• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
شبكة الألوكة / ملفات خاصة / رمضان / فضائل رمضان
علامة باركود

مدرسة الثلاثين درسا

مدرسة الثلاثين درسا
عبدالله بن عبده نعمان العواضي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 18/4/2022 ميلادي - 16/9/1443 هجري

الزيارات: 5922

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

مدرسة الثلاثين درسًا


الحمد لله رب العالمين، والصلاة على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين:

رمضان أستاذ يعلمنا الهدى
وينيل أوسمة النقاء لمن شدا
يلقي على أذن الزمان دروسه
لتصونه تلك الدروس من الردى
طوبى لتلميذ وعى تعليمه
فأقام في النفس الصلاح وشيَّدا

 

أما بعد:

فإن رمضان مدرسة نموذجية سنوية تأتي لدورة تغييرية إسلامية تستمر لشهر كامل، تعمل كل فصولها في تزكية نفوس الأمة وتقويمها، وتعديل مسارها الذي قد ينحرف خلال الأحد عشر شهرًا.

 

فمن تأمل في هذه الهدية الربانية السنوية، وجد أن رمضان معلم فذٌّ يعلمنا كثيرًا من الدروس الإيمانية والبدنية، والتربوية والأخلاقية، والصحية والاجتماعية والسلوكية، والخاصة والعامة.

 

فمن تلك الدروس التي يعلمنا إياها شهر رمضان المبارك:

1- أن الله تعالى رحيم بعباده؛ حيث علم تقصيرهم وشدة حاجتهم إلى ظرف روحي للتوبة من السيئات، والتزود من القربات، فشرع لهم فرصة سنوية لإعادة تشييد البيت الإيماني وتنظيفه من غبار السنة، هذه الفرصة الغالية فيها تزدحم كثير من العبادات، وتتضاعف فيها الحسنات، وتنشط الهمم إلى الجد في سبل الخير المتعددة في زمان الطاعة العامة هي المظهر البادي في المجتمعات المسلمة.

 

فالحمد لله على هذا الفضل العميم الذي يشرع الفرح به والتبشير بقدومه، والتهنئة بشروق هلاله؛ ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يبشر أصحابه بمجيء شهر رمضان؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه: ((قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلُّ فيه الشياطين))[1].

 

2- ويعلمنا رمضان أن للطاعة مواسمَ فاضلة ينبغي أن تُستغل بالاستعداد الصالح لها، والمسارعة إلى اغتنامها، والحذر من ذهابها بدون انتهاز ومبادرة إليها؛ لأن الفرص تذهب وقد لا تعود؛ فالآجال خطافة، وأحوال الدنيا المتقلبة كثيرة، فالعاقل من بادر غنيمة العمل قبل مفاجأة الأجل:

أتى رمضان مزرعة العباد
لتطهير القلوب من الفساد
فأدِّ حقوقه قولًا وفعلًا
وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها
تأوه نادمًا يوم الحصاد[2]

 

3- ويعلمنا رمضان أن للروح حقًّا من التفاتة الصدق، ومد يد العناية إليها، والنظر الرحيم الحريص على تغذيتها، كما يحرص الإنسان على بدنه وحاجات بقائه وسلامته.

 

فكم يُعنى المرء بمطالب جسده ليلَ نهارَ من غير غفلة عن ذلك! وكم يتغافل عن غذاء روحه وأسباب صحته، فجاء رمضان ليقول لنا: وإن لروحك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حق حقه!

 

مع العلم الجازم بأن الاهتمام بالروح في دستور السعادة والنجاة أولى من الاهتمام بالجسد.

يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته
لتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان[3]

 

4- ويعلمنا رمضان أن السعادة الحقيقية هي سعادة الروح لا سعادة الجسد بأعراض الدنيا الفانية؛ فإن اللذة التي يجدها الصائم وهو يتقلب بين أعطاف العبادات المتنوعة بإخلاص تام وإقبال صادق - لذة لا تساويها لذات الحياة الجسدية، فكم يجد الصائم في رمضان من الحلاوة والراحة والطمأنينة في صيام شرعي صحيح، وتلاوة متدبرة، وقيام خاشع، وجود لأيدي المحاويج!

 

فيقول بلسان حاله: "إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب"[4].

 

5- ويعلمنا رمضان أن الإنسان ضعيف يرهقه فقد اللقمة والشربة والشهوة، ويعييه تأخر الحاجة الجسدية، ويكاد أن يفقد صبره إذا امتد نهار الصيام قليلًا؛ قال تعالى: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28].

 

فلماذا يتكبر هذا العبد الضعيف على مولاه، ويسطو بالطغيان على مخلوق سواه، ولو حُبس عنه قليل من الطعام والشراب انهارت قواه؟

 

فاعرف ضعفك في رمضان حتى تقبل على عبادة ربك القوي، وتشفق على الضعفاء من خلقه.

 

6- ويعلمنا رمضان فقه ترتيب وقت الحياة، فالوقت هو رأس مال الإنسان في الدنيا، والمضي به بدون ترتيب قد يؤدي إلى خسارته، والمغبون حقًّا من خسر وقته.

 

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ)[5].

 

فجاء رمضان ليشير علينا بترتيب أوقاتنا؛ حيث جعل الله للصيام زمنًا محددًا وللفطر زمنًا معينًا، ولبدء الإمساك حيًنا موقوتًا، وللإفطار زمانًا معروفًا، وبنى كل ذلك على توقيت زمني لا دخل فيه للإنسان وهو إقبال الليل وإدبار النهار، ورؤية الهلال ابتداءً وانتهاءً.

 

7- ويعلمنا رمضان أن هذه الشريعة التي جاء بها رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام شريعة مبنية على اليسر والتسهيل للعباد في أداء العبادة؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78].

 

وقال في آيات الصيام: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، ومن نظر في شعيرة صيام رمضان وجد صورًا كثيرة لسماحة الشريعة وتيسيرها العبادة على العباد، لو لم يكن منها إلا ما يذكره أهل العلم تحت عنوان: "رخص الصيام".

 

8- ويعلمنا رمضان أن الله تعالى رحيم بالإنسان؛ فلم يكلفه فوق طاقته أو ما يشق عليه التكليف به؛ لهذا لم يوجب الله تعالى الصيام على كل مسلم، بل أوجبه على من توفرت فيه شروط معينة، وعذر من فقد بعض هذه الشروط إلى الفطر مع القضاء بعد زوال العذر، أو الفطر مع العوض، أو الفطر بدون عوض، وجعل حدود الصيام زمن النهار ولم يجعل الليل معه، بل حرم الوصال؛ رحمة بعباده، ودرءًا للمشقة عنهم، قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [الإسراء: 66].

 

9- ويعلمنا رمضان أن هناك من الناس من تغلب نفسه وسوسة الشياطين، فالشياطين مصفدة، ولكن نفسه الأمارة بالسوء مطلقة، فليس كل ذنب سببه وسوسة الشيطان، بل وساوس بعض النفوس الشريرة قد تكون أكثر وأكبر، ولعل هؤلاء الذين يزدادون شرًّا في رمضان أكثر من غيره؛ يقولون: كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه فزدنا عليه في السفاهة كما قال الخوارزمي:

وكنت امرأً من جند إبليس فارتقى
بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده
طرائق فسق ليس يحسنها بعدي[6]

 

10- ويعلمنا رمضان كيف نروض نفوسنا ونربيها ونصقلها وننقيها، فرمضان يرشدنا إلى كبح جماح شهواتها، وإطفاء لهيب غضبها، وإصلاح سيئ أخلاقها، وتعديل مائل طبعها، وحبس شارد شرها، وخطم بادر انتقامها.

 

قال عليه الصلاة والسلام: ((ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابَّك أحد أو جهل عليك، فلتقل: إني صائم إني صائم))[7].

 

11- ويعلمنا رمضان الرحمة بالخلق، والعطف عليهم، فحين تلفح الصائم الغني حرارة الظمأ والجوع ساعات معدودات؛ فإن العاقل يتقد في ذهنه من أوار تلك الحرارة النظر بعين الإشفاق إلى أولئك المحتاجين الذين يعانون السغب طوال العام، فيمد يد العون إليهم، كما فعل ذلك الظامئ حين تذكر بعطش الكلب عطشه الذاهب، حين شرب فروي، فسقى الكلب حتى ارتوى؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر، فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرًا؟، فقال: في كل كبد رطبة أجر))[8].

 

12- ويعلمنا رمضان أن فطم النفس أحيانًا عما تشتهي يصلحها، ويقوم عوجها، ويعين على قيادتها؛ لأن تمكينها من مناها دائمًا يفسدها ويجعلها تترقى إلى سدة القيادة، ومن قادته نفسه أوصلته إلى أودية الهلكة.

إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت
ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي
دعته إليه من حلاوة عاجل[9]

 

ولكن قليل من الفطم يصلح النفس الجموح:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فاصرف هواها وحاذر أن توليه
إن الهوى ما تولى يصم أو يصم[10]

 

13- ويعلمنا رمضان التحلي بصفة الكرم والسخاء، وأنها من الصفات الحميدة التي يحبها الله ويحبها الخلق، وذلك بحث الصائم على تفطير الصائمين؛ فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فطر صائمًا، كان له، أو كُتب له مثل أجر الصائم، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئًا))[11].

 

وهذه الصفة من أبرز صفات رسول الله عليه الصلاة والسلام في رمضان؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة))[12].

 

14- ويعلمنا رمضان أن الصيام الشرعي التام ليس عن الطعام والشراب والشهوة، بل هو صيام الجوارح كلها: صيام اللسان، والسمع، والبصر، واليدين، والرجلين، فمن صام بطنه وفرجه فحسب، فصيامه صيام ظاهر ناقص.

 

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر))[13].

 

"قال بعض السلف: أهون الصيام، ترك الشراب والطعام، وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.

إذا لم يكن في السمع مني تصاون
وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذًا من صومي الجوع والظمأ
فإن قلت إني صمت يومي فما صمت"[14]

 

15- ويعلمنا رمضان أن المحروم حقًّا من حرم خير رمضان؛ فلم يكن فيه من المسابقين، ولم يدرك فيه ليلة القدر مع المدركين، ولم يكن ممن غفر ذنوبه رب العالمين.

 

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ((دخل رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم))[15].

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فقال: آمين آمين آمين، قيل: يا رسول الله، إنك حين صعدت المنبر قلت: آمين آمين آمين، قال: إن جبريل أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان ولم يُغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما، فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، ومن ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليك فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين))[16].

 

16- ويعلمنا رمضان أن الأمة الإسلامية أمة واحدة، لا تفرقها الأوطان ولا اللغات، ولا القوميات ولا الألوان، ولا المذاهب ولا الطوائف، فشعائرها تعلمها توحيد مشاعرها وكلمتها، فشهرها واحد، وما يحل لها وما يحرم عليها شرع واحد، وابتداء الإمساك وانتهاؤه واحد (من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإن اختلف عدد الساعات ووقت النهار من مكان إلى مكان في أرجاء المعمورة).

 

أفلا يفيد المسلمون اليوم جمع الكلمة وتوحيد الصف من شعائر دينهم دين الاتحاد والاجتماع؛ حتى تصير أمتهم عزيزة لا تضام، قوية لا ترام؟

كونوا جميعًا يا بني إذا اعترى
خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى القداح إذا اجتمعن تكسرًا
وإذا افترقن تكسرت أفرادا[17]

17- ويعلمنا رمضان أن العبادة إذا كانت جماعية كانت سهلة على النفوس، لا تجد فيها مشقة كبيرة، ولا حياء من الناس، فما أحسن المجتمع مجتمعًا صالحًا تكثر فيه الطاعة وتقل فيه المعصية، ويسوده الوئام والمحبة، وما أسعد الأجيال التي ستولد إلى هذه البيئة الطيبة التي لا ترى فيها إلا مظاهر الخير والهدى!

 

18- ويعلمنا رمضان أن بعض المسلمين المقصرين يمكن أن يصلحوا ويستقيموا على الطاعة، ويتركوا ما هم عليه من القصور إذا وجدوا المعين على الصلاح؛ كالبيئة الصالحة، وفشو الطاعات، والأخذ بأيديهم إلى درب الهدى؛ فحين يدخل رمضان تمتلئ المساجد بأناس لم يكن لهم عهد بها، فيقبلون على الصلوات الخمس، وقيام رمضان، وتلاوة القرآن، وكثرة الذكر، وحب الإنفاق على المساكين، وبدو آثار الطاعات على مظاهرهم.

 

19- ويعلمنا رمضان أن هناك نفوسًا قد مَرَدَتْ على العصيان، ورسخت في أرض الطغيان فيدخل عليها رمضان فنراها سائرة في دربها المظلم، باقية على فسوقها المتنوع، غير هيَّابة ولا مقدَّسة لشهر الصيام، ولا مستفيدة من بركاته العظام، بل غدت تنتهك حرماته وقداسته؛ فتفطر نهاره، وربما تجاهر بذلك بين الناس من غير خوف ولا خجل، فيخرج رمضان عنها وقد زاد رصيدها من السيئات في وقت زاد رصيد المنقادين من الحسنات، فهذه النفوس كشف لنا شهر الصيام حقيقتها ليصير رمضان بذلك المختبر الذي يعرف به المقبل من المدبر في ميدان العمل الصالح.

 

20- ويعلمنا رمضان أن ترك العادات السيئة سهل يسير، وإنما يحتاج قليلًا من المجاهدة والصبر حتى تنتصر النفس على أمر سيئ استعبدها؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

 

فمعتاد الدخان يفيد من رمضان فرصةً زمنية تقنعه بترك هذه العادة، وتخبره بأنه كما صبر عن شربه نهار الصيام ساعات يمكن أن يقاوم نفسه بعد ذلك ليتركه مطلقًا، بل هناك نماذج عديدة من المدخنين كان رمضان منطلق تركهم للدخان وأمثاله من عادات السوء.

 

21- ويعلمنا رمضان الفهم الشمولي للعبادة، وأن العبادة الحقيقية هي العبادة التي تصلح الظاهر والباطن، وتسمو بالروح وتضبط حركة الجوارح؛ وقد قال الله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].

 

فصيام رمضان عبادة للروح والجسد، وليست إمساكًا عن المفطرات الحسية فحسب، بل هي إمساك لجميع الجوارح عما لا يحل ولا يجمل.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))[18]، وقول الزور هو: كل قول وفعل يغضب الله تعالى.

 

22- ويعلمنا رمضان أن تمام العبادة لها فرحة تغمر النفس، وتسعد القلب؛ لِما في ذلك من الحصول على توفيق الله وعونه على إنجاز التكليف، فما أكثر أفراح المؤمنين! وما أعظم سعادة العابدين! وتلك جائزة الطاعة المعجلة من الرب الكريم، في حين يعيش العصاة في لظى الشقاء والعناء، ويبحثون عن الفرحة في كل سبيل ولا يجدونها.

 

فالصائم يفرح في رمضان كل يوم وهذا فرح جزئي مقسط، ويفرح في نهاية الشهر فرحًا كليًّا بإتمام الشهر وهو فرح أعظم من الذي قبله، وأعظم منهما الفرح بالصيام يوم القيامة حين يفد الصائم المخلص على ربه وقد قدم بين يديه زادًا يرجو به رضوان الله وجنانه.

 

عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: ((يقول الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جنة، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه))[19].

 

23- ويعلمنا رمضان أن الشيء المكروه في طبع الناس إذا كان ناشئًا عن طاعة الله تعالى، فإنه محبوب عند الله؛ لأنه نتج عن عبادته وامتثال أمره؛ فلذلك طيبه الله وفضله، وهذا يربينا على أن تكون محبوباتنا موافقة لمحبوبات الله، وإن خالفت الطبع، فنحب ما أحب الله، ونكره ما كره الله.

 

ففي الصيام قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))[20].

 

وفي دم الشهيد؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لا يَكلَمُ أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة، واللون لون الدم، والريح ريح المسك))[21].

 

24- ويعلمنا رمضان أن القلب بحاجة إلى عزلة يعتزل بها عن الخلطة؛ ليتفرغ للأنس بالله والتلذذ بمناجاته، والخلوة به للرجاء والطلب؛ فضجيج الحياة يشتت القلب فيورثه القسوة والبعد وفقد الحلاوة بالعبادة، فإذا نال الفؤاد الفرار به من عالم الضوضاء إلى عالم السكينة عاد بأرباح تكسبه الصحة والحياة والإشراق.

 

25- ويعلمنا رمضان مراقبة الله تعالى في السر والعلن، فالصيام سر بين العبد وربه لا يعلم صحته وكماله إلا الله تعالى، فإذا راقب العبد ربه في صومه؛ فحافظ عليه من المفطرات، فليدعه ذلك إلى مراقبة الله تعالى في سائر أوامره ونواهيه، فمتى غابت عنه مراقبة المخلوق فليتذكر مراقبة الخالق.

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل
خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ما مضى
ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت
ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى
ويأذن في توباتنا فنتوب[22]

 

26- ويعلمنا رمضان الانقياد على شرع الله فلا نتقدم عليه قِيدَ أنملة، بل نظل محكومين به في كل صغيرة وكبيرة؛ فالصائم يحرص حرصًا شديدًا على مراقبة أذان الفجر حتى لا يتناول مفطرًا بعد دخول الفجر، وعلى أذان المغرب فلا يستعجل بتناول مفطر ما، وإذا دخل شيء إلى فمه من مطعوم أو مشروب بادر إلى إخراجه ولفظ ما تبقى من آثاره.

 

27- ويعلمنا رمضان عظمة نعمة الله علينا بالطعام والشراب وقضاء الوطر، فهذه نِعَمٌ جزيلة يعيش فيها الناس وقليل منهم من يشكرها ويتذكر فضل الله عليه بها؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها))[23].

 

28- ويعلمنا رمضان أن العبادات ليست صحة للروح فقط، بل هي صحة للبدن أيضًا، فالصيام الصحيح سبب لسلامة أجهزة الجسم، وعلاج عدد من أمراضه، هكذا يتحدث الأطباء من المسلمين وغير المسلمين، فالحمد لله على نعمة العبادة.

 

29- ويعلمنا رمضان أن النفس تحتاج إلى دورة تغييرية بين زمن وآخر، فالبقاء على وتيرة واحدة قد يدعو إلى الفتور عن العبادة أو الترك لها، فإذا هبت رياح التغيير الرمضاني على الروح سافرت على معارج الصعود إلى مصافحة السمو الروحي، وإذا هاجت على القلب نفض عنه غبار القسوة والغفلة حتى يلين ويرق، وإذا مرت على الحياة فأحدثت فيها بعض التغييرات في عادات اليوم والليلة: النوم والاستيقاظ، الدوام الوظيفي، الطعام والشراب: تناولًا وإمساكًا وقدرًا؛ فإن ذلك يدعو الإنسان العاقل إلى أن يكون مستعدًا للتكيف مع الظروف المتقلبة، وتوطين نفسه على العيش معها في حال حسنة.

 

30- ويعلمنا رمضان أن عجلة الزمان لا تتوقف، فأفراحها لا تدوم، وأتراحها لا تبقى، فلكل حال أمد يصير إليه ولا يخلد عليه، فمن كان مسرورًا برمضان سعيدًا في لياليه وأيامه، فإن المفروح به سيذهب عنه بهلال شوال، بل سيمر به الشهر سريعًا كأنه أسبوع؛ فساعة اللذة دقيقة.

 

ومن كان ضيقًا بنزول رمضان وثقله على نفسه، فإن رمضان كذلك لن يبقى عنده مقيمًا، بل سيرحل عنه بلا ريب، غير أن ذهابه عن ساحته سيكون بطيئًا؛ فدقيقة الألم ساعة وساعتها شهر.

 

26/8/1443هـ، 29/3/2022م.



[1] رواه أحمد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وأصله في الصحيحين.

[2] لطائف المعارف لابن رجب (ص: 148).

[3] قصيدة عنوان الحكم (ص: 36).

[4] الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 67).

[5] رواه البخاري.

[6] مفاتيح الغيب (18/ 441).

[7] رواه البيهقي والحاكم وابن خزيمة، وهو صحيح.

[8] متفق عليه.

[9] أدب الدنيا والدين، للماوردي (ص: 23).

[10] ديوان البوصيري (ص: 238).

[11] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، بإسناد صحيح.

[12] متفق عليه.

[13] رواه ابن ماجه وابن حبان وأحمد بإسناد صحيح.

[14] لطائف المعارف لابن رجب (ص: 155).

[15] رواه ابن ماجه بإسناد صحيح.

[16] رواه ابن حبان، وهو حسن.

[17] صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال (1/ 86).

[18] رواه البخاري.

[19] متفق عليه.

[20] متفق عليه.

[21] رواه البخاري.

[22] ديوان أبي العتاهية (ص: 10).

[23] رواه مسلم.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • لماذا نخسر رمضان؟؟
  • رمضانُ في بلدان المسلمين
  • الآية شهر رمضان
  • الفرح برمضان (تصميم)
  • رمضان فرص (تصميم)

مختارات من الشبكة

  • أهم المدارس اللسانية الغربية الحديثة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • المدرسة الإسلامية بمانشستر تصنف ضمن أفضل مدارس المدينة(مقالة - المسلمون في العالم)
  • مرور 20 عاما على مدرسة كارديف الإسلامية بويلز(مقالة - المسلمون في العالم)
  • مدرسة جامع السلطان امتداد لمدرسة الإمام أبي حنيفة (دورها وتعيين موقعها)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • المدرسة البنيوية التقليدية (مدرسة جنيف) ومؤسسها دوسوسير(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الدور الحضاري للشعر العربي المعاصر - مدرسة الأصالة ومدرسة الحداثة (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • بلجيكا: السماح بالحجاب للمدرسات في المدارس(مقالة - المسلمون في العالم)
  • الهند: اختيار مدرسة إسلامية واحدة فقط ضمن المدارس النموذجية(مقالة - المسلمون في العالم)
  • نيوزيلاند: تحويل مدرسة كاثوليكية إلى مدرسة إسلامية ثانوية(مقالة - المسلمون في العالم)
  • فرنسا: مدرسة ابن رشد الثانوية الإسلامية من أفضل مدارس فرنسا(مقالة - المسلمون في العالم)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 14/11/1446هـ - الساعة: 17:59
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب