجل في قلبه من كل ما سواه، فلا نعيم له ولا لذة ولا سرور بل ولا حياة إلا بذلك، وهذا له بمنزلة الغذاء والصحة والحياة الروحية، فإذا فقد ذلك انتابته الهموم والغموم، وخيمت عليه الأحزان، حتى يكون كالمرتهن فيها، وأعظم أمراض القلب هي الشرك والذنوب والغفلة، والاستهانة بمحبوبات الله ومراضيه، وترك التفويض إليه، وقلة الاعتماد عليه، والسخط على مقدوره، والشك في وعده ووعيده، والركون إلى سواه.

 

فهذه أمراضه الروحية ولا علاج لها سوى ما أرشد إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة المحتوية على محض التوحيد الذي فصلناه مما يفتح للقلب أبواب الخير والسرور واللذة والفرح، وفي مضمونها التوبة الصادقة التي تستفرغ ما حل بالقلب من أنواع الغزو الفكري الذي يركزه فيه شياطين الجن وشياطين الإنس من صنوف الشبهات والشهوات التي تجلب القلق والاضطراب للقلب، فهي أضر عليه من الأخلاط والمواد الفاسدة في البدن ولا يستفرغها منه إلا صدق الضراعة إلى الله بهذه الدعوات النبوية، فهي تغلق عنه أبواب الشر وتفتح له باب السعادة والخير بخالص التوحيد الذي يربطه بالله ويقصر همته على الذكر والتوبة والاستغفار.

 

ففي سنن أبي داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب). وقال ثابت بن قرة: (راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة الروح في قلة الآثام، وراحة اللسان في قلة الكلام، والذنوب للقلب بمنزلة السموم للبدن إن لم تهلكه أضعفته - فالهوى من أكبر أمراض القلب التي تجلب على البدن أنواعاً من الأمراض أيضاً، ومخالفة الهوى ومحاربته من أعظم الأدوية للروح والقلب.

 

وقد جبلت النفس على الظلم والجهل، فهي لجهلها وظلمها الذي هو تقصيرها في حق ربها تظن شفاءها في اتباع أهوائها والأمر بالعكس، ولا نجاة لها أبداً إلا بمحاربة الهوى، وذلك لا يحصل إلا بالتوحيد القوي الذي يعمر القلب بتقوى الله ويحصنه بصدق محبته وإجلاله وتعظيمه، فإن محبة الله خير حارس للقلب، وحافظ له من غزو محبة غيره. وصدق المؤمن في حب الله يجعله يعامله معاملة المحب الصادق لحبيبه وبذلك يحصل على النجاة والفلاح.

 

وهنا سؤال عن الدعاء يشغب به بعض الجهال، وهو أن الذي يطلبه الداعي إن كان مقدراً فلا بد من وقوعه، سواء دعا به العبد أو لم يدع، وإن لم يكن مقدراً لم يقع مهما دعا به الداعي.

 

وهذا السؤال جهل وغلط، إذ لو صح لتعطلت جميع الأسباب وقياسه على السائل يكشف عنه أنه أجهل من أي جاهل، إذ طرد سؤاله أنه لا يسعى للأكل والشرب ما دام الشبع والري قد قدره الله له، ولا يتزوج ما دام الولد مقدراً له. وهكذا لا يحتاج إلى عمل نتيجته مقدرة. فأي ضلال أفظع من هذا؟

 

وقد أجاب البعض عن هذا السؤال بأجوبة غير كافية. والصواب أن هذا المقدور الذي يحتج به السائل قدره الله بأسباب من جملتها الدعاء، فلم يقدر الله شيئاً مجرداً عن سببه. فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، وإذا لم يأت به انتفى وقوعه أو تخلف حتى يأتي بالسبب. وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وكما قدر الولد بالنكاح والزرع بالبذر والسقي، وقدر الشفاء بأخذ الأدوية الروحية أو المادية، وكما قدر النصر بمحاربة الأعداء مع الصبر والثبات.

 

وهكذا، فالدعاء من أقوى الأسباب التي ربط الله حصولها بالدعاء، بل يجعله أحياناً يصارع القدر كما يصارع المحارب عدوه.

 

وإذا كان وقوع المدعو به مقدراً بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء، كما لا يصح أن يقال لا فائدة في الأكل والشرب وسائر الحركات والأعمال، ولهذا كان الصحابة الذين هم أعلم الأمة هم أقوم الناس بالدعاء وأحفظهم لشروطه وآدابه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستنصر على عدوه بالدعاء، ويوصي جنده بذلك قائلاً لهم: (لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء. وكان يقول: إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء هذا وإن للدعاء شروطاً وآداباً وموانع سأذكر ما يوفقني الله إليه منها:

 

(فالأول) أن يكون الداعي لله على طهارة ظاهرة وباطنة.

 

(الثاني) أن يكون مستقبلاً القبلة.

 

(الثالث) أن يتحرى أوقات الإجابة وهي: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وعند بدء نزول الغيث، وفي وقت الإفطار للصائم، وفي السجود، وفي نهاية التشهد الأخير، أو في أدبار الصلوات، وعند صعود الإمام على المنبر يوم الجمعة، وآخر ساعة منها بعد العصر، وفي سفر الطاعة، وفي الجهاد الصحيح، كما أوضحناه سابقاً.

 

(الرابع) حضور القلب وجمعيته بكله على المطلوب لحديث: (لا يقبل الله دعاءً من غافلٍ ساه).

 

(الخامس) خشوع القلب وذله وانكساره بين يدي الله.

 

(السادس) الضراعة إلى الله برقة وتملق.

 

(السابع) الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في أول الدعاء وأوسطه وآخره.

 

(الثامن) الثناء على الله بما هو أهله والاعتراف بالظلم والتقصير.

 

(التاسع) مداومة الدعاء في السراء قبل نزول الضراء، وهذا ابتعاد عن الغفلة والاستغناء عن الله.

 

(العاشر) تقدم عشر تسبيحات فأكثر لورود الأثر بذلك.

 

(الحادي عشر) الدعاء بالأدعية الشرعية المأثورة لانضباطها وسلامتها من الاعتداء.

 

(الثاني عشر) أن لا يدعو الله بإثم ولا بقطيعة رحم، ولا يسلك كل دعاء أي مسلك من مسالك الاعتداء فإن الله يقول: (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين). وفي الحديث: (إن أقواماً يعتدون في الدعاء).

 

(الثالث عشر) أن لا يدعو بالمستحيلات أو خوارق العادات التي قد يكون ليس من أهلها، وهذا أيضاً من الاعتداء.

 

(الرابع عشر) أن يدعو الله بما يليق، فلا يدعوه طالباً رتبة الأنبياء أو الملائكة، أو الاطلاع على شيء من علم الغيب ونحو ذلك مما يدخل في قسم الاعتداء أو يسبب نكصة.

 

(الخامس عشر) أن لا يدعو بدعاء الأنبياء غير المنصوص عليه، كدعوة نوح على قومه أو دعوة إبراهيم عليه السلام لبعض ذريته، لأن في هذا مخالفة لسنة الله وإفراط لا ينبغي صدوره من أمه محمد صلى الله عليه وسلم، فكثيراً ما نسمع بعض الجهلة يقول (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) اقتداء بإبراهيم بدون ملاحظة للفارق بينه وبين إبراهيم، فإبراهيم يعلم من الله أن ذريته ستملأ الأرض براً وبحراً، وفيهم المؤمن وأكثرهم فاسق، كما قال تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب، فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون). فلهذا قال إبراهيم (ومن ذريتي) أدباً مع الله ودعاء له بما يليق. أما هذا السائل الجاهل فإنه رب أسره قليلة لا يرضى أن يكون بعض أولاده كافراً أو ملحداً لا يصلي، فكيف يدعو ربه بقوله: (اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي)[2] فهذه الآية مما نتعبد الله بتلاوتها لا بالدعاء بها، والداعي بها ظالم لنفسه ومسيء إلى ذريته، إذ يسأل الله صلاح بعضهم دون بعض، فينبغي التفطن لذلك وتنبيه الغافل عن هذا الدعاء الذي لا يرضى مضمونه لذريته.

 

(السادس عشر) أن يكون ملازماً للتوبة والاستغفار ليكون ادعى للقبول.

 

(السابع عشر) الخروج من المظالم، فقد روى عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد أن بني إسرائيل أصابهم بلاء فخرجوا مخرجاً فأوحى الله إلى نبيهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة وترفعون إلي أكفاً قد سفكتم بها الدماء وأكلتم المال الحرام، الآن اشتد غضبي عليكم ولن تزدادوا مني إلا بعداً).

 

(الثامن عشر) تحري أكل الحلال لما ورد في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، إلى أن ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب. يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟

 

(التاسع عشر) أن يكون الدعاء بضراعة، وحرقة قلب واجتهاد لا بأساليب سجعية إلا إذا جاءت من غير تكلف كقوله (اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت)، ونحو ذلك.

 

(العشرون) أن يكون برهبة ورغبة وقوة رجاء وخشوع لقوله تعالى: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين). ويدخل في هذه الآية.

 

(الحادي والعشرون) وهو التقدم بالحسنات وبذل الصدقات ليكون الداعي من المسارع في الخيرات.

 

(الثاني والعشرون) تحرى الأماكن الفاضلة الشريفة كالمساجد عامة والمساجد الثلاثة خاصة ومشاهدة الكعبة أخص وأخص، كما يتحرى الأوقات الفاضلة، وقد ورد الأثر أن المؤمن أقرب ما يكون إلى الله في سجوده.

 

(الثالث والعشرون) أن لا يستبطئ الإجابة فإن هذا من الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه وهو أن يستعجل العبد. ففي المسند عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل). قالوا: يا رسول الله كيف يستعجل قال: (يقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي) وذلك لأنه يستمر فيدع الدعاء كالقانط والعياذ بالله... ومن أنفع الأدوية للنوازل الحسية أو المعنوية الإلحاح في الدعاء، ففي مسند الحاكم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجزعوا في الدعاء فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد) وقد تقدم حديث: (إن الله يحب الملحين في الدعاء).

 

(الرابع والعشرون) من شروط الدعاء وآدابه هو الإيقان بالإجابة لأنها من قوة الثقة بالله وصدق الاتكال عليه ورجاء ما عنده. وقد جاء في مستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه).

 

فغفلة القلب عن الله تبطل قوة الدعاء ومفعوله، وذكر بعضهم حسن التعبير في لفظ الدعاء من آدابه قائلاً إنه يتضمن مواجهة الحق سبحانه بالخطاب. واستدلوا بحديث لا يثبت وهو لا يقبل الله دعاء ملحوناً. والصحيح أن التعبير على حسب الاستطاعة وإن دعاء التضرع والخشوع الصادر عن رهبة من غضب الله ورغبة في رحمته مع حرقة قلب واجتهاد أحسن تأثيراً من المنطلق الفصيح الخالي عن ذلك.

 

(الخامس والعشرون) التوسل إلى الله بصالح الأعمال المرضية له.

 

(السادس والعشرون) التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته الكريمة العظيمة خاصة ما اشتمل منها على الاسم الأعظم أو قاربه مما يحبه الله، ومنها ما ورد في السنن وصحيح ابن حبان من حديث عبدالله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد). فقال: لقد سأل الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب).

 

وفي السنن أيضاً من حديث أنس أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً ورجل يصلي ثم دعا فقال: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم).

 

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى) وأخرج الحديثين الإمام أحمد في مسنده أيضاً.

 

وفي مسند أحمد وصحيح الحاكم من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك وربيعة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألظو بياذا الجلال والإكرام). والإلظاظ: الإلحاح، يعني تعلقوا بها والزموها وداوموا عليها.

 

وفي جامع الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه أمر رفع رأسه إلى السماء، وإذا اجتهد في الدعاء قال: (يا حي يا قيوم).

 

وفيه أيضاً من طريق أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث).

 

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم).

 

وتقدم دعاء الكرب في حديث ابن مسعود والكلام عليه. كما تقدم أيضاً حديث الكرب في دعاء ذي النون.

 

وذكر ابن أبي الدنيا في الدعاء عن الحسن قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يكنى أبا مغلق وكان تاجراً يتجر بمال له ولغيره يضرب به في الآفاق وكان ناسكاً ورعاً فخرج مرة فلقيه لص، مقنع بالسلاح وقال له: ضع ما معك فإني قاتلك. قال: فما تريد إلا دمي فشأنك والمال، قال: أما المال فلي ولست أريد إلا دمك، قال: أما إذا أبيت فذرني أصلي أربع ركعات، قال: صل ما بدا لك، فتوضأ ثم صلى أربع ركعات فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال: يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما تريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني (ثلاث مرات). فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه، فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله، ثم أقبل إليه. فقال: قم، فقال: من أنت بأبي أنت وأمي قد أغاثني الله بك اليوم، فقال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة، دعوت فسمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل دعاء مكروب، فسألت الله أن يوليني قتله. قال الحسن: فمن توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروباً كان أو غير مكروب).

 

فهذه النصوص والآثار ترغبك أيها المؤمن بحسن علاقتك بالله، وذلك بالصدق في محبته والإخلاص في معاملته بأن لا تحب ما يكرهه الله أو يبغضه من أي شخص أو عمل، فتقصر محبتك على ما يحبه الله من أي شخص أو عمل، وتبغض وتعادي وتجانب كل ما يبغضه الله من أي عمل أو أي شخص ولو كان أقرب قريب، وتكون مستجيباً لأمر الله، غيوراً على دينه، غضوباً لحرماته وتكون همتك وغاية أملك العمل لدين الله من حمل رسالته والدفع بها إلى الأمام، وبذل النفس والنفيس في سبيل ذلك، ولا تصر على ذنب أو تسوف في التوبة، فإنك لا تدري في أي لحظة تموت، ولا تأخذك الأماني أو تشرد بك الشهوات عن صراط الله الموصل إليه، بل عاكسها لتكون قريباً من الله، مستجاب الدعوات، خصوصاً إذا طاب مأكلك بالوقوف عند حدود الله في المعاملات.

 

إن الله وعد المؤمنين بالمثوبة وندبهم إلى دعائه ضامناً لهم الاستجابة. وقد ورد أن الله لا يرد يدي عبده خائبتين إلا لمانع من موانع الإجابة، والقرآن صريح في ترتيب الجزاء على الخير والشر، فينبغي لصاحب الشر أن لا يطمع في الخير، لأن من طمع فيما لم يسلك طريقه فهو أحمق، وينبغي معرفة أسباب الخير والشر ليكون في سلوكه على بصيرة ويستفيد ذلك من وحي الله الذي ذكر أسباب شقاء كل أمة وأسباب هلاكها، ليحذر من ارتكاب المهلكات واستحباب العماية على الهداية بشرط أن لا يغالط نفسه كأن عنده صك أمان، فإن من أعظم أسباب الردى والهلاك مغالطة النفس أمام الحقائق.

 

وهنا عوائق خطيرة تحول دون الاستجابة وتحقيق الإنابة وتجعل صاحبها محروماً من الوصول إلى الله، فمنها مواصلة الذنوب مع ظن أن مجرد الاستغفار يمحوها أو تكرار الأذكار بدون توبة صحيحة يتبعها أعمال صالحة، كأن يظن أن الورد الفلاني أو الذكر الفلاني يمحو الذنوب وإن كانت مثل زبد البحر، فيتكل على ذلك مع الإصرار على الذنوب، جاهلاً أن المعصية الكبيرة لا يمحوها إلا التوبة النصوح، كما ذكرناها سابقاً، وأن الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر، وأن الإصرار على الكبائر يؤول إلى الشرك.

 

ومنها الاعتماد على نسبه والصالحين من آبائه وأجداده، وهذا من أخبث غرور الشيطان وأفسده، فإن الله قطع طمع الإنسان في سعي غيره، كما برأه من وزر غيره حيث قال: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى - ولا تزر وازرة وزر أخرى).

 

ومنها الاعتماد على شفاعة الصالحين والأولياء من حي أو مقبور، وقد قطع الله جميع وسائل المشركين حتى الشفاعة ربطها بإذنه، فقال: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه - ما من شفيع إلا من بعد إذنه - ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون).

 

فهل بعد هذا النفي الصريح المكرر طمع في شفاعة لم يأذن بها الله، والله يقول: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)؟

 

ومنها ما هو أحمق من ذلك وهو الاغترار بسكنى بلد مقدس أو جوار ولي مزعوم، ومع حماقة أهل هذا المسلك فإن شياطين الإنس من الدجاجلة قد وضعوا حكايات وأحاديث مفتراة في كرامات هذا وذاك مما جعلوا جوار (فلان) لا يضر معه معصية، بل وضعوا أحاديث مكذوبة في القدس ومكة أن الساكن بهما تسقط عنه تكاليف الإسلام، وأنه بجوار الله، وأنه لا تضره المعاصي، بل زادوا في إفكهم فقالوا: إن سيئات أهل مكة خير من حسنات غيرهم، وقالوا عن الطواف إنه يكفر كبائر الذنوب من الزنى والفواحش حتى سهلوا لإبليس طرق الإغواء والعياذ بالله. على أن جميع مفترياتهم تخالف المعقول والمنقول، فإن مسالكهم بسبب التأثير السيئ لهذه الأكاذيب مسالك إلحاد وكفر.

 

لقد مالوا عن الحق وانحرفوا عن هداية المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعطلوا أعظم شرائع الإسلام من الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم الإقدام على كبائر الإثم والفواحش اعتماداً على قداسة المكان أو جوار الكعبة كأنهم جيران الله، والله يقول: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم).

 

وقد وردت أحاديث كثيرة بمضاعفة السيئات كما تضاعف الحسنات، ولهذا اختار ابن عباس سكن الطائف على مكة، والعقل يجزم ويحكم بأن انتهاك الحرمات في الأماكن المقدسة أشد جرماً وأشد إثماً وأكبر، وبأن من أساء جوار الله واقترف المعاصي في حرمه يستحق زيادة اللعنة والعقوبة، وأما شبهتهم بجوار الولي فمدحوضة أيضاً، لأن ولي الله لا يرضى من العاصي ولا يشجعه على معصية الله بالشفاعة، فلو قدرنا تقديراً خاطئاً أنه يشفع بدون إذن الله فإنه يشفع لصاحب الزلة العاثرة لا لصاحب المعاصي المسترسل فيها، لأن الولي لا يرضى إلا بما يرضى الله عنه فلو رضي بالمعاصي لم يكن ولياً، ولكن الولي لا يرضى إلا بما يرضي الله، ولو كانت مكة تعصم من أمر الله أو تعيذ المجرم لما جرى فيها على عبدالله بن الزبير ورفقته ما جرى، وهم من الأخيار، بل فيهم صحابة، ولما جرى على حجاج بيت الله من أبي طاهر القرمطي الخبيث من السفك والإرهاب ما جرى، ولما حصل على أهل المدينة في وقعة الحرة ما يندى له الجبين.

 

فالمعاصي إذا أراد الله تعجيل عقوبتها لا يدفعها جاه ولي مزعوم ولا قداسة بقعة، ومع هذا فلا زالوا إذا خوفناهم بشؤم المعاصي تعللوا بأنهم في الحرمين ناسين أو متناسين ما أجراه الله من فظيع العقوبات في الحرمين، والعجب أنهم إذا نسوا البعيد فكيف ينسون العقوبات القريبة مما يسمونه (سفر بري) وغيره، ولكن هذا من التأثير السيئ للكذب على الله ورسوله.

 

وهذه (بغداد) التي يزعم الدجالون أن فيها قبر الإمام أحمد ومعروف الكرخي لا يضر أهلها شيء ما داما بين ظهرانيهم، فهل عصمناها من شر التتار ومذابحهم الفظيعة في القرن السادس تقريباً؟ أو عصماها من جحم الشيوعية ومذابحها في هذا القرن الرابع العشر؟

 

ينبغي للمسلم أن لا يأمن مكر الله في حالة الإجرام أبداً، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وأن لا ييأس من رحمه الله حال الإحسان، فإن رحمه الله قريب من المحسنين.

 

ومن المعوقات عن الاستجابة لله غرور الشيطان وتلبيسه بالتعلق بغفران الله ورجائه، وأنه يغفر الذنوب جميعاً دون الإتيان بأسباب المغفرة، فإن الله يقول: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى)، والقرآن يفسر بعضه بعضاً. ومن الخطأ العظيم أخذ آية على ظاهرها أو عمومها وترك ما يخصها أو ينص على المقصود منها، فإن هذا من أحابيل الشيطان، وما أكثر من يقعون له فريسة بسبب تغفيله لهم عن الآيات المفسرة والمبينة للآية المجملة، بل يجعلهم يتعلقون بقوله تعالى: (إن الله يغفر الذنوب جميعاً) ويتركون ما بعدها من الآيات التي تأمرهم بالإنابة إلى الله وإسلام الوجه له لا للشهوات والأغراض، وتأمرهم باتباع الأحسن مما أنزل إليهم، وكلها فيها الختام بالتحذير والوعيد الشديد، فكيف ساغ لهم ذلك وكيف سمحوا لأنفسهم بهذا الموقف المشابه لموقف بني إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؟

 

ومن المعوقات الإبليسية عن تحقيق الاستجابة لله أن الشياطين يملون على أوليائهم تفسيراً معكوساً لقوله تعالى في حق نبيه عليه الصلاة والسلام: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) إن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يرضى بإدخال أمته النار، والله يعطيه ما يرضيه فيدخلهم الجنة. وهذا خلاف العدل الذي قامت به السموات والأرض والذي مدح الله به نفسه بأنه (قائماً بالقسط). فهل من القسط التسوية بين المسلمين والمجرمين؟ وبين المحسنين والمذنبين؟ والمصلحين والمفسدين؟ وهل يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العصاة لله بأكلهم الربا وإفسادهم الأعراض، ومشابهتهم لإبليس في ترك الصلاة وغيرها؟

 

إن مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبطة برضوان الله، فلا يرضى إلا بمرضاة ربه، وإذا كان الله قد حكم بعقوبات العصاة في النار حتى يطهروا، وبعقوبات المشركين على اختلافهم بالتخليد في النار، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضى ولا يسعه إلا الرضى بذلك، وكيف لا يرضى وهو الوسيط بل يزداد رضاءً بإدخال الفاسق النار جزاءً على مخالفته ولا يشفع فيه إلا من بعد العقوبة التي تظهره حسب علم الله وإذنه له بالشفاعة.

 

فتفسير أعوان إبليس لهذه الآية مجرد افتراء على الله وصد للمسلمين عن الاستجابة لله.

 

فالاستجابة لله من ضروريات الدين ومن أقوى الأسباب لاستجابة الدعاء، وينبغي العلم بأن الدعاء من أهم مقامات العبودية، فلا يجوز التوجه به لغير الله من غائب أو ميت أبداً، فإن هذا شرك على ما قرره علماء السلف.

 

وقد ورد الحديث: (الدعاء مخ العبادة). ولا فرق بين ما يسمونه بالنداء والدعاء ليستبيحوا به دعاء الأموات، فإنه يتضمن الدعاء، ولا قيمة للنداء بلا طلب، فهم يطلبون من الموتى ما لا يقدرون عليه، بل يطلبون أحياناً ما لا يقدر عليه إلا الله، كجلب الرزق والشفاء، والإغاثة والنصر ونحو ذلك، ويزعمون لتبرئة ساحتهم من الإشراك أنهم وسائط بينهم وبين الله وشفعاء، وهذا كقول المشركين أعداء الرسل: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).

 

والدعاء من خصائص الألوهية، وقد بلغ بهم الاحتجاج على صحة شركهم إلى حد الحماقة والسفاهة حيث احتجوا لذلك بحديث (إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فلينادي: يا عباد الله احبسوا، يا عباد الله احبسوا، فإن لله حابس سيحبسه). وهذا في الحقيقة دعاء لأحياء من عباد الله الذين لا نبصرهم وهم يبصرون كالملائكة والجن وغيرهم من الأحياء القادرين السامعين، فليس فيه لهم أدنى حجة ولكنهم يتشبثون بالشبهات، وليس هذا موضع الرد عليهم بالتفاصيل، فقد تكفلت به كتب المناظرات من ردود الشيخ ابن تيمية ومن قبله ومن بعده إلى يومنا هذا، وإنما أردت الإشارة بالقليل.

 

والأدلة على أن الدعاء من أعظم مقامات العبودية وأهمها شيء كثير، منها قوله سبحانه وتعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)[3]. وقوله تعالى: (قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم)[4]. وقوله: (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية) وقوله: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم).

 

وعن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة). فقوله: (الدعاء هو العبادة) معناه أنه معظم العبادة وأفضل العبادة كقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) يعني الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم. فمن أبطل الدعاء أو استهان به فقد أنكر القرآن أو استهان بالقرآن.

 

والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقاً بين الرجاء والخوف اللذين بهما تتم العبودية، وأن يحصل في الدعاء إظهار كمال العبودية بالذلة والانكسار والتضرع والرجوع إلى الله بالكلية مفوضاً مستسلماً.

 

ومن تأمل هذه الآية: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) وجد أن الله لم يقل لمحمد عليه الصلاة والسلام فقل إني قريب - بل قال: (فإني قريب...) ليدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه:

 

(أحدهما) كأنه سبحانه يقول: عبدي أنت لا تحتاج إلى الواسطة إلا في طريق تحصيل الهداية فإنها من طريق رسلي وأما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك، وفي هذا أعظم رد على المشركين ومن قلدهم من القبوريين.

 

(ثانيها) أن قوله: (وإذا سألك عبادي عني) يدل على أن العبد له وقوله: (فإني قريب...) يدل على أن الرب للعبد.

 

(ثالثها) أنه تعالى لم يقل: (فالعبد مني قريب) بل قال: (أنا منه قريب): وفيه سر نفيس وهو أن العبد مخلوق ممكن الوجود ومحتوم عليه بالفناء فلا يمكنه القرب من الرب. أما الرب سبحانه فهو القادر من أن يقرب من العبد بفضله ورحمته كما هو قريب منه بعلمه، بل هو أقرب إلى الإنسان من حبل وريده، فالقرب من الله لا من العبد، فيحصل من الله سبحانه للعبد قرب الفضل والرحمة إذا دعاه بعد تحقيق الإيمان والاستجابة، فإن رحمة الله قريبة من المحسنين، فلهذا قال تعالى: (فإني قريب).

 

(رابعها) أن الداعي ما دام خاطره منشغلاً بغير الله من المحبوبات والمعشوقات فإنه لا يكون في دعائه على الحالة التي يرضاها الله ويطلبها من العبد، فلا يحظى بالقرب حتى يستفرغ قلبه مما سوى الله ويكون الله غاية قصده في كل شيء حتى لا تحجبه الأغراض النفسية عن الله، فهذه الآية الكريمة: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع) هي من ركائز التوحيد ودعائمه، إذ فيها توجيه للسائل إلى تحقيق الإيمان بالاستجابة لله، وإذا حصل هذا اكتسب العبد بدعائه سكينة في نفسه وانشراحاً في صدره وصبراً يسهل عليه ما يلاقيه إذا لم يحظ بسرعة الإجابة. فكيف إذا حظي بها؟

 

وفسر ابن الأنباري قوله تعالى: (أجيب دعوة الداع) بمعنى أسمع لأن بين السماع والإجابة نوعاً من الملازمة، فلهذا يقام كل واحد منهما مقام الآخر، فقولنا سمع الله لمن حمده أي أجاب الله. فقوله: (أجيب دعوة الداع) أي أسمع تلك الدعوة. وبهذا يزول الإشكال في التساؤل عن سرعة الإجابة والمقصود من السماع هو القبول كما في معنى قوله (سمع الله لمن حمده) وذلك لأن المراد من الدعاء الإقبال على الله، والتوبة من الذنوب، وحصوله الضراعة المحبوبة إلى الله، وحصول التذلل والخشوع، فلهذا كان عبادة، وكان تاركه مغضوباً عليه، وكانت إجابته محققة لا تتخلف إلا لسبب.

 

فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة المسلم لا ترد إلا لإحدى ثلاث: ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، إما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا). وهذا الحديث فيه تمام البيان عن حسن نتيجة الدعاء، ثم إن هذه الآية تنص على الكرم العظيم من الله سبحانه لعباده لأنه يجيب دعاءهم. مع غنائه عنهم، ففيها حض لهم واستنهاض لهممهم على طاعة الله والاستجابة العامة له حيث أنهم محتاجون إليه من جميع الوجوه.

 

فكيف يستجيب لهم مع غنائه عنهم وهم لا يستجيبون له مع شدة فقرهم وحاجتهم إليه.

 

أما تقديم الاستجابة على الإيمان في قوله تعالى: (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي) فلأن الاستجابة عبارة عن الاستسلام والانقياد لله. أما الإيمان فهو من صفات القلوب وأعمالها من تحقيق حب الله ورسوله وتعظيمهما، والعبد لا يصل إلى نور الإيمان حتى يستعذب طاعة الله وعبادته ويأنس بها، والأعمال وحدها لا تجدي بدون إيمان يجعل صاحبه يحب الله ورسوله فوق كل شيء بل يجعلها أحب من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين.

 

وبهذا يكون مسارعاً في مرضاة الله قاصراً محبته على ما يحبه الله ويرضاه فيكون محباً في الله موالياً في الله دون ما سواه من الأغراض النفسية والمطالب المادية، ولا يبغض إلا ما يبغضه الله من الأعمال أو الأشخاص دون الالتفات إلى العواطف والأغراض، فيبتعد عن كل ما يبغضه الله ويعاديه لله وفي الله ولو كان أقرب قريب وتكون قرة عينه في رعاية أمانة الله من حمل رسالته والدفع بها إلى الأمام، فهذا هو الإيمان الذي لو حظي به المسلمون لتغير واقعهم تغيراً محسوساً. وبالله التوفيق.

 

وروى مسلم عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر).

 

وعن عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) رواه مسلم.

 

وعن عطاء بن السائب أن عماراً كان يدعو بدعوات سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي. اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضى والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق للقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين) رواه النسائي.

 

وروى الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: (اللهم أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي، اللهم اجعلني لك شاكراً، لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطواعاً، لك مخبتاً، إليك أواهاً منيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، وسدد لساني، وأسألك سنجمة صدري).

 

وعن أنس قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) متفق عليه، وذلك لأنها جامعة لخصال الخير كلها.

 

واعلم أنه لا يجوز الاقتصار على الدعاء وترك الأسباب التي رتب عليها المسببات في الكون، فإن هذا معصية، كما لا يجوز الاعتماد عليها وترك الدعاء استغناء بها عن فضل الله ولكن يجمع بين هذا وهذا، فيأخذ لكل شيء سببه، ويسأل الله التوفيق، فإن حصل له ما يريده من فعل الأسباب لطلب الرزق أو الصحة أو النصرة فقد أعطاه الله من خزائنه الكونية التي يفيض منها على جميع متبعي سنته الكونية في الخلق، وإن بذل جهده ولم يظفر بمطلوبه أو كان عاجزاً عن تحصيل السبب الذي يعالج به النوائب، كالتاجر الذي ذكرنا قصته حين دهمه اللص الفاتك، فإنه يلجأ إلى الله مسبب الأسباب، ويطلب المعونة والتوفيق ممن بيده ملكوت السموات والأرض، وكل دابة هو آخذ بناصيتها، وهو سبحانه يجيب دعوة الداعي إذا خصه بالدعاء والتجأ إليه ضارعاً مستيقناً أنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه. وكم لله من عناية بالمتوجهين إليه مخلصين له رغباً ورهباً، قال تعالى: (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض؟ أإله مع الله قليلاً ما تذكرون؟)[5].

 

وليست مشروعية الدعاء بالنطق فقط، ولكنه بنطق اللسان وفزع القلب إلى الله وشعوره بعظيم الحاجة إلى معونته والالتجاء إليه. ولهذا كان تحقيق الإيمان بالله والاستجابة لجميع أوامره وتشريعاته من ضروريات إجابة الدعاء.

 

ومن لوازم الإيمان ومكملاته، الإكثار من ذكر الله والاستغفار وتلاوة القرآن بتدبر وخشوع. فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان، فقال: (سيروا، هذا جمدان، سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).

 

وروى الترمذي والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله القرآن عن

 

(نكتة لطيفة) تقدم سائل إلى بعض المشائخ الفضلاء قائلاً: (إذا كان الرزق مقدراً بقضاء الله فلأي شيء ندعو؟ فقال الشيخ: وإذا كانت إجابتي لك أو عدمها مقدرة بقضاء الله فلأي شيء تسأل؟).

 

وقوله سبحانه وتعالى: (لعلهم يرشدون) يعني يرشدون بالجمع بين الإيمان والإذعان لأوامر الله ونواهيه، لأنها جامعة لكل أسباب الخير والنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، فمن حققها حصل على الرشد، ومن لم يحققها كان محروماً من الرشد بقدر ما أضاعه منها. والرشد هنا ضد الغي والفساد، كما قال تعالى في شأن الفراعنة الكافرين ومن قلدهم من بعدهم أبد الآبدين: (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً). وكما قال عن خليله إبراهيم: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين)[6].

 

فالرشد في هذه الآيات يقصد به صلاح جميع الأحوال السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها من جميع شؤون الحياة، بخلاف الرشد الذي هو ضد السفاهة الموجبة للحجر على أموال السفهاء حتى يرشدوا، فإنه رشد مقصور على الأحوال الاقتصادية من إصلاح المال وحفظه عما لا فائدة فيه، قال تعالى لنبيه (فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم).

 

فالرشد والرشاد المقصود في هذه الآية وفي آية مؤمن آل فرعون: (يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد)[7] هو ضد الغي والفساد.

 

وبذلك يعلم أن الأعمال إذا لم تكن صادرة عن روح الإيمان لا يرجى الرشاد لصاحبها ولا الهداية الصحيحة، كمن يصوم اتباعاً للعادة وموافقة للبيئة أو المعاشرين، فإن الصيام لا يهيئه للتقوى ولا يعده للرشاد، وربما زاده فساداً في الأخلاق وضراوة في الشهوات، وكذلك المصلي ببدنه لا بقلبه، فإن صلاته لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر من الطمع في الأموال والأعراض وأكل الربا والغش والغبن وإنفاق السلع بالإيمان الكاذبة وغير ذلك. ولهذا نجد الله سبحانه يذكرنا أثناء سرد الأحكام بأن الإيمان هو المقصود الأول في إصلاح النفوس، وأن الأعمال لا تحصل نتائجها الطيبة إلا إذا كانت مشربة بالإيمان والتقوى.

 

فحصول الرشد مربوط بعمارة الضمائر بتقوى الله واستشعار مشاهد يوم القيامة كما أسلفنا، وبها تزكو النفوس وتشرف أخلاق أصحابها، فإن الذي يوجه سلوك الأفراد والجماعات من صلاح أو فساد هو طهارة قلوبهم من رجس الشيطان وفتنة الاتجاه المادي أو عكسه، وبطهارة القلب من ذلك تتحقق في الإنسان معاني الإنسانية الكاملة التي لا تتحقق إلا بمكارم الأخلاق.

 

فجميع روافد الإيمان من تشريعات الإسلام كلها لبناء الإنسانية بالأخلاق الفاضلة التي تعدها للقيام بخلافة الله في الأرض خير قيام، ولقوة المصطفى صلى الله عليه وسلم في تطبيق ذلك أثنى عليه الله بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم).

 

ففي التشريعات الإسلامية أساس متين لإرساء قواعد الحق والعدل وحفاظ قوي للحقوق والواجبات، وسياج منيع لروابط المحبة والإخاء، ومرجع استقامة للسلوك وصلاح الأمر كله.

 

والأمة إذا سادت فيها الأخلاق بقوة العقيدة ارتفع شأنها وعز سلطانها وكانت في تماسكها كالبنيان المرصوص، وبذلك يعلو شأنها ويرهب كيانها وتشق طريقها إلى الفتح والتقدم، لأن قوة العقيدة والأخلاق يحميانها في الداخل، ويجعلانها تستسهل الصعاب في الخارج، والعكس بالعكس.



[1] سورة المجادلة، آية: 7.

[2] سورة إبراهيم، آية 40.

[3] سورة غافر، آية: 60.

[4] سورة الفرقان: آية: 77.

[5] سورة النمل، آية 62.

[6] سورة الأنبياء: 51.

[7] سورة غافر: 38.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • من أسباب استجابة الدعاء
  • من أسباب استجابة الدعاء
  • شروط استجابة الدعاء
  • الصيام سبب لإجابة الدعاء وللصائم عند فطرة دعوة لا ترد
  • الصيام المتقطع، أو كيف نخسر الوزن الزائد؟: خاطرة نقدية، ونصيحة صادقة

مختارات من الشبكة

  • صيام التطوع(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من آداب الصيام: صيام ستة أيام من شوال بعد صيام شهر رمضان(مقالة - آفاق الشريعة)
  • شرح متن الدرر البهية: كتاب الصيام(مقالة - موقع د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري)
  • أحكام متفرقة في الصيام(مقالة - ملفات خاصة)
  • أجوبة مختصرة حول أحكام صيام التطوع(مقالة - ملفات خاصة)
  • أحكام صيام التطوع(مقالة - ملفات خاصة)
  • وقفات رمضانية (4) الموسم الرابع(مقالة - ملفات خاصة)
  • درجات الصيام(مقالة - ملفات خاصة)
  • من صيام التطوع: صيام الأحد والاثنين والخميس والجمعة(مقالة - ملفات خاصة)
  • من صيام التطوع: صيام السبت(مقالة - ملفات خاصة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب