• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
شبكة الألوكة / ملفات خاصة / محمد صلى الله عليه وسلم
علامة باركود

أنا النبي لا كذب

د. بن يحيى الطاهر ناعوس

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 27/11/2016 ميلادي - 26/2/1438 هجري

الزيارات: 16697

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أنا النبي لا كذب


مما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعظمُ إنسان، بشهادة العدو قبل الصديق، في تاريخ البشرية، وأنه تام الخَلْق والخُلق، بما زكاه ربه عز وجل في قوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وهذا الفضلُ له صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وقد أثبتت الرواياتُ أنه قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول مَن ينشق عنه القبر، وأول شافعٍ، وأول مشفَّعٍ))[1].

 

بل إن نسَبَه ظاهرٌ وطاهر؛ فقد علمنا بأن قريشًا انحدرت من كنانة، وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وانقسمت قريش إلى قبائل شتى، مِن أشهرها: جُمَح وسهم وعدي ومخزوم وتيم وزهرة وبطون قصي بن كلاب، وهي عبدالدار بن قصي، وأسد بن عبدالعزى بن قصي، وعبدمناف بن قصي، وكان من عبدمناف أربع فصائل: عبدشمس ونوفل والمطَّلب وهاشم، وبيت هاشم هو الذي اصطفى اللهُ منه سيدنا رسول الله محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم.

 

ومما سبق نفهم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن اللهَ اصطفى كنانة مِن ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى مِن قريش بني هاشم، واصطفاني مِن بني هاشم))[2].

 

فهذا الاصطفاءُ للنبي صلى الله عليه وسلم لم يأتِ هكذا، وإنما لما اشتملت عليه شخصية النبي صلى الله عليه وسلم مِن صفاتٍ ومميزات تؤهِّله لاحتلال الصدارة في البشرية إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها.

 

ومِن أبرز هذه الصفات التي لا غنى لمن تحتاجه البشرية عبر الأحقاب الزمنية المستمرة في سريانها؛ لينقذها من ظلمات التيه التي أحاطت وتحيط بها في كل زمان، فتبحث طواعية ومكرهة عن المخلِّص، فلا تجد أفضل من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي اتسم بصفات، أبرزُها:

أولًا: قدوة للبشرية جمعاء:

لا خلاص للبشرية مما تتخبط فيه من غَبْن وضيق وحروب وتعاسة نفسية، لم تعهد البشرية نظيرًا لها في تاريخها الطويل، إلا بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن "رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الرجلَ الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كِلا المستويينِ؛ الديني والدنيوي...إن هذا الاتحادَ الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معًا يخوِّله أن يُعتبرَ أعظم شخصية أثَّرت في تاريخ البشرية..."[3].

 

وذلك عائدٌ لا محالة للخصال التي ميزت شخصيته العظيمة صلى الله عليه وسلم؛ فقد عُرف "رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلوص النية، والملاطفة، وإنصافه في الحُكم، ونزاهة التعبير عن الفِكر والتحقق، وبالجملة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزكى وأدينَ وأرحم عربِ عصره، وأشدهم حفاظًا على الذِّمام؛ فقد وجَّههم إلى حياة لم يحلُموا بها من قبلُ، وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم"[4].


وتأسيسًا على ما سبق - وغيره كثير - يستحيلُ أن يوضع أي إنسان مهما كان في مقارنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه السابق في حيازة الفضيلة بشتى ضروبها؛ كالتقوى والشجاعة، والجُود والرحمة، والحِلم والتسامح.. وكافة صنوف الأخلاق الحميدة.

 

ومن هنا، فإنه لا غرابةَ أن يجعله الله قدوة للبشرية في قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

 

فهو في الجود، مثلًا، صلى الله عليه وسلم كان "أجودَ الناس"؛ فعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "لما كان يوم حنينٍ آثر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ناسًا في القِسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة ً من الإبل، وأعطى عُيينة بن حصن مثل ذلك، وأعطى ناسًا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذٍ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عُدل فيها، وما أُريد فيها وجهُ الله، قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيته فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصِّرْفِ (شجر أحمر)، ثم قال: ((فمَن يعدِلُ إذا لم يعدل الله ورسوله؟!))، ثم قال: ((يرحَم الله موسى؛ قد أوذي بأكثر مِن هذا فصبر))، قال: فقلت: لا جرم، لا أرفع إليه بعدها حديثًا.."[5].

 

وفي الإقدام والشجاعة قدوة؛ فعن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: "لما حضر البأسُ يوم بدرٍ اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مِن أشد الناس، ما كان أو لم يكُنْ أحدٌ أقربَ إلى المشركين منه"[6]، وفي الوقت نفسه كان قدوة في الحِلم؛ فهو "يسبق حِلمُه جهلَه".

 

إن الاستعداد الفِطري الذي ميزه صلى الله عليه وسلم "لتحمل الاضطهاد من أجل معتقداته، والطبيعة الأخلاقية السامية لمن آمنوا به واتبعوه واعتبروه سيدًا وقائدًا لهم، إلى جانب عظمة إنجازاته المطلقة - كلُّ ذلك يدل على العدالة والنزاهة المتأصلة في شخصه؛ فافتراض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدَّعٍ: افتراضٌ يثير مشاكل أكثر، ولا يحلُّها، بل إنه لا توجد شخصية من عظماء التاريخ الغربيين لم تنَلِ التقدير اللائق بها مثل ما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم"[7].

 

ثانيًا: العبقرية الإنسانية في أعلى مراتبها:

إن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أكرمنا الله بأن نكون مِن أمته، نالت كل الصفات التي تؤهلها لأنْ تكون أنموذجًا تسعى جميع الشخصيات لأن تبلُغَ درجتها رغم استحالةِ ذلك.

 

والشيء الذي يجعل ذلك محالًا هو أن "الضوابط التي نقيس بها عبقرية الإنسان هي سموُّ الغاية، والنتائج المذهلة؛ لذلك رغم قلة الوسيلة فمَن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أيًّا من عظماء التاريخ الحديث بالنبي صلى الله عليه وسلم في عبقريته؟!

 

فهؤلاء المشاهير قد صنعوا الأسلحة، وسنُّوا القوانين، وأقاموا الإمبراطوريات، فلم يجنُوا إلا أمجادًا بالية لم تلبَثْ أن تحطَّمَتْ بين ظهرانَيْهم"[8].

 

ويشهد التاريخ على أن "هذا الرجل النبي صلى الله عليه وسلم لم يقُدِ الجيوش ويسنَّ التشريعات ويُقِم الإمبراطوريات ويحكم الشعوب ويروض الحكام فقط، وإنما قاد الملايين من الناس فيما كان يعد ثلث العالم حينئذ، ليس هذا فقط، بل إنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقدات الباطلة"[9].

 

ومِن اليقين الذي لا ريب فيه أنه لم يرَ العالمُ حتى اليوم "رجُلًا استطاع أن يحوِّل العقول والقلوب مِن عبادة الأصنام إلى عبادة الإله الواحد إلا “رسولَ الله صلى الله عليه وسلم”، ولو لم يكن قد بدأ حياتَه صادقًا أمينًا ما صدقه أقربُ الناس إليه، خاصة بعد أن جاءته السماء بالرسالة لنشرها على بني قومه الصِّلاب العقول والأفئدة، لكن السماء التي اختارته بعناية كي يحمل الرسالة كانت تؤهِّله صغيرًا، فشبَّ متأملًا محبًّا للطبيعة، ميالًا للعزلة لينفرد بنفسه"[10].

 

وتتجلى عبقريته صلى الله عليه وسلم بجَلاء لا يدع للشك سبيلًا في أنه "قبيل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم نرى جميع أنحاء الجزيرة العربية تقريبًا تَدين له بالطاعة، وإذا ببلاد العرب التي لم تخضع إطلاقًا لأمير من قبلُ تظهر في وحدة سياسية، وتخضع لإرادة حاكم مطلَق.


ومِن تلك القبائل المتنوعة، صغيرها وكبيرها، ذات العناصر المختلفة التي قد تبلغ المائة، والتي لم تنقطع عن التنازع والتناحر، خلقت رسالةُ النبي صلى الله عليه وسلم أمة واحدة، وقد جمعت فكرةُ الدين المشترك تحت زعامة واحدة شتى القبائل في نظام سياسي واحد، ذلك النظام الذي سرت مزاياه في سرعة تبعث على الدهشة والإعجاب، وأن فكرةً واحدة كبرى هي التي حققت هذه النتيجة.


وتكللت المهمة الضخمة بالنجاح، فعندما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه كانت السكينةُ ترفرف على أكبر مساحة من شبه الجزيرة العربية، بصورة لم تكن القبائل العربية تعرفها من قبل، مع شدة تعلُّقها بالتدمير وأخذ الثأر، وكان الدِّين الإسلامي هو الذي مهَّد السبيل إلى هذا الائتلاف"[11].


لهذا وجَدْنا فلاسفة العالم المُنصِفين ينبهرون انبهارًا واضحًا بعبقرية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال برتراند راسل: "لقد قرأتُ عن الإسلام ونبي الإسلام فوجدت أنه دين جاء ليصبح دينَ العالم والإنسانية؛ فالتعاليم التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم والتي حفل بها كتابه - ما زلنا نبحث ونتعلق بذرات منها، وننال أعلى الجوائز مِن أجلها"[12].


لهذا إذا ما قِيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم "كان النبي [صلى الله عليه وسلم] مِن أعظم مَن عرفهم التاريخ، وأخذ بعض علماء الغرب ينصفون النبي [صلى الله عليه وسلم]، مع أن التعصبَ الديني أعمى بصائرَ مؤرخين كثيرين عن الاعتراف بفضله”[13].


ويكفي سيدنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ثناءً عليه "أنه لم يساوم ولم يقبل المساومة لحظة واحدة في موضوع رسالته على كثرة فنون المساومات واشتداد المحن، وهو القائل: ((لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركتُه))، عقيدةٌ راسخة، وثبات لا يقاس بنظير، وهمَّة تركت العرب مَدِينين لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ ترَكهم أمَّةً لها شأنها تحت الشمس فيتاريخالبشر"[14].

 

ثالثًا: بالأخلاق بنى النفوسَ:

نقَلت لنا كتب السير أن النبيَّ الكريم صلى الله عليه وسلم تزيَّن بزينة الأخلاق الكريمة مخبَرًا ومظهَرًا؛ فهو في الصدق والأمانة الصادق الأمين.

 

بل نجده في سائر الأخلاق يصفه أصحابُه رضي الله عنهم بأنه صلى الله عليه وسلم: "أجود الناس كفًّا، وأشرحهم صدرًا، وأصدق الناس لهجةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عِشرةً، مَن رآه بديهةً هابه، ومَن خالطه معرفةً أحبه، يقول ناعِتُه: لم أرَ قبله ولا بعده مِثله".[15].

 

فما أدقَّ وصفَ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم!

كما كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لطبيعة الإسلام رؤيةً مبنية على مكارم الأخلاق، وهذا ما فهِمه العرب منذ بداية دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فعندما عرَض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه - مثلًا - على وفد بني شيبان بن ثعلبة - وكان في القوم مفروق بن عمرو، والمثنى بن حارثة، وهانئ بن قبيصة، والنعمان بن شريك - فتلا عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 151]، فقال مفروق: ما هذا مِن كلام أهل الأرض، ولو كان مِن كلامهم لعرفناه، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فقال مفروق: دعوتَ واللهِ يا قرشيُّ إلى مكارمِ الأخلاق، ومحاسن الأفعال، ولقد أفك قومٌ كذَّبوك وظاهروا عليك"[16].

 

ولقد ظهَر تعظيمه صلى الله عليه وسلم للأخلاق في كثير من كلماته وأحاديثه، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول معلمًا لأصحابه: ((إن مِن أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنَهم خُلقًا، وألطفهم بأهله))[17].

 

ولم تكُنْ هذه الأخلاق مقصورةً على قوم دون آخرين، أو طائفة دون طائفة، بل ظهرت واضحةً جلية في كل تعاملاته؛ فقد كان كثيرَ المخالطة لأصحابه، لم يعتزل عنهم أبدًا، كان يجالس الفقراء، ويرحم المساكين، وتسير به الأمَةُ في شوارع المدينة أينما شاءت، وكان يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويزور أصحابه في بيوتهم، ويزورونه في بيته، وهو في كل ذلك دائمُ الابتسامة، منبسط الأسارير، متهلِّل الوجه، وكان رحيمًا بأمَّته تمام الرحمة، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعدَ الناس عنه، وكان كثيرَ العفو، حتى عمَّن ظلمه وبالغ في ظُلمه.

 

كما كانت أخلاقُ النبي صلى الله عليه وسلم عظيمةً في بيته، وفي تعامله مع غير المسلمين في مجتمعه، بل تميز - أيضًا صلى الله عليه وسلم بمعاملة أعدائه ومُبْغضيه بكل رِفق وأناة، وقد شهد بحُسن خُلقه أبو سفيان قبل أن يُسلم وهو زعيم المشركين، فقال عند إسلامه: "والله إنك لكريم، ولقد حاربتُك فنعم محاربي كنت، ثم سالمتُك فنعم المسالم أنت، فجزاك الله خيرًا"[18].

 

قال الشاعر الألماني جوته: "بحثتُ في التاريخ عن مَثَلٍ أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي العربي صلى الله عليه وسلم"[19]؛ فعن أبي أمامة قال: "أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غلامٌ شابٌّ، فقال: يا رسول الله، ائذَنْ لي في الزنا، فصاح به الناس، وقالوا: مه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ذَرُوه، ادنُ))، فدنا حتى جلس بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أتحبه لأمك؟))، قال: لا، قال: ((فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟))، قال: لا، قال: ((وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟))، قال: لا، قال: ((فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لعمتك؟))، قال: لا، قال: ((فكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم، أتحبه لخالتك؟))، قال: لا، قال: ((وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم؛ فاكرَهْ لهم ما تكره لنفسك، وأحِبَّ لهم ما تحب لنفسك))، فقال: يا رسول الله، ادعُ الله أن يطهر قلبي، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره، فقال: ((اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فَرْجَه))، قال: فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيءٍ" [20].

 

وهنا تتجلى عظمةُ النبي صلى الله عليه وسلم في حل المشكلات التي تواجه الأفراد ببراعة ورويَّة منقطعة النظير؛ فلا يخفى على أي إنسان سويِّ الفطرةِ قُبْحُ الزنا وبشاعته وفظاعته في تدمير الفرد والأسرة والمجتمع معًا، فكانت السياسة النبوية مبنيةً على الإقناع أكثر منها بالمواجهة بحُكْم الله تعالى في هذا الأمر، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا يضع أمامنا الطرائقَ الناجحة في معالجة القضايا والمشاكل الفردية.

 

وفي قصةِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه دليلٌ آخر على تلك السياسة النبوية في التعامل مع الأفراد دون تأنيب أو تجريح أو إذلال عندما قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسولَ الله، لأنت أحب إليَّ مِن كل شيء إلا من نفسي"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا والذي نفسي بيده حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك))، فقال له عمر - رضي الله عنه -: ((فإنه الآن والله لأنت أحبُّ إليَّ مِن نفسي))، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الآن يا عمر))[21].

 

رابعًا: المعلِّم الأول:

تتحدث النظريات الحديثة في مجال التربية عن الأسس التي تعتمد في التعليم الناجح، وعلى رأسها الحوار الذي يجعل العملية التعليمية والتعلمية تقوم على ركيزة الأخذ والعطاء في يُسر وسلاسة، وهذه العملية المبنيَّة على الحوار بين المرسِل والمرسَل إليه آتَتْ أُكلها في كثير من المؤسسات التعليمية في العالم.

 

وقد وجَدْنا أن أهم مَن طبق الحوار للتعليم، إذا عدنا إلى التاريخ، هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان أحسَنَ وأفضل معلِّم لأمته بخاصة، وللبشرية بصفة عامة، ومِن ثم فمواقفُ حوار الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بغرض تعليمهم تنِدُّ عن الحصر، ومِن هذه المواقف ما يلي:

جلس الرسولُ صلى الله عليه وسلم ذات يوم مع أصحابه، فقال لهم - فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم -: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلسَ مِن أمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتَم هذا، وقذف هذا، وأكَل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار))[22].

 

الخاتمة:

حاولنا مما سبق إبراز بعض الصفات التي ميزت النبي صلى الله عليه وسلم عن سائر القادة والساسة والعظماء عبر التاريخ، مما يجعل هَدْيَه صلى الله عليه وسلم هو المخرج الوحيد للبشرية من غبنها الذي تتخبط فيه وقد باءت جميعُ النظريَّات والحلول التي استحدثها الناسُ للخروج مما يعانونه من أزمات - بالفشل والخراب الحضاريِّ بشتى أشكاله.



[1] رواه مسلم (الفضائل/4223 ).

[2] أخرجه مسلم (2276/1)، والبخاري في (التاريخ الكبير) (1/ 1/ 4)، والترمذي (3605، 3606).

[3] الدكتور/ مايكل هارت. دكتوراه في علم الفلك من جامعة برنستون صاحب كتاب "الخالدون مائة، أعظَمُهم محمد".

[4] إدوار مونته، الفيلسوف إدوار مونته الفرنسي: مستشرق فرنسي، وُلد في بلدته لوكادا 1817 - 1894، قاله في آخر كتابه: (العرب).

[5] رواه البخاري.

[6] رواه أحمد.

[7] مونتجومري وات، من كتاب "محمد في مكة"، 1953، صفحة 52.

[8] مونتجومري وات، من كتاب “محمد في مكة”، 1953، صفحة 52.

[9] المفكر الفرنسي لامارتين من كتاب “تاريخ تركيا”، باريس، 1854، الجزء الثاني، صفحة 276 - 277.

[10] الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو.

[11] المستشرق الإنجليزي سبربت و. أرنولد، في كتابه الدعوة إلى الإسلام، ص - 37.

[12] برتراند راسل، وهو أحد فلاسفة بريطانيا الكبار، والحاصل على جائزة نوبل للسلام عام 1950.

[13] المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون (1841 - 1921 م).

[14] المستشرق الإيطالي ميخائيل إيماري في كتابه (تاريخ المسلمين).

[15] رواه الترمذيُّ عن إبراهيم بن محمد - ابن الحنفية - بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

[16] كتاب "البداية والنهاية" الإمام عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير (ت774هـ).

[17] أخرجه أحمد في "المسند": 6 /47.

[18] أبو نعيم الأصبهاني: معرفة الصحابة 3/ 1509.

[19] زيجريد هونكه: شمس العرب تسطَع على الغرب ص465.

[20] الطبراني في مسند الشاميين، ج (2)، ص (140)، ح (1066).

[21] أخرجه البخاري في "صحيحه" (6632).

[22] مسلم عن أبي هريرة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الإعجاز اللغوي عند النبي
  • مرافقة النبي في الجنة
  • هو النبي لا كذب (قصيدة)

مختارات من الشبكة

  • من فضائل النبي: أكرم الله جبريل بأن رآه النبي صلى الله عليه وسلم في صورته الحقيقية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من فضائل النبي: استأذن ملك القطر ربه ليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من فضائل النبي: سرور الفرس بركوب النبي وخضوع البراق له(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من فضائل النبي: الوحش يتأدب عند دخول النبي بيته وإسراع جمل جابر الأنصاري طاعة له(مقالة - آفاق الشريعة)
  • بركات الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) الآية(محاضرة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • من بركات النبي على أمته: أنهم يشهدون للأنبياء عليهم السلام بتبليغ الرسالة إلى أقوامهم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خاتم النبيين (31): كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والزعماء(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من فضائل النبي: شفاعته في عمه أبي طالب، وأنه أكثر الأنبياء عليهم السلام تبعًا يوم القيامة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من فضائل النبي: أنه سيد الأنبياء وصاحب الشفاعة والمقام المحمود(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من فضائل النبي: أعطاه الله تعالى أفضل مما أعطي الأنبياء من المعجزات الحسية(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب